ثقافة الغد
ثقافة المرء هي وجهة نظره. ومن ليس له وجهة نظر يقيس إليها مواقفَ الحياة فليس هو بذي ثقافة حتى ولو كان أعلم علماء عصره في فرعٍ من فروع العلم.
ليختلف المتحدثون عن «الثقافة» ما شاء لهم الاختلاف، فلا أظنك واجدًا بين المعاني الهامة التي تشغلنا هذه الأيام، معنًى بلغ من السَّعة ومن السخاء، ما بلغه معنى «الثقافة»؛ فهو يعطي كلَّ مَن شاء ما شاء، دون أن يكون هناك المعيار الواحد الوحيد، الذي يمكن أن يحتكم إليه المتحدثون، فيقضي في الأمر قضاءً يميز بين الهدى والضلال.
وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا لا أملأ إنائي من هذا البحر الواسع كما يملأ الآخرون آنيتهم، فيكون لي رأي في حياتنا الثقافية بمثلِ ما يكون لسواي؟ على أنني أُوثِر أن أمدَّ نظرتي إلى الغد، حتى إذا ما استرجعت شيئًا من الماضي القريب أو البعيد، وإذا ما وجَّهت البصر إلى ثقافتنا في حاضرها الراهن، كان ذلك كله من أجل تصوُّرٍ أتصوَّره لحياتنا الثقافية في غدها، بحيث تجيء غنية بالجديد، لكنه الجديد الذي يَصلُح أن يكون خطوة على طريقنا نحن، لا على طريق أحد سوانا؛ لأنه بغير هذه الاستمرارية في السير، محال أن يكون لحياتنا الثقافية «تاريخ» تتصل حلقاته اتصالًا يجعل كلَّ حلقة منها مرحلةً وسطى بين سابقة ولاحقة.
ثقافة المرء — عندي — هي وجهة نظره، ومَن ليس له وجهة نظر يقيس إليها مواقف الحياة وأحداثها، فليس هو بذي ثقافة، حتى ولو كان أعلمَ علماء عصره في فرعٍ من فروع العلم، وها هنا تأتي التفرقة الفاصلة بين العلم والثقافة؛ فالعلم عامٌّ والثقافة خاصة؛ فلا فرق بين عالم مصري وعالم من قوميةٍ أخرى في الرياضة أو في الكيمياء أو غيرهما من ميادين العلم، وأما ثقافة المصري — أي وجهة نظره — فيتحتم تحتيمًا أن تختلف عن الثقافة عند سائر الأقوام، فإذا اتفق قومان في وجهة نظر واحدة إلى الكون وإلى الحياة، قيل إنهما بمثابة الأخوة في الأسرة الواحدة، أو بمثابة أبناء العم والخال، وكذلك إذا وجدت داخل قومية معينة أفرادًا يتجهون بنظرهم الوجهةَ نفسها (بكل حذافيرها) التي تتميز بها قومية أخرى، كان هؤلاء الأفراد محسوبين خطأً على قومهم، وكان الأولى لهم أن يُحسبوا على مَن يتجانسون معهم في وجهة النظر.
لا، ليس العلم هو الثقافة؛ فالعلم مقيَّد بالواقع، وأما الثقافة فهي أقرب إلى المعيار الذي نهتدي به إلى ما ينبغي أن يكون؛ ومن هنا لا تتدخَّل في ساحة العلم قيمُ الخير والشر أو الجمال والقبح، وأما الثقافة فمعنية بتلك القيم من رأسها إلى القدمين، العلم عقل والثقافة ذوق، العلم منهج يُقام على مبادئ المنطق، والثقافة دفعات وجدان، ومع هذا التباين كله بين العلم والثقافة، فهنالك ما يربطهما معًا في كيان واحد، هو كيان الإنسان إذا شاء له الرحمن أن يكون ذا كيان.
