المرأة في حكم التاريخ
لا يمكن معرفة حال المرأة اليوم إلا بعد معرفة حالها في الماضي. تلك هي قاعدة البحث في المسائل الاجتماعية، فإننا لا يمكننا أن نقف على حقيقة حالنا في أيّ شأن من شئوننا، إلا بعد استقراء الحوادث الماضية والإلمام بالأدوار التي تقلبت فيها، وبعبارة أخرى: يلزم أن نعرف من أية نقطة ابتدأنا؛ حتى نعلم إلى أية نقطة نصل؟
ذكر شيخ المؤرخين (هيروديت) أن علاقات الرجل بالمرأة كانت متروكة إلى الصدفة. ولا تفترق عما يشاهد بين الأنعام. وكان الشأن إذا ولدت المرأة ولدًا أن يجتمع القوم متى وصل الولد إلى سن البلوغ، وينسبوه إلى أشبه الناس به. وهذه العادة كانت معروفة —أيضًا — عند القبائل الجرمانية وعند العرب في الجاهلية.
وقد جاءت روايات السياح المعاصرين لنا مؤيدة لما جاء به التاريخ؛ فإن جميع السياح الذين طافوا بلاد (تايتي) وجزائر (مركيز) وغيرهما من أقاليم أستراليا وزيلندا الجديدة، وبعض بلاد الهند وأفريقيا، ذكروا أن الزواج غير معروف في تلك البلاد.
ولا خلاف في أن المرأة التي هذه حالها، تعيش مستقلة، تعول نفسها بنفسها، مساوية للرجل في جميع الأعمال، بل لها من المزية عليه أن نسب الأولاد في الغالب بها وحدها، فالمرأة في هذا الدور الأول هي ذات الشأن في الهيئة الاجتماعية، وربما كانت تشترك في الدفاع عن قبيلتها مع الرجال، ويدل على ذلك ذكر وقائع الفارسات في التواريخ القديمة، ووجود عادة منتشرة إلى الآن في بعض البلاد، تقضي بتجنيد النساء كما تجند الرجال، ومن هذا القبيل أن ملك (سيام) كان له عدد من النساء عَهِد إليهن بحراسته، وكان الملك (الداهومية بها نزن) الذي استولى الفرنساويون على بلاده من بضع سنين، خمسمائة جندي من الرجال وخمسمائة من النساء.
ولما ودّع الإنسان بداوته، واتخذ وطنا قارّا، واشتغل بالزراعة وجد نظام البيت، ومن أهم ما ساعد على تشكيل العائلة، أنه كان لكل عائلة معبودٌ خاص بها تختاره من بين أسلافها، كما كان جاريا عند اليونان والرومان والهنود والجرمانيين، وكما هو جار إلى الآن عند الأمم المتوحشة، وله بقية في بلاد الصين، وكانت العائلة تقدم القربان إلى آلهتها، فكان هذا باعثا للرجل على استبقاء ذرية تقوم بتأدية الخدمات الدينية.
وترتب على دخول المرأة في العائلة حرمانها من استقلالها؛ لذلك نرى رئيس العائلة عند اليونان والرومان والجرمانيين والهنود والصينيين والعرب مالكا لزوجته، وكان يملكها كما يملك الرقيق بطريق الشراء، بمعنى أن عقد الزواج كان يحصل على صورة بيع وشراء، وهذا أمر يعلمه كل مطلع على القانون الروماني، وذكره المؤرخون، ورواه السياح المعاصرون لنا، يشتري الرجل زوجته من أبيها فتنتقل إليه جميع حقوق الأب عليها. ويجوز له أن يتصرف فيها بالبيع لشخص آخر. فإذا مات انتقلت مع تركته إلى ورثته من أولادها الذكور أو غيرهم.
ومما يتبع هذه الحال أن المرأة لا تملك شيئا لنفسها ولا ترث وإن يتزوج الرجل بعدة نساء؛ لأن الوحدة في الزواج تفرض المساواة بين الزوجين في الحقوق والواجبات.
