ماضينا وحاضرهم
١
لست أدري إن كان الأمر فيما سوف أعرضه الآن، مدعاة إلى اليأس من العقل البشري وقدراته، أم كان داعيًا إلى الأمل فيه؛ فلست أنكر أنني من أشد الناس إيمانًا بالعقل وما يستطيعه، حتى ليتعذر عليَّ في كثير من الأحيان — كلما وجدت في العقل الإنساني علائم عجز — أن ألتمس له المعونة في شيء سواه، كأن أحتكم إلى حدْس المتصوف أو إلى وجدان الشاعر؛ أقول إنه يتعذر عليَّ أن أيأس من قدرة العقل، فأجاوزه مستعينًا بغيره؛ والأمثلة التي تؤيد عندي سلطان العقل، تُعَد بالألوف ومئات الألوف، فإذا ما رأيته عجز أو كبا، قلت لنفسي: لا عليك، فإنه ناهض من عجزه أو كبوته بعد حين.
لكن إيماني هذا، لا يخفي حيرتي كلما رأيت ما يفكِّر فيه الإنسان الليلة، شبيهًا بما كان فكَّر فيه البارحة، وكأنما أفلاك السماء قد جمُدت في أماكنها، وتيار الزمن قد وقف عن جريانه!
فلقد أخذتني حيرة كهذه، عندما قرأت كتابًا حديثًا لمفكر فرنسي معاصر لنا، يُقال إنه ألمع نجم في سماء الفكر الفرنسي اليوم، أما الكتاب فهو الترجمة الإنجليزية لكتاب «الكلمات والأشياء» (والعنوان في الترجمة الإنجليزية معناه «ترتيب الأشياء») وأما مؤلِّفه فهو ميشيل فوكوه، الذي وجدت مَن ينعته بقوله إنه «كانط» هذا العصر، كما وجدت مَن يصف هذا الكتاب الذي أشرت إليه، بأنه أهم إضافة إلى الفلسفة في فرنسا بعد سارتر.
كنت كلما مضيت في القراءة، ازددت حيرة؛ ولعلها حيرة يعود بعض أسبابها إلى أني لم آلف فكرًا يجيء على هذه الصورة التي يختلط فيها منطق العقل بنبض المشاعر، اختلاطًا لم يسعني إزاءه آنًا بعد آنٍ إلا أن أتساءل: أهو فيلسوف هذا المؤلف، أم هو شاعر؟ لا، لم آلف فكرًا يجيء على هذه الصورة العجيبة، فكأنما هو تيار دافق بأسرع ما يستطيع الماء أن يتدفق، حاملًا معه كلَّ ما يتصوره الخيال من أعلاق: قِطَع من الحجر، وغصون من الشجر، وأجساد طير وحيوان، وحطام سفائن تحطَّمت وتناثرت أشلاؤها!
على أني وقفت من مادة الفصل الثاني وقفة متأملة طويلة، بادئًا من عنوانه؛ لأن عنوانه هو: «نثر العالم». إذن ففكرة الشعر والنثر كانت تستولي على الكاتب وهو يكتب، مع أن الفرض هو أن لا علاقة لموضوع الكتاب بالفن الأدبي؛ لأنه — كما جاء في العنوان الفرعي للكتاب — «أركيولوجيا العلوم الإنسانية»، والأركيولوجيا هي علم الحفريات الذي يستخرج من طبقات الأرض دفينَها من مخلفات الحضارات الماضية، وهدف المؤلِّف من كتابه هذا أن يحفر في القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، ليستخرج من ثناياها تلك العوامل — الظاهرة أو الخافية — التي أخذت تتضافر حتى جعلت من «الإنسان» آخر الأمر موضوعًا للعلم، بعد أن لم يكن قط كذلك على مدى عصور التاريخ؛ فكما يبدو من هدف المؤلف، لا مجال لشعر وشاعر؛ إذ الميدان هو من شأن العلم والعالم، أو هكذا ظننت أنا قبل أن أقرأ هذا الكتاب.
