من معالم الفكر الحديث
١
إنه على الرغم من اختلاف الفكر في تياراته وظواهره خلال العصر الواحد، إلا أنَّ تلك التيارات وهذه الظواهر لا بد لها — بداهةً — أن تكون مترابطة على نحوٍ ما، وإلا بَطُل أن يكون العصر واحدًا؛ فذلك شأنه شأن الكائن من الكائنات — أيًّا ما كان نوعه: بحرًا، أو جبلًا، أو كائنًا حيًّا — فإنه برغم تعدُّد أجزائه وعناصره، لا بد أن يكون فيه من الرباط ما يبرِّر لنا أن نضم تلك الأجزاء والعناصر تحت اسمٍ واحدٍ نطلقه على الكائن الواحد.
«والفكر الحديث» الذي نريد أن نتعقَّب معالمه الرئيسية، لا يشذ عن هذه القاعدة؛ فما دُمْنا قد افترضنا مسبقًا أنه موحد وذو معالمَ تميِّزه من الفكر في عصورٍ أخرى سلفت، فلا بد أن يكون كامنًا في أذهاننا نوعٌ من الرباط الذي يجمع أشتاته؛ فهو — بالضرورة — أشتاتٌ تدور حول عدة محاور، والأمر بعد ذلك متوقِّف — إذا ما أردنا الحديث عنه — على الزاوية التي ننظر منها؛ فقد ننظر إلى جانب الفكر العلمي من هذا العصر، وقد ننظر إلى جانب الفكر الفلسفي منه، أو إلى جانب الفكر السياسي، أو إلى جوانب الفن والأدب، وإني لأُوثر في هذه الكلمة ألا أقتصر على جانبٍ من الفكر في عصرنا دون جانب، بل أن أحاول تقديم صورة مركَّزة شاملة، تضم الجوانب الرئيسية المختلفة، مع بيان الرباط النظري الذي يربطها معًا فيوحدها تحت اسم واحد، هو «الفكر الحديث».
٢
ونظرة إلى هذا الفكر الحديث من جانبه العلمي، تدلنا للوهلة الأولى على أننا إنما نعيش في عصرٍ تغيَّر فيه المنهج العلمي ذاته من الأساس؛ فالمنهج الذي استخدمته العلوم، لم يكن خلال العصور الطويلة على صورة واحدة، بل كانت له صورة القياس الأرسطي — وأعني الصورة التي يبدأ فيها الباحث من مقدِّمات مفروض فيها الصدق، ثم يستولد نتائجه من تلك المقدمات — أقول كانت للمنهج العلمي هذه الصورة القياسية في المرحلتين القديمة والوسيطة من مراحل التاريخ، ولنتذكر هنا بأن المرحلة الوسيطة التي امتدت من القرن الخامس الميلادي إلى القرن الخامس عشر، كانت هي المرحلة التي شهدت أهم فترة من تاريخ الحضارة الإسلامية.
فلما انتقلت أوروبا من عصورها الوسطى إلى عصورها الحديثة في القرن السادس عشر، كان محور انتقالها ذلك هو أن بدَّلَتْ منهجًا علميًّا بمنهج؛ فأصبحت العلوم الطبيعية تُبنى أساسًا — لا على مقدِّماتٍ مفروض فيها الصدق — بل على مقدمات يقينية الصدق، قوامها معطيات الحس المباشر، عن طريق المشاهدات المحققة والتجارب التي تُقام عليها، على أنه ندُر عندئذٍ أن يستخدم الباحث العلمي من أجهزة البحث إلا صورًا ساذجة نستطيع أن نغض النظر عن ذكرها.
ولبث المنهج العلمي على هذه الصورة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر وجزء من التاسع عشر؛ حتى إذا ما انتصف هذا القرن — أي التاسع عشر — حدثت ثورة جذرية في طريقة البحث العلمي؛ إذ أصبحت الأجهزة هي الأساس المعوَّل عليه، ثم أخذت هذه الأجهزة تزداد في الدقة وفي التنوُّع ازديادًا سريعًا، إلى أن باتت هي السمة البارزة في العصر كله إلى يومنا هذا، وهو ما نطلق عليه اسم «التكنولوجيا»، ولْنلحظْ جيدًا ما طرأ على هذه الكلمة من خلط في الاستعمال؛ فبينما هي تعني «طريقة» البحث العلمي بوساطة الأجهزة، رأيناها وقد تحولت ليستخدمها الناس اسمًا على ما تنتجه البحوث العلمية من آلات.