ثم خفت صولة الرجل على المرأة نوعا بتأثير الحكومة، فردت إليها حق الملك كله أو بعضه، وحق الإرث تاما أو ناقصا على حسب الشرائع، ولكن حماية الحكومة للمرأة لم تبلغ في أيّ بلد من البلاد إلى حد أنها سوّت بين الرجل والمرأة في الحقوق، فالمرأة في الهند كانت مجردة عن شخصيتها الشرعية، وعند اليونان كانت السناء مكلفات بأن يعشن في الحجاب التام. ولا يخرجن من بيوتهم إلا عند الضرورة، وعند الرومان كانت المرأة في حكم القاصر، وفي مبدأ تاريخ أوربا عندما كانت خاضعة إلى سلطة الكنيسة والقانون الروماني، كانت في أسوأ حال، حتى إن بعض رجال الدين أنكروا أن لها روحا خالدة، وعرضت هذه المسألة على المجمع الذي انعقد في ماون في سنة ٥٨٦ فقرر بعد بحث طويل ومناقشة حادة أن المرأة إنسان، ولكنها خلقت لخدمة الرجل.
وكان من الضروري أن تعيش تحت قوامة رجل وهو أبوها قبل زوجها، ثم زوجها بعد الزواج، وأحد أبنائها إذا مات الزوج، وأحد أقاربها من الذكور أو أقارب زوجها إن لم يكن لها أولاد، ولا يجوز لها في أية حال أن تتصرف بنفسها، وكانت غير أهل للشهادة في العقود، ولا للوصاية على أولادها القصَّر، ولا لأن تكون حكما أو أهل خبرة، وشوهد في بعض ولايات سويسرا أن شاهدة امرأتين تساوي شهادة رجل واحد، ولا تزال آثار هذه الأحكام باقية إلى الآن في كثير من مماليك أوربا؛ ذلك لأن مبدأ تشكيل الحكومة كان على صورة العائلة. والحكومة التي تؤسس على السلطة الاستبدادية لا ينتظر منها أن تعمل على اكتساب المرأة حقوقها وحريتها.
هذا الضرب من الحكومة الاستبدادية هو أول حكومة سياسية ظهرت في العالم، وقد اضمحل ثم زال بعد أن أقام أجيالًا في البلاد الغربية، وحل محله النظام الدستوري المؤسس على أن الحاكم ليس له حق على الأشخاص ولا على الأموال إلا ما تفرضه القوانين.
ولكنه لا يزال سائدا في الشرق بعامة، حيث نرى سكان الصين والهند وبلاد العرب والترك والعجم خاضعين إلى سلطة حكومة لم تتغير عما كانت عليه من آلاف من السنين.
وجود التلازم بين الحالة السياسية والحالة العائلية في كل بلد؛ ففي كل مكان حط الرجل من منزلة المرأة، وعاملها معاملة الرقيق حط نفسه وأفقدها وجدان الحرية. وبالعكس في البلاد التي تتمتع فيها النساء بحريتهن الشخصية، يتمتع الرجال بحريتهم السياسية، فالحالتان مرتبطتان ارتباطا كليا.
وآن لسائل أن يسأل: أيُّ الحالتين أثرت في الأخرى؟ نقول: إنهما متفاعلتان، وإن لكل منهما تأثيرًا في مقابلتها. وبعبارة أخرى: إن شكل الحكومة يؤثر في الآداب المنزلية، والآداب المنزلية تؤثر في الهيئة الاجتماعية.
انظر إلى البلاد الشرقية، تجد أن المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحاكم، فهو ظالم في بيته مظلوم إذا خرج منه.
ثم انظر إلى البلاد الأوربية تجد أن حكوماتها مؤسسة على الحرية واحترام الحقوق الشخصية، فارتفع شأن النساء فيها إلى درجة عالية من اعتبار وحرية الفكر والعمل، وإن كن لم يصلن إلى الآن إلى مستوى ما أعدلهن، ثم انتقل إلى بلاد أمريكا؛ تجد الرجال مستقلين في معيشتهم الخاصة استقلالً تامًا، وأن سلطة الحكومة وتداخلها في شئون الأفراد يكادان أن يكونا معدومين؛ ولهذا زادت حرية النساء فيها عما هي في أوروبا بكثير، حيث تساوى المرأة والرجل من البلاد الأمريكية في جميع الحقوق الشخصية، وفي بعض تلك الولايات تمت المساواة بينهما أيضا في الحقوق السياسية.
