توفيق الحكيم «آثاره وكتاباته»
١
ظهرت أولى مسرحيات توفيق الحكيم عام ١٩٣٣، ومن ذلك التاريخ ظهر له أكثر من عشرة آثار أدبية تناثرت على جبين السنين الخمس التي انقضت منذ نشر مسرحيته الأولى «أهل الكهف» ونحن إذ نتناول هنا آثار الأستاذ الحكيم بالبحث، فإنما نتناول كل أثر على حدة ونرسم خطوطًا سريعة عن فكراتنا الأولية عنها.
ظهرت الطبعة الأولى من المسرحية «أهل الكهف» عام ١٩٣٣ في طبعة أنيقة عن دار مطبعة مصر بالقاهرة. وقد طبع منها المؤلف عددًا خاصًّا وزع معظمه على خاصة الكتاب والأدباء وكبرياء الصحف والمجلات، فقوبل صدور المسرحية بضجة من كتاب مصر وقادة الأدب فيها، واعتبرها البعض قطعة من الفن الخالص، وكان الأستاذ الجامعي الدكتور طه حسين بك عميد كلية الآداب بالجامعة المصرية الآن أول من هلل للمسرحية فكتب عنها في جريدة الوادي: «إنها حدث في تاريخ الأدب العربي …» «وإنها تضاهي أعمال فطاحل أدباء الغرب». وأخذت المجلات والجرائد تتحدث عن مسرحية «أهل الكهف» وشخص صاحبها وأخذت جريدة البلاغ تكتب عنها: إنها شبيهة بآثار موريس ماترلنك ولا تقل عنها. وأن شخص كتبها ماترلنك مصر وهكذا في ضجة ثارت في الدوائر الأدبية ارتفع اسم توفيق الحكيم كأعظم كاتب مسرحي في اللغة العربية.
وأعيد طبع المسرحية بعد أشهر من الطبعة الأولى، وخرجت عن مطبعة الاعتماد للتداول بين الجمهور، وعلى هذه الطبعة نعتمد في دراستنا للمسرحية.
هذا الصراع بين المعاني في عالمها المجرد والألفاظ، جعلت المسرحية تخرج فاقدة بعض قوتها الأدائية، أداء المعاني والأخيلة.
ونحن لو نظرنا للمسرحية وأردنا أن نضعها في موضعها بين مسرحيات الأستاذ الحكيم، فإننا نجد بعض الصعوبة لأن المسرحية بهيكلها إن كانت تنزل من قسم المآسي فهي من هذا تنزل بجانب مسرحياته (شهر زاد) و(سر المنتحرة) و(الخروج من الجنة) فهي بلغتها تنزل في دورة من دورات تطور الأسلوب، مستقلة بذاتها، هذه الدورة هي دورة الكتابة للمرة الأولى أساليب الفن الصحيحة.
٢
وقد كتب توفيق الحكيم هذه القصة في اللغة الدارجة، أعني في اللهجة المصرية فظهر فنه واضحًا فيها.
والقصتان كما قلنا تاريخ حياة توفيق الحكيم، ولغة القصة الثانية «عصفور من الشرق» رصينة لأنها تنزل في تاريخ كتابتها في الطور الثالث من أطوار تدرج اللغة الكتابية عنده غير أن تشبيهاته واستعاراته قليلة ومن هنا الثروة البيانية ضعيفة في القصة، وإن كان لأسلوب توفيق الحكيم من ميزة هنا فهو الاقتراب من الدقة والتميز بالوضوح.
وما يمكن أن يقال عن آراء توفيق في الطبيعة المصرية في عودة الروح يمكن أن يقال عن آرائه في الشرق والغرب في قصته عصفور من الشرق، فهي آراء استوحاها الأستاذ الحكيم من الكاتب الفرنسي «جورج دوهاميل» ولا أدل على هذا من أنه استعار بعض عباراته وأتى بآرائه طرفًا موزعة على فصول كتابه.
٣
أما تاريخ كتابة المسرحية فمن المظنون أنه في الفترة بين سنة ١٩٣١ وسنة ١٩٣٣ يدل على ذلك لغتها، إذ تمثل الطور الثاني من أطوار تدرج اللغة الكتابية عند توفيق الحكيم، وذلك الطور الذي كتب فيه مسرحياته «الزمار» و«حياة تحطمت» و«الخروج من الجنة» و«رصاصة في القلب». ففي هذه الآثار كلها محاولة ظاهرة في العمل على مطاوعة الألفاظ للمعاني وإيجاد التطابق والتوازن بين المعاني في عالمها في الذهن وبين الألفاظ التي تستنزل من اللغة.
أم إنه كتبها قبل ذلك التاريخ؟!
