ترجمة الماضي إلى حاضر
ماذا نصنع لنعيش بماضينا في حاضرنا؟ هذا هو السؤال الذي طرحناه على أنفسنا ألف مرة، وحاولنا الجواب ألف مرة، ولا أحسبُنا قد انتهينا إلى صيغةٍ واحدةٍ يرضى عنها الماضي والحاضر معًا، ودليل ذلك قريب، وهو أننا إلى يوم الناس هذا نجد بيننا مَن لا يزال يتشكك في العلم وقيمته وفي العقل الإنساني وقدرته.
شاء لي الله أن يصلني منذ وقتٍ قريبٍ كتابان في يوم واحد، أحدهما لكاتب مرموق ولامع وذي جذب شديد لجماهير القراء والسامعين والمشاهدين — السامعين للراديو والمشاهدين للتلفزيون — والآخر لمؤلِّف لم أكن قد سمعت باسمه، لكنني استنتجت من قوة عبارته أنه لا بد أن يكون ذا وزن في محيطه الخاص، وأما الكاتب الأول فقد أراد بكتابه أن يقول إن العلم «يتبجح» (هذه هي اللفظة التي استخدمها) وإن الحياة المثلى هي في التصوف، وأما الكتاب الثاني فقد أراد صاحبه أن يقول إن الأرض لا تدور، وإن كلَّ ما يقوله العلم غير ذلك فهو خطأ وضلال، ومن الأسانيد التي أعلن أنه ارتكز عليها في الوصول إلى تلك النتيجة، الآيات الكونية في القرآن الكريم.
فإذا كان المناخ الثقافي الذي نتنفسه، قد أمكن أن يُفرِز لنا مثل هذه الكتب، وأستطيع أن أجزم بأن أحد الكتابين السابقين — على الأقل — قد بيعت منه عشرات الألوف من النسخ؛ أي إنه كان غذاءً تطلبه النفس العربية في يومنا، فلا بد — إذن — أن يكون المثقفون العرب بعيدين بُعدًا شاسعًا عن أن تكون لهم صيغة ثقافية واحدة تجمع بينهم، ودع عنك أن تكون هذه الصيغة الواحدة مما يدمج الماضي في الحاضر دمجًا عضويًّا متكاملًا؛ لأن الحاضر أساسه علم وصناعة، وها قد أقبل ألوف القراء على مَن يقول لهم إن العلم يتبجَّح، ولست أدري كم منهم قد أقبل كذلك على قراءةِ ما جاء ليزعم لهم أن الأرض لا تدور.
ماذا نصنع؟
ولكني برغم ذلك كله ما أزال أسأل: ماذا نصنع لنعيش بماضينا في حاضرنا؟ وما زلت أعتقد في أنه سؤال لبِث مطروحًا علينا منذ قرن ونصف قرن: كان هو السؤال الذي طرحه رفاعة الطهطاوي والذي طرحه الشيخ محمد عبده، والذي طرحه المفكرون والأدباء خلال الفترة التي أعُدُّها بحقٍّ عصرًا للتنوير، وأعني بها عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته، وما نزال نطرحه إلى يومنا، جادين مرة هازلين مرة، نطرحه بشيء من العمق مرة وبكثير من الضحالة مرات.
وها أنا ذا أتناوله اليوم من زاوية جديدة، لعل فيها ما يقرِّبنا مما نريد؛ فلقد طاف بفكري أن يكون المطلوب شيئًا من «الترجمة» الحضارية، فكما أن عملية الترجمة تحوِّل النص المترجَم إلى صورة جديدة مع احتفاظها بمعنى النص كاملًا، فكذلك قد تكون عملية التحوُّل التي نريدها؛ إذ إن لدينا ما يشبه النص الذي نتشبَّث بأن يظل لبُّه مصونًا من العبث، لكننا في الوقت نفسه نريد له أن يتخذ صورة جديدة مقروءة لمن يعجز عن قراءته في صورته الأصلية.
وما إن طافت هذه الخاطرة بفكري، حتى رأيت أن تكون خطوتي الأولى في تناول الموضوع، نظرةً فاحصة بعض الشيء لعملية الترجمة نفسها، لعلها تضيء الطريق. وكان أول ما ورد إلى ذاكرتي عندئذٍ عبارة كنت قرأتها لكاتبٍ هندي، قال فيها إن للترجمة تقليدًا طويلًا راسخًا في الفكر العربي، وكان ذلك منذ عصر المأمون حين أنشأ «بيت الحكمة» في بغداد ليقوم على ترجمة التراث اليوناني من فلسفة وعلم، ولم تكن الهند كذلك — كما قال هذا الكاتب الهندي — إذ لبِثت الثقافة الهندية طوال عصورها محرومة من مثل هذه الروافد، ولم تأخذ في فتح أبوابها للترجمة إلا منذ القرن التاسع عشر.