مضت سنتان والنساء بحكم القانون يستعملن حقوقهن السياسية، فينتخبن نواب الأمة وينُبن بأنفسهن عنها، ويجلسن في مراكز القضاء، ويؤدين ما دون ذلك من الوظائف العمومية، ومن العدل أن النساء قد قمن بهذه الواجبات الجديدة على وجه من الرزانة وحصافة الرأي وسلامة الذوق لا ينقص عما يقوم به الرجال. وهذه التجربة بالنسبة لقصر مدتها لا تصلح أن تكون دليلا مقنعا لإثبات استعداد المرأة في القيام بمهام الحكومة، لكنها تحمل على حسن الظن بفطرة المرأة. وما دام الحال على هذا المنوال، فلهن الحق في الاستمرار.
مضى اليومَ ست سنين ونحن نجرب النساء في استعمال حقوقهن السياسية، وقد أعلنت رأيي في جلسة سابقة، وصرحت بالفوائد التي أظهرتها التجربة، والآن أقول: إن ما شاهدته في هذه الست أقنعني إقناعا تاما بأننا أصبنا في تخويل النساء حق الانتخاب. وأن مساواة المرأة للرجل في الحقوق السياسية قد نجحت بالتجربة نجاحا لا يماري فيه أحد.
لقد مضى ثماني سنين والنساء يتمتعن في أرضنا بالحقوق السياسية، وكل يوم يمر يزيد الأهالي ثقة بالنساء، وفي رأيي أن هذه نتيجة حسنة؛ لأنها موافقة لمصالح أمتنا).
إن ولاية (بومنج) هي المكان الوحيد الذي تتمتع فيه النساء بجميع الحقوق السياسية الممنوحة للرجال بلا فرق بين الصنفين، وهذا الإقدام من أمتنا، التي أرشدها حب الحق والعدل إلى إصلاح خطأ طال عليه الزمن، قد وجه أنظار العالم إلينا، ولئن زعم أخصامنا أننا لا نزال في دور التجربة، فكلنا يعلم أن هذا الدور قد انقضى بالنسبة لنا. وإني أصرح هنا بأن اشتراك النساء في أعمال الحكومة مع الرجال، ترتب عليه أن القوانين عندنا أصبحت أحسن مما كانت عليه، وأن عدد الموظفين الأكفاء وصل إلى درجة لم نعهدها من قبل، وأن حالتنا الاجتماعية ارتقت كثيرًا، وهي الآن تفوق ما عليه سائر البلاد الأخرى، وأن جميع المصائب التي كنا نهدد بحلولها، مثل فقد النساء رقة الطبع، واضطراب النظام في معيشتنا المنزلية، لم نر لها أثرًا إلا في مخيلات خصومنا.
إن السواد الأعظم من نسائنا قدرن حقوقهن الجديدة حق قدرها، واعتبرن القيام بها واجبا وطنيا، وبالجملة فإني أقول: إن تجربة اثنتي عشرة سنة مع النجاح الباهر، قد مكنت في عقولنا ونفوسنا أن مساواة المرأة للرجل لا يرتاب فيه.
وكل هذه المقدمات تنساق إلى طلب الكمال في حالتنا الاجتماعية؛ حتى نجعل ولاية (بومنج) نجما يهتدي به العالم في الحركة العظيمة التي تصعد بالإنسان ذروة الحرية).
وليس علىَّ أن أضيف على آراء هؤلاء الرجال العظام إلا أن قانون سنة ٦٩ لا يزال معمولا به إلى الآن في (بومنج)، وأن ثلاث ولايات أمريكية قد حذت حذو تلك الولاية، وخولت النساء الحقوق السياسية، وهي ولاية (آوته) و(كولورادوا) و(إيداهو).
أما في باقي ولايات أمريكا، فالمرأة لم تنل إلى الآن حقوقها السياسية، لكن كل مطلع على حركة الرأي العام فيها لا يشك أنها ستنال هذه الحقوق في زمن قريب جدا. وإليك رأي رجلين من أكبر رجالها السياسيين.
قال (سميلون) العضو في مجلس شيوخ الولايات المتحدة: «إني أعتقد أن انتشار الفسق في مدننا الكبيرة، لا يمكن أن يضيق نطاقه إلا إذا منحت النساء حق الانتخاب.»