إني أفترض لحل هذا الإشكال سفرًا للأستاذ الحكيم بين سنة ١٩٣١ سنة ١٩٣٣ إلى باريس، كتب خلالها الفصول الأخيرة من شهر زاد …
هذه المرحلة التي يعرض لها قصص «ألف ليلة وليلة» لم يعرض لها الأستاذ الحكيم، وإنما خلص منها إلى رحلة باطنة للملك شهريار، رحلة نفس متحجرة القلب غليظة الحس، عبد الجسد يبني كل ليلة بعذراء يستمتع بها وفي الصباح يقتلها، وكذلك كان ليلة استقبل شهر زاد يشتهي منها المتعة بالجسد الغض. حتى إذا سمعها تحدثه حديثها الساحر الممتع وتفتح له هذه العوالم من القصص والخيال والشعر، تفتحت مغاليق قلبه الموصد وتحرك جامده. فإذا هو يحبها وإذا بهذا الشهواني عبد الجسد يحبها حب القلب والوجدان. غير أن آثار العاطفة بدورها لا تلبث طويلًا حتى تخبو وتصفو إلى نور هادئ شاحب، فإذا بشهريار لا يأمن للشعور بل ينشد المعرفة.
هذه الأطوار النفسية التي يجليها توفيق الحكيم على مسرح قصته تبين لنا فكرة خروج الروح عن المادة واستعلائها عليها. ومن هنا كانت قصة (شهر زاد) عند توفيق الحكيم ليست قصة الخيال والبذخ والخرافة إنما هي قصة الفكرة والحقيقة العليا. واستنزال فكرة القصة على هذا الوجه مظهر لعبقرية توفيق الحكيم. إن شهر زاد في قصة الحكيم هي قصة الحياة التي يدخلها الإنسان وهو طفل يلهو، ثم يتدرج منها إلى رجل يشعر ويحس ويتركها كائنًا يتأمل ويفكر، ومن هنا تجد الصلة بين شخص الأستاذ الحكيم وشخص الملك شهريار كلاهما انغمر في المادة حتى شبع منها فانطلقت منه الصيحة: لقد شبعت من المادة … شبعت منها.
حقًّا الأستاذ الحكيم في هذه القصة بلغ قمة فنه، لقد عرف كيف يعرض إحدى المأساتين، مأساة الروح والمادة في هذه الحياة عرضًا فنيًّا، ذلك لأنه كان يعرض نفسه في هذه المأساة.
٤
- القطعة الأولى: وهي قصة «العوالم» كتبت في باريس في يونيو سنة ١٩٢٧.
- والقطعة الثانية: وهي مسرحية «الزمار» كتبت في طنطا في أغسطس سنة ١٩٣٠.
- والقطعة الثالثة: وهي قصة «الشاعر» كتبت في دمنهور في مايو سنة ١٩٣٣.
- القطعة الأولى: مكتوبة باللغة المصرية الدارجة، وهي تنزل في دورة واحدة مع كتابة «عودة الروح» والأقصوصة حكاية ثلاثة من الشباب تصادفوا مع تخت على قطار يغادر القاهرة إلى الإسكندرية، وفي الأقصوصة وصف دقيق لحركات تخت متنقل، وتصوير صادق لها، ولا شك أن توفيق استمد قدرته على الوصف والتصوير من ذكريات طفولته حين اندمج في جو ذلك التخت الذي كان ينزل كل صيف بيت العائلة، والاصطلاحات الخاص بطائفة «العوالم» والتي تعرف بلفظ «السيم» والتي تجد بعض تعابير منها في الأقصوصة هي نتيجة هذه الصحبة. ونحن يمكننا أن نفهم جيدًا هذه الحقائق إذا عرفنا أن لذكريات المؤلف وذاكرته يدًا في تكوين فنه وتلوينها، لأن الفن من حيث هو إبداع وإيجاد لا يخرج عن تأليف وتركيب لأشكال سبقت أن عرضت للفنان … ينسقها الفنان على صور وأوضاع جديدة، ولا شك أن هذه الأقصوصة من هذه الناحية تركيب وتأليف للأشكال التي وعاها الأستاذ الحكيم من طفولته نتيجة احتكاكه بالتخت.
-
القطعة الثانية: «الزمار» وهي مسرحية فيها عنصر فكاهي، وموضوعها يدور من حول ممرض مغرم
بالفن في بيئة ريفية يعثر على فنانة مغنية فيلتحق بركابها. ولغة المسرحية
هي المصرية الدارجة، كتبها الأستاذ الحكيم سنة ١٩٣٠ وهو حديث العهد
بالالتحاق بوظيفة وكيل للنائب العام في ريف مصر.
