الفلسفة خارج الأسوار
تسعة قُرَّاء من كل عشرة، لم يسمعوا من الفلسفة إلا اسمها، دون أن يعرفوا من مضمونها كثيرًا أو قليلًا، وبالتالي فهم لا يعرفون شيئًا عما يؤديه الفكر الفلسفي في حياة الناس الثقافية، وأن أمر هذا الفكر الفلسفي فيما يؤديه، لا يقتصر على أمةٍ دون أخرى، ولا على عصر دون عصر؛ فتاريخ الحياة المتحضرة لم يشهد يومًا واحدًا كان للإنسان فيه علم أو فن أو عقيدة، ولم يكن له إلى جانبِ أيٍّ منها فلسفته التي تكشف عن مبادئه الأولى والتي كثيرًا ما تخفى في لفائف الحياة الثقافية كما يحياها الناس. ثم يتغير العلم مع مر الزمن، ويتغير الفن وتتغير العقيدة، نتيجةً لتغيُّر تلك المبادئ الأولى، فيتغير المناخ الفلسفي بطبيعة الحال؛ لأن التلازم وثيقٌ بين اتجاهات الثقافة السائدة من جهةٍ وفلسفتها من جهة أخرى، ولكن تسعة قراء من كل عشرة لا يدهشهم أن تتغيَّر مبادئ العلم أو الفن أو العقيدة، أما إذا غيَّرت الفلسفة مناخها ومذاهبها تبعًا لذلك، استنكروا منها هذا التغيُّر؛ لأنهم يجهلون طبيعتها وطبيعة الدور الثقافي الذي تؤديه، ولولا هذه العروة الوثقى التي تربط جوانب الثقافة المتباينة، ربطًا يجعلها ذات كيان واحد، لما جاز لنا أن نسمي الفترة الزمنية المعينة من فترات التاريخ «عصرًا»؛ لأنه في هذه الحالة تصبح الجوانب الثقافية أشتاتًا متناثرة ومتعارضة، ويصبح من العسير بل من المستحيل، على مؤرخٍ أن يقصَّ علينا قصة التاريخ في أيةِ ناحيةٍ من نواحي الحياة الإنسانية، لكن الأمر الواقع غير ذلك؛ فهنالك «عصور» تتوالى إذا ما نظرت من بعيد إلى كل عصر منها، رأيت ملامحه الرئيسية واضحة، تخلع عليه وحدانية الكيان، ألست تتصوَّر صورةً ثقافية موحدة برغم كثرة تفصيلاتها، إذا قلت لك: «مصر في عصر الفراعنة»، «العصر اليوناني القديم»، «العصر الإسلامي حتى القرن الرابع الهجري»؟
فما الذي وحَّد كلًّا من تلك العصور في صورةٍ متلاحمة الأجزاء؟ وحَّدها أن الحياة الثقافية في كلٍّ منها كانت مرتكزة على مبادئَ معينة، والذي يكشف لنا عن طبيعة تلك المبادئ الدفينة هو فيلسوف العصر أو فلاسفته؟ ومن هنا تصبح الرابطة قوية بين النشاط الفلسفي في عصرٍ ما، وسائر أوجه النشاط في ذلك العصر، وإذا لم تنكشف المبادئ الخبيئة في ثنايا الحياة اليومية، بقي الناس ناشطين في تلك الحياة، ولكن بغير وجهةِ نظر لهم يكونون على وعي بها.
ومهما اختلف الفلاسفة في مناهجهم التي يلتزمونها عند تحليلهم لثقافاتِ عصورهم واستخراج مبادئها من الخفاء إلى العلن الصريح، فهم يتفقون جميعًا على نوعٍ من النشاط الذهني يضطلعون به، وقد يقتصر عليه بعضهم، وقد يضيف إليه آخرون، وأعني به الوقوف عند المعاني المحورية الهامة التي تستقطب جزءًا من حياة الناس؛ فهم يقفون عند تلك المعاني الرئيسية في حياة أبناء العصر المعين، ليحللوها تحليلًا يوضح محتواها، ويبيِّن ما يستكن في ذلك المحتوى من التناقض إذا وجِد، وذلك حتى يكون الناس على هدًى إذا هم يسيرون على ضوء تلك المعاني.
كان هذا التحليل للمعاني الشائعة هو ما فعله سُقْراط صراحة، حين أخذ يطوف في المحافل والأسواق، يسأل صاحب الفن المعيَّن ماذا يعرف عن معناه، ويسأل صاحب العقيدة المعيَّنة ماذا يعرف من مقوماتها، وهكذا طفِق يسأل كلَّ إنسان عن معنَى ما يزعم للناس أنه خبير فيه، حتى انكشفت لسُقْراط حقيقةٌ مُرَّة وهي أن الناس يزعمون لأنفسهم العلم بما هم في الحقيقة جاهلون بحقيقته.