ومن رأي (جيلبير هافيه) وهو أيضا من أعضاء مجلس الشيوخ: «أن فساد الأخلاق السياسية لا يصلحه إلا اشتراك النساء في الانتخابات؛ لأننا نعلم أن الخمارة هي مجلس البلدية ومركز الانتخابات؛ وما ذلك إلا لأن الخمارة هي المحل الوحيد الذي لا تدخل فيه المرأة.»
لعل القارئ يستغرب كيف أن الرجال في أمريكا يرون أن لا سبيل إلى محاربة الفسق وفساد الأخلاق إلا بمعرفة النساء. هذا أمر يحتاج إلى البيان؛ ولذلك أنقل هنا رأي القاضي الأمريكاني (جون لينجمان).
كان الرجال قبل اشتراك النساء في الوظائف العمومية إذا اجتمعوا في مكان واحد لا يخلو جيب واحد منهم من مسدس، فإذا قام نزاع خفيف بين بعض الحاضرين، لم يكن ينتهي عادة إلا بقتل أو جرح، وكان المحلفون يحكمون في الغالب ببراءة الجانين، فلما اشتركت النساء في الوظائف القضائية مع الرجال، نتج عن ذلك معاقبة المذنبين، وكذلك كان المحلفون لا يهتمون بالعقوبة على السكر والقمار، فتغير الحال الآن، وقد ترتب على حضور النساء في الجلسات اننا نرى الآن قاعدتها متحلية من النظام والأدب والوقار بأكثر هما مما كان يعرف فيها من قبل.
ولم يترتب على اشتغال النساء بالوظائف العمومية أنهن أهملن ما يجب عليهن في منازلهن، ولم يصل إلى علمي أن زوجًا اشتكى زوجته بسبب اشتغالها عن مصالح منزلها بالمصالح العامة، ولم أر شقاقا بين زوجين بسبب اختلاف آرائهما السياسية ولم أسمع به، على أني أعرف عدة عائلات ينتمي فيها الزوج إلى حزب، والزوجة إلى حزب آخر.
على أن المرأة الأمريكية منحت في جميع الولايات المتحدة حظًا عظيما من الحقوق العمومية؛ فلها أن تحترف بحرفة المحاماة، وتترافع أمام جميع المحاكم. يوجد قضاة من النساء في ولايات (كانساس) و(بومنج) و(كولمبيه) و(شيلي) و(زيلندا) وغيرها، وعين بعض أفرادهن في وظيفة نائب عمومي. ويوجد عدد عظيم منهن في نظارات الخارجية والداخلية والحربية.
أما عدد النساء المشتغلات بتحرير العقود الرسمية. والنساء القسيسات. والمهندسات ومديرات الجرائد، والمستخدمات في الرصد خانات والبوسطة، والتلغرافات، فلا يكاد يحصى.
إذا زرت مدرسة عمومية، وجدت البنات يدرسن مع الصبيان في مكان واحد، والأستاذ الذي يلقي الدرس رجلا أو امرأة بلا فرق، وإذا دخلت في معمل علمي وجدت بنات محنيات الرءوس على آلة الميكروسكوب، وبجانبهن شبان من طلبة العلم، الكل مشتغل بفحص مسألة من علم التشريح، ويزورك أحد مكاتبي الجرائد من غير أن يسمي نفسه، فتجد أنه امرأة، وتروم استدعاء أحد الأطباء المشهورين، فتجد عدد الأطباء من النساء مساويا لعدد الأطباء من الرجال، وإن لم يكن مساويًا في بعض الجهات، فهو من الكثرة بحيث لا يعد التطبيب منهن من قبيل النادر.
ويكفي لبيان ارتقاء شأن المرأة الأمريكية أن تقول: إنه تبين من الإحصائية التي عملت في سنة ١٨٨٠ أن النساء المحترفات بالعلوم والأديبات فقط بلغ عددهن خمسا وسبعين في المائة، و٦٣ في المائة في التجارة، و٦٢ في المائة في الصناعة.
فإذا انتقلنا من أمريكا إلى إنجلترا، وهي أقرب الأمم إليها، وجدنا أن اشتغال النساء بالعلوم والصنائع لا يقل تقريبا عما يشاهد في أمريكا، فقد نتج من إحصائيتها الأخيرة أن مليونا منهن يشتغلن بالعلوم والأديبات، وثلاثة ملايين بالتجارة والصناعة.