وفي هذه المسرحية تبدو طلائع فن الأستاذ الحكيم المسرحي وقدرته على إحكام السياقة وإجراء الحوار وتهيئة البيئة المسرحية، فهي من ناحية العرض مستوفية شرط كمال أسلوب العرض المسرحي كما اتفق عليه كتاب المسرحية، والمسرحية مفعمة بالحوادث والوقائع، وهي من هنا تثير في الإنسان الرغبة في مطالعتها من ناحية ما يؤخذ منها بالفكاهة.
وحوادث المسرحية ووقائعها، وإن كانت تافهة الموضوع، تجري في محيط ريفي بدائي فتصور قطعة من الحياة الريفية تصويرًا صادقًا إلا أنها قد أخذت من مزاج الكاتب لونًا فخرجت وكأن الوقائع والحوادث خطوط تتسلل منها إلى أعماق شخص «الزمار» بطل المسرحية، ومن هنا لنا أن نحكم بأن توفيق الحكيم وفق في مسرحيته أن يجلي شخص «الزمار» على مسرح القصة.
والعناصر الروحية في المسرحية، وعلى وجه أخص في شخص «الزمار» تجلي لنا بعض الشيء نفسية الكاتب من حيث إن صورة «الزمار» منسقة على أوضاع وصور تتفق مع البيئة التي حبكها الأستاذ الحكيم، وهي مؤلفة ومنسقة من ذكريات ومشاهدات الكاتب لتصرفاته، فهي من هنا خارجة من نفسه.
وسبب ذلك واضح في أن فن الأستاذ الحكيم فن ذاتي … ينبع من ذاته نتيجة لتعمقه في نفسه وانسحابه عليها، فتخرج تجاريبه كلها عن طريق نفسه بعد أن يحولها إلى طبيعته الأصلية بما له من المقدرة على التمثيل.
- أما القطعة الثالثة: وهي أقصوصة (الشاعر) فتدور فكرتها الأولية حول مونمارتر وشهر زاد، وهي في عرضها وأسلوبها تمثل مرحلة من مراحل تطور الكتابة الفنية عند توفيق الحكيم فأسلوبها ومنحى إدارة الكلام فيها والقدرة على صوغ الأفكار تعطينا المرحلة الثالثة، حين تمكنت كتابة توفيق الحكيم على أساس. وفي الأقصوصة آراء جديرة بالاعتبار عن (شهر زاد) وهي تعتبر مفتاحًا لدراسة المسرحية الكبرى (شهر زاد).١٨.
٥
لأن الفن إن كان هو التأليف والتركيب وسوق الأشياء في حيوية فلا يعاب على الأستاذ الحكيم كل هذا، من حيث إن كان ما كتب عن الرسول مادة خام ولبنات أساسية للفنان أن يستعملها في بناء الأثر الفني الذي يرغبه، ولا شك أن توفيق بطبيعته الفنية أخذ هذه المواد من مواضعها في كتب السيرة وساقها سوقًا فنيًّا ليخلص بأثر جديد من الفن، غير أنه ساقها من ناحية فن الحوادث كما وقعت مضطرًّا إلى ذلك لا مختارًا، فمن هنا كان ابتعاده عن طبيعته الفنية ومنحاه الأدبي.
ولغة هذه القصة المجلاة على نمط مسرحي، من أروع الأساليب في عمومها، عربيتها العربية الكلاسيكية، وسبب ذلك أن الأستاذ الحكيم آثر أن يسوق الكلام من نصه التاريخي كما جاء في كتب السير، فمن هنا كانت تلك الروعة البيانية والبلاغية في المسرحية.
والمسرحية من ناحية السياقة وإحكام الحوار والبيئة بالغة حدها وقد يكون أبرز ما للأستاذ الحكيم في كتابته سيرة الرسول على نمط من السيرة هذا العمل من إحكام الحوار والبيئة والبراعة في السياقة.
