من المشكلات إلى حلولها
هي في أولى درجات السُّلم الأكاديمي؛ فلقد اختارت لتوِّها موضوعَ بحثِها للحصول على إجازة الماجستير، لكنها — فيما يبدو — من تلك الفئة القليلة النادرة في هذه الفترة من تاريخنا، التي تُجاوز بنشاطها العقلي حدودَ الدراسة الضيقة، لتتعلق بهموم الحياة العامة، فألقت عليَّ سؤالًا، وهي في غمرة حديثها معي عن موضوع بحثها، وكان السؤال مشبعًا بالتردُّد والقلق، حين قالت: قل لي يا دكتور، أأنت ممن يتبعون أيديولوجية اليسار أم ممن يتبعون أيديولوجية اليمين؟ وإني لأسألك هذا السؤال؛ لأنني لم أستطِع استخلاص الجواب من مقالاتك.
قلت لها إنني يا ابنتي مصري ثم عربي ثم عضو في الإنسانية كلها، أتمنى لأهلي ثم لسائر الناس أن يَقهروا ما يحيط بهم من صعاب، ولا أعبأ من أين يأتي الدواء إذا أدَّى بالمريض إلى الشفاء. إنني أكره هذه اللافتات التي تعمي البصر بكلماتها الضخمة المشتعلة بلهب العواطف المنفعلة؛ لأن أصحابها يريدون لنا أن نبدأ بالمذهب المعبود لنهبِط منه إلى مشكلاتنا وحلولها، والرأي عندي هو أن نبدأ بمشكلاتنا الجاثمة فوق صدورنا، والممسكة بخناقنا، حتى أوشكت الأنفاس أن تنكتم. نعم إن الرأي عندي هو أن نبدأ بمشكلاتنا تلك، لنعالجها بما يستطيع العلم أن يعالجه، دون أن نلفت رءوسنا لا إلى يسار ولا إلى يمين، حتى إذا ما تجمَّعت بين أيدينا جملة حلول ثبت نجاحها، كان من حق أصحاب الفكر النظري بعد ذلك أن يُبوِّبوها ويصنِّفوها كما شاء لهم علمهم النظري، ثم كان لهم بعد ذلك أن يطلقوا عليها العنوان الذي يريدون، لكننا نكون قد رسونا قبل ذلك على شاطئ الأمان.
المشكلة الواحدة من مشكلات حياتنا العملية هي كالمريض دعونا له الطبيب ليفحص علَّته ابتغاءَ الشفاء، فهل يجوز للطبيب أن يحدِّد لنفسه أولًا أيكون في هذه الحالة من أهل اليسار أم يكون من أهل اليمين؟ ألا ترين معي يا ابنتي أن الاتجاه الصحيح إنما يبدأ من المشكلة إلى حلها، ثم قد يصعد الصاعد بعد ذلك من الحل إلى مبدأ عام، فيكون المبدأ في هذه الحالة هو تلخيص لحقائق الحياة العملية، لا العكس؛ لأن المبدأ أو المذهب أو العقيدة هي دائمًا أوسع من كل واقعة من وقائع الحياة اليومية، فإذا جعلنا لتلك التعميمات المجردة أولوية، فقد يتعذَّر علينا — ونحن أمام حالة جزئية معيَّنة — أن نلتمس طريقنا إلى التطبيق، والأمر في ذلك هو كالأمر في قوانين العلوم؛ فالقانون العلمي المعيَّن لا يهبط على الناس من حيث لا يعلمون، ولكن الناس هم الذين يستخلصونه من تجاربهم في معامل البحث أو غيرها.
لقد قرأت أخيرًا مع الإعجاب الشديد، مقالةً نشرها الأستاذ الفاضل الدكتور عبد المنعم النمر (الأهرام عدد ٤ / ١ / ۱۹۷۸م) يدعو فيها إلى الاقتداء في تقنين الشريعة بما صنعه السلف الصالح، لكن الاقتداء بهم إنما يكون في طريقة النظر لا في النقل عنهم أحكامًا بذاتها حكموا بها على مواقفَ معينة، وذلك لأن مدار الحكم يجب أن يكون ما فيه تيسير ومصلحة ودفع ضرر، ولما كانت ظروف الحياة تتغيَّر مع عصور التاريخ، جاز أن يكون ما فيه المصلحة في عهدٍ مضى، حاملًا للضرر في عصرنا، وهذه عبارة مما قاله الأستاذ الجليل: «فربَّ رأي قاله القدماء تيسيرًا على الناس في زمنهم أصبح جالبًا للعسر والمشقة والضرر في زمننا، وأصبح من الضروري تغييرُ الفتوى والرأي تحقيقًا للمصلحة واليسر، ولنا فيما فعله الصحابة والتابعون والأئمة قدوة حسنة.»
