اللاعقل في حياتنا
أرسلت منذ بضعة أسابيع مقالةً بعنوان «في حياتنا العقلية» ففوجئت حين رأيتها منشورة تحت عنوان «في حياتنا العائلية»، كأنما عامل المطبعة الذي صفَّ حروف العنوان لم يصدِّق أن تكون لنا «حياة عقلية»، أو لعله لم يسمع قطُّ قبل ذلك أن تُوصف حياة الإنسان أحيانًا بأنها عقلية في منحاها ومسارها، وظنَّها فلتةَ قلمٍ من الكاتب، فتبرَّع بذلك التصحيح ليكون للعنوان عنده معنًى مفهوم، ولم يأبه أن تنعدم الصلة بين مادة المقالة وعنوانها.
ولقد سمعت من أستاذٍ لعلم النفس في إحدى جامعاتنا، بأنه أراد القيامَ ببحث علمي على مجموعة من طلابه وطالباته، يقيس به ميولهم، فكان من بين ما طلبه من هؤلاء الطلبة والطالبات أن يختار كلٌّ منهم كتابةَ موضوعٍ إما في الحياة «الانفعالية» وإما في الحياة «العقلية»، فلم يُقدِم منهم طالب واحد ولا طالبة واحدة على الكتابة عن الحياة العقلية، واختاروا جميعًا حياة الانفعالات.
تأيدت عندي الفكرة — من هذه الأمثلة وغيرها — بأن «العقل» وحياته مسكين في ديارنا، لا نكاد نطيق أن يكون له ركن عندنا ليقيم فيه، لكنني حين شرفني الدكتور إبراهيم حلمي عبد الرحمن، بأن ضمني عضوًا في لجنةٍ يرأسها، عملُها هو أن تخطِّط لمصر تخطيطًا بعيدَ المدى نسبيًّا، وجدت نفسي بين صحبةٍ كريمة، أستمع إلى أفرادها، أو أقرأ لهم ما أعدوا من تقارير، فلا أجد إلا تفكيرًا عقليًّا من الطراز الرفيع، إنها مجموعة من الطراز الرفيع، إنها مجموعة من العلماء، تخيلت أنها لو أمسكت زمام الريادة في أي بلد من بلاد العالم المتقدم، لكانت هناك خيرَ من يرسم الطريق، وهنا سألت نفسي فيما يشبه الثورة الغاضبة قائلًا: إذا كان هؤلاء هم رجالنا في التخطيط العلمي لشعبنا؛ تخطيطًا يجسِّد العقل على صفحاته وبين سطوره وأرقامه، فما الذي يصيبنا بعد ذلك في طريق حياتنا العملية؟ ما الذي ينقصنا ليطرد بنا السير إلى أمام، ما دام هذا هو طرازنا في الجانب النظري؟
ولم تكد تهدأ ثورتي حتى جاءني الجواب عن سؤالي يسعى، وذلك أني أخذت أتصفَّح أوراقًا أمامي بطريقةٍ عفوية عابرة، فإذا عيني تقع في سطورها على حقائقَ تشد الانتباه، وكان مما قرأته أن هيئة رسمية في سنة ١٩٦٠م أقرت بادئ ذي بدء أن التصنيع هو الطريق الأساسي الوحيد الذي يُخرِج البلاد من الضيق إلى السَّعة، ومن التخلف إلى التقدُّم، ثم وضعت للدولة تخطيطًا تسير على منهاجه ليحقق لها ذلك الهدف، ومضت خمسة عشر عامًا بعد ذلك، وجاءت سنة ١٩٧٥م، وقيس التقدُّم الصناعي الذي تقدمته البلاد خلال تلك الفترة فإذا بالناتج المضاف عن طريق الصناعة تقل نسبته سنة ١٩٧٥م عنها سنة ١٩٦٠م! ومعنى ذلك أن اتجاه السير في حياتنا العملية قد جاء مضادًّا لما أراده لنا «العقل» وهو يرسم الطريق! فتصوَّر مسافرًا أراد السفر من القاهرة إلى الإسكندرية فركب قطار الصعيد!