٦
في صيف عام ١٩٣٥ كان الأستاذ الحكيم والدكتور طه حسين بك معتكفين في ضاحية سالنش الباريزية من ريف فرنسا يشتركان في وضع قصة طويلة تدول حول شهر زاد، التي هي رمز كل ما كان وكل ما يكون وكل ما سيكون، ولقد تحدث الدكتور طه بأسلوبه البليغ الرائع عن القرية التي نزلاها وعن جبالها، ومن ثم أجلى قصته على مسرحها الطبيعي الجميل. وكان بدء حديث الدكتور طه عن «توفيق الحكيم»، وفي هذا الفصل الذي يكون رسالة «سمير شهر زاد» نقع على شيء من النقد لا يخلو من لذة أو فكاهة تناول بها الدكتور طه حسين الأستاذ الحكيم، وهو على ما هو عليه من أسلوب رائع في التهكم واللذع … قال عن لسان شهر زاد وهو يسألها لم لم تقض الشتاء في مصر فتجيب: «هو الذي ردني عن مصر بكتابة هذا — مشيرًا لمسرحية شهر زاد للأستاذ الحكيم — الذي لم أحبه ولا أستطيع أن أحبه … لأنه كشهريار لم يفهمني وما أظنه سيفهمني.» ومن هنا تقوم قصة شهر زاد حيث يتناولها الدكتور طه حسين بطرف من بيانه وأدبه والأستاذ الحكيم بطرف من فنه وسحره، والقصة ومن أولها لآخرها شرح وتفسير لمسرحية شهر زاد الخالدة، ومن هنا كانت أحاديثها عن طبيعة الأديب وضميره.
القصة كما قلنا مفتاح لدراسة «شهر زاد» في أفكارها، أما من ناحية الأسلوب والعرض فهي تمتاز بأنها جمعت أرشق أسلوبين في العربية. أسلوب طه حسين السهل الممتع الذي يحوي في طياته على أدق تهكم وأبرعه عرف في تاريخ الأدب العربي، وبيان الأستاذ الحكيم الساحر، ومن هنا كانت للقصة حياة في أسلوبها وقالبها فضلًا عما لها من حياة من ناحية معانيها وأخيلتها.
أما موضوع القصة فكما قلنا تدور بين المرأة التي تمثلت فيها حواء وبناتها جميعًا. وبين خيال الأديب الذي يختزن أجيال الماضي وأنحاء الدنيا في الساعة يحياها والمدى الذي تبصره عيناه، أما منحى العرض فهو من أسلوب القصة وتقرأ هذه القصة فإذا بك تنتقل من مشهد طريف فيه لهو وعبث إلى فكرة عميقة تمس الزمن والخلود. أو من كلمة هازلة فيها نقد وسخر، إلى بحث شائك يمس الدين والخالق.
وخلاصة القول أن في هذه القصة يبدو فن توفيق الحكيم في تمامه وأدبه في دقة أدائه، لأن هذه القصة تمثل الطور الحالي من أدبه حيث تطور أسلوبه اللغوي إلى التحكم في الألفاظ تبعًا للمعاني.
٧
لماذا أدون حياتي في يوميات؟ ألأنها حياة هنيئة؟ كلا! إن صاحب الحياة، الحياة الهنيئة لا يدونها، إنما يحياها. إني أعيش مع الجريمة في أصفاد وحدة، إنها رفيقي وزوجي أطالع وجهها في كل يوم، ولا أستطيع أن أحادثها على انفراد هنا، في هذه اليوميات أملك الكلام عنها، وعن نفسي، وعن الكائنات جميعًا. أيتها الصفحات التي لن تنشر، ما أنت إلا نافذة مفتوحة أطلق منها حريتي في ساعات الضيق!
وهذه اليوميات صرخة من رجل القانون والعدالة في مصر ضد هذا القانون المزعوم والعدالة المزيفة … صرخة من الصميم.
نشأ توفيق الحكيم، من أسرة أرستقراطية من الأم، وغنية ولكن من طبقة الفلاحين من جهة الأب، وعاش يرى كيف تمتهن أرستقراطية مزعومة لوالده، فنقم على روح التعالي ولكنه لم يخلص من فردية باعدت بينه وبين المجتمع، وجعلته ينظر إليه نظرات شخص يشارك الشعب آلامه ولكن من بين غدق السحاب، ثم كانت النزعة الغيبية عنده فاندفع يطلب للشعب حياة روحية تعلو عن معترك الحياة المادية، ومن هنا جاءت تهمة بيروقراطيته وأنه من طبقة الكتاب البرجوازيين، الذين يظهرون ألمهم لآلام الشعب زورًا ويعملون على تخديرهم. كل هذا قيل في توفيق الحكيم، ومنطق القائلين صحيح في النظر لو وقفنا عند الظواهر ولكن لو نظرنا إلى الأعماق، أعماق الرجل وشخصيته، لما تطرق إلينا شك في نبالة إحساسات الكاتب. ومن هنا نعتقد أن «يوميات نائب في الأرياف» قطعة من الأدب الإنساني بل قطعة فريدة في تاريخ الأدب العربي من الإنسانيات.
ولغة هذه اليوميات تعود للطور الثاني من أطوار تدرج أسلوب توفيق الحكيم الكتابي، ودراسة هذا الأسلوب واستخلاص العناصر الأساسية فيه تساعد الباحث على تقسيم آثار الحكيم إلى دوراتها التاريخية من حيث كتابتها.