وللنساء الإنجليزيات حتى الانتخاب في المجالس البلدية وفي مجتمعات المعارف، والجمعيات الخيرية، ولم يفت النساء التمتع بهذه المزايا حتى في المستعمرات الإنجليزية «كالكاب» و«كندا» و«أستراليا».
أما مسألة منحهن الحقوق السياسية، فهي لا تزال في دور التحضير، وأول طلب تقدم من النساء الإنجليزيات إلى مجلس النواب كان في سنة ١٧٦٦، وأمضى عليه ستمائة ألف امرأة، وأول مشروع تقدم إلى مجلس النواب لتخويلهن الحقوق السياسية كان في سنة ٦٧ وكان من حسن حظه أن العلامة «استيوارت ميل» هو الذي أخذ على نفسه المدافعة عنه أمام المجلس. فاكتسب في الحال ثمانين صوتا من النواب. كما أذكر بينهم «ديزرائيلي» و«غلادستون» وفي سنة ٧٢ تقدم المشروع ثانيا ونال ١٥٩ صوتا، وفي سنة ٧٣ نال ١٧٢ صوتا، وما زال يتقدم من حين إلى حين، ويكسب أصواتا جديدة حتى توفرت له الأغلبية في سنة ٩٧ فأقر عليه مجلس النواب، ولم يبق لنفاذه إلا تصديق مجلس الأعيان.
وفي فرنسا لم تصل حركة الأفكار في شأن النساء إلى هذا الحد، فعدد المشتغلات من النساء بممارسة العلوم قليل، وعدد الموظفات في المصالح الأميرية يكاد يكون محصورًا في مصلحة البوسطة والتلغراف والتليفون، والحرفة التي اتجهت إليها على الخصوص نساء فرنسا هي التجارة، وقد خاب ظن «فيكتور هيجو» أكبر شعراء العصر في فرنسا الذي قال: «إن القرن الثامن عشر قرر حقوق الرجال، وسيقرر القرن التاسع عشر حقوق النساء» حيث قد انتهى القرن التاسع عشر ولم يتم شيء كبير من الإصلاحات التي يطالب بها كثير من رجال فرنسا، غير أنه في هذه السنين العشر الأخيرة حصل تخدم محسوس في حركة الأفكار الفرنساوية، انتهى بنيل النساء حق الانتخاب في المجالس التجارية، وفي العام الماضي صدر القانون الذي يخوّل النساء الاحتراف بصنعة المحاماة.
وحال النساء في الممالك الأوربية الأخرى لا يختلف إلا قليلا عن حال النساء في فرنسا.
أما مملكة روسيا، فمركزها الجغرافي قضى بأن تتأثر بالعادات الشرقية؛ ولهذا فقد عاش نساؤها من أهل الطبقة العالية والطبقة الوسطى محجوبات كنساء الشرق، مسجونات في البيوت، محرومات من التربية والتعليم، وليس لهن من الحقوق إلا ما تسمح به رحمة أزواجهن وأوليائهن، ولم تبطل هذه العادة من البلاد الروسية إلا في سنة ١٧٢٦ حيث صدر أمر عال من «بطرس الأكبر» بإلغاء الحجاب مرة واحدة، ثم توالت بعده الإمبراطورة «كاترين» فتممت عمله واشتغلت من سنة ١٧٦٢ إلى ١٧٩٧ بتأسيس المدارس للبنات، ونشرت بينهن التربية العقلية والأدبية.
