التربية والحجاب
لو لم يكن في الحجاب عيب إلا أنه مناف للحرية الإنسانية، وأنه صادر بالمرأة إلى حيث يستحيل عليها أن تتمتع بالحقوق التي خولتها لها الشريعة الغراء والقوانين الوضعية في حكم القاصر، لا تستطيع أن تباشر عملا ما بنفسها، مع أن الشرع يعترف لها في تدبير شئونها المعاشية بكفاءة مساوية لكفاءة الرجل، وجعلها سجينة، مع أن القانون يعتبر لها من الحرية ما يعتبره للرجل — لو لم يكن في الحجاب إلا هذا العيب — لكفى وحده في مقته، وفي أن ينفر منه كل طبع غرز فيه الميل إلى احترام الحقوق والشعور بلذة الحرية.
ولكن الضرر الأعظم للحجاب فوق جميع ما سبق هو أنه يحول بين المرأة واستكمال تربيتها.
إذا تقرر أن تربية المرأة من الضرورات التي لا يمكن أن يستغني عنها، فما هي التربية التي تناسبها؟ هل يناسبها تربية كتربية الرجل؟ أو تُخص بتربية أخرى؟ وهل يمكن تربيتها مع الحجاب؟ أم لا بد فيها من البطالة؟ وهل يعمل فيها على قواعد تأخذ من العلوم الغربية الحديثة؟ أم يرجع فيها إلى أصول المدنية الإسلامية القديمة؟
هذه المسائل تدخل في باب التربية والحجاب، وقد دار البحث والجدل فيها في العام الماضي بين كثير من الكتاب، والآن نريد أن نبدي فيها عن غاية من الوضوح.
ففي المسألة الأولى — لا نجد من الصواب أن تنقص تربية المرأة عن تربية الرجل.
أما من جهة التربية الجسمية؛ فلأن المرأة محتاجة إلى الصحة كالرجل، فيجب أن تتعود على الرياضة كما تفعل النساء الغربيات اللاتي يشاركن أقاربهن الرجال في أغلب الرياضات البدنية، ويلزم أن تعتاد على ذلك من أول نشأتها وتستمر عليه من غير انقطاع, وإلا ضعفت صحتها وصارت عرضة للأمراض؛ ذلك لأن النواميس الطبيعية تقضي بضرورة التوازن بين ما يكسبه الجسم وما يفقده؛ بحيث لو اختل هذا التوازن فسدت الصحة, واختل نظامها. والأمراض التي تصيب الإنسان بسبب إهماله استعمال قواه الجسمية ليست بأقل عددًا ولا بأخف ضررًا من الأمراض التي تصيب من ينفق قوته ولا يعوّض بالتغذية ما فقد منها.
ثم إن ما تقاسيه المرأة من الآلام والمشقات حين الولادة في مرة واحدة, ربما يزيد على ما يعانيه الرجل من المتاعب طول حياته, ولا يحتمله من النساء إلا القويات المزاج، الصحيحات الأجسام كنساء القرى المتعوّدات على العمل البدني المتمتعات بالهواء النقي, أما نساء المدن المحرومات من الحركة والتمتع بالشمس والهواء، فلا قدرة لهن على احتمال هذه المشقات؛ ولذلك فإن أكثرهن يعشن عليلات بعد الولادة الأولى، وكثيرا ما يهلكن فيها؛ فقد بلغ عدد من يموت منهن في النفاس أكثر من ثلاثين في الألف.
وكما تلزم العناية بصحة المرأة لوقايتها من الهلاك والأمراض، كذلك يلزم العناية بصحتها؛ حرصًا على صحة أولادها ووقايتهم من العلل؛ لأن ما يعرض على مزاج الأم وما يكون فيه من الاستعداد للمرض، ينتقل بالوراثة إلى الأولاد.