وشرح ذلك هو أن الإنسان — على ضوء ثقافته؛ أي على ضوء وجهة نظره — يختار لنفسه الأهداف، ثم يلجأ إلى ما لديه من علمٍ ليحقق تلك الأهداف؛ فالعلم هو الذي يرسم الخطوات الموصلة إلى الهدف، وأما اختيار الهدف في ذاته، فلا شأن للعلم به؛ فقد تجد قومًا يختارون لأنفسهم أن تُقام الصناعة على ملكية الأفراد، كما قد تجد قومًا آخرين اختاروا لصناعتهم أن تُقام على ملكية الجماعة، وإلى هنا لا شأن للعلم بما اختاره أولئك أو هؤلاء، ثم يأتي العلم بعد ذلك ليحقق لكل قومٍ هدفهم المختار؛ فالعلم شأنه أن يحلِّل ما بين يديه، لكنه لا يفاضل ولا يختار، على حين أن الثقافة — بوجهة نظرها — لا تكاد تعرف التحليل؛ لأنها وجدان وذوق، يعرف كيف يفاضل ويختار.
وحركات التغيير والتطوير، إنما تنبثق من الثقافة ولا تنبثق من العلم؛ لأن تلك الحركات (بما في ذلك الثورات) ما هي إلا رغبة في تغييرِ حالةٍ قائمة لتصبح على صورةٍ أخرى غير صورتها الراهنة، والرغبة تنبع من الجانب الوجداني في الإنسان، وأما العلم فهو وسيلتها إلى التحقيق.
ونعود إلى ما بدأنا به، وهو أن ثقافة المرء هي وجهة نظره، وأرجوك أن تقف متمهلًا عند كلمة «وجهة»؛ فوجهةُ النظر هي «الاتجاه» الذي نرسل البصر في طريقه، ولو راجعت الحياة الثقافية في مصر، خلال القرن الثامن عشر؛ أي قبيل أن يصل إليها نابليون بحملته العسكرية العلمية معًا، لوجدتها متجهة ببصرها نحو خزائن الكتب الموروثة، تحفظ ما فيها وتشرحه وتضع له الهوامش؛ فكان «العلماء» هم الحافظون لما هو مذكور في صفحات تلك الكتب، مع تفاوتهم بعد ذلك في درجة فهمها واستيعابها، ومعنى هذا هو أن «ثقافة» القوم عندئذٍ؛ أي وجهة «نظرهم» هي العودة إلى الماضي.
ثم أخذت تلك الوجهة تتغيَّر في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، بأن مدَّت البصر عبْر البحر إلى أوروبا، لا لتضع شيئًا جديدًا مكان شيء قديم، بل لتضيف جديدًا إلى قديم، ولو أخذنا رفاعة الطهطاوي علامةً على تلك المرحلة، وجدنا الاتجاه الثقافي هو المجاورة بين قديم موروث يُحقَّق ويُعاد نشره، وجديد وافد من أوروبا، في صورة كُتُب تُترجم إلى اللغة العربية.
ومضت بنا الأيام إلى الربع الأخير من القرن الماضي، وهو عصر الشيخ محمد عبده، فإذا بصراعٍ ينشأ بين ثقافتين؛ أي بين وجهتين للنظر، أما أولاهما فهي التي اختارها محمد عبده، ومؤداها أن يلم بما يدور في أوروبا من فكرٍ، لا ليأخذه، بل ليردَّ عليه إذا وجده ماسًّا بعقيدته ووجهة نظره، وأما الثانية فهي التي أوجزها الخديوي اسماعيل بقوله إنه يريد لمصر أن تكون قطعة من أوروبا، وعلى هذا النموذج جاءت الثقافة عند نفرٍ من أبناء تلك الفترة.
