الولاء الأبكم
لقد حدث لي أن كتبت مقالةً نقديةً فورَ ظهور «الملك أوديب» لأستاذنا توفيق الحكيم، جاءت تعليقًا على مقدمةٍ قدَّم بها أديبنا مسرحيته تلك، وهي تقع في أكثر من خمسين صفحة، أثار فيها سؤالًا هو: لماذا لم ينقل العرب عن اليونان أدبهم المسرحي؟ (على غرار ما نقلوه من فلسفتهم وعلومهم) ثم حاول الجواب، عارضًا في سياق محاولته أكثر من رأي ومتناولًا كل رأي بالتحليل الذي ينتهي به إلى رفضٍ أو إلى قبول. وللقارئ أن يرجع إلى تلك المقدمة الممتازة إذا أراد الفائدة كاملة.
غير أنني أبديت في مقالتي التي أشرت إليها رأيًا آخر، فقلت: «إن الأدب المسرحي — والقصصي — أيضًا يستحيل قيامه بغير التفاتٍ إلى تميز الشخصيات الفردية بعضها من بعض، فلو نشأ الكاتب في جوٍّ ثقافي لا يعترف للأفراد بوجودهم، ويطمسهم جميعًا في كتلة واحدة من الضباب الأدكن، لم يكن أمامه سبيل إلى تصوير هؤلاء الأفراد والشرق كله — في ثقافاته القديمة — قد طمس الفرد طمسًا لم يترك له مجالًا يتنفس فيه؛ فالأفراد في الثقافة الهندية كلهم «مايا» — أي إنهم وهْمٌ لا وجودَ له في دنيا الحقائق؛ إذ الموجود الحق هو الكون مأخوذًا بمجموعه الكلي، دون أن يكون فيه تعدُّد للأفراد أو تكثُّر للمفردات، وقُل مثل ذلك في الصين، وفي كل بلاد الشرق بصفة عامة.»
هذا ما كنت قلته تعليقًا على مقدمة «الملك أوديب»، وإني وإن كنت أراه اليوم مشوبًا بالمبالغة، فما زلت أعتقد في جوهره وأساسه، وحتى إن رأينا الديانة الإسلامية قد أبرزت الأفرادَ وجعلت الفرد مسئولًا عمَّا قدمته يداه لا يشفع له أن يكون قد تلقَّى التوجيه من والدٍ أو من صاحب؛ فإن ذلك يدل على قيام الصفة التي نزعم قيامها ولا ينفيها؛ لأنه لو كانت حقيقة الفرد معترفًا بها بطبيعة الحال، لما احتاج الأمر إلى كل هذا التوكيد من جانب الدين، إنها سِمة الشعوب ذوات الحضارات العريقة كلها، أن تَخرج من خبراتها طوال القرون، بأهمية التكتل القومي؛ لأنه كالدرع أمام الأعداء. وليس في ذلك ما يُعاب شريطة ألا يُبالغ فيه مبالغةً تكتم الأصوات الفردية التي تَنقد بُغية الإصلاح، ولقد لحظت أثناء السنتين الأخيرتين، أن بعض الكتَّاب في أوروبا يطرحون سؤالًا عن الصين بعد وفاة زعيمها ماو تسي تونج، وبعد الذي حدث هناك من ظهور فئة ثورية متطرفة، سرعان ما أسكتها الرأي العام حتى قبل أن تتصدى لها الحكومة، وأما السؤال الذي طرحه هؤلاء الكتاب فهو: هل يمكن لشعبٍ قديمِ التاريخ كالشعب الصيني أن يبقى طويلًا على روحه الثورية؟ أي إن عراقة التاريخ من شأنها أن تنشئ عند الناس رغبةً في الحياة المستقرة؛ ولذلك فقلما تثور، وهي إذا ثارت فسرعان ما تتمنَّى العودة إلى استقرارها؛ ومن هذه الزاوية يتوقَّع هؤلاء الكتَّاب لثورة الصين أن تكتفي بما حققته للشعب لكي تنعم بالحياة المستقرة من جديد.