فلا بأس إذن — بالنسبة إلينا نحن العرب — في أن يكون النموذج الماثل في عملية الترجمة معيارًا يُقاس إليه، غير أن الترجمة ليست كلها على غرار واحد، وإن اتفقت على أن تكون دائمًا أمينةً بقدْر المستطاع على المضمون المراد نقله من حالة إلى حالة؛ فهنالك — أولًا — الترجمة التي تلتزم النص جملة جملة، وأكاد أقول كلمة كلمة لولا أني أعلم أن ذلك محال، وتلك هي الترجمة التي تكون في النصوص العلمية أو ما يشبهها، فها هنا لا مناص من تتبُّع الأصل كما هو، فلا يجوز للمترجم أن يضيف إليه من عنده، ولا أن يحذف منه ما لا يتفق مع هواه، إنه قد يجد في العبارة الأصلية تكرارًا، وعندئذٍ ينبغي له أن يورد مثل هذا التكرار في ترجمته، أو قد يجد فيها ما يظنه سخفًا أو خطأ، فلا يجوز له أن يحال السخف إلى جمال يتبرَّع به، ولا أن يصحح الخطأ بصواب من عنده، وهنا نذكر عبارة قالها الدكتور جونسون — الأديب الإنجليزي في القرن الثامن عشر — إذ قال: لا تحاول قطُّ يا سيدي أن تتفوق على من تترجمه.
وليس هذا النوع من الترجمة الحرفية — كما يقولون — هو ما نعنيه؛ إذ نتساءل هل يمكن، وكيف يمكن أن «نترجم» تراثنا ترجمة حضارية، بمعنى أن نحافظ على عبيره في حياة معاصرة؟ أقول إن هذا النوع من الترجمة ليس هو ما نعنيه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، لأعدنا القديم نفسه بلا تغيير، سوى أن نحوِّل المخطوط — مثلًا — إلى مطبوع، أو أن نحوِّل المطبوع إلى مطبوع ومشروح، أو أن نغيِّر الورق الأصفر إلى أبيضَ ناصعٍ مصقول.
صورة أخرى للترجمة
لكنَّ للترجمة صورًا أخرى، منها ترجمة الشعر من لغته الأصلية إلى لغةٍ أخرى، صحيح أن الرأي مُجْمِع على أن ترجمة الشعر مستحيلة، إلى الدرجة التي أراد بها الشاعر الأمريكي «روبرت فروست» أن يعرِّف (بتشديد الراء) الشعر، فلم يجد خيرًا من قوله إنه هو ذلك الجزء من الكلام الذي يستعصي على الترجمة، وها هو ذا الجاحظ في أول الجزء الأول من كتابه «الحيوان» يقول عن الشعر وصعوبة ترجمته: «الشعر لا يُستطاع أن يُترجَم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوِّل تقطَّع نظْمُه وبطُل وزنُه، وذهب حسنُه وسقط موضعُ التعجب … وقد نُقلت كُتُب الهند، وتُرجمت حِكمُ اليونانية، وحُوِّلت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنًا، وبعضها ما انتقص شيئًا، ولو حوِّلت كلمة العرب (التي هي في أشعارهم) لبطُل ذلك المعجِز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئًا لم تذكره العجم في كتبهم.»
ومع ذلك فقد شهد تاريخ الآداب العالمية ترجماتٍ للشعر، تُرجِم شكسبير إلى لغاتٍ كثيرة، وتُرجِمت إلياذة هومر إلى الإنجليزية (وغيرها) على أيدي فحول الشعراء، وكان منهم «بوب» و«تشابمان»، وتُرجِم الخيام ترجماتٍ ذائعة الصيت، كترجمة فتزجرولد لها، فلنقف هنا وقفة متأنية، باحثين عن جوهر الترجمة عندما تكون نقلًا للشعر من لغة إلى لغة؛ لأننا نلمح في مثل هذه الترجمة شيئًا هامًّا مما نريد تحقيقه عند «ترجمتنا» الحضارية التي تضع تراثنا في إطار جديد، هو إطار العصر الحاضر بكلِّ ما فيه من علومٍ وتقنيات (تكنولوجيا) وأجهزة إلكترونية وغيرها.
