توفيق الحكيم «حياته — شخصيته — أعماله الأدبية — آراؤه»
١
فلما اتصلت أسباب الزوجية بين هذه الفتاة وإسماعيل الحكيم حاولت هي بما أوتيت من قوة شخصية أن تؤثر في بعلها فتجذبه من صفوف طبقة الفلاحين، وكانت وسيلتها لذلك التأثير عليه باسم التمدن لقطع أسباب الصلة بينه وبين مجموع آله من الفلاحين، وقد نجحت هي في محاولتها إلى حد كبير.. لم يكن كل النجاح عائدًا إليها، إنما تضافر على تحقيق أغراضها ضعف شخصية إسماعيل الحكيم من جهة، ورغبته القوية من جهة أخرى للاندماج في جو طبقة الحكام من المتتركين، لهذا سرعان ما تقطعت أسباب الصلة بين ماضي إسماعيل الحكيم وحاضره. وكان هذا الانقطاع قويًا على قدر الاندماج في المحيط الجديد. غير أن هذا لم يقض على الطبيعة الأولى من نفسه، فكانت تظهر خلاله الأولى وفطرته التي جبل عليها مغالبة عوامل التهذيب والتمدن التركي، ومن هنا كانت حياة الرجل نضالًا بين طبيعته الأولى التي ركب عليها وبين الحياة الجديدة التي تضطره أن يلبس مظاهر طبيعة جديدة ليحيا بها في محيطه الجديد، وكان هذا النضال يقصر أحيانًا على شخص الرجل، فيأخذ مظهر صراع في نفسه بين القديم الذي جبل عليه من طباع الفلاحين والجديد الذي أخذ به من خلال المتتركين، وكان هذا الصراع أحيانًا يمتد إلى خارج نفسه؛ فيتصل بمجرى الحياة الزوجية بين الزوجين، وكان هذا كله يترك أثرًا ثابتًا في محيط الحياة الزوجية، ويلونها بلون خاص. وتحت تأثير هذا الجو نشأ الطفل توفيق الحكيم وترعرع فتأثر، فكان لهذا التأثير أثره في تكييف نفسيته وتقويم ذاتيته على نمط خاص.
٢
ولما كان نظام التربية التركية من أشد نظم التربية تضييقًا على الإنسان ونزعاته ورغباته وأكثرها حفظًا على التوارث من التقاليد؛ فقد كانت الوالدة تبذل كل جهدها لأن تصب الطفل توفيق في قالب يتكافأ وأغراض مثل هذا النظام من التربية، غير أن حيوية الطفل وطبيعته المرنة التي لا تألف إلى قالب ولا تركن إلى منوال، كانت تجعله يفلت من بين يديها، يساعد الطفل على هذا محيط العائلة المتقلقل، ولم يكن هنالك من سبيل أمام الأم لتصل إلى أغراضها إلا أن تعمد للطفل توفيق فتمنعه عن الاختلاط بأبناء العزبة من الأولاد الفلاحين، فكان نتيجة ذلك أن عاش توفيق الطفل أيام الطفولة في عزلة، فكانت الأرجاع التي تأخذ مظهر ألعاب الطفولة؛ نتيجة لغريزة اللعب التي تفسر الطفل عليها عند أقرانه من الأطفال تأخذ عنده طريقًا داخليًا، إذ تتحول لرجوع داخلية يحاول الطفل معها اكتشاف المحيط الذي يحيا فيه، ومن الصور التي يخرج بها من معالجة حسية بطبيعته كان يترك لميوله النظرية في اللعب أن تعبث بها.
ولقد تحولت هذه الميول الفطرية للعب عند الطفل توفيق عن طريق منحى المعالجة الحرة للأشياء إلى تخيل بنائي وإيهام، وفي هذا التخيل والإيهام كأن الطفل يجد مخرجًا ومنفذًا لميوله التي سدت عليها الطريق في الحياة الواقعية بالنظر إلى القيود التي وضعتها نظام التربية التي فرضتها والدته عليه. وكان هذا التخيل والإيهام سببًا في أن يقف الطفل توفيق في حياته عند تجاربه الناقصة في الحياة، فيعمل على استعادة صورها، ولا يكتفي بذلك، بل يعمد لتنظيمها من جديد على حسب قاعدة التداعي، وكان يخرج بصور جديدة، وهكذا كانت الألعاب التي تقسر الطفل عليها غريزة اللعب عند الإنسان تأخذ مظهرًا من الألعاب الفكرية، ولهذا كانت حياته ذهنية محضة في طفولته، ولهذا أيضًا لم يكن الطفل يميل إلى الجري والقفز كبقية أقرانه من الأطفال.
٣
ولقد خرج الطفل توفيق من مصاحبته لأفراد التخت مغرمًا بالغناء والموسيقى، فحفظ كثيرًا من الأدوار الشعبية، تلك كانت تدور على أفواه أفراد الشعب المصري قبيل الحرب العظمى.
في ذلك الوقت كان عمر توفيق قد كامل السابعة، وأصبح في السن التي تؤهله للذهاب إلى المدرسة. والتحق الطفل توفيق بمدرسة «دمنهور» الابتدائية. وفي محيط المدرسة وجد الطفل منفذًا لرغباته وميوله، فاندمج في جوها واتصل بالطلبة. وكان شعوره بعد هذا الاتصال نحو جو العائلة الأرستقراطي الجامد التفرد؛ لهذا رأينا الطفل يخفي حقيقة أسرته ومقام والديه عن أقرانه من الطلبة؛ حفظًا لامتداد شخصيته من جهة، ونفرة من الجو الأرستقراطي الجامد الذي كان يحياه أبواه … وأكمل الصبي توفيق تعليمه الابتدائي حوالي عام ١٩١٥.
ولم تترك المدرسة في نفسه أثرًا أكثر من إفساحها لرغباته وميوله المجال للنشاط إلى حد أوضح مما كان في المنزل يقدر عليه، ولا شك أن مناهج التعليم الجامدة اصطدمت مع طبيعة ذهنية الصبي المرنة، ولا شك أيضًا أنه تغلب عليها حتى جاز سني دراسته دون توقف.