أقول إني أطلت الوقوف المتأمل عند فصلٍ عنوانه «نثر العالم»؛ فلقد عرض فيه الكاتب للروابط المختلفة التي تصل الكائنات بعضها ببعض، وصلًا يجعل منها كونًا واحدًا موحَّدًا، وكأننا بإزاء أسرة واحدة تعدَّد أفرادها، لكن ربطتهم روابطُ الدم التي لا تنفصم؛ وهو يختار من هذه الروابط الكونية أربعة أنواع، كلها ضروب مختلفة من التشابه الساري بين مختلف الكائنات برغم ما قد نتوهمه فيها من تباين وخلاف؛ ويقول لنا المؤلِّف عن هذا التشابه الذي سيأخذ في تفصيله، إنه كان المحور الرئيسي للفكر الأوروبي كله منذ قديم وحتى القرن السادس عشر، أو قل حتى أوائل السابع عشر، فهل تستطيع أن تقرأ هذا دون أن يرتفع حاجباك تعجبًا: كيف كان ذلك؟ لكن المؤلف لا يدعك في دهشتك طويلًا؛ إذ يسوق لك بعض الأمثلة الموضِّحة، منها تأويل الكتاب المقدَّس وشروحه، وقد كان لهذا بالطبع أهمية قصوى في العصور الوسطى؛ فتأويل النص أو شرحه كثيرًا ما يقوم على ذكر الأشباه والنظائر، فما التأويل إلا أن تستخرج من الجملة معنًى باطنًا غير المعنى الظاهر، لكنَّ بينهما تشابهًا (هذا التوضيح من عندي؛ لأن المؤلِّف لم يوضح ما يريده)، وكذلك كان التشابه محورًا رئيسيًّا قبل القرن السادس عشر، في كلِّ ما لجأ إليه الإنسان من رموزٍ استخدمها ليرمز بها إلى ما أراد الرمز له، فلماذا يختار رمزًا معيَّنًا لشيء معيَّن، إلا أن يكون بين الطرفين تشابهٌ يراه؟
ثم كيف كان فن التصوير حينئذٍ إلا أن يجيء محاكاةً للكائنات التي يصوِّرها، والمحاكاة لا تكون إلا بين الشبيه وشبيهه؛ وماذا كانت تطمح إليه اللغة أكثر من أن «تصوِّر» ما أرادت التحدُّث عنه، والتصوير إن هو إلا إبراز الشبه بين الصورة وما تصوِّره؟ بل إن الأرض كلها في عين الإنسان — كما يقول المؤلف — إنما هي ترجيع للصدى بعد أن جاءها الصوت من السماء، ووجوه الناس ترى أنفسها منعكسة على مرآة النجوم؛ فلكل نجم نفرٌ من البشر يسيطر عليه، وانظر ما يستمده الإنسان من نبات الأرض، فله في جذوع النبات وثماره طعام ودواء، وهل كان ذلك ليكون ما لم يكن هنالك تشابهٌ ما بين نبات وإنسان؟
وبعد أن يطمئنك المؤلِّف على ما قد زعمه، من أن التشابه بين الكائنات كان هو الأساس الأول لمعرفة الإنسان، حتى القرن السادس عشر، يبدأ في تفصيل القول عن أنواعٍ أربعة منه: أولها التجاور بين تلك الكائنات تجاورًا يجعل أطرافها يلتحم بعضها ببعض، أو يتداخل بعضها في بعض؛ فنهاية الواحد منها هي نفسها بداية الآخر، وبسبب هذا التجاور اللصيق، تتنقل الحركة من الجار إلى جاره، وينتقل الأثر والتأثير.