وأما من جهة التربية الأدبية، فلأن الطبيعة قد اختارت المرأة وندبتها إلى المحافظة على آداب النوع، فسلمتها زمام الأخلاق وائتمنتها عليها، فهي التي تصنع النفوس، وهي ساذجة لا شكل لها، فتصوغها في أشكال الأخلاق، وتنشر تلك الأخلاق بين أولادها، فينقلونها إلى من يتصل بهم فتصبح أخلاقا للأمة بعد أن كانت أخلاقا للعائلة، كما كانت أخلاقا للعائلة بعد أن كانت أخلاقا للأم. هذا يدلنا على أن المرأة الصالحة هي أنفع لنوعها من الرجل الصالح, والمرأة الفاسدة هي أضر عليه من الرجل الفاسد.
ولعل هذا هو السبب في ما وقر في نفوس الناس في كل زمان من أن الرذيلة الواحدة إذا تدنست بها المرأة حطت من قدرها أكثر مما تحط من شأن الرجل لو تدنس بها، وأن الفضيلة تعلي من شأن المرأة ما لا تعليه من شأن الرجل.
بقي علينا الكلام على القسم الأخير من التربية، وهو التربية العقلية، هذه التربية هي عبارة عن تعلم العلوم والفنون، والغاية التي ترمي إليها، هي أن يعرف الإنسان ما في الكون من الموجودات وفيها نفسه، حتى إذا عرف ذلك على حقيقته أمكنه أن يوجه أعماله إلى ما يعود عليه بالنفع ويتمتع بلذة المعرفة، فيعيش سعيدًا.
والمرأة كالرجل على حد سواء في الاحتياج إلى الانتفاع بالعلم والتمتع بلذته، ولا فرق بينها وبينه في التشوق إلى استطلاع عجائب الكون والوقوف على أسراره؛ لتعلم مبدئها ومستقرها وغايتها.
ومهما عظم اشتغال المرأة، متزوجة أو خالية، ذات أولاد أم لا، فإنها تجد من الوقت ما تثقف فيه عقلها، وتهذب نفسها.
ولو خصص نساؤنا للمطالعة عُشر الوقت الذي يقضينه في اليوم في البطالة ولغو الكلام والخصام، لارتقت بفضلهن الأمة المصرية ارتقاء باهرًا.
ولا تتحصل المرأة على المطلوب من هذه التربية العقلية بتعليمها القراءة والكتابة واللغات الأجنبية، بل تحتاج أيضا لتعلم أصول العلوم الطبيعية والاجتماعية والتاريخية؛ لكي تعرف القوانين الصحيحة التي ترجع إليها حركات الكائنات وأحوال الإنسان، كما أنها تحتاج إلى تعليم مبادئ قانون الصحة ووظائف الأعضاء؛ حتى يمكنها أن تقوم بتربية أولادها.
والمهم في هذه التربية هو تشويق عقل المرأة إلى البحث عن الحقيقة، وليس حشو ذهنها بالمواد حتى إذا انتهت مدة تعليمها في المدارس، استمر شوقها إلى الحق فتتحرك دائما وتعتبر به.
وأضيف على ذلك أنه ينبغي على البنت أن تتعلم صناعة الطعام وترتيب البيت.
ولا بد هنا من استلفات النظر إلى وجوب الاعتناء بتربية الذوق عند المرأة، وتنمية الميل في نفسها إلى الفنون الجميلة. وإنى على يقين من أن أغلب القرّاء لا يستحسنون أن تتعلم البنات الموسيقى والرسم؛ لأن منهم من يرى ألا فائدة في الاشتغال بهذه الفنون، ومنهم من يعدها من الملاهي التي تنافي الحشمة والوقار، وقد ترتب على هذا الوهم الفاسد انحطاط درجة هذه الفنون في بلادنا إلى حد يأسف عليه كل من عرف مالها من الفائدة في ترقية أحوال الأمم.
فن التصوير والرسم له فائدة لا تقل عن فائدة العلم؛ لأن العلم يعرفنا الحقيقة، وهذا الفن يحببها إلينا؛ لأنه يبديها لنا على الشكل الأكمل الذي يتخيله صاحب الفن، فيبعث فينا بذلك الميل إلى الكمالِ، والكمالُ شيء يدركه عقلنا، لكنه لا يقع تحت حواسنا، فلا يمكننا أن نتصوره إلا إذا صار مجسما أمامنا في شكل لطيف نحس به، ومتى رأيناه في هذا الشكل تعلقت نفسنا بمحبته، وكلما كان صاحب الفن ماهرًا في صناعته كان صنعه أقرب للكمال، وكانت النفس أكثر ميلا إليه، وأشد إعجابا به، وأعظم سرورًا بالإحساس به.