وقد نشرت هذه اليوميات في مجلة «الرواية» التي تصدر عن دار مجلة «الرسالة» في مجلد السنة الأولى عام ١٩٣٧ ثم جمعت في كتاب خرج في قرابة المئتين والخمسين من الصفحات مطبوعة على ورق فخم في مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
٨
في ختام سنة ١٩٣٧ جمع الأستاذ توفيق الحكيم ما نشره من المسرحيات في مجلدين أخرجهما عن مكتبة النهضة المصرية في قرابة الستمئة من الصفحات، وهذه المجموعة تحتوي في كل مجلد على أربع مسرحيات، صدرت الأولى بمسرحية «سر المنتحرة» بينما الثانية صدرت بمسرحية «الخروج من الجنة» وكل هذه المسرحيات نشر ما عدا مسرحية «سر المنتحرة» ونشرها كان في مجلة (مجلتي) وذلك على التقريب في مجلد السنة الأولى.
أما مسرحية «سر المنتحرة» فجاءت في قرابة ١١٥ صفحة من الجزء الأول من مجلدي المسرحيات، وكانت في الأصل عنوانها «بعد الموت» كما يشير إلى ذلك الأستاذ توفيق الحكيم في صدر المسرحية ويظهر أن المسرحية كانت معدة للطبع من عام ١٩٣٣ بدليل ورودها في قائمة الكتب التي تحت الطبع التي جاءت بالصفحة الأخيرة من الجزء الثاني من قصة «عودة الروح»، ومما يزيد هذا الظن وثوقًا أن لغة المسرحية ترجع للطور الثاني من أطوار تدرج الكتابة الأدبية عند الأستاذ الحكيم، فهي من هذه الناحية كتبت في الفترة التي انقضت بين سنة ١٩٣١ وسنة ١٩٣٣، أعني في الفترة التي كان فيها توفيق الحكيم يشغل منصب وكيلًا للنائب العام في الريف المصري.
ولقد غيرت «الفرقة القومية» اسم المسرحية حين قامت بإخراجها وجعلتها «سر المنتحرة» وأخرجتها على مسرح الأوبرا الملكية وافتتحت بها الموسم التمثيلي لسنة ١٩٣٧، وقد اختلفت الآراء في المسرحية ومقدار هذا النجاح، غير أن هنالك شبه اتفاق أنها كانت ناجحة إلى حد أعلى من المستوى العادي. ومع هذا يمكن لمن يقرأ المسرحية أن يشعر بقوتها الدرامية ومقدار هذه القوة، لأن المسرحية قطعة من التراجيدا — المأساة — والتراجيدا يمكن الشعور بقوتها الدرامية من مجرد التلاوة.
وهذه المسرحية تدخل في عداد المسرحيات الأولى لتوفيق الحكيم، تلك المسرحيات التي خلدته ككاتب مسرحي، وتدور فكرة هذه المسرحية من حول فكرة الزمان والعمر وأثرهما على النفس البشرية، غير أن إبراز الفكرة جعلت شخوص المسرحية تتناقض في حركاتها، مما قد يحمل هذا على انقسام شخصياتها واختلاف المنازع التي تحركها.
وتلي هذه المسرحية في المجموعة مسرحية «نهر الجنون» التي نشرت في الأصل بعدد ١٥ يناير سنة ١٩٣٥ بمجلتي ثم جمعت في مجموعة المسرحيات وهي ترجع بتاريخ كتابتها إلى نفس الفترة التي كتبت فيها مسرحية «سر المنتحرة»، وفكرة هذه المسرحية قديمة كتب فيها في العربية جبران خليل جبران والدكتور شبلي شميل غير أن للحكيم في المسرحية شخصية تظهر في السياقة وإدارة الكلام وإحكام الجو المسرحي.
وتقوم بعد هذه المسرحية في الجزء الأول من المسرحيات مسرحية كوميدية في ثلاثة فصول هي «رصاصة في القلب» وهي نشرت في الأصل على ثلاثة أعداد من «مجلتي» في مجلدها الأول في الأعداد الثلاثة الأولى منها. والمسرحية قائمة في كل سطر منها على عنصر الفكاهة التي تستثير الباعث على الضحك ومن هنا كان جانب الملهاة فيها.
أما مسرحية «جنسنا اللطيف» والتي يختتم بها الكاتب الجزء الأول من مسرحياته فقد نشرت في الأصل بعنوان «بنات بلادي» في المجلد الأول ص١١٧٧–١١٩٢ من مجلتي بالعدد الحادي عشر. وقد كتبت في الشهور الأولى من عام ١٩٣٥ بالقاهرة وهي مسرحية عصرية تمثل نزول المرأة ميدان الحياة العملية ووقوفها فيها موقفًا ممتازًا وتتقدم فيه عن موقف الرجل في بعض الساحات.
