المصري الجديد القديم
لعل القارئ أن يكون على غير علم بأن الفلسفة الحديثة والمعاصرة في أوروبا، قد أثارت لنفسها مشكلة، دامت معها الآن أكثر من ثلاثة قرون دون أن يجمع الرأي فيها على حل واحد، وهي مشكلة جاءت وليدًا مباشرًا للعلم الحديث، فالعلم المعاصر من بعده؛ وأعني بها مشكلة «الهوية» للشخص الواحد، أو للشيء الواحد، أو للكيان الاجتماعي الواحد.
فما «الهوية» هذه التي يتحدثون عنها؟ هي — اختصارًا — أن يكون للكائن المعيَّن ذاتية واحدة ومستمرة، ولنضربْ مَثلَين أو ثلاثة لنضمن لأنفسنا وضوح الفهْم، قبل أن ننتقل إلى الحديث عن موضوعنا الذي نريد الحديث عنه؛ فها أنا ذا رجلٌ قد بلغ كذا من السنين، اجتاز خلالها مراحل الطفولة والشباب والرجولة والكهولة، وكنت أحمل خلال تلك المراحل اسمًا واحدًا يعرفني به الناس، على أن تلك المراحل المتعاقبة لم تكن بهذه البساطة البسيطة، بل امتلأت كلُّ مرحلة منها بما لا يُحصيه العدُّ من تقلباتٍ بين مرض وعافية، وحزن وفرح، وخمول ونشاط، وجهل وعلم، وكراهية وحب، إلى آخِرِ تلك الألوف من الحالات المتباينة التي يحيا بها الإنسان؛ ذلك إذا كان لتلك الحالاتِ آخِر.
وبرغم التبايُن الحاد الذي تختلف به تلك الحالات بعضها عن بعض، تراني أصر، ويصر معي الناس على أني شخص «واحد»؛ فمن أين جاءنا هذا الزَّعم بالوحدانية مع أننا أمام كثرةٍ لا حصر لمفرداتها؟ الجواب عند مَن يأخذ بمبدأ «الهوية»، هو أن وراء تلك الحالات الكثيرة «ذاتًا» واحدة منذ وُلِد صاحبها، وإلى أن يجيئه الأجل، بل إنها لتظل بعد الموت، حتى يوم البعث والحساب، تلك هي بداهة الرأي عند عامة الناس ومعهم فريق كبير من الفلاسفة أنفسهم الذين عُنوا بهذه المسألة وحلِّها، لكنَّ هنالك فلاسفةً آخرين، كانوا أكثرَ تأثُّرًا بروح العلم الحديث والمعاصر، لم يجدوا في أي كائن — إنسانًا أو غير إنسان — إلا لحظاتٍ متعاقبةً لا يربطها رباط إلا هذا التعاقُب، فإذا سُئل هؤلاء: وبماذا تفسِّرون وحدانية الشخص الواحد على امتداد سِنيه وكثرة حالاته؟ أجابوا: إن تلك الوحدانية المزعومة وهمٌ من أوهام عامة الناس.
ونسوق مَثلًا آخر. ربما كان أوضح بيانًا للفكرة المراد توضيحها، خذْ مدينةَ القاهرة — مثلًا — إننا نُطلِق عليها اسمًا واحدًا منذ أنشأها المعز لدين الله الفاطمي في القرن العاشر الميلادي، ووحدانية الاسم سرعان ما توحي بوحدانية المسمَّى، فنظن أن قد كان هنالك كيان واحد معيَّن محدَّد اسمُه القاهرة، لبِث على وجه الزمان عشرة قرون! لكن هذا الكيان الواحد المزعوم يمتلئ بالبشر ملايين ملايين، وتذهب موجةٌ بشرية لتتلوها موجةٌ بشرية أخرى، أفرادها هم غير أفراد الموجة التي سبقتها. وتُبنى البيوت ثم تنهدم ليُبنى سواها، وحركة النقل والتجارة، وحالات المصالحة والمخاصمة، والتقاء الناس ثم افتراقهم ما ينفك ذلك كله قائمًا متتابعًا، مما يجعل المدينة أشبه بخلية النحل، لا تهدأ عن الحركة فيها نحلةٌ واحدة، ومع ذلك يحسَبُها «واحدة» بذاتها مستمرة الوجود بكيانها، والسؤال يتكرر أمامنا من جديد. ما الذي يوحي إلينا بوحدانية القاهرة واستمرار وجودها، مع أنها في حقيقتها ملايين الملايين من الحالات والأوضاع التي تتجاور أو تتعاقب؟ بعبارةٍ أخرى، ما الذي يحملنا على افتراض «هوية» واحدة لتلك الكثرة الكثيرة؟ تُرى هل تكون الوحدانية وحدانية «اسم» لا مسمًّى، ونحن لا ندري؟