ولكن لما تولى الملك ألكسندر الأول وكان يبغض الحرية، وقفت هذه الحركة حتى تولى الملك ألكسندر الثاني، وكان ميالا إلى ترقية بلاده، محبا لتقدمها، فأبطل استعباد الرجال (السرفاج) وأنشأ مدارس كثيرة للبنات للتعليمين الابتدائى والثانوي كن يتعلمن فيها العلوم التي يتعلمها الذكور، وأول مدرسة أنشئت على هذا النمط كانت في سنة ١٨٥٧، ولكن لم يمض على هذه النهضة العظيمة زمن كبير حتى رأت الحكومة الروسية أن تقدم النساء في المعارف له أثر كبير في حالة الأمة السياسية، وأن حزب المعارضين للحكومة أخذ ينمو، فأقفلت في سنة ١٨٦٢ أبواب المدارس العالية في وجوه الرجال والنساء، ولكن النساء لم يقبلن أن ينتكسن في الجهل بعد أن ذقن طعم الحرية والعلم. فرحل الكثير منهن عن وطنه طلبا للمعارف، وأخذن يهاجرن إلى فرنسا وسويسرا وألمانيا لتحصيلها، وطفقن في مهاجرهن يطعنّ في الحكومة وينشرن أفكارهن في الكتب والجرائد، ويشتركن في المؤتمرات مع الرجال، فكانت عاقبة إقفال المدارس اشتداد ثورة الأفكار عما كانت عليه من قبل. فطنت الحكومة إلى هذا الأمر، وعرفت أنها أخطأت، فقررت في ١٨٨٩ إعادة تلك المدارس، وقد زاد عددها من ذلك العهد إلى الآن زيادة ظاهرة.
عاشت المرأة حرة في العصور الأولى، حيث كانت الإنسانية لم تزل في مهدها.
ثم بعد تشكيل العائلة، وقعت في الاستعباد الحقيقي.
ثم لما قامت الإنسانية على طريق المدنية تغيرت صورة هذا الرق، واعترف للمرأة بشيء من الحق، ولكن خضعت لاستبداد الرجل الذي قضى عليها بألا تتمتع بالحقوق التي اعترف لها بها.
ثم لما بلغت الإنسانية مبلغها من المدنية، نالت المرأة حريتها التامة، وتساوت المرأة والرجل في جميع الحقوق، أو على الأقل في معظمها.
أربعة أحوال يقابلها أربعة أدوار من تاريخ التمدن في العالم.
فالمرأة المصرية هي اليوم في الدور الثالث من حياتها التاريخية، بمعنى أنها في نظر الشرع إنسان حرٌ، له حقوق، وعليه واجبات، ولكنها في نظر رئيس العائلة وفي معاملته لها ليست بحرة، بل محرومة من التمتع بحقوقها الشرعية، وهذه الحال التي عليها المرأة اليوم هي من توابع الاستبداد السياسي الذي يخضعنا ونخضع له.
ومع أن الاستبداد السياسي أصبح في حالة النزع، وأشرف على الفوات، بحيث لا ترجى له عودة، لا يزال الرجال عندنا يستبدون على نسائهم.
وما سبب ذلك إلا أن قوانيننا السياسية قد ارتقت قبل أن نرتقي، وسبقتنا إلى ما لم نصل إليه بعد، فهي تقرر أن كل فرد منا له أن يتمتع بحريته وحقوقه الشرعية، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى، ونحن معاشر الرجال لم يزل راسخا في طبعنا حب الاستئثار بمزايا الحرية وعدم احترام حقوق النساء.
وهذا يدل على أن سلطان الأخلاق القديمة لا يزال نافذا في نفوسنا، وله أثر ظاهر في أعمالنا، فقوانيننا وضعت لأمة حرة، وأخلاقنا لا تزال أخلاق أمة مسترقة؛ لهذا نرى رجالا وردوا موارد العلم، وتنقلوا من مدرسة إلى مدرسة، ومن درجة إلى درجة، حتى حازوا على لقب علمي، وفقهاء يعلمون الحقوق، وشعراء من نوابغ العصر، على ما يقول العارفون بفنهم، وكتابا نصبوا أنفسهم لإفادة الناس بجرائد تلقب بالعلمية، أو الأدبية، أو الفنية، أو ما شئت من هذه الألقاب، وخطباء مشهورين يحبون الحرية والاستقلال.
رأينا جميع من ذكرنا وعندما سمعوا القول بأن للمرأة حقًا مهضومًا، وأنها إنسان محروم، وأخذوا يتساءلون: هل يسوغ لها أن تخرج من سجنها؟ أو يرفع عنها غطاء من جهلها؟ وبعد طول التساؤل رجعوا إلى ما هو مركوز في طباعهم فأنكروا عليها هذا الحق، وحكموا عليها بأن تبقى في ظلمات الجهل وفي السجن المؤبد؟
فهل كان ذلك لأن المسألة عويصة تحتاج إلى العناء في حلها، وتقبل اختلاف الآراء فيها؟ كلا، وإنما نحن نتصور الحرية، ولا نشعر في الحقيقة بحبها، ونعرف حق الغير ولا نجد من أنفسنا احتراما له. نحن في دور التمرين على العمل بالأخلاق الحرة، ونحتاج إلى زمن لترسخ في نفوسنا، أما الأوربيون، فإنهم يقدرون الحرية حق قدرها، ويحبونها ويحترمونها في غيرهم، كما يقدرونها ويحبونها ويحترمونها في أنفسهم.