أما الجزء الثاني من المسرحيات فكما قلنا مصدر بمسرحية من الرتبة الأولى هي «الخروج من الجنة» وقد نشرت في الأصل باسم «الملهمة» بالعدد الثامن والتاسع والعاشر من المجلد الأول من مجلة مجتلي، وهذه المسرحية مستنزلة خطوطها من قصة لأبي نواس مع عنان جارية الناطفي، ومن المهم أن نقول إن هنالك صلة بين شخصيات هذه المسرحية وشخصيات شهر زاد، فشخص عنان تقابل شخص شهر زاد، فبينما أنت ترى شهر زاد تقول لشهريار: إنك تبقي علي لكونك تجهلني. في المنظر الثاني، ترى عنان تبعد مختار عنها خوف أن يعرفها فيملها، وذلك في المنظر الثالث من المسرحية، وهذه المشابهة ليست عرضية، إنما تتصل بالعناصر الروحية التي تكون المرأة. أما شخص «مختار» في المسرحية فعناصره الروحية وما هو عليه من تباين وتخالف في النوازع النفسية، إنما يستحضر في الذهن شخص توفيق الحكيم، لهذا نعتقد أن شخص مختار يمثل توفيق الحكيم تمثيلًا دقيقًا وخصوصًا لناحية التردد نتيجة تباين التوازع النفسية فيه.
أما مسرحية «أمام شباك التذاكر» فقد سبق أن أشير إليها في موضوع آخر مع مسرحية الزمار وقد نشرت المسرحية «أمام شباك التذاكر» في المجلد الأول من مجلة «مجلتي» كما أن الزمار نشرت في مجموعة أهل الفن.
ومسرحية «حياة تحطمت» التي يختتم بها توفيق الحكيم جزئي المسرحيات فهي في أربعة فصول وخمسة مناظر، وهي من نوع المأساة وقوتها الدرامية يشعر بها الإنسان من مجرد تلاوتها، غير أنها لا تقف على أساس من المساواة مع مسرحيات «شهر زاد» و«أهل الكهف» أو «سر المنتحرة» وهذه المسرحيات لم يسبق لها النشر قبل خروجها في مجموعة المسرحيات.
وإلى هنا لنا أن نقف في استعراض آثار الأستاذ توفيق الحكيم.
٩
أما وقد انتهينا من استعراضنا الإجمالي لآثار توفيق الحكيم إلى هذا الحد فلنا أن نختتم هذه الدراسة باستعراض لما كتبه توفيق الحكيم في الجرائد والمجلات ولم يجمع بين دفتي كتاب بعد.
وقبل كل شيء يجب أن نلاحظ أن لتوفيق الحكيم مسرحية من نوع الملهاة في ثلاثة مناظر عنوانها «مجلتي في الجنة» نشرتها له مجلة في ملحق فصل الربيع من «كليوباترة» التي تصدرها، وهذه المسرحية تدور حول شخص الصحافي المصري المعروف أحمد الصاوي محمد صديق توفيق الحكيم الحميم، إذ تجليه على مسرح القصة بروحه الصحافية وهو يغادر الجنة ليظفر بحديث لأهلها من سكان الجحيم، وهذه المسرحية تمتاز بإظهار ما للأستاذ الحكيم من مقدرة على الدعابة البريئة.
هذا ولتوفيق الحكيم مسرحية صغيرة عنوانها «الساقون الثلاثة» نشرتها له مجلة «الحديث» الحلبية التي يصدرها الأستاذ سامير الكيالي في العدد الممتاز من مجلدها الثامن ص٣٧–٤٤ وتمتاز هذه المسرحية بروحها الخفيفة الفكهة وبمحاوراتها الدقيقة.
هذا وقد نشر توفيق الحكيم في مجلة «المهرجان» التي تصدر عن القاهرة قصة عنوانها «عدو المرأة» وفي هذه القصة نقف على بعض التحليل لعداوة توفيق المزعومة للمرأة، ويمكن الاستفادة في هذا الموضوع بإجابة توفيق الحكيم عن سر عداوته للمرأة، تلك الإجابة المنشورة في كليوباطرة ملحق عدد الشتاء من مجلتي ص١٥–١٧ و٢٤.