وليس هذا التجاور مقصورًا على الأجسام المادية من الظاهر، بل إنه قد يضرب إلى ما وراء ذلك، وخذ مثلًا لهذا تَجاوُر الروح والبدن، وما يترتب عليه من تأثُّرِ كلٍّ منهما بالآخر؛ فالروح يتشكل بشكل الجسد ليلائمه، ويتلقى منه الحركة، والجسد يتأثَّر بما تنفثه الروح في جوارحه من انفعال وعاطفة؛ ومثل هذه العلاقة الوثيقة بين الروح والبدن، تراه في جميع الروابط التي تشد الكائنات بعضها إلى بعض، مؤثرة ومتأثرة؛ وانظر — مثلًا — إلى العلاقة بين النبات والحيوان كيف يحيا كلٌّ منهما في الآخر، أو انظر إلى اليابس والماء، أو إلى الإنسان وكلِّ ما يحيط به من أرضٍ وسماء؛ ألا إن الكائنات ليتداخل بعضها في بعض تداخلًا يجعل الطحالب تنمو على قواقع البحر، كما يجعل النبت ينمو على قرون الوعول، وبمثل هذا التواصل الحميم، تترابط الأشياء والأحياء في هذا الكون الفسيح، فينتج من ترابطها ما يشبه حلقات السلسلة، كل حلقة منها فيها شَبهٌ بما قبلها وشبهٌ آخرُ بما بعدها، حتى إذا ما بَعُدت الشُّقة بين الطرف الأول والطرف الأخير، كان هنالك بينهما من التباين الظاهر بمثل ما يكون التباين بين الله سبحانه خالق الخلق، ومادة الأرض بما عليها من أجساد.
إن عالم النبات مرتبط بمادة الأرض، ثم هو من الطرف الآخر مرتبط بعالم الحيوان بما بينهما من جانبٍ مشترك هو الاغتذاء والنمو، وأما عالم الحيوان فيعود بدوره من طرفه الآخر فيرتبط بعالم الإنسان، بما بين العالمين من جانبٍ مشترك هو الحس والحركة؛ وبعدئذٍ يعود الإنسان فيرتبط من طرفه الآخر بأفلاك السماء — أو قل بعالم الملائكة — لما بينهما من خاصة العقل؛ والكون كله على هذا التصوير هو كالحبل الممدود، أو كالشعاع الضوئي الواحد يسري من أعلى عليين إلى أسفل سافلين.
ذلك الترابط بين الكائنات، هو النوع الأول من أنواع التشابه الأربعة التي عرضها ميشيل فوكوه؛ فكيف أقرأ ذلك ولا يحضرني ما كتبه إخوان الصفا في القرن العاشر الميلادي، وهاك نَصَّ ما كتبوا في هذا المعنى: «الموجودات مرتبة بعضها تحت بعض، متصل أواخرها بأوائلها، كترتيب العدد … بيان ذلك أن المعادن متصلة أوائلها بالتراب وأواخرها بالنبات، والنبات متصل آخره بالحيوان، والحيوان متصل آخره بالإنسان، والإنسان متصل آخره بالملائكة … وأما أواخر المعادن مما يلي النبات (أي مما يسبق النبات مباشرة) فهو الكمأة والفطر وما شاكل ذلك؛ وذلك أن هذا الجنس من الكائنات يتكوَّن في التراب كالمعدن، ثم ينبت … كما ينبت النبات، ولكن من أجل أنه ليس له ثمرة ولا ورقة، ويتكوَّن التراب كما تتكوَّن الجواهر المعدنية وعلى أشكالها، صار يشبه المعادن من جهة، ومن جهة أخرى يشبه النبات … وأما النبات، فأقول: إن هذا الجنس من الكائنات متصلٌ أوله بالمعدن، وآخره بالحيوان … والنخل آخرُ مرتبة النباتية مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أفعاله وأحواله مباين لأحوال النبات، وإن كان جسمه نباتيًّا؛ بيان ذلك أن القوة الفاعلة فيه منفصلة من القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث … وأيضًا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموُّها وماتت … وأول مرتبة من الحيوانية متصلة بآخر النبات … فأَدْونُ (أي أقل) الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط، وهو الحلزون … وليس لها (أي الدودة التي تُسمَّى بالحلزون) سمْعٌ ولا بصر ولا شم ولا ذوق، إلا اللمس فحسب … لأن الحكمة الإلهية لا تعطي الحيوان عضوًا لا يحتاج إليه في جر المنفعة أو دفع المضرة … فهذا النوع (أي دودة الحلزون) حيوان نباتي؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائمًا، وهو من أجلِ أنه يحرِّكه حركة اختيارية حيواني، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوانات رتبة … وأدونُ رتبة الإنسانية مما يلي الحيوانية هي رتبة الذين لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا يعرفون من الخيرات إلا الجسمانيات …» (راجع الجزء الثالث من رسائل إخوان الصفا — من الرسالة الرابعة والثلاثين، وهي رسالة في أن العالم إنسان كبير).
