الفن القصصي والمسرحي في الأدب العربي الحديث
(١)
أما في لبنان وسورية فقد خرج جيل الشباب متأثرًا بنزعات الفكر والمنطق الأوروبي، وكان يقوي من أثر هذا المنطق عندهم، أنهم كانوا يرحلون في العموم إلى أوروبا، وعلى وجه خاص إلى فرنسا؛ للتزود من تفكير الغربيين وثقافتهم ولتكميل دروسهم، وعلى يد هذا الجيل تقطعت كل الصلات بالماضي في الشرق الأدنى، وكان هؤلاء رسل الثقافة الغربية والفكر الأوروبي في المجتمع الشرقي.
(٢)
من هذه المحاولات بدأت القصة التاريخية في الأدب العربي الحديث.
ثم كان عام ١٨٨٨؛ إذ نشر جميل نخلة المدور (١٨٦٢–١٩٠٧) قصة «حضارة الإسلام في دار السلام»، فكانت محاولة للارتقاء بفن القصة التاريخية نحو أدب القصص، وخطوة للأمام من تلك المحاولات البدائية التي قام بها آل البستاني.
أما الدكتور شميل (المتوفى في ١٩١٧) فقد وضع قصة «رسالة المعاطس» على نمط من «الملهاة الإلهية» لدانتي و«الفردوس المفقودة» لميلتون، وعلى أسلوب قريب من أسلوب «رسالة الغفران» لفيلسون معرة النعمان أبي العلاء. ثم كان أن نزل الميدان فرح أنطون (المتوفى في ١٩٢٢) بمجموعة من القصص والمسرحيات ذات صبغة رومانطيقية، نقلها إلى العربية عن الفرنسية، ومن أهم هذه الآثار: «مصر الجديدة»، و«مملكة أورشليم»، و«صلاح الدين». وظلت جهود فرح أنطون مؤثرة في مجرى الفن القصصي والمسرحي عقدين من الزمان في مصر، بدأت معها بذور الرومانسية في القصص والمسرحيات العربية.
(٣)
ثم كان انتظام بعض المشتغلين بالتمثيل في جوقة على رأسه سليمان القرداحي، غير أن هذه الحركات؛ نظرًا لأنها كانت مشمولة برعاية الخديوي إسماعيل، وكانت تعيش على عطاياه؛ فقد كان خلع إسماعيل عن كرسي خديوية مصر، والحركات التي تعاقبت على مصر وانتهت بالثورة العربية عام ١٨٨٢، سببًا لتصدع فن التمثيل؛ إذ نزل الميدان نفر هبط به إلى مستوى الجماهير، غير أنه مع الزمن نتيجة لارتقاء الذوق العام، وخصوصًا عند الجمهور الذي هذبته ثقافة الغربيين — اضطرت الجوقات التمثيلية أن تعنى بالمسرحية والمسرحيات التي تمثلها، وكانت نتيجة ذلك أن خطت المسرحية خطوات نحو الأمام اقترنت بتقدمها تقدم المسرح المصري، الذي كان يظهر على خشبته اسكندر فرح والشيخ سلامة حجازي.
(٤)
في ذلك الوقت كان فرح أنطون ينشر قصصه التاريخية، منتهيًا بها إلى فن القصة التاريخية في مصر، ويقدم عن دار «الجامعة» لجمهور العربية هذه القصص. وتحت تأثير هذه المحاولات خرج إبراهيم رمزي بك قبل الحرب العظمى بمحاولاته الأولى في إقامة المسرحية التاريخية.
ويمكننا أن نلخص الجهود التي كانت في الشرق العربي في ميدان القصص والمسرحية بأنها محاولات بدائية اضطر لها أبناء العربية نزولًا على روح العصر، الذي ربطهم بالثقافة الغربية ومجرى الآداب الأوروبية، ومن هنا نرى أن الأدب العربي قبيل الحرب العظمى كان مرآة صادقة للحياة الحديثة التي أخذ بها الشرق العربي، وأن ظهور فن القصص والمسرحيات إنما كان عن معرفة الآداب الغربية؛ نتيجة للحياة الجديدة التي دلف إليها الشرق العربي.
(٥)
ويمكننا أن نلخص القول في مدرسة المهجر بأنها كانت أول مدرسة قوية في الأدب العربي، نجحت في تقديم أروع ما في الأدب الحديث من القصص والمسرحيات والأقاصيص.