٤
أكمل توفيق الحكيم تعليمه الابتدائي عام ١٩١٥–١٩١٦، وقد استقر قرار والده أن يدخله مدرسة ثانوية، ولكن «دمنهور» ليس بها مدرسة ثانوية، فما العمل؟ كان رأي والده أن يوفده للقاهرة فيلتحق بمدرسة ثانوية؛ ليعيش تحت رعاية أعمامه وعمته الذين ينزلون القاهرة، ولكن والدته وقفت تعارض حينًا وتقول: كيف يكون ذلك؟ كيف يستأمن أعمامه الفلاحون عليه، ولكنها بعد قليل من الأخذ والرد نزلت عند رأي زوجها قائلة:
وماذا يكون توفيق، إنه لم يخرج عن كونه فلاحًا مثل أعمامه، ورأى توفيق هذا من والدته؛ فذكر مواقفها السابقة منه ومن والده حسين؛ كانت تقف تعيرهما بأنهما فلاحان، وشعر بثورة داخلية على ذلك الدم الأسيل الذي يجري في عروق والدته.
وسافر توفيق إلى القاهرة.
في هذا الجو عاش توفيق نيفًا وثلاث سنين وهو يتدرج في صفوف التعليم الثانوي. وكان جو العائلة مما جعل لميوله أن تأخذ طريقها الطبيعي، فلم يكن الوسط العائلي الجديد الذي يحيا فيه فارضًا عليه نظامًا من الحياة يلتزم أن يحياها، أو مجموعًا من التقاليد مضطرًّا للمحافظة عليها. كان وسطه العائلي الجديد بما هو عليه من التسبب يترك له كل الحرية في التفكير والعمل، فكان يتصرف طبقًا لميوله والأغراض التي استقلعت على أساس معين خرج به من سني الطفولة نتيجة للمحيط العائلي الأول الذي اكتنفه، فكان الصبي توفيق في محيطه العائلي الجديد بين أعمامه يشعر بروح تدفعه للاندماج معهم في جوهم، لأن هذا الاندماج قائم على حفظ الشخصية حرة من القيود، وقد وجد توفيق في هذا الاندماج ما يساعده على الخروج من صدفة نفسه ومد شخصيته نحو الخارج.
وكانت حياة الصبي توفيق في هذه الفترة شاعرية خيالية، غرام بالشعر وخاصة ما كان منه رقيقًا يتناول مسائل الوجدان والشعور. وكان هذا التحول سببه تفتح غريزة الجنس عند الصبي توفيق يدلفه إلى حياة المراهقة.
في ذلك الوقت، وتوفيق الحكيم في الخامسة عشرة من سني حياته، وفي السنة النهائية من القسم الأول من التعليم الثانوي، عرف توفيق معنى الحب، فكان له أكبر الأثر في حياته.
٥
اتصلت أسباب الصلة بين عمة توفيق وبين أسرة تجاورهم سكنهم، وبها طبيب متقاعد، كان ملتحقًا بالجيش المصري الذي فتح السودان، وكان لهذا الطبيب فتاة جميلة ذات غنج ودلال في السابعة عشرة من عمرها، تكامل نموها وبدأت المرأة فيها، ذاتيتها من وراء الفتاة العذراء الخفره وكان نتيجة هذه الصلات أن كانت الفتاة تأتي لتزور عمة المراهق توفيق الحكيم، وحدث أن كانت زيارتها وأفراد الأسرة بالمنزل، فتعلق بها كل مدفوع برغباته، غير أن الفتاة شغلت من ذهن الفتى الحكيم حيزًا كبيرًا وشعر الفتى بامتدا ذاتيته نحوه وفنائه فيها، وما شعر إلا ويده امتدت غفلة عن الناس إلى منديلها فأخذته من على سطح الدار، وكان في منديلها للفتى معنى الأنثى التي أخذت مشاعر الفتى تتحول إليها نزولًا على أحكام التطور في نفس المراهق، وكان الفتى يحس بشعور طاغ عليه يجعله يفكر في فتاته، وكان يحس بفراغ في قلبه وذاته محاول أن يجد ملأها في المطالعات، وكانت مطالعة الشعر صدى هذا الإحساس، وإذ به يستقر بمطالعاته عند ديوان مهيار الديلمي لما في شعره من الرقة، وإذا بالفتى يكثر من مطالعة الشعر الوجداني، فيشغف به ويجد في ذلك ما يفرج بعض الشيء عن عواطفه الجياشة نحو فتاته.
وفي ذلك الوقت تتداخل الظروف وحدها مع الصدف فتصل بين الفتى وفتاته، وتقوم هذه الصلة على الغناء والموسيقى، الفتى يعلم فتاته الغناء والفتاة تعلم فتاها العزف على البيان. وتقوم هذه الصلة سببًا لتغذية شعور الفتى وإحساسه من ناحية فتاته وتبادله الفتاة شعوره وإحساسه ببعض الشعور، غير أن الجو الخيالي الذي عاش فيه الفتى نتيجة انعزاله عن الناس والحياة المجردة الذهنية التي عاشها تجعله لا يعرف كيف يوقظ في فتاته شعورها وعواطفها من الأعماق، وقد يكون لصغر الفتى من جهة وعدم تكامل رجولته في ذلك الحين سببًا لأن تنصرف الفتاة عن فتاها، ويعلق قلبها بشاب يجاورها السكن وينزل في نفس الدار الذي ينزل فيه الفتى توفيق وأعمامه.
شعر الفتى توفيق بانصراف حبيبة قلبه عنه. أو قل شعر بعدم مبادلتها شعوره بشعور مثله. فنال هذا الإحساس من نفسه. فأزجى به لعالم الشعر، متغزلًا في حبيبته.
وهكذا بدأ الشاعر من وراء شخص الفتى، غير أن هذه المحاولات الشعرية ذهبت في ثورة غضب، إذ دفعها الفتى إليها حتى تقطعت أسباب صلته بحبيبته.