٢
كان هذا التجاور الذي تتلاقى به الكائنات ويلاصق بعضها بعضًا، أحدَ الروابط الأربعة التي اختارها ميشيل فوكوه ليفسِّر بها وحدة الكون العظيم في كيانٍ واحد، وأما الرابطة الثانية فهي ما أسماه بالتناظر، قاصدًا به تكرار الشيء الواحد في أكثر من صورة، كأنما هو ينعكس على أسطح المرايا الموضوعة لها هنا وهناك في جنبات الكون، وذلك دون أن تتماسَّ الصور؛ فهو تشابه على مبعدة بين الأشباه، وهذا التناظر قائم بين الإنسان من جهة والكون بأكمله من جهةٍ أخرى؛ فبينما الكون إنسان أكبر، يمكن القول عن الإنسان بأنه كون أصغر؛ إذ إن كليهما متناظران، في الإنسان ما في الكون من عناصر وعلاقات، وفي الكون ما في الإنسان من عاطفةٍ وعقل؛ ولا عجب أن يُقال إن الله قد خلق الإنسان على صورته.
ويسوق المؤلِّف أمثلةً عجيبة لهذا التناظر بين الإنسان والكون، يبتكرها من عنده ابتكارًا، أو يستعيرها من سواه: فالعينان في وجه الإنسان هما المقابلان للشمس والقمر؛ والفم في وجه الإنسان يقابله في السماء كوكب الزهرة، ووجه التقابل هنا هو الحب الذي تعبِّر عنه الكلمات والقبلات! … وهكذا يمضي الكاتب في أمثلته الغريبة، ليقول آخرَ الأمر إن العالَم يكرِّر نفسه على المرايا التي يعكس بعضها بعضًا، لكي تزول الفواصل الحاجزة بين الكائنات، وإن هذا التناظر بين الأشياء ليشتد أحيانًا حتى ليتعذر علينا أن نعرف أين الأصل وأين صورته، كأنما الأشياء المتناظرة تَوائمُ يصعب التفرقة فيها بين توءم وتوءم.
لكن هذا التشابه مهما اشتدت صورته، فهو لا ينفي أن يكون هنالك بين الأشباه والنظائر ما هو أقوى وما هو أضعف، فيكون التأثير للأقوى والتأثر للأضعف، فإذا كانت الأرض والسماء متناظرتين، فالسماء أقوى؛ ومن ثَمَّ وجدنا مصائر الناس ومصائر الأشياء على وجه الأرض، متأثرةً بما تقرِّره لها الكواكب والنجوم!
ومرة أخرى تحملني الذاكرة إلى ما ورد في رسائل إخوان الصفا في القرن العاشر الميلادي عن هذا التناظر الذي يذكره ميشيل فوكوه، لكنه عند إخوان الصفا أدق وأعمق، وإنني لأبيح لنفسي على تواضعٍ جم، أن أرفض ما قاله فوكوه وما قاله إخوان الصفا على حدٍّ سواء؛ فماذا قال «خلان الوفا» — كما وصفوا أنفسهم في عنوان رسائلهم؟ قالوا إن الله جلَّ وعلا جعل من الأعداد نماذجَ تتواتر على غرارها الكائناتُ تَواترَ النظائر؛ فلكلِّ عددٍ ما يماثله من الأشياء، فعلى غرار الثلاثة — مثلًا — جاءت النظائر الآتية: الطول والعرض والعمق بالنسبة للأبعاد، والخط والسطح والجسم بالنسبة للمقادير، والماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة للزمن، والواجب والممتنع والممكن بالنسبة لدرجات الصواب، والرياضية والطبيعية والإلهية بالنسبة للعلوم، وعلى غرار الأربعة جاءت النظائر الآتية: الطبائع الأربع، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة، وهي النار والهواء والماء والتراب، والأخلاط الأربعة، وهي الصفراء والدم والبلغم والسوداء، والفصول الأربعة، وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء، والجهات الأربع، وهي المشرق والمغرب والشمال والجنوب، ومراتب الأعداد، وهي الآحاد والعشرات والمئات والألوف؛ وعلى غرار الخمسة جاءت النظائر الآتية: أجناس الحيوان الخمسة، وهي الإنسان والطير والسابح والمشاء (ذو الرجلين، وذو الأربع)، والذي ينساب على بطنه؛ وأجزاء النبات الخمسة، وهي الأصل، والعروق، والورق، والزهر، والثمر؛ والأيام الخمسة الملقب أسماؤها بالعدد، وهي: الأحد، الإثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس؛ والصلوات الخمس، والأركان الخمسة التي بُني عليها الإسلام، والحروف المستعملة في أوائل سور القرآن؛ إذ هي تختلف من حرفٍ واحد إلى خمسة أحرف، وهكذا يجمع إخوان الصفا الأشياءَ والأفكار في مجموعاتٍ جاءت على نماذج الأعداد.
