العُروبة ثقافة لا سياسة
ليست عروبة العربي قرارًا سياسيًّا تُصدِره مؤتمرات القمم أو مؤتمرات السفوح والوديان، بل هي مركَّب ثقافي يعيشه في حياته اليومية، لا يستطيع العربي نفسه أن ينسلخ عنه إذا أراد، وأن يعيده إليه إذا أراد، لا … ليست عروبة العربي قميصًا يلبَسه إذا شاء ويخلعه إذا شاء، بل هي خصائص توشك أن تبلغ منه ما يبلغه لون الجلد والعينين، فهي مجموعة من القيم والعادات وطرائق النظر يتداخل بعضها في بعض تداخُل الخيوط في قطعة النسيج.
ولا تناقض بين عروبة العربي من جهةٍ ومميزاته الإقليمية من جهةٍ أخرى؛ فالمصري مصري وعربي معًا كما يكون السوداني سودانيًّا وعربيًّا، والعراقي عراقيًّا وعربيًّا في آنٍ؛ فليس على هذه الأرض كلِّها إنسانٌ واحد وحداني الانتماء، وإنما الأمر في هذا يشبه الدوائر التي تتدرَّج اتساعًا؛ فصغراها يتلوها ويشتمل عليها دائرةٌ أوسع ثم هذه يتلوها ويشتمل عليها دائرة أوسع … وهلمَّ جرًّا.
ليس الأمر هنا أمرَ بدائل لا يصدق منها إلا بديل واحد، بل هو مركَّب عطفي قد تصدق فيه جميع الصفات المعطوف بعضها على بعضٍ دفعة واحدة؛ أعني أن الأمر هنا ليس كقولنا إن الثوب إما أبيض وإما أسود، فإذا كانت الأولى امتنعت الثانية، كلَّا، بل الأمر هنا هو كقولنا عن الثوب إنه أبيض ومصنوع من القطن فصدْق إحدى الصفتين لا ينفي صدْقَ الصفة الثانية.
إنني مصري عربي في آنٍ واحد … ولمصريتي مميزات أنفرد بها دون سائر العرب، ولعروبتي خصائصُ أشترك فيها مع سائر العرب، على أن مصريتي وعروبتي كلتيهما ترتد آخرَ الأمر إلى نسيجٍ ثقافيٍّ بعينه، وقولي إنني مصري عربي، معناه هو أنني أعيش ثقافةً دائرتها الداخلية هي المميزات المصرية الخاصة، ودائرتها الأوسع هي الخصائص المشتركة بين العرب أجمعين.
فما هي أبرز الخصائص الثقافية التي تجعل العربي عربيًّا، سواء كان قبل ذلك مصريًّا أم سودانيًّا أم عراقيًّا؟ أولى خصائص العروبة لغتُها، على أنه لا يكفيني في هذا الجانب أن تكون لغة الكلام والكتابة عربية؛ فالأوروبي الدارس للغة العربية قد يتكلمها ويكتبها ومع ذلك لا ندرجه في العروبة ابنًا من أبنائها، وإنما المهم هنا هو اللفتات العقلية أو الإدراكية العميقة، التي تكمن في كيان العربي، فتميل به إلى اكتساب الصفات المتمثلة في اللغة العربية؛ فالأجنبي الذي درس اللغة العربية إنما يتكلمها أو يكتبها من السطح — إذا جاز هذا القول — وأما العربي فهو يتكلمها أو يكتبها من الجذور.
وأعني بالجذور تلك الصور الدفينة التي توشك أن تكون جزءًا من فطرة الإنسان والتي منها تنبثق اللغة المعنية؛ فمن خصائص اللغة العربية — مثلًا — أنك إذا عرفت الأصل الثلاثي عرفت كيف تفجِّر منه شجرة المشتقات على كثرة فروعها، فإذا عرفت كلمة — كتب — فجَّرتها بعد ذلك فأخرجت منها: «كاتب، كتاب، كتابة، مكتوب … إلخ إلخ»؛ فكأنها القبيلة أو العشيرة يتعدَّد أفرادها لكن هؤلاء الأفراد جميعًا ينتمون إلى رأس واحد.