والانتقال في منهج العلوم من مشاهدات العين العارية إلى الأجهزة، قد أحدث في محيط العلم وفي دنيا الحياة العملية آثارًا بعيدة الآماد إلى حدٍّ يكاد يسبق خيال الإنسان، ويكفي هنا أن نذكر نقطةً واحدة، وهي أن عصرنا بأجهزته العلمية هذه، قد استطاع أن يلم بالكون من طرفيه: طرفه البالغ في الصِّغَر (وأعني الذرة والخلية) وطرفه البالغ في الكِبَر (وأعني أفلاك السماء)؛ وأما قبل عصرنا فلا الذرة والخلية عُرِفَتا بمثل ما نعرفه اليوم عنهما، ولا جرؤ خيالُ الإنسان أن يطمع في الوصول إلى القمر وغير القمر من كواكب المجموعة الشمسية.
٣
وإذا تركنا المنهج لننظر في علوم العصر من حيث مضمونها، مكتفين في ذلك بالرءوس الكبرى، أمكن القول بصفةٍ تقريبية عامة إن تلك الرءوس أربعة، هي: دارون بنظريته عن التطور، وكارل ماركس برؤيته لتطور التاريخ، وفرويد بنظريته عن اللاشعور، وأينشتاين بنظريته عن النسبية، ونحن إذ نحصر المعالم الكبرى في هؤلاء الأربعة، فلسنا نزعم بذلك أن كلًّا من هؤلاء قد جاء بالحق الذي لا يعرف الباطل؛ لأننا نعلم أن النظريات الأربع جميعًا هي موضعٌ للتغيير والتعديل والتصحيح، لكن ذلك نفسه لا ينفي أنها ما زالت هي المحاور الرئيسية التي يدور حولها كثير جدًّا من نشاط الفكر الحديث، وعلى الرغم من أن هذه النظريات الأربع مختلفة في ميادينها؛ فنظرية دارون مختصة أساسًا بعلم البيولوجيا، ونظرية ماركس معنيَّة بالاقتصاد والاجتماع، ونظرية فرويد مجالها عالَم النفس الإنسانية، ونظرية أينشتاين موضوعها علم الطبيعة، إلا أن النظرة الممعنة الفاحصة، تستطيع أن تنفذ خلالها جميعًا إلى أساس مشترك، يربطها بعضها ببعض في مُرَكَّب ثقافي واحد، بحيث يجوز القول عنه بأنه هو المركَّب الثقافي الذي يمثِّل عصرنا الحاضر، وهذا الأساس المشترك هو تذويب الفواصل الحادة التي كانت تفصل الأنواع الطبيعية للكائنات بالنسبة لنظرية دارون وتفصل العقل عن اللاعقل، أو تفصل الإنسان عن الحيوان في دوافع السلوك، بالنسبة لنظرية فرويد، وتفصل بين طبقات المجتمع الواحد، بالنسبة لنظرية ماركس؛ ثم بعد أن كانت البشرية تنظر إلى الحقائق العلمية كأنما هي مطلقة اليقين بغير قيد، جاءت نسبية أينشتاين لتجعلها حقائق تتفاوت في درجات احتمالها، فباتت أقل صلابة وقطعية مما كانت عليه.