ومعنى ذلك أن المعوَّل عليه في الحكم هو ما نحن بصدده من حالاتٍ فعلية حقيقية يعيشها الناس، ونريد لتلك الحالات أن تتأدَّى إلى ما يحقِّق لهم حياةً أكثرَ يسرًا ونفعًا، وأبعد عن عوامل الضيق والمشقة والضرر، فماذا يجدي أن أضع في عنقي أغلالًا وعلى قدمي قيودًا باسم «الأيديولوجيا» «قبل» أن تنشأ المسألة التي تتطلب المعالجة والحل؟ نعم إنه لا بد من «إطار» عام أتحرك فيه حين أبحث لمشكلة معيَّنة عن حل، تمامًا كما يتحرك الباحث العلمي في إطار الفكر العلمي القائم، حتى يهتدي بحدوده ولا يخرج على قواعده المبدئية، لكن ذلك كله مفروض على الباحث العلمي من أجل الاهتداء إلى الحل المطلوب، وليس هو مفروض عليه اعتسافًا.
صدقيني يا ابنتي، إنني إذا أردت زرع ما يمكن زرعه من صحرائنا، فلا أدري كيف يكون هذا الزرع باليسار مختلفًا عنه باليمين، وإذا أردت تنظيم الأسرة درءًا لهذا الطوفان البشري، فلا أدري كيف يكون هذا التنظيم باليسار مختلفًا عنه باليمين، وإذا أردت الارتفاع بمستوى التعليم، فلا أدري كيف أحقِّق هذا الارتفاع باليسار أكثرَ مما أحققه منه باليمين، وإذا أردت ضبط الإدارة ضبطًا يحول دون الاختلاس والرشوة، فلا أعرف كيف يتم هذا الضبط الإداري باليسار على صورةٍ يختلف فيها عن صورته لو تم باليمين؟ وإذا أردت أن أنفخ في الناس روح الكرامة الإنسانية التي تمنعهم من النفاق الرخيص، فكيف يا تُرى يكون هذا النفخ ببوق اليسار وكيف يكون ببوق اليمين؟ … مشكلات كثيرة من هذا القبيل يا ابنتي هي التي تريد معالجةً تزيل منها مواضع الشكوى، ولست أرى سبيلًا إلى ذلك إلا بأن تُؤخذ كلُّ مشكلة أخذًا علميًّا منهجيًّا يؤدي إلى حلها، دون الحاجة إلى التمحُّك في يسارٍ أو في يمين.
لا، لا، يا جاهل — هذا ما قد يقوله المتحمسون — إنك تتحدث عن أمورٍ ليست هي التي نعنيها حين نقسِّم الناس إلى يسار ويمين؛ فنحن نعني مجال «السياسة» بصفة خاصة، السياسة؟ وماذا تكون السياسة إلا مجموعة حلول لمجموعة مشكلات؟ اللهم إن كانت السياسة شيئًا غير هذا، فإنها طعام ليس لديَّ المَعِدة التي تهضمه.
إن من سخرية التاريخ بالناس، أن تبدأ «الأيديولوجيا» — أعني هذا المصطلح بذاته — بعد الثورة الفرنسية بقليل، حين أُقيم مجمع علمي جديد، قُسِّم إلى لجانٍ لتختص كل لجنة منها بعلم معيَّن، فاقترح بعضهم أن يكون ﻟ «الأفكار» علمٌ خاصٌّ بها، ليبحث فيها كيف تنشأ وكيف تتطور، وبالفعل أُنشئت لجنة «الأيديولوجيا» (أيدي = فكرة، لوجيا = علم، وإذن تكون «أيديولوجيا = علم الأفكار») ثم مرت السنون طاوية مراحل القرن التاسع عشر، إلى أن جاءت الظروف السياسية في بعض الأقطار، التي جعلت القائمين بالحكم فيها ينسقون للناس من عندهم نسيجًا من أفكارٍ معيَّنة أرادوها، وفرضوها عليهم لتكون هي المرجع في سلوكهم وضروب مناشطهم، وقالوا إنها «الأيديولوجيا» التي يجب أن تُتَّبع، وأما الأقطار الأخرى التي لا تريد أن تقيِّد الناس بمرجع واحد معين، فليس لهذه الكلمة وجودٌ في حياتها، وقد أردت أن أقول بذلك إن ما كان مقصودًا به أول الأمر أن يكون «عِلمًا للأفكار» قد تحوَّل مع الأيام ليصبح «قيدًا للأفكار».
