رؤية يغشاها الضباب
إني أتهم حياتنا الفكرية الراهنة بكثير جدًّا من الزيف، وربما جاز لنا أن نستثني من هذا الحكم حالاتٍ هي أقل من القليل، ليس كاتب هذه السطور حالةً منها، وإني لأقولها قبل أن يرتد سهمي إلى نحري بيدٍ غير يدي، والزيف الذي أعنيه هنا هو أننا نستحل لأنفسنا أن نتحدث — وفي حماس شديد الاشتعال أحيانًا — عما لا نعرفه معرفة مباشرة، بل عرفناه إشاعةً عن إشاعة عن إشاعة.
ولا يقتصر هذا الزيف الفكري فينا على أمورٍ توَّاقة لا تقدِّم حياتنا ولا تؤخرها، بل إنه ليتناول أضخم المسائل الحضارية، التي يترتب على رأينا فيها توجيه الحياة كلها في هذا الاتجاه أو في ذاك؛ فقد يتصدَّى عالم جليل من علمائنا إلى مذهب فكري سَمع عنه بين المذاهب السائدة في ثقافة الغرب، فيسلخه سلخًا بسهام النقد، حتى إذا ما بحثت أمر هذا العالم، وجدته لم يقرأ كتابًا واحدًا لمؤلِّف واحد ممن ينتمون إلى ذلك المذهب الذي جعله هدفًا لسهامه، بل قد يتصدَّى كاتب عظيم من كتَّابنا للحضارة الغربية العصرية كلها بالطعن والتجريح، حتى إذا ما أُتيح لك أن تعلم عن مقومات ذلك الكاتب علمًا كافيًا، وجدته بريئًا من كل معرفة صحيحة بأي ركن من أركان الحضارة التي يغرقها باتهامه؛ فلا هو يعرف من علمها شيئًا إلا إشاعة، ولا هو ذو صلة بفنٍّ من فنونها إلا إشاعة، ولا هو مُلمٍّ بكثير أو قليل مما تموج به حياتها من تيارات ثقافية زاخرة بما تحمله أمواجها.
وكذلك قُل شيئًا كهذا في كثيرين ممن تمتلئ أشداقهم إشادةً بالحضارة العربية وبالثقافة العربية، وإن شئت فاسأل مَن تصادفه في طريقك من هؤلاء، عن كاتب واحد يعجبه، فإذا ذكر لك اسمه — وهو يستطيع ذلك لأننا نجيد حفظ الأسماء — فاسأله ماذا قرأ له حتى أعجبه، والأرجح جدًّا أنك لن تظفر منه بشيء لأنه لم يقرأ شيئًا.
إنه ليصعب جدًّا على مَن ليس له خبرة مباشرة بما يتحدَّث عنه، أن يُصدِر عليه الأحكام الصحيحة، وأسوق مثلًا لذلك شيئًا طريفًا قرأته منذ قريب، نقلًا عن كاتب من الأرجنتين أصبحت له شهرته، هو جورجي بورجيس؛ فلقد كتب «بورجيس» عن الفيلسوف العربي العظيم «ابن رشد» مقطوعةً جعل عنوانها «بحث ابن رشد» وردَ فيها أن بين الصعوبات التي اعترضت ابن رشد في شرحه لفلسفة أرسطو، أنه وهو يقرأ الترجمة العربية لتلك الفلسفة، فإنما كان في الحقيقة يقرأ ترجمةً لترجمة؛ فالأصل يوناني، تُرجِم إلى السريانية أولًا، ثم تُرجمت السريانية إلى العربية، وعلى أية حال، فهو عندما تناول ما كتبه أرسطو عن «فن الشعر» صادفته لقطتان، هما لقطة «تراجيديا» ولقطة «كوميديا»، ولم يكن له بالطبع سابق علم بالمسرح ولا بأي شيء مما يتصل بالمسرح، فكان من الطبيعي ألا يفهم ما تعنيه هاتان اللقطتان، إلا ما يمكن أن توحي إليه به ثقافته العربية؛ ولذلك فقد فهم «التراجيديا» على أنها شعر المديح، وفهم «الكوميديا» على أنها شعر الهجاء.