وتعالَوا بعد ذلك ننتقل إلى المَثَل الثالث الذي نسوقه عن الفكرة نفسها؛ فكرة «الهوية»، على أن هذا المثل الأخير هو هو الموضوع نفسه الذي جعلته مادة هذا المقال، وهو «مصر»؛ فما قلناه عن مدينة القاهرة نقول أضعافه عن «مصر»، بلد خاض أربع حضارات وهو الآن يخوض الحضارة الخامسة؛ فلبِث نحو سبعة آلاف عام يرتدي حضارةً ثم ينضوها ليرتدي أخرى، وهو هو قائم صامد، فهل يا تُرى هو مجرد «الاسم» — اسم «مصر» — الذي بقي عليه الزمان، وأما حقيقة المسمَّى فمتغيرة متبدِّلة، حتى ليتعذر أن نعُدَّها حقيقةً واحدة لها هُويتها الواحدة واستمرارية وجودها؟
جوابي هو «لا»، أقولها بأعلى صوتي، وأكتبها بأضخم الحرف؛ فالمصري القديم ما يزال هو نفسه المصري الجديد؛ لأن مصر اليوم لم تزل هي مصر التي كانت منذ آلاف السنين، ولكن كيف؟
إنك إذا وجدت مجموعةً معينة محدَّدة من الروابط والعلاقات، ذات تركيب واحد، تتكرر مرة ومرة ومائة مرة وألف مرة وألف ألف، فلك الحق كله في أن تقول إنها حقيقة واحدة من حيث جوهرها، حتى لو تعدَّدت تلك الحقيقة في ألف حالة، ألستَ تقول — مثلًا — إن الشاعر المتنبي هو هو بذاته في كل قصيدة من قصائد ديوانه؟ إنك تعلم أنها قصائدُ مختلفة المحتوى، هذه تمدح وتلك تهجر، لكن الطريقة واحدة؛ أي إن شبكة العلاقات التي تربط اللفظ بعضه ببعض هي من طراز واحد، ولهذا تراك لا تتردَّد في أن تنسبها لشاعر واحد.
وهكذا المصري في تاريخه الطويل وقد أخذ خلال ذلك التاريخ يخلع ثوبًا حضاريًّا ليلبس ثوبًا حضاريًّا آخر، لكن «طريقته» واحدة، نظرته إلى الكون وإلى الإنسان وإلى أحداث الحياة واحدة؛ ولذلك فالمصري متعدِّد في ألوف الملايين من الأفراد، إلا أنهم أفرادٌ لقصائد الديوان الواحد، نظمَه شاعر واحد.
– لا، لا (هكذا يعترضني صديقي كلما حدثتُه حديثًا كهذا) بالله لا تغمرنك موجة اللغة وبيانها، فتصبغ علينا واقع الأمر على حقيقته.
– ليست هي اللغة وبيانها يا صديقي، إنما هي الحقيقة التي ننشدها، وسأضع بين يديك جانبًا واحدًا من تركيبة العلاقات، التي قلت لك إنها إذا تشابهت في عدة أفراد، كان هؤلاء الأفراد صورًا من حقيقة واحدة مهما تباينوا بعد ذلك فردًا فردًا، وأعني الوقفة الدينية التي وقفها المصري منذ بداية شوطه الحضاري بكل مراحله، ولست أقصد بالوقفة الدينية في هذا السياق من الحديث عقيدةً بعينها، أو مجموعةً بذاتها من شعائر العبادة، وإلا فقد اختلفت العقائد والشعائر باختلاف الحضارات التي تعاقبت علينا، بل المقصود هنا من الوقفة الدينية، هو تلك النظرة الكونية التي تأبى أن تقيِّد نفسها بحدود الواقع المحسوس، وترى من الضروري المحتوم أن توسِّع من أفقها حتى يكون لهذا الكون «قبل» و«بعد».