ولن تجد فيلسوفًا لا يضمِّن عمله وقفاتٍ هنا وهناك ليوضح المعاني التي يراها ذات أهمية خاصة في ثقافة عصره؛ فهذا أفلاطون يحلِّل في استفاضةٍ معاني العدل والحكمة والشجاعة والعفة والجمال وغير ذلك، وهذا أرسطو يحلِّل في استفاضةٍ كذلك معاني الصدق العلمي وفكرة السببية والحركة والمكان والشعر وغير ذلك، وانظر إلى فلاسفة المسلمين كم أنفقوا من جهدٍ في تحديدهم لمعاني التوحيد والإرادة والعدل والإيمان والكفر وغيرها، ولا ينفي وقوف الفيلسوف عند معاني عصره الهامة ليحللها توضيحًا لها، أن يكون لذلك الفيلسوف بناؤه الفلسفي المتماسك الذي ترد فيه تلك المعاني عناصر في قوامه.
فمن الحقائق العجيبة في حياة الإنسان الفكرية بصفة عامة، أنه يهتدي بمجموعة من التصورات التي لا هي معلومة له كل العلم ولا هي مجهولة له كل الجهل؛ فهو حيالها يقف موقفًا وسطًا بين علمٍ وجهل (وهو لا يدري عن نفسه هذه الحقيقة) دون أن يعرف على وجه التحديد كم علم من الأمر وكم جهل. ولما كانت تلك المجموعة الرئيسية من التصورات ذاتَ أهميةٍ بالغة في حياته تراه يغضب أشد الغضب إذا بينت له — ولو من بعيد — كم هي غامضة المعاني في ذهنه تلك التصورات، لكن الفلسفة من شأنها أن تهجم على ما قد غمُض معناه لتلقي عليه الضوء بعد تحليلٍ قد يبلغ من الدقة ما يجعل القراء ينصرفون عنه مستنكرين متهكمين.
إن الناس بإزاء تلك المعاني الغامضة (التي يحسبونها واضحة وما هي بواضحة) إنما يرونها من بعيد فلا يدركون شيئًا من تفصيلاتها المعقدة، فهم في ذلك يشبهون الناظرين من بعيد إلى جبلٍ فيرون هيكله الخارجي ويظنونه أملس الجوانب، حتى إذا ما دنَوا منه، رأَوا فيه ما لم يتصوروا رؤيته من صخور ونبات وحيوان وطير وشراب، وهكذا تفعل الفلسفة بالناس في حياتهم الفكرية، حين تُدنِيهم من مجموعة المعاني التي يُديرون حولها حياتهم تلك في كل جانبٍ من جوانبها.
كم ألف ألف مرة تتردد على ألسنتنا وأقلامنا — في عصرنا الراهن — كلماتُ العدل والديمقراطية والحرية والإرادة والاشتراكية والشعر والفن والعلم والعقل والإيمان … إلخ إلخ؟ إنها معانٍ دارجة مألوفة، يظن المثقف العادي — ولا أقول الفرد من عامة الناس — أنها واضحة ولا حاجة بنا إلى الغوص في محتواها!
لقد حدث لي أن قرأت ذات يوم لكاتب من كتَّابنا، زار بعض البلاد الأوروبية واجتمع بجماعات الطلاب في جامعاتها وأخذ يحاورهم لِيسبر مداركهم، فسألهم أوَّلَ ما سأل عن «الحرية»، فأجابوه سائلين: وما تحديد معنَى هذه الكلمة في مفهومك؟ فدَهِش أن يكون ذلك موضعًا لسؤالٍ؛ لأن فكرة الحرية عنده واضحةٌ بذاتها، تدركها البداهة ولا تحتاج إلى تحليل وتحديد! فيئس ذلك الكاتب من مجموعة الطلاب، وكان الأحق أن ييأس من نفسه.
إنه لا مندوحة للحياة الفكرية السليمة من وقفاتٍ أمام المعاني الرئيسية لتحديدها، ما دامت هي الركائز التي يعتمد عليها البناء كله، ولقد شاء الله أن يضطلع بمثل هذا التحديد نفرٌ ذوو حساسية خاصة تهديهم أين يكون الغموض، وأين يكون الوضوح، وهؤلاء في كل عصرهم أصحاب الميول الفلسفية، فإن كانوا ذوي قاماتٍ عالية وأحجام ضخمة صاروا هم فلاسفة ذلك العصر، وهؤلاء الفلاسفة على توالي العصور هم الذين يصبحون بعد ذلك موضوعَ الدراسة في أقسام الفلسفة من الجامعات.
وأظنه واضحًا من هذا أن الفيلسوف في عصره يعمل شيئًا. وأما «دارس الفلسفة»؛ أي دارس ذلك الفيلسوف فيعمل شيئًا آخر، الأول يدخل مع مواطنيه في مشكلاتهم، والثاني يدرس كيف كانت مشاركة الفيلسوف في تلك المشكلات وحلولها.