ولتوفيق الحكيم فصل عن مونمارتر منشور في كتاب باريس لأحمد الصاوي محمد، وقد نشرته مجلة «الحديث» في عدد أغسطس من السنة السابعة ١٩٣٣ وهذا الفصل يكون القسم الثالث من أهل الفن، وفي العدد الممتاز من سنة ١٩٣٥ نقع على قطعة في (الحديث) لتوفيق الحكيم عنوانها (فنان الظلام) وفي هذه القصص والمسرحيات ينحصر ما كتبه توفيق الحكيم على صفحات المجلات مما يتعلق بالفن.
على أن لتوفيق الحكيم بعض الآراء نشرتها له مجلة (الحديث) تلك المجلة التي تصدر عن حلب بسوريا وتعمل بجهود صاحبها الأستاذ سامي الكيالي على إيجاد حياة جديدة للشرق.
وأهم ما نشره توفيق الحكيم في هذه المجلة بحث له عن الأسلوب الأدبي للمسرحيات وهل تكون العامية أم العربية الفصحى، ومن رأيه في هذا البحث أن التجربة وحدها هي التي تلهم الكاتب الجواب على هذا السؤال، انظر مجلة الحديث م٩ ج٧ فبراير ١٩٣٥ ص١٦٩ كما أن له رأيًا في الاستفتاء الذي عرضته عليه مجلة الحديث عن موضوع (أين تلتقي وأين تفترق ثقافة رجل القانون وثقافة رجل الأدب) ومضمون هذا الرأي أن الحقوق ليست سوى مجموعة عادات وعقائد وأخلاق وصفات اعتنقتها البشرية بحكم السليقة وظروف المعاش ثم اصطلحت عليها ونظمتها فأصبحت قانونًا يخضع الجميع لسلطانه.
وما الأدب إلا وصف وإبراز وتحليل لعين تلك العادات والعقائد والأخلاق والصفات الإنسانية قد أفرغ في قالب جميل ليستهوي النفس ويصقل العقل، ومن هنا كانت الثقافتان تلتقيان في المنبع الأساسي: الإنسانية.
أما الافتراق فيكون في شكل البناء، فبينما رجل الحقوق يبني من مادة الإنسانية هيكلًا عاريًا لا أثر للخيال فيه، متينًا رصينًا بقوانينه المستخرجة من العرف والتقاليد تجد رجل الأدب يبني قصرًا بديعًا محاطًا بجنات، مرمري الأعمدة مزخرف القباب قد أبرز على جدرانه الحياة أجمل من الحياة، فهما متحدان في المادة مختلفان في الصناعة، ملتقيان في الوحي مفترقان في الأسلوب — انظر مجلة الحديث م١٠ ج١ يناير ١٩٣٦ ص٢٣–٢٤.
وللأستاذ الحكيم رأي في تأثير الأدب الأوروبي في الأدب العربي وذلك مدرج في مجلة الحديث م١١ ج١ يناير ١٩٣٧ ص٣٣–٣٥، وفي هذا البحث يقول توفيق الحكيم إن الحضارة الأوروبية أشد الحضارات نفوذًا في الشعوب، ولعل ذلك يرجع إلى تسخيرها العالم والطبيعة في تيسير سبيل المواصلات مما لم يعهده العالم من قبل، ولهذا الأثر نتيجة في إذاعة الأفكار الأوربية ونشرها، ومن هنا كان القول بتأثر الشرق الأدبي بالحضارة الأوروبية هو عين البديهة، ومن هنا ينبغي أن يتأثر الأدب العربي بالحضارة القائمة الآن، إذا أراد أن يحيا وأن ينتشر ويعترف به، ولا شك أن هذا التأثر حدث، وكان شديدًا بعد الحرب على نحو فجائي أشبه بالطفرة، ولقد أدرك العربي من احتكاكه بأوروبا أن وسائل التعبير قد تغيرت وتطورت، وأنه في جميع العالم تواضع الكتاب أن يلبسوا أفكارهم ثيابًا متشابهة، فكان من الطبيعي أن يتأثر بهذا اللباس الأدبي الشائع الأدب العربي الحديث. على أن اللباس شيء والروح شيء آخر، ولهذا لا يخشى مطلقًا من إلباس الأفكار في العالم العربي الثوب الأوروبي على شرط أن يكون طابع هذه الأفكار وروحها شرقية محضة.
وفي العدد الممتاز من مجلد هذه السنة من مجلة الحديث نقف على رأي توفيق الحكيم في كيفية العمل على إحياء الثقافة العربية القديمة وماهية المؤلف الغربية التي يحتاجها.
الشرق العربي في نهضته الفكرية وهل يغني تلخيصها عن ترجمتها.