وعلى يد هذه المدرسة أنبتت صلة الأدب الحديث بأدب العرب الموروث، وتولدت بجهود رجالها الصيغ الجديدة في اللغات واستنزلت الأخيلة الجديدة في الأدب.
غير أن الحرب العظمى والأحداث التي توالت على الشرق العربي جعلت تأثير مدرسة المهجر على كتاب الشرق العربي يضعف بعض الشيء. وكان نتيجة ذلك أن ظهرت مدرسة جديدة في مصر هي المدرسة الطبيعية الواقعية الذاهبة مذهب التحليل عقب الحرب، وتمكنت أن تمد ظلالها على جاراتها في الشرق الأدنى. غير أن هذا لا يعني أن تأثير مدرسة المهجر تتلاشى. فلا يزال هنالك نفر من الأدباء والفنانين متأثرين بجو أدب المهجر في الشرق العربي، وفي مصر على وجه خاص حسين عفيف المحامي.
وكانت المدرسة الرومانسية المفرطة والمدرسة التحليلية الواقعية مركزين للتقاطب في الأدب العربي في مصر، وكانت موجة أدب المهجر تساعد على تمكين المدرسة الرومانسية المفرطة، وكان نتيجة ذلك الغلبة للمدرسة الرومانيسة المفرطة التي قلنا إن المنفلوطي يتزعمها.
كان المنفلوطي متأثرًا في لغته بابن المقفع وابن العميد من كبار المنشئين العرب، وفي فنه بجبران ونعيمة، ومن هنا كان يعتبر أدبه رد فعل لأدب المهجر من إطار الجو الأدبي في الشرق العربي، من حيث هذا الجو امتداد لآداب العرب القديمة. ولقد عالج المنفلوطي الأقصوصة أول ما عالج، ثم انصرف لتعريب القصص. غير أن نزعته الرومانسية المفرطة في إظهار العواطف والمشاعر والحنين والحب أثارت عليه حملة شديدة من زعماء المدرسة التحليلية الواقعية. ومن المهم أن نقول: إن آثار المنفلوطي تركت تأثيرًا فوق المتصور في العالم العربي؛ حتى لقد خفق قلب جيل كامل من دمشق بالشام إلى فاس بالغرب مع خفقات قلب ماجدولين.
أما المدرسة التحليلية الواقعية فقد بدأت وجودها من نفر من الكتاب التفوا حول الأستاذ أحمد لطفي السيد، الذي يعتبر في مصر منشئ الجيل الجديد، واتخذت هذه الجماعة جريدة «الجريدة» منبرًا لها، حتى كانت مفاجأة الحرب؛ فصرفتها عن أغراضها، فلما انتهت الحرب العظمى عادت الجماعة وانتظمت واتخذت جريدة «السياسة» منبرًا للإعلان عن أغراضها والدعوة لغاياتها. ومن أبرز رجال هذه المدرسة الدكتور محمد حسين هيكل باشا والدكتور طه حسين بك.
ومن الأهمية بمكان أن نقول: إن مدرسة لطفي السيد باشا بنزعتها التحليلية واتجاهها الواقعي صدت موجة الرومانسية المفرطة التي ظهرت في كتابات المنفلوطي، والتي كانت طاغية على الأدب المصري. كما أنها اتجهت باللغة نحو السهولة، واعتبرت الكاتب الحقيقي ليس من يستسلم للتلاعب اللفظي الذي ينساق إليه الذهن بحكم قاعدة التداعي، ولكن هو من يحسن إلباس الأفكار الجميلة ودقائق المعاني والصور لباسًا واضحًا تبدو عليه الطرافة والانسجام.
(٦)
وإلى جانب هذه المحاولات للارتفاع بفن المسرحية نحو المستوى الأوروبي العادي من ناحية محمد تيمور، كان خليل مطران — وهو من ألمع الشخصيات الأدبية في العالم العربي — يقدم للمسرح المصري تراجم لمسرحيات شكسبير الخالدة، وعلى وجه خاص لمسرحياته الثلاث «عطيل» و«مكبث» و«هاملت»، وكان محمد لطفي جمعه المحامي يحاول أن يضع مسرحيات عربية على نمط النماذج المسرحية في الأدب الفرنسي والإنجليزي، وكان يشاركه في هذه المحاولة إبراهيم بك رمزي وحسين بك رمزي.