ونشأت لنا في مصر جامعات، ونشأت في الجامعات أقسام لدراسة الفلسفة، وقيَّض الله لهذه الأقسام على مدى نصف قرن مجموعةً قادرة من الأساتذة، استطاعوا بحقٍّ أن يُنشِئوا مكتبة فلسفية عربية، من مؤلفاتهم ومترجماتهم وما حقَّقوه من نصوص التراث بعد أن كاد ألا يكون من ذلك كله شيء قبل ذلك، وذلك — بالطبع — إلى جانب مَن أخرجوهم من الدارسين طوال هذه الفترة التي امتدت حتى الآن ما يزيد قليلًا على خمسين عامًا.
وها هنا يبَرز الجانب الذي أردت الكتابة فيه بهذا المقال، وهو: إذا كان أساتذة الفلسفة ودارسوها في الجامعات قد أجادوا ما نيط بهم أن يؤدوه «داخل» أسوار الجامعات، فهل أدَّوا كذلك شيئًا مما كان لا بد لهم أن يؤدوه للناس «خارج» تلك الأسوار؟ وإجابتي السريعة عن هذا السؤال هي أنهم — في الأعم الأغلب — لم يفعلوا من ذلك شيئًا، بل أسوأ من ذلك أنهم حين أعدُّوا طلابهم بالدراسة الفلسفية، وقفوا بهم عند أغلفة الكتب وصفحات الكشاكيل، وأما أن يخلقوا فيهم تلك القدرة الناقدة التي من شأن الدراسة الفلسفية — عادة — أن تخلقها في الدارس، فلست أظن أنهم صنعوا من ذلك شيئًا يَلفت النظر، ومعنى ذلك هو أن المتخرِّج في أقسام الدراسة الفلسفية إما أن يُعيد ما تعلَّمه تدريسًا في الجامعة أو المدارس الثانوية، وإما أن يجد نفسه وكأنه أعزلُ من أي سلاح ثقافي يجاهد به في معترك الحياة.
إننا مهما أخلصنا النية في أن نصون للدراسة الجامعية حقَّها من الاستقلال الأكاديمي الذي لا تعكر صفاءه شوائبُ الضرورات الاجتماعية الحيوية، فعسير علينا أن نتصوَّر دارسًا في الجامعة يدرس ما ليس ينفعه وينفع الناس بأي وجه من الوجوه، وأذكر أن هذه النقطة بذاتها هي ما احتج به طلاب الفلسفة في فرنسا أيام الحركة التي اضطرب بها شباب أوروبا في سبيل مستقبلهم، منذ عشر سنوات أو نحوها.
ولا علينا ما فعله طلاب أوروبا وغير أوروبا، ولنحصرْ فكرنا في حياتنا نحن، فماذا نرى؟ نرى من ناحيةٍ أمةً طامحة للنهوض السريع، فلما أدار لها طموحها مَكِنات الطحن، خرج لها طحين مملوء بالتصوُّرات التي يكتنفها كثير جدًّا من الغموض، وبرغم غموضها الشديد، تراها دائرة في كل صحيفة وعلى كل لسان، وإذا قلنا غموضًا في التصوُّرات، فقد قلنا بالتالي تعثُّرًا في السير وتخبُّطًا في العمل؛ لأن السير والعمل لا يكونان إلا على هدًى من تصوُّراتٍ سابقة عند مَن يعمل أو يسير. ثم نرى من ناحيةٍ أخرى أقسامًا في الجامعات كان ينبغي لها أن تكون أقربَ الأقسام الجامعية جميعًا إلى تخريجِ مَن يُحسِن تحليل المعاني، مستمدين القدرة على ذلك مما درسوه من فلاسفة، وقد رأَوا كيف شارك هؤلاء الفلاسفة في المسائل الفكرية التي نشأت في عصورهم.
نعم إن المهمة الأولى لطالب الفلسفة في الجامعة، هي دراسة ما أنتجه الفلاسفة خلال العصور من أفكارٍ أجابوا بها عما كان موضعَ التساؤل في صدورِ معاصريهم، ولكني أريد لتلك المهمة الأولى أن تتولَّد عنها مهمة ثانية، وهي أن يفيد الدارس مما درسه «قدرة» على التحليل النظري، يخرج بها إلى دنيانا العملية، وعندئذٍ سيجد أمامه مجالًا فسيحًا لنشاطه الفكري؛ لأنه سيرى في حياتنا الثقافية بكل فروعها غموضًا ينتظر مَن يزيحه لينجلي الحق أمام الأبصار، وإلا فسوف يجد الدارسون للفلسفة في جامعاتنا أنفسهم غرباء مهمَلين على جوانب الطريق، لا تلتفت إليهم الأنظار؛ لأن وِفاضهم خالٍ مما يقدمونه للناس.