وأتى عام ١٩١٩ وذهب الفتى يقضي إجازة منتصف العام عند والديه. غير أنه بقلبه ومشاعره بالقاهرة عند ملكة فؤاده ينتظر منها تأكيدًا لحبها له، ويؤوب الفتى إلى القاهرة وهو فرح لإمكان رؤيته محبوبته، غير أنه سرعان ما يصطدم بالحقيقة المرة، انقطاع أسباب الصلة بين من يحب وبين عمته. ويحدث أن تعمد عمته إلى خدش شرف فتاته أمامه فيكون لذلك وقع الصاعقة عليه فلا ينام تلك الليلة إلا متقطعًا لا يأخذه الكرى حتى ينتبه منفوضًا على الحقيقة المرة.
ويغدو الفتى توفيق فإذا فتاته بعيدة عنه بعد نجوم السماء، وقد تصرمت الصلات بين عمته وبينها، ويفقد الفتى بانقطاع هذه الصلات آماله في لقائها، وهذا جعله يغرق في طيات ذاته ويعصر قلبه ومشاعره في تخيلات، فتنبت به الصلة بين عالمه الداخلي الذي غرق فيه والعالم الخارجي الذي يكتنفه، وتكون نتيجة ذلك أن ينصرف عن دروسه، فلقد كان يقبل عليها بأمل، فلما تقطعت آماله تقطعت آماله فكيف يقبل عليها.
ولقد دفع هذا المصاب الفتى إلى أن يستجير بحاميته الطاهرة السيدة زينب، ولكن لا حاميته تجيره فلا تدفع عنه النازلة ويشتد بالفتى الأمر فيسوء حاله ويشحب لونه ويقل كلامه، وهنا يضطرب أعمامه فيشيرون على الفتى — وقد عرفوا سره — بأن يذهب لملاقاة مالكة فؤاده في منزلها، وكأنه ليس على علم بما صارت إليه العلائق بين عمته وبينها، فإذا فاتحته بأمر عمته معها، فليس عليه إلا أن يعتذر لها عن نفسه بأنه غير مسئول عن جريرة عمته إن كانت أخطأت!
نزل هذا الاقتراح من قلب الفتى توفيق منزلة القبول، وإذا به في منزل فتاته، بعث إليها جاريتها تطلعها بقدومه، وهو يحسب ألف حساب وحساب لظهورها. وتطلع عليه فتاته جامدة عازمة على مقابلته بجفاف، ولكن منظره يبعث في قلبها الشفقة فتلين الكلام له ويذهب الفتى توفيق يحدثها عن أمره منذ افترق عنها ليقضي فترة الإجازة عند والديه إلى الساعة التي مثل فيها أمامها ويذكرها بأيامه معها ويستعيدها ذكرياتها، ولكن الفتاة عنه في عالم، فقد ملك قلبها ذلك الجار، ويحس الفتى بأن قلب فتاته قد انصرف عنه وإن مقابلته ستكون الأخيرة، فلا يملك نفسه فيجهش أمامها باكيًا، ولكن الفتاة في شغل عنه وعن بكائه بالتفكير في حبيبها، ويخرج الفتى على عجل بعد أن يترك لها مجموعة من الأوراق جمعت ما قاله فيها من الشعر والنثر.
٦
قامت الثورة المصرية في مارس سنة ١٩١٩ فحركت مشاعر الشعب وعواطفه، فاندمج في حركات الثورة رغم صغر سنه. وكان اشتراكه فيها مما يلهب عواطفه ويثير عليه حواسه ويذكي الحماسة في قلبه، وتحولت به عواطف حبه نحو محبوبته إلى حب بلاده ومعبودها الزعيم سعد زغلول.
وفي هذه الروح الوطنية الجديدة، التي استولت على مشاعر الفتى، نسي توفيق حبه، أو قل وجد في انفجار الشعوب القومي امتداد عواطفه المكبوتة.
وقبض على الفتى وأعمامه واعتقل في القلعة بالقاهرة بتهمة التآمر، ووصل الخبر لأبيه في بلدته دمنهور، فأسرع إلى القاهرة وأخذ يستعين بنفوذه ليفرج عن ابنه وإخوته، ولكن السلطات العسكرية لم تتساهل ومانعت، غير أنه بعد سعي كبير نجح في أن ينقل توفيق وأعمامه من معسكر الاعتقال بالقلعة إلى المستشفى العسكري.
وظل الفتى توفيق الحكيم مع أعمامه رهين المستشفى فترة من الزمن حتى انتهت حركات الثورة، بأن أفرج عن زعيم مصر سعد زغلول الذي كان معتقلًا بجبل طارق، فكان نتيجة ذلك أن بدأت السلطات العسكرية تفرج عن المعتلقين، ومن ضمن من أفرج عنهم الفتى توفيق وأعمامه.
وخرج الفتى من معتقله بالمستشفى العسكري، وذهب إلى حيث تقوم عزبة والده على خط دمنهور بالجيزة، إذ كانت المدارس قد عطل التعليم فيها والامتحانات ألغيت، وكان نتيجة ذلك أن نجح الفتى من وصمة العار الذي كان مقدرًا له بالسقوط في امتحان الكفاءة، الذي كان مقدرًا له دخولها في تلك السنة.
وخرج الفتى من معتقله حاملًا ذكريات حبه، وقد راض الحب نفسه وجعله يتفتح للفن ممثلًا في ضرب الشعر منه.
ومن الأهمية بمكان أن ننظر إلى تصرفات الفتى في تلك الفترة، فإننا نجده في سلوكه نازعًا منزع تخيل وتجريد راضه إليها طبيعته الحسية التي أخذت بأسباب التخيل نتيجة انسحابه لحدود نفسه.
وهذا المنزع جعله يأخذ العالم أخذًا تجريديًّا ويرجع بالظاهر المحسوس إلى الخفي الذي وراء المحسوس، ولهذا كان شديدًا في إيمانه بالغيب، ومن إيمانه بالغيب كان يستنزل عقيدته الدينية واعتقاده في الخرافات والأساطير، نتيجة لما في محيطه من مظاهر تلفت الفكر وتستوقف النظر. ومن هنا كانت عقلية توفيق الحكيم عقلية فطرية غيبية تنزع للغيب والإيمان بالطلاسم.