كما وأنك ترى لتوفيق الحكيم رأيًا في المعنى الإنساني في لبس القبعة بالمجلة الجديدة م٦ ج٥ مايو ١٩٣٧ ص٧٠٦، وخلاصة هذا الرأي أن مصر في ثورتها ضد لبس القبعة إنما تثبت على نفسها البعد عن الروح الإنسانية وتبين الانعزال في عقليتها وضعف أفقها الفكري، إن مصر في الواقع لم تتصل حتى الآن بالعالم المتحضر اتصالًا يشعره بوجودها ويشعر أبناءها بأنهم جزء منه. فما المصريون في حقيقة الأمر إلا شعب صغير لا وجود له على خريطة الفكر الإنساني المتحضر وعقليته في ذاتها لم تزل تميل إلى العزلة الذهنية، وأمام مصر وقت طويل قبل أن تهضم الأفكار الإنسانية في ذاتها وتصبح أهلًا للانضمام إلى هيئة الأمم المتحضرة.
وإلى هنا نقف بالبحث عن توفيق الحكيم خاتمين الدراسة بهذه الأبيات التي لها دلالتها مع شخص توفيق الحكيم وهي للشاعر وليم بليك:
بعض المراجع
-
(١)
آثار توفيق الحكيم الفنية والأدبية:
أهل الكهف: مطبعة مصر مايو ١٩٣٣، ١١٧ صفحة من القطع الكبير.عودة الروح في مجلدين: مطبعة الرغائب ديسمبر ١٩٣٣، ٢٤٥–٢٣٣ صفحة من القطع المتوسط.شهر زاد: مطبعة دار الكتب مارس ١٩٣٤، ١٦٢ صفحة من القطع الكبير.أهل الفن: مطبعة الهلال سنة ١٩٣٤، ١٣٣ صفحة من القطع الصغير.محمد: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ١٩٣٦، ٤٨٥ من القطع الكبير.القصر المسحور: بالاشتراك مع الدكتور طه حسين بك، مطبعة دار النشر الحديث.يوميات نائب في الأرياف: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة ١٩٣٧ في ٢٣٤ صفحة من القطع الكبير.مسرحيات توفيق الحكيم في مجلدين: مكتبة النهضة المصرية سنة ١٩٣٧ في ٢٩٨–٣١٢ صفحة من القطع المتوسط.عصفور من الشرق: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر أبريل سنة ١٩٣٨ في ٢٣٣ صفحة من القطع المتوسط. -
(٢)
كتابات توفيق الحكيم أهمها:
- (أ)
مساجلات بينه وبين الدكتور منصور فهمي بجريدة الأهرام نوفمبر ١٩٣٦/مارس ١٩٣٧
- (ب)
من برجنا العاجي تأملات في الأدب والحياة — بمجلة الرسالة — السنة السادسة العدد ٢٣٧–٢٥٨
- (جـ)
«الرسالة» و«الحديث» و«مجلتي».
- (أ)
-
(٣)
كتب جديدة صدرت قبيل الأسبوع الأخير من أكتوبر سنة ١٩٣٨:
تحت شمس الفكر: ١٥ أكتوبر ١٩٣٨، ١٧٦ صفحة من القطع المتوسطعهد الشيطان: ١ ٥ أكتوبر ١٩٣٨، ١٥٣ صفحة من القطع المتوسطتاريخ حياة معدة: ٢٥ أكتوبر ١٩٣٨، ٢١٠ صفحة من القطع المتوسط
كذلك يجب أن تلاحظ مع الأستاذ عبد الرحمن صدقي أن في شهر زاد جوًّا أكثر سحرًا وأعمق سرًّا من كل الأجواء التي خلقها في مسرحياته وسر هذا في نظري يرجع لكون المسرحية تدور من حول فكرة تحرر الروح من الجسد وارتفاعها عن المادة، ومن هنا كانت تنزل من صميم شخص توفيق الحكيم، ولهذا كان أبرز لفنه من كل ما كتب. هذا إلى أن الجو السحري في المسرحية يعطينا عنصرًا غيبيًّا في المسرحية، ودراسة هذا للعنصر الغيبي مهم جدًّا بالإضافة للناحية الغيبية عند توفيق الحكيم. انظر لنا ولكزميرسكي Shahrzad-ethode في ZR. G. J. م٣٥–١٩٣٥ ج١ ص١٧–٢٣ النص الروسي بقلمنا من ١٧–٢١ وتلخيص لها بالفرنسية لكرميرسكي ص٢١–٢٣ وانظر على وجه خاص ص٢٢ من الملخص الهامش لكزميرسكي.
وعن شهر زاد انظر الدكتور طه حسين بك وتوفيق الحكيم: «القصر المسحور» القاهرة ١٩٣٦ ففيها فوائد كثيرة لدراسة شهر زاد دراسة علمية منظمة.