الصراع المشروع
كان من حسن حظي أن احتفلت بريطانيا بنابغتها في فن النحت «هنري مور» لبلوغه الثمانين من عمره، أثناء وجودي هناك في صيف هذا العام (١٩٧٨م)، وكنت قبل ذلك قد قرأت قدْرًا لا بأس به عن هذا الفنان المعاصر، الذي يُقال عنه إنه أعظم المعاصرين جميعًا في مجال النحت، وكنت كذلك قد رأيت صورًا لبعض قِطَعه النحتية، لكن الصور قلما تنبئك عن حقائق الأشياء المصوَّرة، فما بالك بفن النحت الذي قد يجعل لمسَ الأصابع لاستدارة الحجر أو البرونز جزءًا هامًّا من مصدر النشوة الفنية بالقطعة المنحوتة!
ولعلك لاحظت أني استخدمت في الفقرة السالفة عبارة «القطعة النحتية» بدل كلمة «التمثال»؛ وذلك لأن كلمة تمثال قد توحي بأن القطعة المنحوتة «تمثِّل» كائنًا ما، كأن تُنحَت على هيئة فارسٍ يركبُ جوادًا، أو امرأة تحمل جَرةً أو غير ذلك، لكنك في فن النحت عند هنري مور تحاول عبثًا لو حاولت أن تجد مثل هذا «التمثيل» اللهم إلا استثناءات قليلة ﻛ «قطعة الملك والملكة»، ومع ذلك فهو حتى في هذه الاستثناءات القليلة لا يعبأ بالتفصيلات، بقدْرِ ما يهتم بالطابع العام الذي يوحي.
وكانت طريقتهم في الاحتفال بالفنان العظيم، هي أن يقيموا آثاره الفنية في كبرى الحدائق؛ إذ تتميَّز تلك الآثار بضخامة حجْمها ضخامةً تستلزم أن تُقام في مساحات فسيحة لتبرز خصائصها، ولقد كنت هذا الصيف أقضي عدة ساعات كل يوم، مشيًا في حدائق لندن (كجزء من العلاج الطبي) وبصفة خاصة حدائق كنز نجتون؛ حيث كانت منتجات هنري مور البرونزية مقامة، على أبعادٍ بعيدة بين القطعة والقطعة، حتى لا تتزاحم فتفقد شيئًا من تأثيرها على الرائي، فكنت كلما صادفت واحدة منها، وقفت عندها طويلًا، أنظر وألمس وأتأمَّل لعلي أكشف لنفسي عن بعض سرِّها.
إنني لا أثق بنفسي كل الثقة في نقد الفنون — والفنون المعاصرة بوجهٍ خاص — حتى لكثيرًا ما أتمنَّى أن يكون إلى جواري ناقد خبير، ليبيِّن لي مواضع الإبداع فيما أرى، ومع ذلك فمنذ أعوام طويلة لم أفوِّت فرصةً واحدة تسنح لي، إلا وقفت أمام اللوحة أو أمام القطعة المنحوتة أحاول جهدي أن أفهم ما استطعت إلى الفهم سبيلًا؛ لأني كنت دائمًا أحسُّ بأن شيئًا ما يجذبني إلى مبدعات الفن المعاصر، لعله — على الأقل — ما كنت أراه في تلك البدائع من استقلال الفنان عن الأشياء الخارجية؛ فهو لم يجئ ليقدِّم لنا نسخةً مما هو كائن بالفعل، وإذا هو فعل ذلك فماذا تكون قيمته؟ إنما هو يقدِّم شيئًا جديدًا كلَّ الجدة، لا هو «صورة» الشيء ولا هو «تمثال» لأحد … وأعود إلى هنري مور وعجائبه التي وقفت عندها في حدائق لندن هذا الصيف ما سرُّ إعجازها الفني؟ إن القطعة منها — لو تأملتها — وجدتها مؤلَّفة من كتلٍ وليست هي كتلًا من نوع واحد؛ فهذا عمود، وذلك منقار، وهناك كرة في قناة، وهكذا، كلها في حجمٍ كبير، تلاصقت على نحوٍ ما، وتَمعَّن في التأمُّل، فتشعر شعورًا قويًّا بأن تلك الكتل المتلاصقة ليست بالنسبة لبعضها البعض موضوعة في تَجاوُرٍ سكوني ميت، بل هي تبدو وكأنما يضغط كلٌّ منها على الآخر، وينضغط به … نعم، إنها تبدو وكأنها تدفع إحداها الأخرى دفعًا لتزحزحها من مكانها، لكنها بدورها تندفع وتتلقَّى الضغط مما يجاورها، مما يشيع فيها إيحاء بالتوتُّر الموثب والفاعلية، ولكن برغم هذا التفاعل المتوتر الذي يسري بينها كأنما هي قد دخلت في عراكٍ صامتٍ بعضها مع بعض، فإنك إذا ما أمعنت النظر فيها مرة أخرى، أيقنت أن هذه المجموعة المتزاحمة من الكتل المتباينة شكلًا وحجمًا، مشدودٌ بعضها إلى بعضٍ برباطٍ خفي قوي، يجعلها بمثابة أفراد الأسرة الواحدة يتقاربون بصلةِ الرحم حتى لو باعدت بينهم الطبائع والميول؛ فهنالك نقطة التقاء تدركها البصيرة النفَّاذة وقد لا يستطيع الحس أن يحدِّد مكانها.