فإذا قلنا إن اللغة العربية هي أولى خصائص العروبة فإنما نقصد بذلك إلى ما هو أعمق من مجرَّد عملية التفاهم بلغةٍ معينة، وهو أن خصائص اللغة تكون هي نفسها خصائص أصحابها، ومعنى ذلك أن أبناء العروبة على امتداد الوطن العربي الكبير قد جاءوا في طرائقِ النظر على غرارِ ما تتميَّز به لغتهم من صفات. وثانية الخصائص الإدراكية التي تتألَّف منها عروبة العربي هي ميله إلى القفز السريع من الأفراد الجزئية إلى تجريدها وتعميمها في «أنواع» و«أجناس»؛ فهو لا يهمه «هذا الطائر» المفرد المعيَّن الواقف هناك على ذلك الفرع من تلك الشجرة، بل يكفيه أن يعرف الطائر في عمومه من حيث هو نوعٌ بأسرِه من الأحياء. لقد بلغ بي العجب أشده ذات يوم بعيد، حين سار بي أمريكي في بستان بيته، وكان مليئًا بالورود على أشجارها، فوجدت الرجل يحدثني عن كل وردة على حدةٍ وكأنها طفلٌ قائم برأسه متميز عن سائر الأطفال. ولعلك تعلم أن وولت دزني مبتدع — ميكي ماوس — ورسومه وحكاياته، قد بدأ عمله هذا بأن أخذ يراقب فأرًا معينًا بذاته عدة أيام، ولم يكن يطوف بباله عندئذٍ أنه سيقيم على ملاحظاته ما أقامه بعد ذلك، بل هو الاهتمام — بالفرد — في ذاته هو الذي استوقف نظره، وهو اهتمامٌ لا يكاد يعرفه العربي في طريقة إدراكه للأشياء والأحياء معًا.
انظر إلى رسوم الطير والحيوان والنبات في الفن العربي — كما تراها مثلًا في سجادة أو فوق آنية فخارية — تجد الفنان العربي يتعمَّد إهمال التفصيلات «كما هي الحال اليوم في الفن التجريدي المعاصر»، فكأنما هو يرسم تخطيطًا لطائر، ولا يرسم طائرًا، أو يخطِّط لغزالة ولا يرسم غزالة، وهكذا — لماذا؟ لأنه في صميم تكوينه العقلي لا يعبأ كثيرًا بالأفراد أو المفردات، وإنما يريد «الخلاصة» العامة المجرَّدة ليسهُل حَملُها معه وهو مسافر في الفلاة على ظهور الإبل، شأنه في ذلك كشأنه تجاه اللغة؛ فهو يحرص على «الأصل الثلاثي» ليحمله معه أينما سار، وأما ما يتفجَّر من ذلك الينبوع اللغوي، فيتركه إلى حين الحاجة إليه.
ولعل بعض السر في اكتفاء العربي بالأصول العامة دون الفروع التفصيلية هو إيمانه العميق بسرعة زوال الأفراد، أما ما يبقى فهو الأصول في تجريدها وتعميمها. ولا بد لنا أن نلحظ في هذا الموضع من الحديث أن العربي في غضِّه النظرَ عن الأفراد مكتفيًا بالرءوس كثيرًا ما انتقل معه هذا النظر إلى ميدان الحياة الاجتماعية فأسقط أفراد الناس من حسابه مكتفيًا ﺑ «الذوات» التي لها بروزٌ وارتفاع.
ومما يتفرَّع عن هذه الخاصة في النظرة العربية، ميله إلى تكثيف المعنى في أقل حيز ممكن من اللفظ؛ ومن هنا كان حبُّه للمَثَل السائر أو للحكمة المضغوطة في جملة قصيرة؛ فهو يريد صميم اللباب ليطير معه في انتقاله السريع، ولا يريد التفصيلات التي يثقُل حفظُها وحَمْلُها، ولقد مرت بي ملاحظة نافذة في هذا الصدد (ولست أذكر إن كنت طالعتها عند ابن جني في «الخصائص» أو عند الجاحظ في «الحيوان») وهي أن القرآن الكريم إذا ما وجَّه الخطاب إلى بني إسرائيل أطنب في القول، وإذا وجَّهه إلى العرب أوجز، وذلك لاختلاف الفئتين في طريقة الفهم والتعبير، وإني لأود من القارئ ألا يفوته بأنه إذا كان كتابنا اليوم قد تعلَّموا تحليل التفصيلات في أدب القصة أو أدب المسرح، فذلك جانب طرأ علينا حديثًا نقبله ولا نرفضه، لكن لنعلمْ أنه بُعدٌ جديد أُضيف إلى الصفة العربية الأصيلة.