ماذا يصنع مترجم الشعر؟ إنه بالبداهة لا ينقل عن النص كلمة كلمة، بل هو لا ينقله جملة جملة، إنما هو ينقله — على أحسن الفروض — مقطوعة مقطوعة، ولقد كان لي في ذلك خبرتان: إحداهما عندما قرأت الترجمة الإنجليزية لرباعيات الخيام — ترجمة فتزجرولد — فقد وجدت عندئذٍ شيئًا لم أكن أعرفه من قبل، ولا توقعت حدوثَه، وهو أن المترجِم كان يعيد ترجمة المقطوعة الواحدة أحيانًا ليظفر لنفسه بصورةٍ ترضيه، فكم عجبت يومئذٍ حين رأيت المقطوعة الواحدة في صورها المختلفة عند هذا المترجم الواحد، توشك ألا تكون هي هي المقطوعة ذاتها؛ فالشاعر الإنجليزي في ترجمته للشاعر الفارسي، كان أقرب إلى مَن يحوِّل الخبز واللحم في طعامه إلى دماءٍ تجري في عروقه؛ فهذه الدماء هي في الحقيقة «ترجمة» لِما كان أكلَه من لحم وخبز، وهكذا كان أمره مع الرباعيات، لقد شربها شربًا وخلطها بذاته خلطًا ثم أخرجها كائنًا جديدًا، وكان هذا الكائن الجديد هو رباعيات الخيام، ولم يكن هو رباعيات الخيام في آنٍ واحد، ها هنا تكون الترجمة خلقًا جديدًا، لكنها في الوقت نفسه هي هي الأصل الذي هي ترجمته، إنها أقرب إلى ما يصنعه النحل وهو يحوِّل الزهر إلى عسل، منها إلى النمل الذي يدع طعامه مخزونًا كما وجده.
محاولة لترجمة شعر العقاد
وأما الخبرة الثانية التي أشرت إليها، فكانت حين أردت (في الأربعينيات وأنا في إنجلترا) ترجمة شيء من شعر العقاد، وكان ذلك أول الأمر في مناسبةٍ ثقافية اقتضت أن أعرض على الناس نموذجًا من الوجدان العربي الجديد، فترجمت شعرَ العقاد شعرًا إنجليزيًّا، فعرفت بالمعاناة كيف أن الأمر هنا يحتاج إلى شيء من الهضم وإعادة التشكيل.
إن مترجم الشعر لا غنَى له عن تقمُّص الشاعر الذي يترجمه في لحظات إبداعه الشعري، لتجيء الترجمة حاملةً الشروحَ نفسها التي بثَّها الشاعر في شعره، فلا علينا بعد ذلك أن يتغيَّر اللفظ من أصلٍ إلى صورة، وفي هذه المناسبة من الحديث أذكر أنني — منذ نحو خمسة عشر عامًا — وقد كنت حينئذٍ عضوًا في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بالقاهرة، وكان مقرر اللجنة هو العقاد، وأردنا أن ننهض بمشروع ترجمة مختاراتٍ من الشعر العربي إلى لغاتٍ أوروبية مختلفة، ونيط بي أمر الترجمة إلى الإنجليزية فعنَّ لي أن أتصل بالشاعر «أزرا باوند» وهو في منفاه في إيطاليا أيامها، واستطعت الحصول على عنوانه. والمعروف أن «أزرا باوند» ترجم إلى الشعر الإنجليزي شعرًا شرقيًّا من اليابان والصين، فأرسلت إليه أعرض عليه أن نرسل إليه صورة نثرية دقيقة لما نريد ترجمته من الشعر العربي إلى شعر إنجليزي، ليضطلع هو بصياغتها في شعر إنجليزي، فأرسل الرجل إليَّ يوافق من حيث المبدأ، ولكنه يشترط أن نسجل له الشعر العربي المراد ترجمته على شرائط، ليسمعها وهي مقروءة بالعربية، حتى يمتلئ بالنغم العربي قبل أن يترجِم، ضمانًا لدقة النقل الأدبي من لغة إلى لغة.