ومما وقعت عليه عيني أيضًا في تلك القراءة العابرة للأوراق التي وجدتها أمامي، أن مشروعاتٍ صناعيةً أُقيمت لها المباني وجُهزت الآلات، وإذا بها لا تجد المادة التي تُصنَّع (بتشديد النون)، فعملتْ بجزء منها وبقيت سائرُ الأجزاء معطَّلة، وهكذا، وهكذا أخذتُ أطالع أمثلةً عجيبة تدل أوضح الدلالة وأقواها، على أننا إذا كنا قد استطعنا بفضل رجالنا الممتازين أن نستهدي العقل العلمي في رسم خطة السير، فلقد نُكبنا برجالٍ آخرين في دنيا التنفيذ، جعلوا يخلطون الأمور بعضها ببعض: يقدِّمون غير المهم على المهم، وينافس بعضهم بعضًا في مجالاتٍ كانت تستدعي التعاون والتكامل، إلى آخرِ هذه القصة الطويلة الحزينة.
عندئذٍ ظهر لي تفسير المفارقة المؤسفة التي أثارت في النفس ثورتَها وغضبها، وهي تتلخص في هذا السؤال: كيف حدث أن كان بيننا رجالٌ بأعلى الكفاءة العلمية والعقلية حين يخططون، ثم لم نجد في الناتج الفعلي على أرض الواقع إلا نقيض ما أردناه وخططنا له؟ والحل الذي ظهر لي واضحًا هو أنه بينما ساد «العقل» عند مرحلة التفكير والتدبير، جاء «اللاعقل» بعد ذلك فسدَّ علينا منافذَ الطريق.
إن هنالك فجوةً تؤدي إلى انفصام، بين الصفوة التي تحتكم إلى «العقل» في استباق الرؤية، وبين الكثرة الغالبة — وهي التي سيُناط بها عملية التنفيذ والتطبيق — لأنها كثرةٌ لا تؤمن في أعماقها لا بالعقل ومنطقه ولا بما يترتَّب على العقل من علومٍ وصناعات، ومما يقوي نفور الناس من العقل والعلم والإيمان بهما، فريق من أصحاب الكلمة المكتوبة أو الكلمة المنطوقة، وسوستْ لهم الشياطين بأن العقل الإنساني عاجز، وبأن العلم تضليل، وراحت تبثُّ هذه الدعوى فتلقفها منهم الناس في لهفة؛ لأنها دعوة تضمن لهم الاسترخاء والراحة، في الوقت الذي يقتضي منهم نشاط العقل كثيرًا من اليقظة القلقة الواعية التي ترهق أعصابهم بغير داعٍ.
لقد جاءتني فتاة تعمل في الصحافة عند أولى درجاتها، جاءت تطلب مني تعليقًا على حديثٍ أملاه عليها عَلَم من أعلام الفكر في حياتنا اليوم، وربما كان الأقرب إلى الصواب أن أقول عنه إنه من أعلام «اللافكر» في حياتنا (أعني أنه يجعل الأولوية لوجدانه)؛ لأن الفكر بحكم تعريفه هو «منطق العقل»، على حين أن الرجل ما ينفك يعلن بأعلى صوته أنه عدوٌّ للعقل ومنطقه، أو هو على الأقل ضعيف الإيمان بقدرة ذلك العقل البشري في الكشف عن الحقائق، لماذا؟ لأن صاحبنا قد وجد راحة نفسه في حياة الوجدان الصوفي، والرأي مجمعٌ على أن هذا الوجدان الصوفي إنما يقف من المنطق العقلي موقف النقيض من النقيض.
جاءت الصحفية الشابة تطلب مني تعليقًا على حديثٍ أملاه عليها صاحبنا، فوجدت الحديث — كما توقعتُ له أن يكون — ضبابًا يحجب الرؤية، وأوهامًا يطير بها المُهَوِّمون في متاهات المجهول، كأننا قد فرغنا من دنيانا هذه دراسةً وانتفاعًا، فتركنا صخرها وترابها وماءها وهواءها إلى «مَن يعنيهم الأمر»، ونفذنا نحن بأرواحنا إلى أطباق السماء! فماذا كان بوسعي أن أقوله في التعليق على حديثٍ كهذا؟ أأقول إنه يَجمُل بنا أولًا أن نملأ الصوامع الخاوية بالقمح ليأكل الناس؟ أأقول إن مثل هذا التهويم ينبغي له أن يُرجأ إلى أن نفرُغ من فلاحة الأرض وتشغيل المصانع؟ إنني لو قلته — وهنا تكمُن أعجب العجائب — كان أول مَن يشيح بوجهه عني هم أولئك أنفسهم الذين يُعوِزهم القمح ليأكلوا، والثياب ليكتسوا!