ولهذه النظرة التي تجعل للكون «ما وراء»، يؤمن به القلبُ ولو لم تشهده أبصارٌ وتدركه أسماع، أقول إن لهذه النظرة الماورائية إلى الكون أهميتَها البالغةَ في صياغة الشخصية المصرية؛ لأن من شأنها أن تجعل الإنسانَ هدفًا بعيدًا وراء الأهداف القريبة، وهو الهدف الذي على أساسه تُقام معاييرُ الصواب والخطأ في أفعال الناس؛ فليس مدار الصواب والخطأ عند المصري هو مقدار النفع المباشر، بل مداره هو مدى الاستجابة لأوامر السماء، فحتى لو كان تنفيذ الأمر في هذه الحالة يعود على صاحبه بضرر عاجل، فهو مع ذلك يؤديه لأنه هو الفعل الذي يُوزن يومَ الحساب، فإذا رسخت في نفوس الناس عقيدةٌ كهذه، وجدنا كل ناشط بأي ضرب من ضروب العمل، يجيد ما يؤديه، إجادةً يبذل فيها كلَّ جهد مستطاع، إنه يجيد للجودة في ذاتها، سواء أجاءت بالجزاء الوِفاق هنا على هذه الأرض أم لم تجئ؛ ففكرة النجاح في الحياة العملية، التي أقامتها ثقافاتُ شعوبٍ غير شعبنا، على مقدار الكسب الناتج، أو الزيادة في قوة المنصب أو الجاه أو النفوذ، لم تكن هي فكرة النجاح كما تصوَّرها المصري الأصيل؛ إذ كان ذلك المصري يقيس مدى نجاحه بمدى تحقيقه للجودة في صنعته، كائنة ما كانت تلك الصنعة، من رجل العلم إلى صاحب الفن، ثم إلى الصانع بحفر الحجر أو المعدن، أو يقيم الهياكل والمعابد، ويزخرف الجُدُر، ولولا هذه «الصوفية» في العمل، لما زخرت مصر بما زخرت به من آثار أسلافنا، التي ملأت متاحفنا ومتاحف الدنيا معنا، وملأت الساحات وخزائن الكتب.
وإن هذا الدَّأب الممتزج بشيء من العبادة، ما نزال نرى منه بقيةً في الفلاح المصري تجاه أرضه؛ فهو يفلحها ويحنو عليها في آنٍ معًا، وهو لا يعرف لساعات العمل حدودًا يقف عندها، بل الذي يحدِّد له متى يعمل، وكيف يعمل، هو أرضه، التي يحبها. ويريد لها أغزر الحصاد وأجوده، ليزهي بين الناس بحبيبته أكثرَ منه ليزيد من دخله.
وكذلك ما نزال نرى لهذا الدَّأب العابد الزاهد، بقيةً في المرأة المصرية من حيث هي راعية لبيتها. كنت والله أعجب لأمي — عليها رحمة الله — كيف تُفني ذاتها إفناء، لا تريد لنفسها، ولو مرة واحدة، جزاء! وإن شئت فانظر إلى المرأة الريفية تصحو قبل أن يُؤذن لصلاة الفجر، لكي لا يستريح جنبها على مضجع طول النهار وبعض ساعات الليل، وبقية قليلة أخرى من ذلك الإخلاص للعمل في ذاته ما نزال نراها في قلة من الحرفيين.
لكنَّ طارئًا جديدًا طرأ على تلك «الصوفية» في أداء العمل، في المرحلة الأخيرة من حياتنا، وبصفة خاصة على أصحاب «الوظائف»، كبيرها وصغيرها، وعلى أصحاب المهن والحرف، فكأنما قد أصبح المبدأ عند هؤلاء جميعًا هو «الكلفتة» و«الهلضمة» و«الفهلوة» ليحصل الواحد منهم على أكبر عائد ممكن، بأقل جهد مبذول.
ولن أقف هنا لأحلل الأسباب، وحسْبي أنها حقيقة واقعة، وهذه الحقيقة الواقعة هي التي جعلتنا ندرك انحرافًا من المصري عن طبيعته التي وضعناها؛ ومن هنا جاءت الصيحة بأن يُعاد بناء المصري ليعود سيرته الأولى.
أدركنا انحرافَ طائفةٍ من المصريين عن جوهر المصري الأصيل، ولو لم يكن له هذا الجوهر الأصيل لما أدركنا انحرافًا، وما جوهره ذلك إلا نمط من العلاقات بينه وبين الأشياء، يهتدي فيه بمَثَل أعلى ذكرناه لك فيما أسلفناه، ولقد اكتفينا بذكرِ جانبٍ واحدٍ من طبيعته، هو صوفيته في أداء عمله صوفية زاهدة، ولا تَقُل لي إن الإخلاص في العمل معروف في شعوبٍ أخرى كثيرة؛ لأن ذلك عندهم إخلاص مأجور، يدور مع الأجر وجودًا وعدمًا، وكثرة وقلة، وأما إخلاص المصري الذي ميَّزه فهو الإخلاص الذي كان يبتغي الإجادة أولًا والأجر ثانيًا.
ألم أقُل لك إن المصري والمصري ثم المصري، في قديمه وفي جديده، إن هم إلا أبيات من قصيدة واحدة صِيغت على وزنٍ واحدٍ ورَويٍّ واحدٍ وإن اختلفت معانيها، أو هم كالقصائد الكثيرة في ديوانٍ صاغه شاعرٌ واحد.