غير طبيعة توفيق الحكيم المرنة تحمل في تضاعيفها القدرة على التحول، فليس من العجيب أن كان الأستاذ الحكيم في يوم من الأيام يخرج على الدين والمعتقدات المتوارثة، ولكن مع فرض هذا إيمانه بالغيب أن يتزعزع واعتقاده في حاميته الطاهرة السيدة زينب بنت الرسول لن يضعف، لأن في الإمكان الثورة على المتوارث من العقائد، ولكن ليس في الإمكان الخروج على الطبع الذي انطبع الإنسان عليه.
انتهى توفيق الحكيم من هذه الفترة من حياة المراهقة إلى شيئين؛ الأول: أن انصرف للفن نتيجة للتسامي بعواطفه الجياشة، والثاني: الخلوص بذهنية غيبية تأخذ الأشياء المحسوسة من وراء المحسوس، وهذه نتيجة للحياة الفردية التي عاشها والتي جعلته ينظر العالم من خلال ذهنه مجردًا، وقد قوت جذور هذه الذهنية حبه الذي جعله يغرق في طيات ذاته وينكمش على نفسه. غير أن الفتى عام ١٩٢٠ عاد إلى القاهرة ليكمل دروسه، وفي تلك السنة نال إجازة الكفاءة. ثم درس عامين في القسم الإعدادي ونال عام ١٩٢١ إجازة البكالوريا المصرية.
ولو ترك الطالب توفيق لطبيعته لالتحق بكلية الآداب، فقد كان يحس بميله للفنون والآداب ميلًا طبيعيًّا منذ يفوعته، ولكن والده شاء أن يلحقه بمدرسة الحقوق، ولم يكن أمام توفيق الحكيم إلا أن يرضخ لإرادة أبيه، ويدرس الحقوق. وكان في سني دراسة الحقوق طالبًا عاديًّا لا ينم عن ذكاء أو اقتدار لأن نفسه لم يكن تشعر برغبتها في الانكباب على الدراسة الحقوقيقة، فكان لهذا طالبًا عاديًّا في مدرسة الحقوق. حتى كان عام ١٩٢٥ فنال الطالب توفيق إجازة الليسانس.
ولا شك أن تحول الفتى توفيق من فن الشعر إلى فن المسرحية كان نتيجة للتأثر بالموجه المسرحية الطاغية على الأدب المصري التي ابتدأت عام ١٩١٨ بمسرحيات إبراهيم بك رمزي ومحمد لطفي جمعه وفرح أنطون، وانتهت عام ١٩٢١ بمسرحيات محمد بك تيمور، ومما لا ريب فيه أن الفتى توفيق كلف بالمسرح المصري، فكان لا ينقطع عن حضور الحفلات التمثيلية التي تقيمها الأجواق التمثيلية في مصر، وقد كان عددها قد كثرت عقب الحرب العظمى.
وهذا الجو أنضج في الفتى إحساسه الفني وجعله قادرًا على إجراء الحوار وإحكام البيئة وتحريك الشخوص، وكان نتيجة ذلك تلك المحاولات البدائية في فن المسرحيات. ولا شك أن وجود توفيق الحكيم في القاهرة بعيدًا عن رقابة والدته وأبيه، كان يترك له حريته الشخصية في العمل، لهذا ملك توفيق أمره، وعرف كيف ينمي في نفسه المقدرة على كتابة المسرحية ووضعها، ولو كان توفيق بدمنهور في ذلك الحين، أو كانت والدته ووالده بالقاهرة لكان توفيق افتقد أهم ركن وحادث أثر في مجرى حياة وأزجاه للفن المسرحي.
٧
ولقد وجدت نفسية الشاب توفيق في جو المحيط الفرنسي بغيته ففتحت.
كان توفيق قد استقر في فرنسا في إحدى ضواحي باريس النائية عند أسرة من الأسر الفرنسية التي يشتغل جميع أفرادها في أحد المصانع، وكان توفيق يقضي أيامه هنالك يطالع ويتأمل ويغرق في تصوراته وخيالاته ويمضي وقته بين الاستماع للموسيقى والقراءة حتى عرف الجميع عنه ذلك.
قضى توفيق في هذا المكان ستة أشهر، وكان تردده على المسارح ودار الأوبرا الملكية نتيجة تعلقه بالموسيقى والتمثيل سببًا لأن يعلق قلب الفتى توفيق بعاملة في شباك تذاكر مسرح الأوديون بباريس.
غير أن طبيعة الشاب توفيق الخيالية جعلته يكتفي منها بالنظرة من بعيد حيث يجلس على مقهى أمام مسرح الأوديون. وكثيرًا ما كان ينصرف عنها توفيق الحكيم لمطالعاته يجد في ذلك ما يشغل عواطفه ورأسه. ولكن كانت تثور أحيانًا نفسه على الكتب ويقول: «هل الرأس كل شيء في حياة الإنسان؟»
كتب هذه المسرحية توفيق عام ١٩٢٦ في المقهى القائم أمام مسرح الأوديون والذي يشرف على شباك التذاكر حيث تعمل محبوبته، وهذه المسرحية هي المحاولة الفنية الأولى من توفيق الحكيم لكتابة المسرحية من طرائق الفن المسرحي كما عرفه الأوروبيون. وفكرة هذه المسرحية تبين الجو الخيالي الذي حبس توفيق الحكيم نفسه فيه.