وإنه لما يُؤسف له في تكوين الطبيعة البشرية، أنها تميل بالناس إلى الأخذ بالقوالب العامة لسهولتها، دون الدخول في تفصيلات المادة التي تملأ تلك القوالب، وطلابي يشهدون كم عانيت وأعاني في تدريبهم على دقة التحليل حتى لا تضللهم القوالب العامة عن مضموناتها الحقيقية، لقد طلبت منهم ذات يومٍ منذ أعوام أن يحللوا هذه الجملة: «مؤلف قصة الظلال مات بالأمس» ليبينوا كيف يكون طريقهم إلى نقدها، فندُر بينهم مَن عرف أنها مركَّبة من عدة أجزاء، كل جزء منها يحتاج وحدَه إلى تحقيقٍ خاصٍّ به، قبل أن نقبل الجملة أو نرفضها؛ فقد يكون هنالك قصة اسمها الظلال وقد لا يكون، وقد يكون مؤلِّفها معاصرًا لنا وقد لا يكون، حتى إذا ما استيقن الباحث من وجود القصة ومن معاصَرة مؤلِّفها، بقي أن نرى إن كان قد مات أو لم يَمُت، فإذا تأكدنا من موته، كان علينا أن نتحقق من تاريخ موته، أكان بالأمس أم كان قبل ذلك … كان هذا تدريبًا على النظر إلى التفصيلات، تمهيدًا للعقول أن تعالج مشكلات الحياة في واقعها؛ فذلك أجدى من الطيران بأجنحة النسور إلى حيث لا وجود إلا لأشباحٍ وأوهام.
فإذا كانت كلمة «أيديولوجيا» يا ابنتي حلوة الرنين في الأسماع، وأردت لي أن أحدِّد لنفسي «الأيديولوجيا» التي أنتمي إليها، فكوني على يقينٍ من أنها لا هي إلى اليسار ولا هي إلى اليمين، وإنما هي الأيديولوجيا المؤلَّفة من منهج العلوم وقوانين العلوم، لأهتدي بها في معالجة الصعاب التي تحيط بنا، وحتى حين يُوجَّه إليَّ سؤال يسأل: هل نستمد حياتنا من ينابيع تراثنا أو نستمدها من ينابيع العصر الحاضر؟ قلت في الجواب: بل أستمدها من حيث أجد الحلول للمشكلات الحقيقية التي أعانيها، إنه لا قداسة لماضٍ على حاضر، ولا أسبقية لحاضر على ماضٍ، أمام مريض يفتك به المرض ونريد له النجاة، إن الدار إذا اشتعلت فيها النار، فلا أتلكأ في عملية الإطفاء حتى أبحث في الكتب عن المرجع الذي أستمد منه صورة الفعل، أيكون قديمًا موروثًا أم جديدًا معاصرًا، ولن أملَّ من تكرار القول بأن النظر إنما يبدأ بالجزء لا بالكل، وبأن الحل ينبغي أن يكون ﺑ «القطاعي» لا ﺑ «الجملة»، ولنا بعد ذلك أن نبني الكل ونحن على علم بأجزائه الصغرى، وأن نرسم الحل الإجمالي ونحن على يقينٍ من أن لكلِّ جانبٍ خاصٍّ حلَّه الخاصَّ.
ومع ذلك — يا ابنتي — فليس عجبي من دعاة الأيديولوجيا بأي لون كانت، بأشد من عجبي من فئةٍ أخرى تملأ الدنيا من حولنا كلامًا عن خرافاتٍ يسرقون بها انتباه الناس، وكأن حياتنا قد استكملت جوانبها، ولم يَعُد أمامنا إلا هذا الترف من الترصُّد لأشباح القبور كيف تظهر وأين تختفي، ومن التعقُّب لعفاريت الجن كيف تُشيع الفزعَ في المنازل وتحطِّم زجاج النوافذ وقِطع الأثاث، إلى الحد الذي يُستعان فيه بالشرطة، ويُؤخذ الأمر فيه مأخذَ الجد في الصحف!
كلا يا ابنتي، لا تسأليني عن أيديولوجيا اليسار واليمين، بل اسأليني عن طريق النظر العلمي كيف يكون، لعل شعاعًا منه أن يبدِّد شيئًا من هذا الظلام الكثيف، الذي ساعد على قيامه — وا أسفاه! — نفرٌ من قادة الكلمة، مقروءة ومسموعة.