وها هنا لمعت في رأسي لمحةٌ مضيئة كأنها الومضة الخاطفة، نطقت معها قائلًا: ألا إنَّ هذا هو الصراع المشروع بين أبناء الأمة الواحدة وقد تجسَّد أمامي في هذا الفن النحتي العجيب؛ فنحن إذا ما طالبنا هؤلاء الأبناء أن يسالم بعضهم بعضًا، فلسنا نريد لهم أن يتحولوا إلى أجساد مشلولة، تتحرك في ضَعف وصمت وموات، كأنها أطيافٌ على سطح مرآة! بل نريد لهم مثل هذا التوتر الحي المتوثِّب؛ فكل فرد يؤثِّر ويتأثَّر، يفعل وينفعل، يضغط وينضغط، يرى الرأي ويعلنه فيجيئه التأييد من هنا والتقيُّد من هناك، ومع ذلك يكون بين الأفراد المتصارعة ما بين الأجزاء المختلفة المكوَّمة لقطعة النحت في فن هنري مور، وأعني أن يكون بين هؤلاء الأفراد رباط خفي قوي، يستحيل معه أن نتصوَّر الأجزاء وقد تناثرت أشتاتًا وكأنها ذرات الهباء في العاصفة!
إن أفراد الناس، وإن بدَوا على صورةٍ متجانسة، فلكلٍّ منهم عينان وأنف وشفتان، وهم يختلفون في بواطنهم اختلافًا قد لا نقدِّر مداه، وحسبُك أن ترى من هذا التباين بينهم ما يعلو ببعضهم حتى يوشِكوا أن يكونوا مع الملائكة، ويَسفُل ببعضهم الآخر حتى يصبحوا شياطين مع الشياطين، فكيف نتوقَّع للناس بكلِّ ما بينهم من أبعاد الخلاف أن يسالم بعضهم بعضًا بالمعنى الذي يصبُّهم جميعًا في قالبٍ واحد؟
ما الذي يجعل كواكب المجموعة الشمسية كوكبةً فلكية واحدة موحدة؟ يجعلها كذلك ما بينها من عراك صامت؛ فكل كوكب فيها يجذب إليه الكواكب الأخرى وتنجذب إليه الكواكب الأخرى وينجذب بها، حتى تحدث من الجذب والتجاذب حالةٌ من التوازن المستقر، ومثل هذا التوازن الناتج عن الصراع هو ما أتصوره سلامًا بين أبناء الوطن الواحد؛ فلكل فرد أن يبسط طبيعته بسطًا يصل بها إلى آخرِ حدٍّ مستطاع، لكنها ستصطدم بالأفراد الآخرين في بسطهم لطبائعهم حتى يحدث بين المجموعة توازنُ الأحرار.
ما الذي يوحِّد المسرحية الواحدة في الفن الأدبي؟ إنها بحكم كيانها الفني ذاته لا بد أن تشتمل على أشخاصٍ تنوَّعت طبائعهم تنوُّعًا يجعلها في تضادٍ وتَعارض، لكنهما التضاد والتعارض اللذان يشهدان بنبض الحياة، إن حقيقة الإنسان لا تتجلَّى إلا عند الصدام مع الآخرين ولقد أخطأ مَن خاطب الإنسان قائلًا: أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك، وكذلك لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بغيره؛ فالذي يوحِّد المسرحية ليس هو تجانس أشخاصها ولكنه هو ما بينها من لقاءٍ يحمل معه بذورَ التنافس والصراع، والذي يوحِّد المسرحية في عمل فني واحد هو نفسه الذي يوحِّد الشجرة والقط والطائر والإنسان.