ويدعو موقف توفيق الحكيم وهو جالس أمام مسرح الأوديون على مقربة من فتاته إلى ذهنه صورًا من حياته في القاهرة بين أعمامه، وكيف كان عمه الذي نزل القاهرة عند إخوته بعد أن أوقف في بور سعيد مدة عام، يجلس بحي السيدة زينب على المقهى شاخصًا بأبصاره إلى دار تلك الفتاة التي علق بها قلبه في صباه، ويدعو هذا الموقف إلى ذهنه ذكريات حبه الأول، فيذكر أن القدر الذي وضع مسكنه ومنزل أعمامه في القاهرة إلى جانب مسكن تلك الفتاة التي علق بها قلبه هي التي جعلت للفتاة مكانًا في قلبه، وهنا يبرق في ذهنه بارق يضيء له مستقبله، ذلك أنه لا سبيل إلى الوصول إلا فتاته إلا قرب المسكن أو الجوار، ومن هنا يعزم توفيق على أن يعرف مقر سكنها حتى يعمد إلى تهيئة الأسباب التي تصل بينه وبينها، والسبيل إلى ذلك أن يتبعها عند خروجها من المسرح بعد الانتهاء من عملها حتى يعرف مقرها.
ويعمد توفيق إلى فكرته فيحققها، وإذا بفتاته تنزل نزلًا هو «فندق زهرة الأكاسيا» في حي «بورت دي ليلاس» وإذا بالفتى ثاني يوم ينزل الفندق في حجرة فوق حجرة فتاته. ما يكتشف الفتى ذلك حتى يثب قلبه وينبض ويتولاه الفرح، فيهرع الفتى إلى ارتداء ملابسه وينزل إلى ردهة الفندق ينتظرها عند خروجها من الفندق إلى المسرح ويراها دانية منه فيسرع إلى التقدم إليها ويرفع قبعته يحيها.
وهكذا يصل الفتى توفيق إلى إيجاد الصلة بينه وبين فتاته في جو أقرب إلى التمثيل منه إلى ما هو جار في الحياة الواقعة. وإن كان هذا ليدلنا على شيء من نفسية توفيق، فإنما يدلنا على روحه ونفسيته الخيالية التي لا تعرف كيف تركن للواقع إلا في جو من الخيال والتمثيل.
٨
اتصلت أسباب الصلة بين توفيق في هذه الآونة بعامل روسي وجد فيه توفيق شريكًا له في تصوراته المجردة وتفكيره الصوفي، فلقد كان المحيط الأوروبي نتيجة للآثار التي تركتها الحرب العظمى فيها يغلي بمختلف الفواعل، والصيحة ارتفعت من مفكرته أن المدنية الأوروبية على شفا جرف هار. ولقد كان مد الموجة المادية على أوروبا نتيجة للحرب أن شعر الناس بالحاجة إلى غذاء روحي، في ذلك الوقت تطلع الناس إلى الفن كالسبيل الوحيد لإنقاذ المدنية الأوروبية والسمو بالنفس الإنسانية، غير أن بعض الأشخاص الأوروبيين استقوى في نفوسهم الميل نحو التجود إلى حد دفعهم للنظر إلى الشرق وروحانياته كسبيل إلى إنقاذ الحضارة. وكان من هؤلاء الخياليين ذلك العامل الروسي.
وكان توفيق إذا ما انتهى من فتاته وملاقاتها يتصل برفيقه العامل الروسي يقضيان الوقت والحديث عن المدنية الأوروبية وروحانية الشرق.
من هذه الفترة خرج توفيق الحكيم بإيمان ثابت في الروح الشرقية ووجوب المحافظة عليها أمام كتلة الروح الأوروبية.
لقد نزل الفتى توفيق بحبه من عالمه الخيالي إلى العالم الواقعي، ولكن بعد أن تضاءلت قيمة الحب عنده. وهذه نتيجة لاصطدام الواقع الذي لم يألفه مع الحياة الخيالية التي ألفها.
ووجد توفيق في نزوله بحبه من عالمه الخيالي إلى العالم الواقعي فترة لها لذاذتها. لقد كان يستيقظ كل يوم على قبلات فتاته ويفتح عينيه وموجة من الشعر الجميل تغطي وجهه، وعاش توفيق الحكيم حياة مطردة وقائعها مع فتاته، ينام إلى الضحى وينهض في تراخ ويخرج إلى مطعم «الأوديون» بجوار المسرح ينتظر فتاته لتناول الغداء ثم يبقى معها حتى موعد فتح شباك التذاكر في منتف الثالثة، فيتركها ليعود إليها ساعة العشاء في المطعم، ثم يذهبان بعد أن تفرغ من عملها إلى الملاهي أو يخرج معها للضواحي للنزهة. ونسي في حياة الواقع كتبه وغرامه بالفن والأدب.
ويحني الفتى توفيق رأسه للقدر ويخرج من حبه الثاني ولكن بعد أن ظفر على يد تلك الفتاة بالكشف عن جانب من الجوانب المجهولة في كيانه. ويتعلم على يديها أن حياة الواقع أضيق من أن تتسع لحياة إنسانية مثل حياته التي انطبعت على الخيال، ويعمد إلى مغادرة المنزل ويستقر إلى جانب زميله العامل الروسي في المنزل الذي يقطنه.
ويعود الفتى إلى سمائه التي هبط منها، إلى العالم الخيالي الذي كان يعيش فيه والذي نزل منه إلى حياة الواقع على يد فتاته.
نعم لم يستقر توفيق في حياة الواقع أكثر من شهر ولكن كانت هذه الفترة كافية لتبين له أن الواقع أضيق من أن تتسع له حياته.
لقد عرف أن مستقبله في ذلك البرج العاجي الذي يحبس نفسه فيه، حيث الصفاء بعيدًا عن الناس. ويحس الفتى بحاجته في برجه إلى الفن ليرتفع ويحلق ويصفي نفسه مما علق به من الأرضيات في حياة الواقع التي عاشها شهرًا من الزمان، فيتردد على «الكونسير» في مسرح «شاتليه»، ويجد في مصاحبة فاجنر وبيتهوفن وشومان وشوبير وأعلام الفن من الموسيقيين ما يغذي روحه ويرتفع بنفسه ويصفيها.
في ذلك الوقت يذهب توفيق في مقارنة بين حياة الواقع التي يحياها الأوروبيون والحياة التجريدية التي يحياها أهل الشرق فيخرج بفلسفة عجيبة عن الشرق والغرب. ويجد من صاحبه العامل الروسي ما يؤيده في اعتقاده، وإلى «الحياة المجردة» يقف نفسه توفيق الحكيم يدعو الناس إليها.