ولم يكد «بورجيس» يذكر هذه اللمحة عن ابن رشد حتى استدرك قائلًا لنفسه: إنه لا يجوز لي توجيه اللوم إلى الفيلسوف العربي؛ لأن حاله لم تكن أسوأ من حالي وأنا أكتب عنه؛ فكيف يُعقل أن أعرف شيئًا صحيحًا عن ابن رشد، مع أن كلَّ ما بين يدي عنه هو قصاصاتٌ مبتورة جمعتُها مما كتبه «رينان» و«ألين» و«أسين بلاسيوس»؟
فسرعان ما قلت لنفسي — أنا كاتب هذه السطور — ولا أنت يا نفسي بأحسن حالًا منهما معًا؛ فإذا كان ابن رشد قد فَهِم مفهومات يونانية من خلال ثقافته العربية، فظن التراجيديا شعر المديح، والكوميديا شعر الهجاء؛ أعني أن حواجزَ أُقيمت بينه وبين الأصل فلم يفهمه على وجهه الصحيح، ثم إذا كان «جورجي بورجيس» يجهل العربية فقرأ عن ابن رشد فيما كتبه عنه مؤلِّف فرنسي هو «رينان» ومؤلف إنجليزي هو «ألين»، ومؤلف إسباني هو «بلاسيوس»، فأُقيمت الحواجز كذلك بينه وبين فهْمه على الوجه الصحيح، فانظر إلى حالك الآن — هكذا خاطبت نفسي — تجدْك تقرأ عن بورجيس في مجلة إنجليزية تعلِّق على كتاب إنجليزي كتبَه مؤلِّفه عن ذلك الكاتب الأرجنتيني، فكم حاجزٍ يحول بينك وبين الأصل الذي تقرأ عنه؟ إنها ظلال مشتقة من ظلال، هي بدورها منعكسة عن ظلال.
إنه عندما انتقل الجاحظ من البصرة إلى بغداد، وكان الخليفة المأمون قد أنشأ ما يُسمَّى «بيت الحكمة» لنقل الفكر اليوناني إلى العربية — مرورًا بالسريانية — وقف — أعني الجاحظ — من هذه الحركة الثقافية موقف المتشكك (أو هكذا يُخيَّل إليَّ)؛ لأنه كتب في المجلد الأول من كتابه «الحيوان» ما يوحي بذلك التشكك؛ إذ كان بين ما قاله: «… إن الترجمان لا يؤدي أبدًا ما قال الحكيم، على خصائصِ معانيه، وحقائقِ مذاهبه، ودقائقِ اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يَقدِر أن يوفيها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها … وكيف يَقدِر على أدائها وتسليم معانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها، مثل مؤلِّف الكتاب وواضعه.»
ولقد كان الجاحظ ممن سَرتْ روح الثقافة اليونانية المنقولة في كتاباته، لكن ذلك لم يمنعه من التعبير عن قلقه بسبب الحواجز الحائلة بينه وبين الأصل المنقول.
وليس الزيف الذي أعنيه في حياتنا الثقافية اليوم هو بالضبط من هذا القبيل؛ أي إنه ليس من قبيل القلق الذي تملَّك الجاحظَ إزاء عملية الترجمة، وما لا بد أن تؤدي إليه من تحريفٍ للأصل عن معانيه الحقيقية؛ لأن مثل هذا الموقف لا زيف فيه؛ فهو الصدق كله والأمانة كلها، وإنما الزيف الذي أعنيه هو ألا نفهم وندعي الفهم، وألا نقرأ الأصول ولا ترجماتها بل نكتفي بخطف الإشاعات التي تُقال عن تلك الأصول أو ترجماتها، ثم ندعي العلم وكأننا ألممنا بالموضوع من ينابيعه، وأن نلخِّص شيئًا قرأناه وندعي تأليفه وابتكاره، حتى لقد ضاعت المعالم الفارقة بين مَن يعلمون ومَن لا يعلمون.