وردتْ عبارةٌ في مذكرات هنري مور يقول فيها ما معناه أنه حين يبدأ عمله الفني فالأغلب أن يضع نصب عينيه إنسانًا معينًا أو حيوانًا معينًا، ذا شخصية متميزة بخصائصَ واضحةٍ، ثم يأخذ في تشكيل الكتل وفي ضمها بعض إلى بعض، مهتديًا بالخصائص المميزة التي جسَّدها لنفسه في إنسانٍ معيَّن أو حيوان، فإذا لبثت الخصائص بادية في التركيب النحتي الذي يؤلِّفه، عرف أن القطعة النحتية قد أخذت شكلها الصحيح، وإلا فهو يعيد التركيب مرة بعد مرة، حتى يتحقق له ما يريد.
وشيء كهذا نقوله لجماعةٍ تريد سلامًا بين أفرادها، وأعني أن تكون لها أهدافٌ واضحة المعالم ثم ينطلق الأفراد في طرائق حياتهم وكأنهم أجزاء تتقارب وتتباعد في تركيب فني واحد، فما دامت الأهداف المقصودة ماثلةً في أنشطتهم على تبايُنها، وفي أفكارهم على اختلافها وتعارضها، كان ذلك دليلًا على أن الجماعة سائرةٌ على جادة الطريق، ولا ضيرَ بعد ذلك عليها أن يحتدم صراع بين أفرادها؛ لأنه عندئذٍ صراع مشروع.
وعودة إلى فن النحت عند هنري مور، فإنه لمن الخصائص التي لا يخطئها نظر تلك الثقوب الواسعة التي يفتحها النحات في القطعة التي ينحتها بحيث تبدو وكأنها كُوًى في أكواخ البدائيين، أو أنها فتحاتٌ تؤدي إلى كهوفٍ حُفرت في صخر الجبل، وكان من تعليق هنري مور على تلك الثقوب التي يتميز بها نحته والتي قد تتفتح على الفضاء، قوله (وكان ذلك في حديث تليفزيوني شهدته فيه وسمعته وهو يجيب على أسئلة المذيع) قوله إن تلك الثقوب هي بمثابة نحت في الهواء؛ لأن الهواء — كما قال — يمكن نحته كما يمكن نحت الصخر سواء بسواء! وعلى أية حال، فإنني إذ وقفت أتأمل منحوتاته المنثورة في حدائقِ كنزِ نجتون بلندن لم يسعني إلا أن أستحضر في ذهني حياة الإنسان الأول؛ لأن أشياءَ كثيرة في القِطَع النحتية المعروضة، توحي بصورة الحياة الأولى عندما كانت تلك الحياة — وما زالت — تصارع الظروف المادية لتَخرجَ من أرحام الأرض.
ألا إنه لصراعٌ طويل طويل وشاق؛ ذلك الصراع الذي نشب بين الإنسان والطبيعة المحيطة به، بما فيها من عواملَ عنيدةٍ لا تستسلم له إلا بعد العناء على الزمن الطويل، ومن ذلك الصراع المتصل وُلِدت لنا الحضارة التي ننعم بخيراتها؛ فمن الذي يرشد إنسان اليوم إلى صوابه، ليتحول صراعه مع سائر الناس إلى صراعٍ مع الطبيعة ليرغمها على التسليم؟ إن صحراءنا تريد مَن يصارعها فيصرعها لتخضرَّ بالزرع، وبحارنا المِلْحة تريد مَن يصارعها فيصرعها لتُخرِج لنا من الماء الأجاج ماءً عذبًا ترتوي منه الأرض، وجراثيم الأمراض تنتظر مَن يصارعها فيصرعها فيصح المرضى، والأمية تصرخ مناديةً لمن يمحوها ولو بعد حين … صفوفٌ لا آخرَ لها من المعوِّقات، تتطلب منَّا صراعًا، هو ذروة الصراع المشروع.