في التجريد يرى توفيق الحكيم قرارة «الفن» و«الدين» حيث تصفو النفس وترتفع في جو عال سام تعيش فيه، وهو يرى هذا التجريد في الغرب في «الفن» وفي الشرق في «الدين».
في هذه الحياة المجردة حيث يقوم عنصر الخيال حرًّا، كان يرى توفيق السبيل للحياة الإنسانية أن تعتصم ضد العالم الواقعي القائم في الرغام.
في ذلك الوقت رجع توفيق الحكيم لقصة حياته في صباه وطفولته يحوك وقائعها في عرض قصص، ومضى في غايته إلى حد كبير وهو يكتبها بالفرنسية، ثم عاد لها يرويها بالعربية فكانت قصته «عودة الروح».
لقد روى توفيق الحكيم نفسه في قصته «عودة الروح» التي ظهرت عام ١٩٣٣ وسلك طريقًا ملتوية لهذا الغرض، غير أننا لو دققنا النظر إلى العناصر الروحية في قصته وجدنا رابطة قوية تعود إلى عنصر أساسي واحد، هو شخص توفيق الحكيم، كل صفاته ظاهرة وآراؤه واضحة غير أنه أحيانًا يخلعها على لسان شخوص أخرى.
ومن هنا وحده صح لنا استنزال شخصية الحكيم وتحليلها من قصته في الفقرات الأولى من هذا الفصل.
٩
لقد كان توفيق صارفًا كل انتباهه إلى منحى نسج المسرحية في متابعته للمسرحيات في دور التمثيل بباريس، كما كان منتبهًا إلى وجه تهيئة الجو المسرحي في كتابة المسرحية في المسرحيات التي يطلع عليها، فكان له من كثرة الارتياض في متابعة قوالب المسرحيات أن خلص بقالب كلي في المسرحية، شخصي، نتيجة طبيعته المميزة بمقدرتها على التمثيل، ومن هذا القالب كان يستنزل مسرحياته.
وكانت أولى المسرحيات التي استنزلها «أمام شباك التذاكر» وهو حديث العهد بفرنسا وبفن المسرحية الأوروبي، وفي هذه المسرحية تبدو تباشير فن توفيق الحكيم المسرحي، ثم كان أوائل صيف عام ١٩٢٧ فكتب القطعة الأولى من قصصه التي خرجت في مجموعة «أهل الفن» عام ١٩٣٤ تحت عنوان «العوالم».
ولم يمسك توفيق الحكيم القلم ليكتب مسرحية إلا بعد عودته للقطر المصري، حيث استقر بالإسكندرية، واتخذ من إحدى مقاهي ضاحية الرمل مكانًا مختارًا لنفسه، يحيك وهو جالس فيها وقائع مسرحية «أهل الكهف» التي صدرت عام ١٩٣٣ وأحدثت ضجة أدبية كبرى واشتهر معها أمر توفيق الحكيم.
لقد ذهب توفيق الحكيم إلى فرنسا ونزل مدينة النور وهو مؤمن بعالم الأحلام، يشعر دائمًا بامتداد حياته إلى عالم ما وراء المحسوس، حيث السماء. مؤمن بحماية السيدة زينب له وفضلها عليه في الملمات، كل نجاح في الحياة له من دفعة من يديها الطاهرتين لم يكن ينسى تلك الساعات التي كانت تتجهم له الحياة فيرى وكأن حاميته قد نسيته، والواقع أنه قد نسيها. ألم ينس كل هذا الفتى وقد ذهب إلى باريس، لقد كان يجد في إيمانه بها ما يصغي نفسه ويرتفع بها في مصر، ولكنه يجد في باريس — الفن — الشيء الذي يرتقي بنفسه، لم يبدل الفتى توفيق إيمانه الشرقي بالدين إلى إيمان غربي بالفن، وإنما عمل على أن يحوك بين الإيمانين، فكان صاحب إيمان مزدوج في الدين والفن، وكان مظهر إيمانه الديني اعتقاد في الحامية الطاهرة السيدة زينب، ومظهر إيمانه الفني اعتقاد في قدسية الفن وحياة فنية يحياها في آثاره الفنية.
لقد ذهب صاحب إيمان بالدين إلى أوروبا ورجع وقد زاد على إيمانه إيمانًا بالفن.
كان توفيق الحكيم يقضي أوقاته غارقًا في طيات نفسه، يحاول القيام بمجهود فني لرفع مستوى الفن في مصر، فكانت من ذلك كتابته لمسرحية «أهل الكهف» صيف عام ١٩٢٨.
ثم كان أن التحق بسلك القضاء المصري، في وظيفة وكيل للنائب العام في الأرياف، فتنقل بين مدائنها، بين طنطا ودمنهور والزقازيق. وفي طنطا كتب يومياته عن حياته كوكيل للنائب العام، تلك التي صدرت عام ١٩٣٧ حاملة اسم: «يوميات نائب في الأرياف». ولقد كان ذلك عام ١٩٣٣، وظل توفيق يشغل هذه الوظيفة من عام ١٩٢٩ إلى عام ١٩٣٤ حيث عين رئيسًا لقلم التحقيقات بوزارة المعارف العمومية.
ولقد أفاد حياته في الريف في أن يلاحظ الحياة في الريف المصري عن طريق احتكاكه بالجمهور، فكان لذلك أثر في فنه، إذ جعله يأخذ الواقع، وإن عاد به لطبيعته لما وراء المحسوس.
وفي الفترة التي مضت عليه وهو في ريف مصر وضع مسرحية «الزمار» و«حياة تحطمت» و«رصاصة في القلب» و«شهر زاد» و«الخروج من الجنة» كما كتب قصة «الشاعر» و«عصفور من الشرق». أما تواريخ كتابة هذه الآثار فغير معروفة على وجه التحقيق، إلا مسرحية «الزمار» التي كتبها في أغسطس عام ١٩٣٠ وهو بطنطا. وقصة «الشاعر» التي كتبها في مايو سنة ١٩٣٣ بدمنهور. ويستدل من مجرى القصة الأخيرة أن مسرحيته «شهر زاد» الخالدة كتب فصولها الأخيرة في باريس، ولكن متى؟ هذا ما لا يمكن الحكم فيه على وجه التحقيق. ومع هذا سنرى، وسنحاول أن نعرف في غير هذا المكان.