أما نظرية التطور فقد جاءت لتقيم فلسفة قائمة على الدينامية والصيرورة، بعد أن كان الإنسان يتصوَّر الكون على صورةٍ سكونية ثابتة على حالة واحدة منذ الأزل؛ فليس المهم هنا أن يكون دارون قد أصاب أو أخطأ في تفصيلات نظريته، بل المهم هو أن تغيرت نظرة الإنسان إلى حقيقة العالم، نعم إن دارون قد أراد بنظريته الميدان البيولوجي وحدَه، ليقول فيه إن الكائنات الطبيعية الحية كلها، حلقات من سلسلة واحدة، لكن الباحثين بعد ذلك لم يلبثوا أن وسَّعوا من نطاق الفكرة لتشمل شتى جوانب الثقافة الإنسانية كلها، فَنُظُم الحياة جميعًا خاضعة للقواعد نفسها التي تخضع لها الكائنات الحية، وأهمها هو أنها إما أن تتكيف للبيئة وإما أن تموت، وأن البقاء بين النظم المتنافسة هو للأصلح من حيث التكيف للظروف؛ وكان من أبرز ما تغيَّرت به ثقافة عصرنا، نتيجةً لمبدأ التطور، هو الإيمان بضرورة التغيُّر والتحول وعدم الثبات الجامد؛ فكلما تغيَّرت الظروف من حولنا وجب أن نغيِّر من أنفسنا لنلائم الوضع الجديد، ولا غرابة أن وجدنا عددًا كبيرًا من فلاسفة القرن العشرين، قد أداروا فكرهم الفلسفي حول محور التطور هذا، بمعانٍ مختلفة عندهم، وعلى أشكال مختلفة أيضًا، وحسْبنا أن نذكر منهم رجلَين: برجسون وهوايتهد، فضلًا عن الفلسفة البراجماتية — أو العملية — التي ركَّزت على أهمية الفعل بالنسبة إلى مجرد التأمل النظري؛ فالحقيقة إنما تكمن في فعلٍ نغيِّر به الدنيا وَفق أهدافنا، وليست الحقيقة — كما كانوا يتصورون قبل ذلك — أمرًا يستنبطه الإنسان داخل رأسه وهو قابع في مكانه لا يغيِّر من أوجه العالم شيئًا.
أصبحت الحقائق مرهونة بطرائق تطبيقها، فإذا زعم لنا اليوم زاعم بأن لديه فكرة أو أفكارًا ليست مما يصلح للتطبيق العملي، فاعلم أن ما لديه لا ينتمي إلى دنيا الفكر كما أصبح العالَم يتصوره، ونحن إذ نقول إن الفعل والتطبيق والتنفيذ وتغيير العالَم من حولنا، له الأولوية على التأمل السكوني، فكأننا قلنا — بعبارة أخرى — إن الإرادة قد أصبح لها الأولوية على التفكير الذهني الذي لا يحرك شيئًا من مكانه، بل إن عملية «التفكير» نفسها — كما قلنا — قد أخذت هذا المعنى الجديد، وهو أن التفكير ليس إلا مجموعة الإجراءات العملية التي نحقِّق بها شيئًا في دنيا الواقع، فإذا لم تكن ثمة إجراءات من هذا القبيل، لم يكن ثمة تفكير بالمعنى الذي يريده عصرنا بثقافته التي شكَّلتها من بعض وجوهها نظرية التطور.
ذلك عن نظرية دارون وما ترتَّب عليها في ثقافة عصرنا، وأما نظرية ماركس الاقتصادية الاجتماعية التي نظرت إلى التاريخ وكأنه حركةٌ جدليةٌ يقع فيها الصراع بين ضدين حتى يتولد منهما وضعٌ جديد، لا يلبث بدوره أن يصارع ضده حتى يتولَّد وضعٌ جديدٌ آخر، وهلمَّ جرًّا؛ فهي نظرية — بغض النظر عن كلِّ ما فيها من خطأ وصواب؛ لأن ذلك ليس موضوعنا الآن — هي نظرية مشتقة في أساسها الجدلي هذا من فلسفة هيجل، وكان لها الأثر في لفت الأنظار إلى حقيقة هامة، وهي أن التغيُّر إذا أردناه، كان علينا أن نستثير دوافعه من الداخل، لا أن نفرضه من الخارج؛ والأمر في ذلك شبيه بما يحدث للكائن الحي كالشجرة مثلًا، فهي تعتمل من داخلها لتنمو، وليست تنمو بأن يُضاف إليها فروع وورق من خارجها، فإذا أردنا أن نغيِّر المجتمع على صورة معينة، وجب أن نغيِّر من بنيته؛ أي أن نغيِّر الإطار الذي أُقيمَ عليه، ولا جدوى في أن يظل الإطار كما هو، ثم نطمع في التغيُّر بمجموعةٍ من القوانين تصدرها الحكومات.