سرُّ المأساة — إذن — هو في الثغرة المحفورة في حياتنا بين مَن يمسك العقل بزمامهم في ناحية، وبين مَن يهيمون في عماء اللاعقل في ناحية أخرى؛ فترى الأولين يرسمون ويخطِّطون «كما لو كان» الذين سيتولون التنفيذ مثلهم إيمانًا بعقولهم، ولقد وضعتُ «كما لو كان» بين أقواسٍ؛ لألفت إليها الأنظار؛ لأنها كانت — لأهميتها — عنوانًا على فلسفةٍ بأسرِها، أشاعها في الثلث الأول من هذا القرن، فيلسوفٌ ألماني (هو هانس فاينجر)، وخلاصتها أن الإنسان يصوغ لنفسه أفكارًا ويزعم لنفسه أنها أفكارٌ تصوِّر له الواقع كما هو واقع، فإذا هي في حقيقتها إنما تصوِّر له ما يحب هو أن يتصوره عن ذلك الواقع لينعم بالراحة، وحتى لو جاءته الخبرة الشخصية صارخة ببطلان أفكاره تلك، فالأغلب أنه لا يعدِل عنها إلى سواها، ولماذا يعدِل عنها إذا كانت مريحة وسواها يؤلمه ويشقيه؟ واختصارًا فإن الإنسان بمثابةِ مَن يَحبُكَ لنفسه قصةً لذيذة عن العالم، يحياها «كما لو كان» العالَم يجري على منوالها … وسواء أصابت تلك الفلسفة في تحليل الإنسان أم أخطأت، فهي بغير شك تصف شيئًا مما يقع في حياتنا نحن، حين نبني من الأوهام صورة نتشبث بها «كما لو كانت» هي صورة الواقع.
وإن علماء الإنسان ليتساءلون أحيانًا: كيف أمكن للإنسان أن يكون له هذا العقل بذكائه الذي اخترق به حُجُب السماء، وأن يكون له في الوقت نفسه تلك الأوهام العجيبة التي كثيرًا ما يلوذ بنعيمها فرارًا من عذاب العقل وشقائه؟ كيف حدث هذا التناقض في تركيب الإنسان دون سائر الحيوان؟ إن القط والكلب والسَّبُع والنَّمِر والغزالة والزرافة، كلها تحيا حياةً ذات بُعدٍ واحد مطرد منسجم لا تناقض فيه، وأما الإنسان فهو وحدَه المنكوب بالتمزُّق بين ذكاء العقل وعماء العاطفة، فكان فيه العِلم، وكانت فيه الخرافة في آنٍ معًا.
هي مسألة تستوقف النظرَ وتستحق التعليل، وكان من أحدث (وأغرب) ما قرأته في تفسيرها، نظريةٌ يُطلق عليها اسم صاحبيها «بابيز» و«ماكلين» وهما من علماء البيولوجيا، وتقول النظرية ما خلاصته أن المخ البشري مؤلَّف من ثلاثة أجزاء، تمثِّل ثلاثة أدوار من التطور، فأحدها لا يزال يختزن حياة الزواحف، والثاني لا يزال يختزن حياة الثدييات الدنيا، والثالث هو ذلك الذي يؤدي لنا وظائف العقل كما نعرفها وليس بين الطبقة الدنيا التي ترسَّب فيها الماضي القديم، والطبقة العليا التي تؤدي الوظائف العقلية، لا تعاون ولا اتساق، وكذلك فهما كثيرًا ما يتعارضان، من الأُولى تنبثق كل النزوات الانفعالية اللاعقلية، ومن الثانية يأتي الفكر المنطقي، ثم اتسعت الهُوَّة بين الجانبين، حين ظلت الأولى على حالها، وقفزت الثانية في قدراتها تلك القفزات المعجزة التي عرفناها للعلوم في تاريخ الإنسانية الحديث.
ذلك ما يُقال، وقد يكون من الهدى وقد يكون من الضلال، لكن الذي لا شك عندي فيه، هو أن في حياتنا الفكرية شيئًا منه؛ فقسمٌ منَّا يفكِّر ويرسم ويخطِّط ويهدي، وقسمٌ آخر يعبث بنزواته فيما رسم الأول وخطَّط، فكان ما كان مما نرى من خطوات تتعثَّر على الطريق.