١٠
كانت حياة توفيق الحكيم نشاطًا في ميدان الكتابة والتأليف بعد أن اشتغل في وظيفة وكيل للنائب العام في ريف مصر، فلقد كانت الحياة العملية التي يحياها تجعله يحاول أن يرتفع منها إذا ما انتهى منها ورجع إلى نفسه عن طريق الفن. ولقد كانت أسطوانة من بيتهوفن أو فاجنر أو شومان كافية لأن ترجع بشخص توفيق الحكيم إلى عالمه الخيالي المجرد؛ فينشط للكتابة ليفرج عن نفسه في الجو الذي يخلقه بقلمه من حياة الواقع التي يحياها نهارًا في وظيفته.
إن حياة توفيق الحكيم صراع بين الواقع الذي يحياه بحكم عمله والخيال الذي يحيا فيه بالأحلام بحكم طبيعته.
هذا يمكننا أن تقوله عن فترة عمله كنائب في الأرياف.
لهذا ما وجد توفيق الحكيم وظيفة رئيس قلم التحقيقات بوزارة المعارف تنفتح أمامه، حتى ترك عمله كوكيل للنائب العام وشغلها، وفي هذا العمل الجديد وجد نفسه أكثر حرية واستقرارًا وهكذا عاد للحياة المجردة، حيث البعد عن العمل يضطره للمس العالم الواقعي.
ومن هنا يمكننا أن نقسر حياة توفيق الحكيم بأنها هروب من العالم الواقعي، ولواذ بالعالم التجريدي، عالم الأحلام والخيال.
لقد أصبح اليوم توفيق الحكيم من قادة الأدب العربي المعاصر وألمع شخصية في سماء الأدب العربي الحديث، ومع ذلك ترى أنه يتناول مشاكل الأدب العربي الحديث ومعضلات الحياة في مصر والعالم العربي تناولًا مجردًا خياليًّا.
ومن هنا كانت آراؤه تنتظم في سلسلة، أو هيكل سداه الخيال ولحمته الأحلام الجميلة.
لقد دخل الأستاذ توفيق الحكيم الحياة الأدبية، أو قل استهلها بمسرحية «أهل الكهف» عام ١٩٣٣. ثم أخرج من بعد ذلك التاريخ مجموعة من القصص والأقاصيص والمسرحيات تناثرت على ممر السنين من ذلك العهد إلى يومنا هذا. لقد صدر له «عودة الروح» عام ١٩٣٣ عن مطبعة الرغائب وصدر له في عام ١٩٣٤ في مارس منه «شهر زاد» عن مطبعة دار الكتب و«أهل الفن» عن مطبعة الهلال، ثم ظهر له «محمد» عن مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ومطبعة المعارف عام ١٩٣٦. كما ظهر له عام ١٩٣٧ مجموعة مسرحيات في مجلدين عن دار مكتبة النهضة. وكذلك «يوميات نائب في الأرياف» عن مطبعة لجنة التأليف والترجمة وعن المطبعة الأخيرة ظهر له عام ١٩٣٨ «عصفور من الشرق».
كما ظهر له بالاشتراك مع الدكتور طه حسين بك عام ١٩٣٧ عن دار النشر الحديث «القصر المسحور».
وله بعض المسرحيات والفصول مكتوبة في (مجلتي) و(الحديث) و(الرسالة) و(الأهرام).
وهذه المجموعة من الآثار الأدبية تحتل من المكتبة العربية الأدبية مقامًا في الطليعة والقمة، وسيكون موضوع البابين الثالث والرابع دراسة هذه الآثار الأدبية، وفن الأستاذ الحكيم كما يتجلى فيها.
ونحن إن كنا نذكر شيئًا هنا نختم به هذا الباب فذلك آراء الحكيم في الشرق والغرب، ومن حولها يدور كل أفكاره وآرائه في مسائل الأدب والفن والحياة.
نشأ الأستاذ الحكيم كما قلنا صاحب طبيعة تنزع به نحو التخيل والتجريد، لهذا عاش عيشة خالية محضة كلها أحلام وخيالات.
وهذه الحياة التي عاشها جعلته ينظر للحياة نظرة مجردة فيكلف بحياة الفن والدين التجريدية، ويجد في حياة الشرق الغيبية وجه صلة بهذه الحياة التجريدية، فيؤمن بالحياة الشرقية وينادي بتقوية كتلة الروح الشرقية أمام كتلة الروح الغربية.
إن الشرق حل معضلة أغنياء وفقراء. هذا لا ريب فيه. إن أنبياء الشرق قد فهموا أن السماوات لا يمكن أن تقوم على هذه الأرض، وأنه ليس في مقدورهم تقسيم مملكة الأرض بين الأغنياء والفقراء فأدخلوا في القسمة «مملكة السماء» وجعلوا أساس التوزيع بين الناس الأرض والسماء معًا. فمن حرم الحظ في جنة الدنيا، فحقه محفوظ في جنته الأخيرة. لو استمرت هذه المبادئ وبقيت هذه العقائد حتى اليوم لما غلى العالم كله في هذا الأتون المضطرم، ولكن «الغرب» أراد هو أيضًا أن يكون له أنبياؤه الذين يعالجون المشكلة على ضوء جديد. كان هذا الضوء منبعثًا هذه المرة من باطن الأرض لا آتيًا من أعالي السماء، هو ضوء العالم الحديث، فجاء نبي الغرب «كارل ماركس» ومعه إنجيله الأرضي «رأس المال» وأراد أن يحقق العدل على هذه الأرض، فقسم الأرض وحدها بين الناس ونسي السماء فماذا حدث؟ حدث أن أمسك الناس بعضهم برقاب بعض، ووقعت المجزرة بين الطبقات تهافتًا على هذه الأرض!