وفي استعراضهم للإنتاج الفكري في الصين خلال ما انقضى من سنوات القرن العشرين يلخِّصون الحركة الفكرية هناك في محاولة الجمع بين هدفين متعارضين — تعارضًا ظاهريًّا على الأقل — وهما: أن يتماسك المجموع في تجانسٍ يبلغ عندهم مبلغ التقديس، وأن يتحرر الأفراد من أغلال ذلك التجانس في وقتٍ واحد، وفي هذا السبيل ظهرت في الصين مؤلفاتٌ هامة يذكرونها كما تُذكر الأعلام البارزة في فلاةٍ متشابهة الرمال، ولعل أهم ما تشترك فيه تلك المؤلَّفات، هو أن شقاء الإنسان في حياته الدنيا إنما ينشأ عن إيجاد الفواصل حيث لا فواصل؛ فلماذا نفصل بين نفس ونفس وكلنا من نفس واحدة؟
ولماذا نقسِّم الناس أجناسًا وطبقات؟ لماذا نقسِّم الأعمال بين ذكور وإناث كأنما يحتِّم اختلاف الفريقين اختلافًا في نوع العمل وفي التمتُّع بالحقوق؟ ولماذا تُفصَّل الإنسانية شعوبًا، والشعب فئاتٍ، والفئة إلى فريق يملك وفريق لا يملك؟ فسعادة البشر مرهونة بالتجانس الذي يطمس الفوارق ويلغي الفواصل؛ لكن هؤلاء المؤلفين أنفسهم، وفي الكتب نفسها يلتمسون في هذا «التجانس» العظيم — كما أطلق عليه أحدهم — طريقًا لتعبير الفرد عن ذاته المستقلة.
وربما كانت حياتنا الثقافية في القرن العشرين، منطوية على تعارضٍ كالذي رأينا ثقافة الصين المعاصرة منطوية عليه، بمعنى أن نكون قد استهدفنا غرضَين متعارضَين: تمايز فردي كالذي أراده لنا لطفي السيد وطه حسين والعقاد، وتجانس يغمس ذلك التميز، كالذي أرادته لنا ثقافة مغروزة في عروقنا، ولم نبذل جهدًا نحو إزالة التعارض بين الهدفين.
والتعارض يزول لو أفسحنا صدورنا للأصوات الناقدة، وجعلنا صلاحية المواطن الصالح في إفصاحه عما في نفسه، لا في خرس اللسان.
حدث في النصف الأول من الخمسينيات — أي بعد قيام الثورة بقليل إذا صدقتني الذاكرة في التواريخ — أن اجتمعت لجنةٌ كنت أحد أعضائها، وُكِل إليها أن تضع مقررًا دراسيًّا يستهدف خلق «المواطن الصالح»؛ فوجدنا أمامنا منذ بداية الجلسة الأولى مذكرة — لم أكن أعرف مَن الذي أعدَّها — لتكون أساسًا لسيرنا في العمل، وأذكر أن أول سطر فيها كان تعريفًا ﻟ «المواطن الصالح» من وجهة النظر التي أُعِدَّت بها المذكرة، وكان مدار ذلك التعريف هو أن يكون المواطن الصالح مستجيبًا مطاوعًا متجانسًا في فكره وسلوكه مع مجموعة المواطنين؛ أي أن يكون أداةَ تنفيذٍ لما يُراد له أن يفعله.
طلبت الكلمة، وأخذت أبيِّن للحاضرين؛ أولًا أن مِثلَ ذلك التعريف دائريٌّ ولا يعني شيئًا؛ لأنه بمثابة أن يقول إن المواطن الصالح هو الذي يفكِّر ويفعل كما يفكِّر ويفعل المواطنون الصالحون؛ وثانيًا — وهي النقطة الهامة فيما رأيت عندئذٍ — أن مثل ذلك التعريف يصادر على خروج الأفراد بأفكارٍ جديدة أو أفعال مبتكرة؛ ذلك لأن التجانس إذا كان تامًّا بين المواطنين، امتنع علينا صوت الناقد، وهو صوت أراه عاملًا — أقوى عامل — على تصحيح المسار أولًا فأولًا، بشرط أن تظل طاعة الناقد للنظم القائمة كما هي، إلى أن يُتاح له بنقده أن يغيِّر تلك النظم بالطُّرق المشروعة في مجتمعه، لكن الحاضرين رفضوا اقتراحي بالتعديل، بحجة أن ولاء المواطن لوطنه يقتضي التجانس التام، حتى ولو ترتَّب على تجانسه ذاك مع غيره شيءٌ من التضحية.