وكان نتيجة ذلك نهضة عظيمة للمسرح المصري، ساعد عليها وجود ممثلين فنيين للمرة الأولى على خشبة المسرح المصري، فقد كان جورج أبيض وعبد الرحمن رشدي وعزيز عيد خريجي معهد التمثيل بباريس أو من الذين تتلمذوا على الخريجين، وكان تمثيلهم فنيًا جاريًا على قواعد التمثيل الفنية، فتأثر بجو تمثيلهم نفر من الذين استهواهم المسرح المصري، فكان نتيجة ذلك جيل جديد درس التمثيل على أصوله، ووجد من المسرحيات ما يظهر على أساس من الفن من المسرح، غير أن هذه النهضة سرعان ما انتكست وتغلب التمثيل الحر على التمثيل الفني.
وكان انصراف الكتاب عن المسرحية سببًا في ضعف الأدب المسرحي بمصر، وعلى حساب هذا الضعف قوي شأن القصة والأقصوصة..
غير أن هذه المحاولات كانت بدائية في ميدان القصص حتى جاء محمود تيمور عام ١٩٢٥ وشق طريقه للحياة الأدبية بمجموعة قصصية تحمل اسم «الشيخ جمعة»، ومن ذلك التاريخ ظهر له مجموعة من القصص أهمها «الحاج شلبي» ظهرت عام ١٩٣٠، و«الشيخ عفا الله» و«أبو علي عامل أرتست» وقد ظهرتا عام ١٩٣٤، و«الوثبة الأولى» و«قلب غانية» ظهرتا عام ١٩٣٧، وهذه المجاميع تحتوي على أكثر من خمسين أقصوصة له. كذلك لمحمود بك تيمور قصة طويلة «الأطلال» نشرها عام ١٩٣٤، ومن الملحوظ أن فن محمود تيمور في قصصه وأقاصيصه قريب من المذهب التحليلي الواقعي، وهو على جانب كبير من الاقتدار في التصوير والوصف، ويظهر جليًا من دراسة آثاره أنه متأثر بآثار أميل زولا وجي دي موباسان وتشيكوف.
ولقد كان لجهود محمود تيمور في فن القصص أن بدأ دورًا جديدًا في تاريخ الأقصوصة في الأدب المصري الحديث.
وإلى جانب هذه المحاولة كان إبراهيم عبد القادر المازني يقدم تجاربه اليومية في إطار قصصي بتحليل نفسي عميق وروح تهكمية خفيفة، ولقد جمع المازني من هذه الأقاصيص مجموعتين: الأولى تجدها ضمن «صندوق الدنيا» الذي صدر عام ١٩٢٩، والثانية ضمن مجموعة «خيوط العنكبوت» التي أصدرها عام ١٩٣٥.
ثم جاء الدكتور إبراهيم ناجي فأظهر ميلًا لكتابة الأقصوصة، فنشر مجموعة قصصية عام ١٩٣٥ عنوانها «مدينة الأحلام»، وفي هذه المجموعة تقف على أقاصيص فنية، ولكن نتيجة للطبيعة الحيوية العاطفية خرجت هذه الأقاصيص ذات نزعة رومانيسة يشوبها شيء من التحليل للمشاعر والعواطف والإحساسات.
وكان أثر هذه المحاولات كبيرة في الأقصوصة في الأدب المصري المعاصر؛ إذ أقامت الأقصوصة مكانًا بين ضروب الأدب، وكان نتيجة ذلك أن تحول الرافعي — زعيم المدرسة القديمة في الأدب العربي الحديث — إلى أدب الأقصوصة مستقلًا لنفسه بمذهب خاص. وأوضح ما يكون فن مصطفى صادق الرافعي في كتابه «وحي القلم» الذي جمع ما نشره على صفحات مجلة الرسالة في السنين الأخيرة من حياته.
(٧)
إلى جانب هذه المحاولات للارتفاع بشأن الأقصوصة في مصر كانت هنالك محاولات تقابلها للارتفاع بشأن القصة. وقد قلنا إن القصة التاريخية انتهت قبل الحرب العظمى في العالم العربي إلى ما ابتدأت به وجودها على يد جورجي زيدان، وظلت القصة التاريخية لا تجذب اهتمام أحد من الكتاب المصريين حتى عهدنا هذا، بعكس القصة التحليلية الواقعية التي وجدت في شخص إبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد من يرتفعان بها إلى الحد العادي في الآداب الأوروبية.