٣
وننتقل إلى النوع الثالث من أنواع التشابه التي أوردها ميشيل فوكوه ليربط على أساسها أجزاء الكون في كيانٍ واحد، وهذا النوع الثالث عنده هو ما أسماه بالمطابقة أو التماثل؛ وها هنا لا يكون التشابه على أساسِ ما هو محسوس بالحواس كما كانت الحال في النوعين الأولين، بل إنه يجاوز المحسوس إلى المعقولات؛ إذ يجعل المطابقة بين الأشياء منصبة على العلاقات التي تشير إلى طريقة البناء والتكوين: فعلاقة النجوم بالسماء متماثلة أو متطابقة مع علاقة الأحياء بالأرض، والمعادن بالصخر، وأعضاء الحس بالوجه، وبين النبات والحيوان مطابقة، لولا أن رءوس النبات إلى أسفل ورءوس الحيوان إلى أعلى؛ وأما الإنسان فهو مرْكز هذه الطبقات كلها؛ لأنه يقف بين كائنات السماء وكائنات الأرض، فيربط هذه بتلك؛ إذ فيه ما يطابق كائنات الأرض، كما أن فيه ما يطابق ملائكة السماء.
ولا تعود بي الذاكرة هذه المرة إلى إخوان الصفا ورسائلهم، بل تعود إلى الفيلسوف العربي الخالص أبي يعقوب بن إسحاق الكندي (القرن التاسع الميلادي) الذي شقَّ طريقًا سلَكه من بعده فلاسفة آخرون، وذلك حين أخذ يتصوَّر العلاقة بين الخالق ومخلوقاته في تسلسلٍ من العقول: فعقلٌ منها يظل فاعلًا أبدًا، وهو أول العقول وعنه نشأت سائرها، وذلك هو الله سبحانه؛ وثانيها في الترتيب عقلٌ بثَّه الله في الإنسان، وجعله كامنًا في فطرته، إلى أن تتهيأ له الظروف التي يَخرج بها من حالة الكمون إلى حالة الفعل، فيكون عندئذٍ بمثابة العقل الثالث في التسلسل؛ وأخيرًا يجيء السلوك الذي ينشط به الإنسان في حياته العملية، مجسدًا فيه لقوَّته العاقلة، وبهذا يصبح هذا السلوك العملي بمثابة العقل في آخر مراتبه … أقول إن الذاكرة أعادتني إلى هذا التصوُّر عند فيلسوفنا الكندي، فقلت لنفسي: أليس في هذا التسلسل العقلي من رتبةٍ إلى رتبةٍ تليها، بحيث تجيء كل رتبة منها وكأنها تمثِّل سالفتها، دون أن تساويها، أقول أليس في هذا التصوُّر رباط على أساس التماثل الذي افترضه ميشيل فوكوه، لكنه رباط أقوى وأعمق؟
٤
وأما الصورة الرابعة والأخيرة من صور التشابه الذي يربط كائنات الدنيا بعضها ببعض فيما يرى ميشيل فوكوه، فهي صورة التعاطف، الذي يستطيع عبور الكون من أقصاه إلى أقصاه في لمحة؛ فهو ليس كالتجاور مقيدًا بمكانه، ولا هو كالتناظر تشابهًا سكونيًّا في بنية التكوين، ولا كالتماثل يترك المتماثلات قائمة كما هي قائمة، بل هو (أي التعاطف) حركة سارية تجذب الكائنات بعضها إلى بعض؛ وإلا فما الذي ينحو بالحجر الساقط نحو الأرض إن لم يكن بين هذين الشبيهين تجاذب؟ وما الذي يرسل لهب النار صاعدًا إلى الأثير؟ ما الذي يجذب جذور النبات نحو الماء؟ ما الذي يدور بعَبَّاد الشمس مع قرص الشمس حيث يدور؟ إنه هو رباط التجاذب أو التعاطف بين الكائنات، أو قُل إن شئت إنه المحبة بين الأشياء؛ لكن هذه المحبة إذا ما سارت بالأشياء إلى آخر مداها، كان من شأنها أن تدمج الكائنات المتحابة كلها في كائن واحد، شأن الحب دائمًا إذ يُصهِر الأفراد فيزيل عنهم فردياتهم ليذوبوا معًا في وجود واحد.