ومثل هذا التصوُّر الجدلي للتغيُّر قد بات — مع نظرية التطور — جزءًا أساسيًّا في ثقافة عصرنا، وننتقل إلى نظرية اللاشعور التي أخذ بها فرويد؛ فقد كان لها هي الأخرى أثر بالغ في توجيه نشاطنا الفكري في هذا العصر، لدرجةِ أنها لم تَعُد مقصورة على المختصين من العلماء، بل تسرَّبت مفاهيمها إلى رجل الشارع، فأصبح مألوفًا أن نسمع الناسَ في أحاديثهم العابرة يقول بعضهم لبعض أشياءَ عن مركبات النقص وعن الكبت وما شابه ذلك. ولقد أدَّت هذه النظرية — بغض النظر مرة أخرى عن كلِّ ما فيها من صواب أو خطأ — إلى تحطيم الحواجز الحادة التي كنا نميِّز بها العقل المنطقي عند الإنسان من سائر مكونات فطرته التي جُبل عليها من غرائز وانفعال وغير ذلك؛ وأصبحنا نرى سلوك الإنسان لا يصدر بهداية عقله، بقدْر ما يصدر انبثاقًا من مكوِّناتٍ دفينة ربما ارتدت إلى بذورٍ بُذِرت فيه أيام الطفولة الباكرة، وإذا كان الأمر كذلك، كان حتمًا علينا أن نعنى بتربية أطفالنا ليجيء الإنسان الذي نريده سويًّا خاليًا من العُقَد التي قد تنحرف به عن الجادَّة المستقيمة، دون أن تكون له في ذلك حيلة، ومن هنا أخذت تتغيَّر وجهات النظر إلى انحراف السلوك عن العُرف المألوف، بحيث أصبح يُعدُّ مرضًا يستلزم العلاج، بعد أن كان جناحًا يقوِّمه العقاب؛ إذ ما دام سلوك الإنسان تشكِّله تلك العوامل الخافية فهل نعاقب الشجرة على أنها تنبت الشوك إذا كانت بذورها الأولى تحتم عليها أن يكون الشوك مصيرها؟
مجالات ثقافية كثيرة تغيَّرت في أسسها نتيجةً لنظرية اللاشعور؛ ففي الأدب والفن والفلسفة جاءت آثارها واضحةً وعميقة؛ فقد شُغِلَ الأدباء بالغوص في أعماق النفس الإنسانية كلما أرادوا تصويرها، وشُغِلَ رجال الفن بإخراجِ ما بأنفسهم بعد أن كانوا قبل ذلك ينقلون عن الطبيعة الخارجية؛ ومن ثَمَّ نشأت للفن في عصرنا هذه الاتجاهاتُ الكثيرة التي نعرفها من سريالية إلى تجريدية وانطباعية وغير ذلك، ولم يَعُد الفنان مسئولًا عن موضوعٍ خارجَ نفسه مفروض عليه، بل موضوعه الأساسي هو نفسه ذاتها يضع ما فيها ألوانًا على اللوحة أو نحتًا في الحجر؛ فإذا ما جاء الناقد ليعلِّق ويفسِّر، كان عماده نظرية اللاشعور.
وأما الخط الفكري الرابع، وهو نظرية النسبية، فلست بحاجةٍ إلى تعقُّب أثره في علوم الطبيعة، وهو الأثر الذي انتهى بالإنسان إلى تحطيم الذرة واستخراج قوَّتها الماردة، كما انتهى بالإنسان إلى أن يشقَّ طريقه إلى كواكب السماء، وإنما يهمني بصفةٍ خاصة التركيزُ على الجوانب الإنسانية التي ترتبت عليها، ومن أهمها نسبيةُ القيم ونسبية الثقافات؛ فلم يَعُد يسيرًا على أحد أن يزعم بأن ثقافةً معينة أعلى أو أدنى من ثقافة أخرى، إلا بمقدارِ ما تنفع واحدة في ناحيةٍ لا تنفع فيها الأخرى.
٤
تعالوا نقف معًا عند المنحنى الذي استدار عنده الزمن في انتقالته من القرن التاسع عشر، إلى القرن العشرين الحالي، لنرى ماذا كان المناخ الفكري السائد قبل ذلك المنحنى، وماذا ظهر بعده، وكيف أن الشطرين موصول أحدهما بالآخر.