نشر المازني عام ١٩٢٩ قصة «إبراهيم الكاتب»، وفي هذه القصة نجح الأستاذ المازني في تقديم مجموعة من التحليلات النفسية العميقة، غير أن الحركة التي هي شرط أساسي في القصة مفتقدة في هذه القصة. فمن هنا لا يمكننا أن نعتبر هذه القصة ذات أثر في الأدب القصصي وهي لا تخرج في قيمتها عن تلك القيمة المحدودة التي لقصة «زينب» التي كتبها الدكتور هيكل باشا قبيل الحرب العظمى.
أما العقاد فقد نشر عام ١٩٣٧ قصة «سارة» وفي هذه القصة تتجلى طبيعة العقاد. تلك الطبيعة الواقعية الآخذة بأسباب التحليل، ومن هنا كانت براعة الأستاذ العقاد في تصوير الخلجات النفسية، ولقد كتب العقاد قصة «سارة» في شيء من الحرية في تصوير الخلجات النفسية والمشاعر والإحساسات الذاتية، ويمكننا أن نفهم سر هذا الاتجاه من العقاد إذا لاحظنا أن الطبيعة الواقعية التحليلية إذا أحيطت من الأسباب المدنية والاجتماعية المتقلقلة ما أحيط بالعقاد انقلبت إباحية، ومن هنا يمكن فهم الإباحة في أدب العقاد والهجو على اعتبار أنها تابعة لنزعة أخرى هي الطبيعة الواقعية الآخذة بأسباب التحليل، وهذه هي الصفة الأساسية من نفس الأستاذ العقاد، أما قصة «سارة» فيمكن أن تعتبر أحسن ما في الأدب العربي من القصص الواقعي التحليلي، غير أن التناقض في تصوير الخلجات والجفاف في العرض، بمعنى جفاف الحيوية في أسلوب التعبير لا تقف بها عالية كثيرًا عن قصة «زينب» للدكتور هيكل باشا.
ولقد وجدت القصة التحليلية الواقعية في مصر اهتمامًا كبيرًا، فقد وجه لها إبراهيم المصري ونقولا يوسف شيئًا كبيرًا من جهودهما؛ فكتب الأول منهما مجموعة عنوانها «الأدب الحديث» عام ١٩٣٢ وفي قصة مثل ضمن إطار من الملاحظات النفسية الدقيقة حرص المرأة اللعوب على الاحتفاظ بسرها الذي يقض عليها مضاجعها، ذلك سر عمرها الذي تعمل كل الجهد لتكون حقيقة نهب الشكوك، كما أن نقولا يوسف كتب مجموعة من القصص جيرها قصة «إلهام» التي نشرها عام ١٩٣٨، وهي قصة تحليلية واقعية نجح نقولا يوسف من تقديم مجموعة من التحليلات النفسية العميقة مستنزلة من إدراك سليم دقيق لنظريات علم النفس.
فإذا تركنا مصر الأقطار العربية تجد الأستاذ كرم ملحم كرم من أدباء لبنان عناية بالأدب التحليلي الآخذ سمت الواقعية، وهذا أجلى ما يكون في قصته «المصدور» التي هي قصة إنسانية استمد وقائعها من الحياة، فاستنزلت حقيقتها في تحليل عميق ونزول لأغوار النفس البشرية القصية.
فإذا تركنا القصة التحليلية إلى القصة التاريخية، وجدنا أن التطور الذي لحقها لم يرتق بها إلى الحد الذي تقف بها على قدم المساواة مع بقية ضروب الفن القصصي. وخير المحاولات التي ظهرت في القصة التاريخية تلك المحاولات التي جرج بها محمد فريد أبو حديد؛ فلقد كتب قصة تاريخية نشرها عام ١٩٣٠ عنوانها «ابنة المملوك»، وفيها صور عصر المماليك في مصر تصويرًا دقيقًا. سلسل حوادثها تسلسلًا فنيًا، وصاغها في أسلوب قصصي رائع، غير أن الحيوية تفقدها، ومن هنا لا يمكننا أن نعتبر هذه القصة خطوة كبيرة إلى الأمام بفن القصة التاريخية.