إن الخيال هو حلم الحياة الجميل، إن عالم الواقع الذي تعيش فيه أوروبا لا يكفي وحده لحياة البشر، إنه أضيق من أن يتسع لحياة إنسانية كاملة.
إن أوروبا لا تعرف غير حياة الواقع، لا تحب الحياة إلا في … الحياة … ولهذا أخشى أن تكون أوروبا موشكة على دفع الإنسانية إلى هوة. إن العلم الأوروبي ليس له من القيمة العملية غير قيمة «اللعب» المادية. وإن كان في أوروبا شيء فهو الفن الذي يحفظ حضارتها من أن تزول. أما الحضارة الصناعية التي تتميز بها أوروبا فقد أحالت القسم الأكبر من البشر آلات صماء. إن الشرقي ما زال يحس آدميته بالنسبة إلى الشيء الذي يصنعه بيديه. ومن هنا جاءت للشرق مزية أخرى. وفكرة التعليم العام الأوروبية ماذا فعلت غير أن هبطت بمستوى الذوق الفني العام. إنه أصلح لعقول الدهماء وقلوبهم من الدين … أما العلم الأوروبي فلا يخرج عن طريقة وأسلوب، طريقة عقلية مرتبة وأسلوب تفكير منتظم، ومن هنا لا يصل العالم الأوروبي إلا إلى مظاهر الحياة السطحية. أما قمم المعرفة البشرية فقد وصلت إليها أمم الشرق بروحانيتها ونظرها المجرد.
هذه آراء الأستاذ الحكيم في الشرق والغرب، تقرأ وراء سطورها خطرات الدوس هكسلي وشو وويلزوجيد وجورج دوهاميل في المدنية الأوروبية. والحضارة الغربية قد أفرغت في هيكل لتثبت تفوق الروح الشرقية ونزعة الشرق الغيبية. ومهما قيل في استنزال هذه الآراء وراء ما كتبه أعلام الفكر والأدب الأروبي، فما لا شك فيه أن هذه الآراء مثلتها نفس توفيق وهضمها ذهنه فاستنزلت من صميم نفسه، فمن هنا لا يمكن أن يقال إلا بأن المشابهة عرضية.
إن الفرق الذي يضعه الأستاذ الحكيم بين الشرق والغرب فيه شيء كثير من الصحة، الشرق يستنزل حياته من العالم ما وراء المنظور بعكس الغرب الذي يستنزلها من العالم المنظور، فمن هنا كان للشرق الدين وللغرب العلم.
ليس من شأننا التعليق على هذه الآراء، وكل ما يعنينا هنا هو إظهار الوحدة التي تتمشى بين هذه الآراء وتضمنها في هيكل متجانس ينزل من نفسية توفيق الحكيم، ومن الأهمية بمكان أن نقول إن إيمان توفيق الحكيم بالعالم الغيبي وبالحياة التجريدية يعصف بها ما شاب حياته من الاتصال بمجرى حياة الواقع.
فكان نتيجة ذلك اعتقاد بتسمم نبع الشرق الصافي وتلوثه بالروح الغريبة، ولكن نتيجة للروح التجريدية وحياة التخيل التي يحياها الأستاذ الحكيم تراه يقلب الروح الشرقية ويدعو لتقويتها وتصفيتها وإقامتها أمام كتلة الروح الأوروبية.
وإذا كان لنا أن نختتم هذا الباب بشيء فذلك أن هذه الحياة التي عرضناها لك في تفاصيلها نخلص من تضاعيفها بحياة تردد يحياها الأستاذ الحكيم، تجذبه قمم المعرفة نحو ثلوجها فيرتفع في اللوح، ثم تعود الحياة تكشف له عن عوالم من الجمال فينزل من برجه العاجي حيث يفتح قلبه … ثم تجذبه الأرض فيهبط فإذا به إنسان عادي.
هذا … مظهر من عدم التوازن في نفسيته، ومن هنا ترى حقيقة كون توفيق الحكيم «الفنان الحائر». هو حائر وسيظل حائرًا لأن حيرته تنزل من صميم نفسه نتيجة لعدم التوازن في مشاعره وعواطفه. وهذه الحيرة هي التي تعطي لفنه الطابع الشخصي.
بعض المراجع
-
(١)
عودة الروح: في جزئين — (٢٤٥–٣٣٤ صفحة) ١٩٣٣ مطبعة الرغائب. تمثل عهد الصبا من حياة توفيق الحكيم.
-
(٢)
عصفور من الشرق: (٢٣٣ صفحة) ١٩٣٨ مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، تمثل عهد الشباب من حياة توفيق الحكيم.
-
(٣)
يوميات نائب في الأرياف (٢٣٤ صفحة) ١٩٣٧ مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، تمثل عهد الحياة العملية الحكومية.
-
(٤)
مجموعة مجلات «مجلتي» و«المقطف» و«الهلال» و«الحديث» و«المجلة الجديدة» من سنة ١٩٣٣–١٩٣٨.
-
(٥)
مجلدات جريدة «الأهرام» من سنة ١٩٣٣–١٩٣٨.
-
(٦)
مجلدات جريدة «البلاغ» من سنة ١٩٣٣–١٩٣٨.
-
(٧)
مجلدات جريدة «المقطم» من سنة ١٩٣٣–١٩٣٨.
-
(٨)
مجلدات متفرقة من جريدة «المصري» و«السياسة الأسبوعية».
-
(٩)
Die Welt des Islam, 1933–1938 Bd viv- xix
-
(١٠)
Bulletn of the School of Oriental Studies 1933–1939 Vol IX- XIV
-
(١١)
ملحوظات مستقاة عن الأستاذ توفيق الحكيم والدكتور حسين فوزي.
-
(١٢)
مذكرات عامة مأخوذة عن الحياة الأدبية المصرية والأدباء المصريين في الفترة التي امتدت بين أكتوبر ١٩٣٥ وأغسطس ١٩٣٨ من أدباء الغربية في مصر نتيجة اتصالي بهم شخصيًّا.