الحق أن القرن الماضي كان هو الفترة التي أبدع فيها الفكر الإنساني عامة، وفي الغرب بصفة خاصة، نتاجًا غزيرًا متلاحقًا، تطلَّب امتدادًا زمنيًّا استطال إلى يومنا هذا لتَمَثُّله وهضمه، وذلك ما قد حدث دائمًا في مسار التاريخ الفكري منذ أقدم العصور: عصر يبدع الجديد، وعصر بعده يتمثَّله على مهل.
فلقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي، دارون ونظريته في التطور البيولوجي، وماركس ونظريته في التطور التاريخي، وفرويد ونظريته في الصلة بين الوعي العاقل ومستويات اللاوعي الدفين، وأخيرًا جاء أينشتاين ليعلن في تاريخ العلم عصرًا جديدًا متكاملًا.
كانت أوروبا قد شهدت خلال النصف الثاني من القرن الماضي موجةً ماديةً عارمة، أقامها وشجَّعها ازدهار الفكر العلمي موضوعًا ومنهجًا، حتى لقد حاولوا تفسير كل الظواهر الشعورية والعقلية تفسيرًا طبيعيًّا ماديًّا؛ وهنا يجدر بنا أن نتذكَّر، بأن تلك الموجة المادية الطاغية عندئذٍ، هي التي دفعت سائلًا من أفغانستان يوجِّه سؤالًا إلى جمال الدين الأفغاني وهو في مصر، يسأله فيه رأيه عن جماعة الماديين — أو الدهريين — الذين علا صوتهم في أوروبا، فأجابه الأفغاني بكتابٍ كامل، هو كتاب «الرد على الدهريين»، وهو أشهر ما خلَّفه لنا ذلك الرائد المسلم العظيم.
والناظر من بعيدٍ إلى تلك الموجة المادية الطبيعية، يلحظ فيها أفكارًا رئيسيةً يبدو على ظاهرها التعارضُ بعضها مع بعض؛ فبينما سادت فكرةٌ تعمل على اتصال الكون بعضه ببعض في متَّصِلٍ واحد، اضطروا إلى افتراضه ليعللوا مسار الضوء عبْر الأبعاد الفلكية (ولهذه الفكرة الاتصالية انعكاسها في تسلسل الكائنات في نظرية دارون، من الخلية الأولى إلى الإنسان، واتصال التاريخ في شريط مادي واحد في نظرية ماركس، واتصال العقل الأعلى بالغرائز الدنيا في نظرية فرويد، وهكذا)؛ أقول إنه بينما سادت تلك الفكرة الاتصالية عندئذٍ، قامت إلى جانبها فكرة رئيسية تعارضها في الظاهر، وهي الخاصة بتحليل الكون إلى جزيئات صغيرة لكلٍّ منها كيانها الخاص؛ أما المادة فجزيئاتها الذرات وما فيها من مكونات كهربية — السالبة منها والموجبة — وأما الأحياء فجزيئاتها هي الخلايا بما فيها من مكونات كذلك.
هذه واحدة، والأخرى أنه بينما سادت في الفيزياء الفكرة القائلة بأن الطاقة لا تزيد ولا تنقص، شأنها في ذلك شأن المادة في الطبيعة، فهي الأخرى محافظة على كمها، لا تزيد ذرة ولا تنقص ذرة، رأينا فكرةً تقوم إلى جانبها، وتعارضها في الظاهر، وهي فكرة التطور؛ إذ ماذا يكون التطور إلا أن يكون ضمن معناه ظهور كائنات حية جديدة، وكلما ظهر كائن حي ازدادت الطاقة بظهوره، هذا فضلًا عن أن التطور يقتضي الزيادة في الكون بصفة عامة، وهي زيادة تناقض القول بأن المادة والطاقة تحتفظان بمقدارٍ معيَّن لا ينقص ولا يزيد.