لقد بلغ مَيْل العربي إلى التجريد دون الاهتمام بالأفراد من حيث هم أفراد، أن الشاعر العربي إذا تغزَّل في امرأةٍ فلم يكن في معظم الحالات يقصد إلى امرأة بعينها، بل إن غزله منصبٌّ على «نوع» المرأة بأسره، وكذلك قُل فيه إذا وصف جوادًا أو بعيرًا أو ما شئت مما كان يتعرَّض لوصفه.
وثالثة الخصائص التي تجعل من العربي عربيًّا في نظرته إيمانه، بأن الحضارة الصحيحة إنما تُدار على محور الأخلاق؛ فليس المهم فيمن هذَّبته الحضارة أن يكون قويًّا بسلاحه، ولا قادرًا بماله، بل المهم هو أن يقوم التعامل بين الإنسان وربه، والإنسان والإنسان، على أنماطٍ رسمتْها السماء لأهل الأرض، وحيًا عن طريق أنبيائها وما كل حضارة جرت هذا المجرى لأن ثمَّة من الحضارات — ومنها حضارة هذا العصر — تجعل أخلاقها نابتةً من الأرض، لا هابطة من السماء؛ فالقيم الأخلاقية في غير العروبة، قد يجعلونها أدواتٍ لسعادة الإنسان، أو وسائلَ لمنفعته أو يجعلونها متمشيةً مع منطق العقل، أو غير ذلك من التحليل والتعليل، وأما جوهر العروبة فاعتقادٌ بأن الخالق يشاء ويأمر، والمخلوق يطيع بغير سؤال: هل تتحقَّق له السعادة في حياته على هذه الأرض أو لا تتحقق، هل تأتيه المنافع بناء على سلوكه الذي أطاع به خالقه أو لا تأتيه، هل يرضى منطق العقل من ذلك السلوك أو لا يرضى؟
ويتفرَّع عن هذه النظرة جانبٌ هام في الشخصية العربية — كائنًا ما كان إقليمها من الوطن العربي — وهو أن العربي — وهو ما تجعله خاصية رابعة من خصائص الثقافة العربية — إذ يقابل بين الأفعال أو الأحياء أو الأشياء التي يصادفها في حياته الواقعة من جهة، وبين مُثُلها العليا من جهة أخرى ليستطيع تقويمها؛ فهو إنما يقابل بين طرفين، كلاهما واقع من كائنات هذه الأرض؛ فهو يقيس هذا الفرد المعيَّن من أفراد الناس، إلى فردٍ آخرَ يراه مثالًا للكمال، ويقيس هذا الجواد أو هذه الناقة إلى جوادٍ آخرَ أو ناقة أخرى؛ وذلك لأنه لا يريد أن يقيس كائنات الدنيا الواقعة إلى تصوراتٍ عقلية لا وجود لها إلا في الأذهان، على خلاف أبناء الثقافة الأوروبية؛ فهم هناك (كما ترى في فلسفتهم) يجعلون المقابلة بين عالَم الأفكار وعالَم الأشياء، لا بين الأشياء والأشياء، ولقد أطلقوا على المذهب الذي يعطي الأولوية للأفكار اسم: «إيديالزم» مأخوذة من كلمةٍ تعني «فكرة»، ويطلقون على المذهب الذي يجعل الأولوية للأشياء اسم: «ريالزم»، وهذه أيضًا مأخوذة من كلمةٍ تعني «شيء». ولقد أخطأ الناقل العربي حين ترجم هاتين الكلمتين على التوالي بكلمتي «مثالية» و«واقعية»؛ لأن كلمة «مثال» العربية لا تعني كائنًا عقليًّا بقدْرِ ما تعني كائنًا هنا نراه ونلمسه ونتمثل به ونجعله ماثلًا أمام أبصارنا لنقيس عليه، وكذلك كلمة «واقع» لا تعني مجرَّد أشياءَ بغيرِ إضافةِ قيمةٍ معينةٍ إليها، وإنما «الوقوع» هو هبوط وسقوط، ولو كان الناقل العربي أضبط فكرًا، لجعل للإيديالزم كلمة «الذهنية»، وللريالزم كلمة «الشيئية» فيكون الاسمان العربيان مطابقين للاسمين الإفرنجيين.