إن أمانة الترجمة في الشعر لا يُقصد بها دقَّة التوافق والتطابق بين نصٍّ لغوي ونصٍّ لغوي آخر، بل يُقصد بها قبل ذلك وبعد ذلك دقةَ التلاؤم عند المترجِم بين الترجمة ونفسه، فما ليس له في نفسه صدًى، يستحيل أن تجيء ترجمته شعرًا كما كان في أصله شعرًا؛ فالترجمة في الشعر هي أشبه شيء بالتصوير الفوتوغرافي عندما يكون المصوِّر فنانًا، لأننا نستطيع القول إن هناك ثلاث درجات في التصوير: التصوير الفوتوغرافي الصحفي — إذا صح هذا التعبير — يتلوه التصوير الفوتوغرافي الفني، ثم يتلوه التصوير الفني الذي ليس له أصلٌ يراعيه؛ ففي ترجمة الشعر يكون أمامنا أصلٌ لا بد من مراعاته، لكننا في الوقت نفسه إذ نراعيه ونأخذه في الاعتبار الأول، لا نتقيد بتفصيلاته ما دمنا نحافظ له على روحه وجوهره، إن مترجِم الشعر إنما يضع لنا طريقة استجابته للشعر الذي يترجمه، ولا يهمه أن يضع لنا صورةً طبْق الأصل منه، وهذه هي «الأمانة» المطلوبة في هذه الحالة فهي ليست الأمانة الشكلية المتحجرة المقيدة، ولكنها الأمانة بعد أن دبَّت فيها الحيوية حتى لا تكون القطعة المترجَمة كالجثة الهامدة، ولقد قال في ذلك فتزجرولد — مترجِم الخيام إلى الإنجليزية — قال في ذلك: «إن لم تكن ذاكرتي قد أخطأت نسبة القول إلى قائله: إنني أُوثر عصفورًا حيًّا على نسر محنَّط.»
ونعود بعد هذه السياحة الطويلة في ترجمة الشعر، إلى موضوعنا الأصلي:
رءوسٌ ثلاثة
كيف نعيش بماضينا في حاضرنا؟ والآن أقدِّم الجواب: إننا نفعل ذلك بمثل ما يعيش مترجِم الشعر قصيدة الشاعر الأصلي ولكنه يعيشها في لغته هو التي يترجِم إليها، حاول أن ترسم لنفسك هيكلًا تخطيطيًّا عامًّا للحياة عند أسلافنا، فكيف تراها؟ أما أنا فأراها حياة تتركَّز أساسًا في رءوسٍ ثلاثة: خليفة وفقيه وشاعر، وبعد ذلك تجيء مناشط الناس من تجارة وصناعة وملاحة بالبحر وانتقال في البر وحروب … إلخ إلخ، لكن الأقطاب التي تدور حولها الرحى هي هؤلاء، فكيف نترجِم هذا الهيكل ترجمة شعرية؟
لم تَعُد رئاسة الحكم إلى خلافة، ولكنها — إذا سايرت عصرنا — رئاسةٌ تعتمد على جماعة من الفنيين في مناحي الحياة؛ فهم مهندسون واقتصاديون وزراعيون وما إلى ذلك، وليس هذا التغيير مقتصرًا على الشكل، بل هو ضارب إلى الجذور؛ لأنه إذا كان الخليفة بغير حاشية من التكنوقراطيين، فهؤلاء التكنوقراطيون اليوم بغير أبَّهة الخلافة، فالأمر هنا أمرُ علمٍ وتطبيقه، وليس العلم في حياة عصرنا «متبجحًا» كما قال الكاتب العربي الذي أشرت إليه في أول المقال، بل هو من حياتنا اليوم في صميم الصميم، أو ينبغي أن يكون كذلك.
كان الخليفة وإلى جانبه الفقيه يعملان معًا على ضبط السلوك ضبطًا ترضى عنه قواعد الإسلام، وهذا شيء كان ولا بد أن يكون وأن يظل كائنًا، لكن الذي يتغيَّر في «الترجمة» الحضارية هو أن وظيفة «الحكومة» لم تَعُد محصورة في هذا الإطار، بل امتدت لتشمل كل نواحي النشاط البشري من اقتصادٍ إلى صحةٍ وتعليم، إلى تنظيم وسائل التسلية في أوقات الفراغ، وأن امتداد نطاق الحكومة إلى هذا المدى الشامل، ليطرد اطرادًا دقيقًا في عصرنا مع غزارة العلم وما يصحب العلم من تقنيات.
الفنون بمعناها الحديث
وأما دور الشاعر في حياة أسلافنا فهو يلخِّص دور الفنون كلها بمعناها الحديث: الشعر والموسيقى والتصوير والنحت والعمارة وسائر ما يصاحبها من فروع، فلو ترجمنا الهيكل الحضاري القديم إلى هيكل حديث، قلنا إنه في مكان الخليفة والفقيه والشاعر، أضع العالم والمشرِّع والفنان، وبديهي أن العالم لن يكون عالمًا إلا بعلم عصره، وأن المشرع لن يكون مشرِّعًا إلا إذا أخذ في اعتباره حياة عصره، وأن الفنان لن يكون فنانًا إلا إذا امتص رحيقه من زهرات عصره، على أن هذا الثلاثي العصري الجديد، سيكون له من تراثه الأصيل إطار عمله كله، وهو إطار قوامُه اللغة العربية أداة للتعبير، وقواعد الدين وأصوله أساسًا للتشريع.