وجاء القرن الحالي ليتناول تلك الحصيلة الفكرية، بكل الخلفيَّة التي كانت وراءها، فيصوغها صياغة جديدة، هي التي نتحدَّث عنها الآن على أنها الفكر المعاصر؛ ولقد اقتضت هذه الصياغة الجديدة انقلابًا أو ما يشبه الانقلاب في أسس العلوم كلها، فضلًا عن أسس التفكير الفلسفي؛ لأن الفلسفة ما هي في صميمها إلى الضوء يُلْقى على ميدان العلوم، ولذلك كانت بين الجانبين صلة وثيقة، فكلما تغيَّرت أصول العلم في عصرٍ من العصور، تغيَّرت معها أجواء الفلسفة.
ولنبدأ بعلم الفيزياء؛ فقد كانت الخلفية التي يقوم عليها حتى القرن التاسع عشر، هي وجهة نظر نيوتن، التي فسَّرت كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة بالمادة والحركة، فما عليك إذا أردت لأية ظاهرة تعليلًا كافيًا، إلا أن تحسب وضع كيانها المادي من جهة، والعوامل التي حرَّكتها من خارجها من جهة أخرى، فإذا عرفت الوضع الراهن لأي جسم — كجِرم من أجرام السماء مثلًا — وعرفت حساب المؤثرات الخارجية التي تحرِّكه، عرفت بالتالي كل شيء عنه الآن، وفي أية لحظة زمنية مضت، وفي أية لحظة زمنية سوف تأتي؛ بعبارة أخرى، فإنك تستطيع التنبؤ الرياضي الدقيق بكلِّ ما سوف يحدث في كل لحظة مستقبَلة، كما تستطيع الحساب الرياضي الدقيق لكلِّ ما قد حدث في الماضي؛ فلست بحاجة — من أجل العلم الكامل بظواهر الطبيعة — إلى شيء أكثرَ من وضع الجسم والعوامل التي تحرِّكه من خارجه.
وجاء القرن الحالي بما بين يديه من معرفةٍ أنتجها له القرن الماضي، وغيَّر تلك الصورة النيوتونية تغييرًا تناولها من أساسها؛ فأولًا: لم تَعُد «المادة» هي ذلك المعطى البسيط الذي تَصوَّره نيوتن، بل أصبحت المادة مركَّبًا ذريًّا من كهارب دائبة الحركة في أفلاكها؛ أي إن المادة لم تَعُد شيئًا سلبيًّا سكونيًّا ينتظر الدوافع المحرِّكة لتأتيه من خارج ذاته، بل أصبحت المادة طاقةً حركية دينامية متحرِّكة بطبيعتها؛ وثانيًا: لم يَعُد في حدود الإمكان أن نحسب للجسم المعيَّن وضعَه وحركته في آنٍ واحد؛ لأنك إذا حصرت انتباهك في وضعِ ذرة معينة، فاتتك حركتها، وإذا حصرت انتباهك في حركتها فاتك وضعُها؛ ومعنى ذلك أنه لم يَعُد في حدود المستطاع ذلك الحساب التنبؤي الرياضي الدقيق الذي ظنَّه نيوتن، وبات أمر العلم الفيزيائي مرهونًا بأرقامٍ إحصائية تخرج المتوسطات، وبالتالي فحقائقه احتمالية لا تعرف اليقين الرياضي المزعوم لها؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه لمَّا كانت حركة كهارب الذرة الواحدة تلقائية، يتعذَّر التنبؤ بها قبل وقوعها، فإن ذلك يفسح المجال واسعًا أمام فكرة الحرية في الطبيعة، لتحل محل الجبرية الحاسمة التي افترضها نيوتن من قبل، فلو كانت الطبيعة وظواهرها في ظل فيزياء نيوتن أشبه بالآلات التي تدور تروسها وعجلاتها سيرًا على طريقٍ مرسومٍ معلومٍ ومحسوب، فقد أصبحت الطبيعة وظواهرها على ضوء العلم الفيزيائي الجديد أشبه بالكائن الحي الذي يتحرَّك من داخله، حركة لا هي مرسومة له بدقة الرياضة، ولا هي معلومة علمًا كاملًا قبل وقوعها، واختصارًا، فبعد أن كانت الطبيعة سكونية أصبحت دينامية متطورة، وبعد أن كانت مطلقة أصبحت نسبية.