أما القصة الاجتماعية فلم تجد في مصر من يعنى بها سوى نقولا الحداد، الذي أظهر نشاطًا في ميدان القصص، إذ نشر أكثر من عشرين قصة. والغرض الاجتماعي في القصص طاغ على المواقف القصصية وعلى ما يستلزمه فن القصص من الحبكة والاسترسال، وأما في سورية ولبنان فالقصة الاجتماعية لم تظهر إلا في آثار كرم ملحم كرم بقوة مستنزلة من الأدب التحليلي الآخذ سمت الواقعية. وخير قصص كرم ملحم كرم الاجتماعية. قصة «بونا أنطون» التي صدرت عام ١٩٣٧، والأستاذ كرم ملحم كرم في قصصه يبدو فنانًا متملكًا ناحية الفن القصصي. وهذا أوضح ما يكون في خلقه لشخوص قصصه، ومنحى عرضه لفكرة قصته، وتحليله لنزعات شخصيات قصته، ويكاد يكون الأستاذ كرم ملحم كرم الأديب اللبناني الوحيد المعاصر الذي له فن في كتابة القصة.
وهنالك بعض المحاولات البدائية في القصة الاجتماعية، أذكر منها محاولة رشاد المغربي في قصة «خطيئة الشيخ»، غير أن هذه المحاولات وإن نزلت من ضرب القصة الاجتماعية، إلا أنها لا تقف بجانب آثار كرم ملحم كرم، غير أن هذا لا يمنع بعض التحليل العميق الذي يخرج به الناقد من دراسة هذه القصة، مما يثبت مقدرة كاتبها على التحليل النفسي.
فإذا انتقلت من سورية ولبنان إلى المهجر لم تجد ما يسترعي النظر في أدب القصص غير محاولات إلياس قنصل في كتابة القصة من ناحية الشرائط اللازمة لقيام القصة الفنية، ومن خير قصص إلياس قنصل قصته الأخيرة التي صدرت عام ١٩٣٨ بعنوان «صديقي أبو حسن»، والأستاذ إلياس قنصل صاحب فن في تصوير الشخصيات ومعالجة الوصف والتحليل وتهيئة البيئة القصصية، وهو من هنا صاحب فن حقيقي في قصصه، وهو يعطينا في قصته «صديقي أبو حسن» تصويرًا دقيقًا وتحليلًا نفسيًا عميقًا لشخص «أبو حسن» محور القصة.
ونحن إذا لاحظنا كل هذا ونظرنا إلى توفيق الحكيم فإننا نجده كقصاص يقف على قدم المساواة مع كتاب القصة من الطبقة الأولى في العالم العربي، جنبًا إلى جنب مع العقاد والمازني وهيكل وطه حسين؛ فقصتا توفيق الحكيم «عودة الروح» و«عصفور من الشرق» يتجلى فيهما فنه القصصي ومقدرته على كتابة القصة وطبيعته الفنية.
٨
في سورية ولبنان نهضة ذات أعرض بينة، ومن هنا فهي أوضح وأجلى الخطوط من النهضة الأدبية في مصر، ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن النهضة الأدبية في مصر قامت بانتهاء الحرب العظمى بقيام المدرسة التحليلية الواقعية، ولكنها تأخرت في سوريا ولبنان نتيجة للأحداث السياسية والانقلابات التي أثرت على الجو الأدبي والفكري في القطر السوري واللبناني بضع سنين، وما انكشفت هذه الأحداث حتى انتظمت النهضة الأدبية في لبنان على أساس وإن تأخرت في سوريا لعدم الاستقرار إلى يومنا هذا، وكان مظهر هذه النهضة في لبنان قيام حركة أدبية بانت أغراضها في ميدان القصة في أثر كرم ملحم كرم وفي ميدان الأقصوصة فيما كتبه خليل تقي الدين وتوفيق ى. عواد ولطفي حيدر ويوسف غصوب، وهذه الجماعة انتظمت في لبنان في ندوة تعرف بندوة الاثني عشر، اتخذت جريدة «المكشوف» منبرًا تدعو منها لأغراضها.