وهذا شأن من له إحساس حقيقي بمزية فضيلة من الفضائل. فإنما الفاضل من يجل الفضيلة أينما كان مظهرها، قال «كوندوروسيه»، الأصولي الشهير في هذا المعنى: أما أن لا يكون حق حقيقي لأحد من الناس، وأما أن يكون لكل فرد حق مساو لحق الآخر، ومن جرد غيره من حقه مهما كان دينه أو لونه أو صنفه، فقد داس بقدميه حق نفسه.
لهذا يشتغل محبو الترقي في أوربا لتحسين حال المرأة وإيصالها من الكمال فوق ما وصلت إليه الآن، وآلوا على أنفسهم أن يجاهدوا في هذا السبيل؛ حتى يبلغ النساء مرتبة الرجال، فيساوينهم في جميع الحقوق الإنسانية.
ولا أنكر أن عددا غير قليل من الغربيين لم يزل يجادل في صحة أصل المساواة التامة بين الصنفين.
فهناك مذهبان يتزاحمان:
هكذا انقسم العالم الإنساني في كل إلى فريقين: فريق المحافظين، وفريق المصلحين، كلاهما يريد الخير ويطلب السعادة للنوع، ولكنهما يختلفان في طريق الخير وسبل السعادة.
ومن تتبع سلسلة التاريخ في جميع الأزمان يعلم علم اليقين أن المرأة في كل زمان وفي كل مكان قائمة بوظيفتها الطبيعية، ولكنها مستعدة بضروب من الاستعداد إلى ضروب من الكمال، وإنها سارت وتسير في طريق الكمال التدريجي متنقلة من منزلة إلى أرقى منها، ومن مرتبة إلى أرفع منها.
فالقول بلزوم بقائها على حال واحدة لا تتغير ولا تتبدل هو خروج بها عن القوانين الطبيعية التي قضت بتغير حالها في الماضي، وتهيئتها الآن للانتقال من طورها الحالي إلى طور آخر.
وبالجملة فالاختلاف بيننا وبين الغربيين منشؤه أن الغربيين فهموا طبيعة الإنسان واحترموا شخصيته فمنحوا المرأة ما منحوا أنفسهم من الحقوق في جميع ما يتعلق بالحياة الخاصة، ولم ينازعها أحد منهم في حق التمتع بحريتها في الأعمال البدنية والعقلية، إلا ما حرمته الآداب. وسووا بينها وبين الرجل في كل ذلك، وإنما اختلفوا في مسألة مساواتها بالرجل في الحياة العامة؛ فيرى بعضهم أن اشتغالها بالأعمال يخرجها عن دائرة وظيفتها الطبيعية، ويرى البعض الآخر أن هذه الوظيفة الطبيعية لا تشغل حياة المرأة كلها، ولا تشغل كل امرأة، فقرروا المساواة بينها وبين الرجال أيضا فيما يتعلق بالحياة العامة.
أما نحن فإننا لا ننظر إلى المرأة نظرنا إلى الرجل، ولم تستعد عقولنا إلى إدراك هذه الحقيقة الظاهرة وهي أن المرأة إنسان مثل الرجل، فجردناها عن استعمال جميع حقوق الإنسان، وحرمانها من جميع مزايا الحياة الخاصة والعامة، أما اشتغال المرأة بالأعمال العامة، فهو مما لا يدخل تحت مطالبتنا في هذا الكتاب؛ ولهذا لا نرى فائدة في الكلام فيه، وأما ما يتعلق بالحياة الخاصة للمرأة، فهو الذي نقصد البحث فيه، وهذا البحث يتناول ثلاث مسائل:
وسنتكلم عليها على هذا الترتيب، ويلي ذلك مبحث في التربية والحجاب، ثم خاتمة تحتوي على حالة الأفكار الآن في مصر بالنسبة للنساء.