ونترك علم الفيزياء لنلمَّ إلمامةً سريعة بالتحوُّل العميق الذي طرأ على العلوم الرياضية، وفي صحبتها علم المنطق؛ فلقد كان السائد قبل القرن الماضي، عن الرياضة أنها ذات علاقة بالحقيقة في مجال الطبيعة؛ أي إن تلك صورة كمية لهذه؛ فحدث خلال القرن الماضي — على أيدي أعلامٍ بارزين في مجال العلوم الرياضية وفي مجال علم المنطق — أن استطاعوا بتغييرهم لبعض المسلَّمات التي أقام عليها إقليدس بناءه في علم الهندسة، بمسلَّماتٍ أخرى، فتغيَّرت بالطبع النتائجُ المترتبة عليها؛ أعني النظريات الهندسية؛ فها هنا تنبَّه العقل الإنساني إلى حقيقةٍ لعلها من أهم الحقائق العلمية في هذا العصر كله، وهي أن البناء الرياضي إنما يُحكم عليه بالصواب، لا على أساسِ أنه يصوِّر الطبيعة وكائناتها، بل على أساسٍ داخليٍّ في ذلك البناء نفسه، وهو أن تكون النتائج مستنبطة استنباطًا سليمًا من مقدماتها، ولذلك فإنه من الممكن إقامة عدة بناءات رياضية، كلٌّ منها يكون صحيحًا في ذاته، دون أن ندري أي تلك البناءات يمكن تطبيقه على الطبيعة وأيها لا يمكن.
ولما كان الفكر الإنساني كثيرًا جدًّا ما يبني مذاهبه على هذا الأسلوب الرياضي نفسه، أي أن يفرض لنفسه فروضًا يسلِّم بصوابها، ثم ينتزع منها نتائجها، حتى يتكامل له بمجموعة تلك النتائج وفروضها مذهب فكري موحَّد، أقول إنه لمَّا كان الفكر الإنساني كثيرًا ما يبني مذاهبه على هذا الأسلوب، تبيَّن في جلاء — على ضوء ما حدث لعلوم الرياضة نفسها — أنه في حدود الإمكان أن تُقام عدة مذاهب فكرية وعقائدية، كلٌّ منها صحيح بالنسبة لنفسه لكن صحته هذه لا تنفي صحة المذاهب الأخرى كذلك وللإنسان بعد ذلك أن يختار من تلك المذاهب ما يحقق له أهدافه.
وصَحِبَ التطور الذي حدث في مجال الرياضة البحتة، تطوُّر مشابه في علم المنطق؛ فلقد كنا قبل ذلك نجري على سنن المنطق الأرسطي، الذي إن صَلُحَ للأفكار الكيفية الغامضة، مثل إنسان وحياة وخلود وفناء … إلخ، فلا يصلح للأفكار الكمية الدقيقة؛ ولذلك فقد بات مطلوبًا لنا منطقٌ تحليلي رياضي، لنعالج به الأفكار التي من هذا القبيل، معالجة تفتت الواحدة منها تفتيتًا لتعرِّي أجزاءها وعلاقاتها بغيرها وهكذا، مما يؤدي بنا إلى فكر علمي فيه دقة التصورات الرياضية.
ولا يفوتني هنا أن أقول إن المشتغلين بالفلسفة في عصرنا، حين استخدموا هذه الأداة التحليلية في تفهُّم المفاهيم التقليدية التي كانت شائعة في مجال الفكر الفلسفي، تبيَّن لهم عن بعضها أنها كالعُلب الفارغة، تطنُّ بلفظها لكنها خالية من أي مضمون.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى العلوم الإنسانية، وعلى رأسها علم النفس وعلم الاجتماع، فتراها بدورها قد اتخذت صورةً أخرى غير التي ألفناها قبل ذلك؛ فكلاهما قد اكتسب روحًا علمية تجريبية من روح العصر، وتحوَّل إلى بحوثٍ تجريبية كأنه معنيٌ بمشكلةٍ من مشكلات الطبيعة ذاتها.