هذه المدرسة الجديدة في لبنان هي التي تسيطر على مجرى الأدب القصصي فيها وتشكل عصر أدب التنظيمات في الجمهورية اللبنانية. وأبرز رجال هذه المدرسة في فن القصص خليل تقي الدين، وله مجموعة من القصص نشرها عام ١٩٣٧ بعنوان «عشر قصص»، ومن أهم الأقاصيص التي كتبها أقصوصة «نداء الأرض» و«سارة العانس»، وفي هذه الأقصوصات يبدو خليل تقي الدين ذلك الفنان الذي برع في التصوير والتحليل للشخصيات وإبراز مشاعرهم وإحساساتهم وعواطفهم. وهو يختلف عن توفيق ى. عواد صاحب «الصبي الأعرج وقصص أخرى» في أن تحليله للشخوص قائم على حيوية الأسلوب ورسم المشاعر والعواطف في الذهن عن طريق حركات الأشخاص بعكس توفيق ى. عواد الذي يحلل الشخوص تحليلًا نفسيًا عميقًا، ومن هنا جاءت براعته في الأقصوصة وإلى جانب هذه المحاولات القصصية من هذه المدرسة، تجد محاولة لكتابة القصة من فلسطين مبعثها أديب ناشئ هو محمود سيف الدين الإيراني صاحب «أول الشرط»، التي تضم مجموعة من الأقاصيص الفنية، خيرها أقصوصة «نداء البدن» و«رغيف خبز» و«صراع»، وهذه القصص تبين أن صاحبها ذو نزعة تحليلية آخذ سبيلها نحو الواقعية الطبيعية وذات أغراض اجتماعية تهذيبية.
أما في المهجر فالمحاولات في فن الأقصوصة غير واضحة المعالم. وليست على جانب من الأهمية، وهذا ما يمكن أن يقال للمحاولات البدائية لكتابة الأقصوصة في العراق باستثناء جهود أنور شاؤل صاحب «الحصاد الأول» الذي أصدره عام ١٩٣١ محتويًا على نيف وثلاثين أقصوصة، ومحاولات محمود أحمد السيد القصاص العراقي، تلك المحاولات التي لا تقل عن المحاولات التي نراها في كتابة الأقصوصة في مصر أو لبنان.
أما فن المسرحيات خارج مصر فهي ضعيفة، ولم يصدر منها شيء بعد الحرب العظمى يتسرعي النظر، مما عدا المسرحية الشعرية «بنت يفتاح» لسعيد عقل من ندوة الاثني عشر والتراجيد الشعرية «سلوى» للدكتور علي الناصر من حلب، وقد صدرت عام ١٩٢٨ من دار العصور بالقاهرة، والمسرحية الساتيرية «محاكمة الشعراء» لعمو أبو ريشة من حلب، وهذه الآثار كلها من الشعر؛ فهي من هذه الناحية أدخل لفن الشعر منها لفن المسرحيات.
أما في مصر فقد نجح شوقي بك والدكتور أبو شادي والدكتور فوزي أن يحملوا الشعر العربي فن المسرحية، ولكن لم تكن محاولتهم شيئًا يذكر بجانب ما في آداب الأمم الأوروبية. أما في ميدان النثر فقد نجح توفيق الحكيم في أن يرتفع بفن المسرحية إلى أفق أعلى من المستوى العادي للمسرحية في الآداب الأوروبية، ومن هنا يمكننا أن نقول إن مصر بمحاولات توفيق الحكيم حازت قصب السبق في ميدان الفن المسرحي على بقية بلدان العالم العربي، وارتفعت بالأدب المصري من الحدود المحلية إلى آفاق رحيبة واسعة.
وإذا كانت مصر قد أخذت لنفسها الزعامة في ميدان الفن المسرحي في دائرة النثر في العالم العربي، فإنها لم تتفوق في الميدان الشعري على جاراتها، فمسرحيات شوقي بك والدكتور أبو شادي لا تتميز على مسرحية «بنت يفتاح» لسعيد عقل، ولربما تفوقت الأخيرة من ناحية الشاعرية الظاهرة في هيكل المسرحية.
ولقد أتى بعد توفيق الحكيم نفر، كتبوا عدة مسرحيات، غير أن كتاباتهم لم تظهر جديدًا على ما ظهر من الفن المسرحي في مصر عقب الحرب العظمى، فهي من هذه الناحية تنزل دون مسرحيات الحكيم، وتقف على قدم المساواة مع مسرحيات عصر أدب التنظيمات الذي بدأ وجوده عام ١٩١٨ في مصر. لهذا لا يمكن الحكم بأن الأدب دخل في طور جديد على يد توفيق الحكيم، وأن عصر أدب التنظيمات اختتم بظهور مسرحية «أهل الكهف» لتوفيق الحكيم عام ١٩٣٣، إلا إذا أظهرت مصر كتابًا مسرحيين يقفون على قدم المساواة مع توفيق الحكيم، أو يخطون خطوة إلى الأمام من الحدود التي ترك المسرحية عندها الحكيم.