بعبارة أخرى، كان المراد هو أن يكون ولاء الفرد لوطنه ولاءً مفتوحَ الأذنين أبكمَ اللسان، وعندي أنه حين يُصاب الولاء بالبَكَم؛ أعني حين لا يجرؤ على السؤال، فسرعان ما يصبح قناعًا زائفًا، يخفي وراءه جحافل السوس وهي تنخر في اللباب، وأحسبني قد استشهدت على المعنى الحقيقي لولاء المواطن نحو وطنه وقوانينه ونُظُمه، أقول إنني قد استشهدت على ذلك أكثر من مرة في مناسباتٍ سابقة بموقف سُقْراط، ومع ذلك فلن أملَّ من تكرار هذا المَثَل؛ لأنه موقف يمثِّل الولاء الوطني في أسمى صوره، وذلك أن سُقْراط، وقد أخذ يحرِّك عقول الناس في أثينا، بمحاورتهم أينما وجدهم، ومن أي فئة صادفهم، لعله يوقظهم من سباتهم، فيحرروا أنفسهم من استبداد عاداتهم المألوفة بعقولهم استبدادًا أصابها بما يشبه الشلل؛ حُوكم بتهمة الإثارة وبث الفتنة في صدورٍ كانت آمنة، ثم حُكم عليه بالموت بعد فترةٍ يقضيها في السجن انتظارًا لموسمٍ دينيٍّ محرَّم أن ينقضي؛ فمهَّد له نفرٌ من تلاميذه المخلصين طريقَ الفرار من سجنه إلى خارج الحدود لينجو بنفسه من عقوبةٍ ظالمة؛ فما إن عرضوا عليه خطتهم، حتى أخذ في محاورتهم عن واجب المواطن الصالح تجاه أمته وقوانينها، محاورة هي من أروع ما جرى به لسانٌ في تاريخ البشر، قائلًا ما خلاصته أن من حق المواطن أن ينقد قوانين الدولة ونُظُمها، ولكن عليه أن يظل مطيعًا لها إلى أن تتغيَّر بالإقناع والاقتناع، أما والقانون الأثيني لم يتغيَّر منه شيء بعد محاولاته، وهو هو القانون الذي على نصوصه حُكم عليه بالسجن فالموت، فليس من حقِّه أن يفِرَّ من السجن أو أن يهرب من الموت.
هذا الفاصل الذي يفرِّق بين الحالتين: حالة النقد مع طاعة النِّظام المنقود إلى أن يتغيَّر بالطريق المشروع، وحالة النقد المصحوب بالعصيان دون إقناع، أقول إن هذا الفاصل كثيرًا ما تفوتنا رؤيته، فنحاسب الناقد على نقده، باعتباره خروجًا على الإجماع، مع أننا لو تأملنا قليلًا، لرأينا التناقض الكامن في قولنا «خروج على الإجماع»؛ لأن الإجماع لا يظل إجماعًا ما دام هناك مَن خرج عليه.
إنه — فيما يبدو — موقف عميق الجذور في نفوسنا، نشأ عن ثقافةٍ عشناها أمدًا طويلًا فشكَّلت لنا طريقةً للنظر، ثم توهمنا أنها طريقةٌ تمليها البداهة ولا تحتمل الجدل، كأنما دُرِّبت أبصارنا على أن ترى الغابة ولا ترى أشجارها المفردات؛ أعني أن ترى المجتمع في تكتُّله ولا ترى أعضاءه الأفراد، لكنها ثقافة أخذت — بغير شك — تفكُّ قبضتها عن رقابنا قليلًا قليلًا خلال هذا القرن، فساعد ذلك على أن ينال الأفراد حقوقَهم السياسية التي جعلت لكل فردٍ صوتَه في الانتخاب، ثم أعقبتها حقوقٌ اجتماعيةٌ ترعى الأفراد من حيث هم أفراد.
ويرجع كثير من الفضل في إبراز الأفراد بفرديتهم التي تصون لهم ملامحهم الشخصية، حتى لا تنطمس مع غيرها في كتلة واحدة بلا ملامح، إلى رجال الفكر منَّا خلال الثلث الأول من هذا القرن؛ فكان هنالك القادة في المجال السياسي الذين عملوا على أن يكون للأفراد حقوقهم، وأخطر من ذلك أن كان هنالك أيضًا قادة في مجال الأدب، أخذوا يؤكدون حق الفرد في أن يكون فردًا متميزًا بسماته الخاصة، وكان من أهم وسائلهم في هذا السبيل ظهور الشعر الذي يصوِّر به الشاعر فرديته الفريدة المتميزة، قبل أن يجعل من نفسه بوقًا للمجتمع الذي هو أحد أفراده، وكذلك ظهور الأدب القصصي والمسرحي؛ لأنه بحكم طبيعته يدور حول أفرادٍ يتفاعلون.