٥
ونختم حديثنا عن المعالم الرئيسية في فكر العصر، بذكر صورة موجزة عن التيارات الفلسفية التي تسوده، والفلسفة عادة هي التي تستخرج من الحياة الثقافية في عصرها، مبادئها الكامنة وأصولها، فأقول على وجه الإجمال الذي يهمل التفصيلات والفروع، إن في عصرنا تياراتٍ فلسفيةً أربعة: فلسفة التحليل في إنجلترا، والفلسفة البراجماتية في أمريكا، والفلسفة الوجودية في غربي أوروبا، وفلسفة المادية الجدلية في شرقي أوروبا، وأما بقية أجزاء العالم فالأغلب أن تنقسم فيما بينها هذه التيارات الأربعة نفسها، مضافًا إليها — أحيانًا — جوانبُ مأخوذة من تراثها الاقليمي، وليس في ذلك ما يدعو إلى التعجُّب؛ لأنه إذا كانت فلسفة العصر نابعة من حضارته وثقافته، ثم إذا كانت بقية أجزاء العالم يغلب عليها — حتى اليوم — الأخذُ بالحضارة والثقافة الغربيتين قدْر المستطاع، كانت فلسفة الغرب — بالتالي — هي التي تسود.
ولقد نتوهم أن انقسام الفكر الفلسفي في الغرب دالٌّ على تمزُّق العصر من الناحية الفكرية، لكن نظرة فاحصة متعمقة، سرعان ما تبُيِّن أن تلك التيارات الأربعة إنما اختص كلٌّ منها بجانبٍ غير الجانب الذي اختص به التيارات الأخرى، وإذن فهي تتكامل معًا، ولا تتعارض؛ إذ التعارض لا يكون إلا إذا كانت كلها جميعًا تنصبُّ على جانبٍ واحد بعينه، ثم تختلف بعد ذلك في الرأي.
فالفلسفة التحليلية السائدة في إنجلترا، إنما خصَّت نفسها أساسًا بتحليل العلوم وقضاياها، لتعرف الصورة الهيكلية التي ينصبُّ فيها الفكر العلمي؛ والفلسفة البراجماتية في أمريكا قد خصَّت نفسها بالبحث عن الحق ما هو، كما يفهمه عصرنا، فتقول عن الحق إنما هو النتائج التي تعمل على حل مشكلات الحياة الواقعية؛ أي إنه إذا كان بين أيدينا فكرة، ثم أردنا أن نتبيَّن من صوابها أو عدم صوابها، بحثْنا عمَّا يترتب عليها من فعلٍ نجريه على أرض الواقع الحقيقي، من شأنه أن يُحلَّ مشكلةً بعينها قصدنا إلى حلها؛ فإذا لم نجد الفكرة مؤدية إلى مثل هذا الفعل، ولا إلى المشكلات تحُلُّها، علِمْنا أنها لا تستحق أن يُطلق عليها اسم «فكرة» فضلًا عن أن نَصِفَها بأنها صحيحة.
وأما الفلسفة الوجودية، فلا تجعل محور اهتمامها تحليل البناء العلمي، ولا تحليل فكرة الحق حين نَصِف به هذه الفكرة أو تلك، ولكنها تُعنى بالإنسان نفسه، فتقول إن الإنسان إنما يستمد إنسانيته من صُنْعه لنفسه عن طريق القرارات التي يتخذها هو لنفسه في المواقف المختلفة، على أن يكون مسئولًا عمَّا يقرِّره، وإنه ليهدر آدميته إذا هو تشكَّل على ما يقرِّره له سواه، وأخيرًا تُعنى المادية الجدلية بتحليل التاريخ وما يسيِّره من نُظمٍ وقيم وأفكار، فترى أن هذا المركَّب الثقافي بكل أجزائه إنما يتكون نتيجةً لصراعاتٍ داخلية في بنيانه؛ إذ يكون في كل وضعٍ معيَّنٍ ما يناقضه حتى يهدمه، ومن الوضع ونقيضه هذين يتألَّف موقفٌ جديد، وهكذا ترى أن الفلسفة التي تسود غربي أوروبا وشرقيها على السواء، تشترك في أن الإنسان هو محورها، على حين أن الفلسفة كما هي قائمة في إنجلترا وأمريكا تجعل الفكر العلمي محورها؛ فلا تضاد بين هذه وتلك، وإنما هو تكامل لهما في وحدة شاملة تصوِّر العصر وما فيه.