أريد بهذا أن أميز طريقة الإدراك العربي، بالقياس إلى طريقة الإدراك عند شعوبٍ أخرى، وأكرِّر القول بأن العربي يَقصر نظرته على دنيا الكائنات الفعلية، يوازن بين بعضها وبعضها الآخر، وهي بأجمعها «واقع» — سواء في ذلك ما هو أدنى وما هو أعلى — لأنها كلها كائنات أرضية زائلة فانية، ولا يجوز خلطُها بكائناتٍ سماوية من قبيل «المُثُل» التي تصوَّرها أفلاطون وسار على دربه في ذلك كثيرون.
نعم إنني أعلم أن بعض فلاسفة المسلمين الأقدمين استخدموا عبارتَي «عالم الأذهان» و«عالم الأعيان» في مقارنتهم بين الأفكار العقلية من جهة وتجسيداتها في عالم الأشياء من جهة أخرى، لكن هؤلاء كانوا تحت تأثير الفلسفة اليونانية، على حين أني هنا أحاول استخراج «العقل العربي» من لغته العربية، فما دامت الكلمتان العربيتان «مثال» و«واقع» كلتاهما تشير إلى أشياءَ في هذه الدنيا (ولاحظ معنى «السقوط» أو «الهبوط» في كلمة «دنيا») فلنا الحق — إذن — في الحكم على طريقة الرؤية العربية من خلال ألفاظها ومضموناتها.
ومؤدَّى هذا كله هو أن العربي في نظرته إلى الكون يطمح دائمًا إلى مجاوزةِ ما هو واقع — مهما كانت منزلته — ليبلغ ما هو وراء الواقع؛ أي أن يجاوز دنيا الفَناء إلى عالم الخلود.
والفن العربي شاهد على صدْق هذا الذي نقوله؛ فجانب كبير من الفن العربي يتخذ شكل وحدات متكررة، كما ترى في الوحدات الزخرفية على جدران المساجد، أو في الأنماط التي تُصمَّم عليها المشربيات — مثلًا — وهذه الوحدات المتكررة أينما وجدتَها ترى عينيك قد انتقلتا من طرَفٍ إلى طرفٍ دون أن يكون هناك ما يستدعي الوقوف إلا أن يكون الحائط المزخرَف قد انتهى، وعندئذٍ ينتهي دَور البصر ويأتي دور الخيال؛ لأنه هو الذي سيكمل تسلسُل الوحدات إلى ما لا نهاية.
وطيران الإنسان بخياله إلى اللامتناهي، قافزًا من الواقع إلى ما وراءه، هو في صميم الصميم من المركَّب الثقافي الذي يُطلق عليه اسم «العروبة»، إنها طريقة للنظر خاصة بنا، وتميِّزنا عن سوانا، سواء أجاء مسقط رءوسنا في وادي النيل أم في وادي دجلة، في الجزيرة العربية أم في بلاد المغرب، في أرض الشام أم في أرض اليمن.
وحسبي هذه النقاط الأربع من المكوِّنات الثقافية لأبناء العروبة، وأريد أن أختم الحديث بملاحظتين: الأولى هي أننا قد نجد ثقافاتٍ أخرى تشارك العروبة في هذه أو تلك من النقاط الأربع المذكورة، لكنك لن تجدها مجتمعةً كلها إلا في العربي وطريقته في النظر إلى الكون والإنسان. والثانية هي أن تحديد تلك الخصائص لا ينفي أن تحاول تغيير ما نريد تغييره منها، إذا وجدناه معوِّقًا لنا في حضارةٍ جديدة، لكننا حين نفعل ذلك نكون بمثابةِ مَن يغيِّر في أصوله الموروثة.
إننا لم نحلل فكرة العروبة إلى خصائصها التي ذكرناها لنمدح أو لنذم، بل حللناها لنَصفَ ما هو قائم بالفعل ولكي نقول: إن عروبة العربي هي وجوده الثقافي المتميز؛ فهي لا تُمنح بقرار كما قد يتوهم الواهمون.