ومرة أخرى يمضي بنا الزمن إلى العشرات الأربع الأولى من هذا القرن العشرين، فإذا نحن في حركة عارمة، تبلور للثقافة في مصر (وإذا قلنا ذلك فكأننا نتحدث عن الثقافة العربية كلها، لا نستثني إلا شذرات تناثرت هنا وهناك) أقول إنها كانت حركة عارمة، بلورت للوطن العربي وجهة نظره الجديدة، التي قوامها محاولة التأليف في صيغة واحدة، بين ما هو وافد من أوروبا وما هو موروث أسلافنا. وكان أبطال تلك الحركة هم الزمرة المباركة: قاسم أمين، لطفي السيد، طه حسين، العقاد، المازني، هيكل، توفيق الحكيم … وكان ذلك الدمج بين المصدرين في وجهة نظر واحدة، هو نفسه الخلفية الثقافية التي ولدت إبداعًا في الفكر والأدب والفن؛ أعني أنها هي التي أنتجت الوليد الجديد الذي لا هو من الموروث وحدَه، ولا هو من أوروبا وحدَها، وها هنا ظهرت القصة العربية، والمسرحية العربية، والفكر العربي في شتَّى الميادين، وحتى أولئك الذين اختاروا موضوعاتهم من الموروث، لم يكتفوا بمجرد النقل والمحاكاة، بل وضعوا ذلك الموروث في إطار أوروبي جديد، كالذي نراه في النقد الأدبي عند أعلامه، أو الذي نراه في «الإسلاميات» التي صيغت في شكل عصري جديد.
ويُخيَّل إليَّ أن لجنة التأليف والترجمة والنشر، عندما أُنشئت سنة ١٩١٤م، إنما كانت تلخِّص بهذا الاسم دستورنا الثقافي الجديد، وهو أن تنقل أوروبا إلينا بالترجمة، وأن نعيد تراث الأقدمين ﺑ «النشر» (كان المقصود بكلمة «النشر» في هذا العنوان، هو نشر التراث)، وأن نستلهم هذا وذاك في «تأليف» مبدع، يحمل طابعنا الأصيل في صورةٍ عصرية ثم تسير بنا الأيام إلى المرحلة الأخيرة التي نجتازها في يومنا هذا؛ فللأسف ما تعددت بنا الثقافات، ولم تستطع جمع الروافد في تيار واحد، نقول عنه إنه ثقافتنا الراهنة.
ففينا مَن يحمل لواء الموروث، والموروث وحدَه، مستنزلًا لعنات السماء على مَن يحمل لواء غير هذا اللواء، وفينا مَن يدعو إلى ما هو أوروبي أمريكي (ولنلحظْ هنا أن أمريكا لم تدخل ساحتنا الثقافية إلا في الأربعينيات وما بعدها) ثم فينا — وتلك هي الأكثرية العظمى — مَن جهل التراث وجهل الأوروبي الأمريكي جميعًا، فاحتمى بما يسمونه «إبداعًا» من قصة ومسرحية وشعر وفنون، فجاء في أغلب إبداعهم خاويًا ضحلًا؛ إذ من أين يأتيه العمق إذا انسدت دونه أبواب الموروث والعصري معًا؟
وعلى ضوء هذا الذي عرضناه مسرعِين، نسأل عن ثقافة الغد، كيف نريدها أن تكون؟ وأحسَب أن الجواب قد بات واضحًا، وهو أن نمضي بكل قوانا في مطالعة موروثنا مطالعة الغائصين إلى أغواره، وفي مطالعة المعاصرين من بناة الحضارة الجديدة، مطالعة الباحثين عن روحها وصميمها، وإلى هنا نكون قد هيأنا المناخ الذي هو قمين أن ينتج لنا المبدعين، على أننا قد نستطيع رسم خطة تُنفِق الدولة على تنفيذها، فترسمها في إحياء تراثنا، وفي ترجمة المعاصرين، لكننا لا نستطيع بأي معنًى من المعاني أن نخطِّط للإبداع، فلنتركه حرًّا للمواهب الحرة. لقد كانت لنا وجهة نظر تجسَّدت في رفاعة الطهطاوي، ووجهة نظر بعدها تمثَّلت في محمد عبده، ووجهة نظر ثالثة حملها وأشاعها رجال العشرينيات من هذا القرن بصفة خاصة، وهي وجهاتٌ اختلف بعضها عن بعض لاختلاف العصر وظروفه، أما اليوم فقد غابت عنا وجهة النظر التي يمكن أن نُعرف بها وتُعرف بنا، والمطلوب من ثقافة الغد أن تُعيد لنا ما غاب عنا، لنتجانس في «الذوق» فنتجانس في الرفض والقبول.