أما في القصة فلا يتميز الحكيم بشيء كثير على كتاب القصة في مصر وسوريا ولبنان والمهجر، الشيء الذي يثبت أن القصة في الأدب العربي تقدمت تقدمًا محسوسًا وتوازنت في مختلف أقطار العالم العربي على أساس يكاد يتساوى، غير أن هذا لا يعني أن القصة في الأدب العربي انتهت إلى ما انتهى إليه الفن المسرحي على يد توفيق الحكيم.
وخلاصة القول أن فن القصة والأقصوصة والمسرحية نشأ في الأدب العربي الحديث على الوجه الذي كشفنا عنه في الخطوط السريعة التي رسمناها تحت التأثير المباشر للآداب الأوروبية، ولم تكن في وقت من الأوقات امتدادًا للأدب العربي القديم حتى يصح اقتراض أصل لها في فن المقامة والقصص الحماسي أو الحوار، كما هو عند عمر بن أبي ربيعة كما يريد بعض الباحثين تقديره.
بعض المراجع
-
Brockelmann Carl, Geschichle der Arabiachcn Literatur Bdl- lls Edham l. A., Der Roman in dcr neurcn Arabischen Litcratur, in.
-
Z. R. G. J., Bxxxv (1935) S 39–38 ff.
-
Khemeri, Tahir and Prof. Kampffcmeyer, Lcaders in Contem- porary Arabie Literatur 1930 Krackoskiy, lgnaz, Der historischc Roman in der neuren Ara- bischcn Litcratur Rescher. B. Abrib dcr Arabischen litteralurg schiohte, 1925.
-
Widmcr G. Mahmud Taimur, Agyptsche Erzahlungcn, 1932.
-
محمود تيمور: نشوء القصة وتطورها ١٩٣٦.
-
لويس شيخو: تاريخ آداب العرب في القرن التاسع عشر ١٩٢٦.
-
دائرة المعارف الإسلامية — باللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والترجمة العربية.
-
مجموعة مجلات «الهلال» و«المقتطف» و«العصور» و«الحديث» و«الشرق» و«أبولو» و«المجلة الجديدة» و«المعرفة» و«المكشوف» و«العصبة» و«الشرق» و«الأندلس الجديدة» و«السائح» و«مصر الحديثة المصورة» و«مجلتي».
-
Zictschrift der Dcutschhcn Morgcnlandischen Gcssclacha Bd I-LXXXXll Dic Wclt des Islams Bd l-XlX
-
Oricnto Modcrno. Vol l-XVlll
-
Bulletin of thc School of Orictal Studies of London, Vol l-XlV Mitteilungen des scminars fur Oricntalischc
-
Sprachcn zu Bcrlin, Bd l xxxxl
-
Rcvuc de l. Acadcmic Arabc, Damaskus
-
Riaista dcl Siudi Oricntali
-
Thc journrl of the Royale Asiatie Soeiety of Greal
-
Berlin Vol 1900–1908
-
Journal Asiatipue, Paris, 1922–1938
القصة Roman والأقصوصة Conte كلاهما يدخل تحت باب واحد؛ هذا الباب هو فن الباب القصصي. انظر: بحث دقيق عن استعمال كتاب العربية للفظتي قصة وأقصوصة في مجلة المكشوف بيروت م٤ (١٩٣٨) وانظر: المقتطف. عدد فبراير ١٩٣٢ ص١٣٣ حيث يستعمل الكاتب لفظة الرواية مقابل novel والقصة مقابل Conteوانظر: محمود تيمور في ويدمر في دراسة عن محمود تيمور القصاص المصري، ص٩، الهامش رقم ٦، حيث يستعمل الأقصوصة عربيًا مقابل Conte فرنسيًا وStory إنجليزيًا، والقصة مقابل Roman فرنسيًا وNovel إنجليزيًا.
ومن المهم أن نقول: إن القصص والمسرحيات في الأدب العربي القديم تافهة الموضوع، ويستحسن أن ينظر في ذلك ما كتبه عباس محمود العقاد في كتابه «الفصول»، وما نقله عنه ويدمر في دراسته عن محمود تيمور القصاص المصري، ص١٥. كذلك انظر: خليل مطران في «المقتطف»، م٨٢، ج٤، أبريل ١٩٣٣، ص٥٠٠.