لكن الكون لا يُراد له أن ينتهي أمره إلى مثل هذا التجانس الذي تضيع معه خصائص الأفراد، ولذلك نشأت قوَّة أخرى، هي قوة التنافر أو الكراهية، لتعود فتباعد بين الكائنات حفاظًا لما بينها من تباين وخلاف؛ فلئن كان التجاذب يحيل الكثرة إلى وحدة، فالتنافر يعيد الوحدة إلى كثرة؛ ويسوق فوكوه مثلًا للتنافر حياة التمساح والفأر والعنكبوت؛ فالتمساح الجبار يخرج من بيته المائي إلى الشاطئ اليابس ليسترخي، فاغرًا فكيه، فيأتي الفأر ويتسلل بين الفكين منزلقًا من الحلق الواسع إلى حيث أمعاء التمساح فيقرضها بأسنانه، فيلقى الزاحفُ الجبارُ مصرعه، ويخرج الفأرُ طاعمًا ظافرًا، لا لينعم بحياة بعد ذلك، بل ليتلقاه عنكبوت مفترس فينقض عليه ليغتذي!
فإلى أي شيء تعود بي الذاكرة هذه المرة إن لم تَعُد بي إلى فلاسفة اليونان الأقدمين؟ إلى أنبادوقليس، الذي كان أوَّل مَن ردَّ الأشياء — لا إلى أصلٍ واحد — بل إلى أصولٍ أربعة: هي الماء والهواء والنار والتراب؛ فهي عنده عناصرُ أولية لا يسبق أحدها الآخر، ولا يشتق بعضها من بعض؛ لكنها تتصل ببعضها أو تنفصل عن بعضها، اتصالًا وانفصالًا لا ينقضيان، وبهذين العاملين تتكوَّن الأشياء أو تعود إلى الانحلال، والذي يجمع العناصر أو يفرِّقها هو المحبة والكراهية (ويُقال عنهما في الكتب العربية أحيانًا: المحبة والغلبة، والمحبة والعدوان)، أما المحبة فتضم الذرات المتشابهة إذا ما تفرقت، وأما الكراهية فتفصل بينها؛ ولكلٍّ من هاتين القوَّتين مرحلةٌ تتغلَّب فيها على خصيمتها، فإذا ما كانت الغلبة للمحبة سادت الوحدة وسادت السكينة، وأما إذا كانت للكراهية، فإن السيادة عندئذٍ تكون للفرقة والتمزُّق والاضطراب؛ ومراحل المحبة هي فترات الإصلاح، ومراحل الكراهية هي عصور الفساد والفوضى.
إنني إذا ما استخدمت اللغة التي يستخدمها ميشيل فوكوه في كتابه المذكور، قلت: تُرى أينكفئ العالم على نفسه لتجيء صورة الفكر الإنساني في القرن العشرين انعكاسًا مرآويًّا لصورته عند العرب في القرنين التاسع والعاشر، ثم انعكاسًا مرآويًّا مرة أخرى لصورته عند بعض اليونان الأولين؟!