ولأن الواحد منَّا يعرف بينه وبين نفسه أنه زائف، عرف القليل وتظاهر أمام الناس بالكثير، ورأى الظل وزعم للناس أنه قد رأى صاحب الظل وأمسكه بكلتا يديه، أقول إنه لما كان الزائف يعرف بينه وبين نفسه أنه زائف تراه لا يجاهد في سبيلِ فكرةٍ يعرضها، وفيمَ الجهاد وهي ليست فكرته؟ فأقل نفخةِ هواء تلفحه بالخطر، تكفيه ليلقي بالفكرة في الوحل ليفر منها ومن تبعاتها، فهو كمن يبعثر مالًا مسروقًا لم ينضح جسده عرقًا في سبيل كسْبه، أو كمن يسكن دارًا لا يملكها فلا يؤرقه أن يحدث لها ما يحدث من عوامل الدمار.
ليس الفكر الذي نحياه فكرنا، بل هو مستعار من سوانا، فإما هو فكر منقول عبْر المكان من مصادره الغربية، وإما هو فكرٌ منقول عبْر الزمان من أسلافنا، ولا عيب في ذلك كله؛ لأن الحضارة اليوم ليست من صنعنا، فلا علينا أن نأخذ عنها ما نأخذه، ولأننا في الوقت نفسه أصحاب إرث ورثناه، فلا علينا أيضًا إذا اغترفنا من ميراثنا، لكن العيب كل العيب، هو في عملية الخطف السريع، الذي تخطف به من هنا وهناك، في غير دراسة أمينة متأنية صابرة ثم تأخذنا خيلاء مَن يعرفون!
وبودي لو ذكرت للقارئ أمثلةً حية مما صادفته في هذا الصدد، ليرى كم بلغت الخيانة الثقافية ببعضنا، برغم أنهم في حسابنا من القادة الكبار، لكني أتعمَّد ألا أذكر الأسماء ولا الصفات التي تنم عن أصحابها الكبار؛ لأن المهم عندي الآن هو تصوير المناخ الفكري العام الذي نتنفسه، والذي سرعان ما يؤدي بنا إلى مواقفِ الجبناء.
مرة ثانية أقولها: ليس الذي أعيبه هو النقل الثقافي في حد ذاته؛ لأنه لا مناص لنا من هذا النقل في ظروفنا الحضارية الراهنة؛ فالمذاهب السياسية منقولة، وأنظمة الحكم منقولة، والهيكل التعليمي منقول، وأشكال الأدب والفن منقولة، فضلًا عن شتَّى فروع العلوم، فهي بالطبع منقولة، لا، ليس الذي أعيبه هو النقل في ذاته، بل الذي أعيبه هو النقل المخطوف، وهو الفهم السطحي المنقول، وهو انتحال الأصالة فيما ننقله، وهو رؤية الأصل المنقول من خلال الحُجُب المغلَّفة بالضباب.
لقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تنقل عن أوروبا حتى منتصف القرن الماضي، وقبل ذلك المنتصف كادت أمريكا ألا تفرز من عندها فكرة واحدة، لكنهم كانوا ينقلون ويعلنون عن نقلهم، ثم هم كانوا ينقلون بعد دراسةٍ تتعمَّق ما ينقلونه، إلى أن صاح فيهم «إمرسون» صيحته المشهورة بخطابٍ قصير ألقاه في إحدى جامعاتهم، وجعل عنوانه «الباحث الأمريكي»، مريدًا بذلك أنه قد آنَ الأوان للأمريكي أن يقف على قدميه، وأن يكون له أبحاثه المبتكرة الخاصة به.
أما نحن فنخطف ذلك الخطف السريع وندَّعي لأنفسنا العلم المبتكر، فحتى لو صاح فينا رجل مثل إمرسون، قائلًا لنا إنه قد آن الأوان للمصري أن يقف على قدميه، لما استجاب أحد لصيحته؛ لأنه لو استجاب كان بمثابة مَن يفضح نفسه ويكشف حقيقة موقفه، وليس في حاجةٍ هنا إلى القول بأن الخطف من أسلافنا هو في الخطيئة كالخطف من الغرباء، بل ربما كان التشويه في الحالة الأولى أمعنَ في الضلال.
وأول ما ينبغي فعْله هو أن يُفصح الزائف — لنفسه على الأقل — عن مدى زيفه قبل أن يستحكم منه الغرور، وستأتي الخطوة التالية بعد ذلك تلقاء نفسها، وهي أن يظهر للمصري المعاصر ثقافة، يكون من حقه أن ينشرها في الناس موسومة بالمصرية الأصلية.