«إن الموسيقى تبعث الحياة في الجماد، ويسمو بها الفكر، ويرتقي الخيال، وتبث في النفس الفرح والسرور، وترفعها عن الدنايا، وتميل بها إلى الجمال والكمال، فهي من عوامل الأدب للإنسان».
هذه هي التربية التي نود أن تكون للبنات، وقد بيناها إجمالا؛ لأن المقام لا يسمح ببيانها تفصيلا. هذه هي التربية الكاملة التي تيسر للمرأة الجمع بين واجباتها المختلفة المتعددة، فتعدها لأن تكون إنسانا يكسب عيشه بنفسه، وزوجة قادرة على أن تحصل لعائلتها أسباب الراحة والهناء، وأمًّا صالحة لتربية أولادها.
متى انتهت تربية البنت باتخاذ ما يلزم من الوسائل لتنمية قواها الجسمية، وملكاتها العقلية، تكون قد بلغت سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمرها، فما الذي ينبغي أن تكون عليه بعد ذلك؟ وكيف تعيش؟ أتحجب في بيتها، وتمنع عن مخالطة الرجال؟ أو تطلق لها الحرية في ذلك؟ هذا هو موضع البحث في المسألة الثانية والثالثة، وسنتكلم عليهما معا؛ لما بينهما من الارتباط.
رأى المنتقدون على (تحرير المرأة) أننا تطرفنا في مسألة الحجاب، وأننا نشرنا برفعه تقليدًا للعادات الغربية.
وزعموا أن الحجاب لا يوجب انحطاط المرأة ولا يترتب عليه ضرر لها؛ ولذلك ذهبوا إلى وجوب استبقائه والمحافظة عليه، وقالوا: إن الذي حط بالمرأة عن منزلتها، إنما هو عدم التربية، فلو تربت تربية حسنة لأمكنها، وهي في الحجاب، أن تقوم بواجباتها أحسن قيام.
على أننا بعد أن دققنا النظر في جميع ما قيل أو كتب في هذا الشأن، لا نزال على رأينا، ولم يزدنا تكرار البحث فيه إلا وثوقًا بصحة ما ذهبنا إليه.
ولا نرى سببا للخلاف بيننا وبين مناظرينا إلا الاختلاف في فهم معنى التربية، فهم يرون أن التربية هي التعلم، وذلك يتم على رأيهم بمكث الصغير في المدرسة سنين محدودة، تكون نهاية عمله فيها الحصول على الشهادة الدراسية، وأنه متى نال هذه الورقة السميكة، التي سماها بعض ظرفاء الفرنساويين (جلد حمار)! عُدّ بالغًا في العلم والأدب حد النهاية. ونحن على خلاف ما رأوا نعتقد أن التربية لا تقوم بالمكث في المدرسة والحصول على الشهادة، وإنما كل ما يستفيد الصبي من ذلك في أيام التحصيل الأولى هو الاستعداد لتكميل عقله وخلقه.
ذلك لأن الصبي في السنة الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره لا يعرف من العلم إلا نظريات عامة ومسائل كلية يحفظها في جمل مختصرة، ومهما كانت هذه القضايا علمية أو أدبية، فلا قيمة لها إلا بظهورها في العمل، وذلك يكون بالمشاهدات والتجارب التي تحدد دائرة تطبيقها والحد الذي يفصلها عن غيرها، وتبين الأحوال التي تدخل فيها أو تخرج عنها، وجهات نفعها وضررها، هذه التطبيقات هي الواسطة الوحيدة في فهم القواعد على حقيقتها، فإذا انعدمت لا تكون هذه القواعد إلا ألفاظًا وخيالاتٍ.
لهذا لا يخطر على بال رجل عاقل أن يسلم نفسه إلى طبيب يوم خروجه من المدرسة، ولا يختار محاميًا للدفاع عنه يوم نيله للشهادة، وهو لم يتمرن على العمل زمنا كافيا!
وكذلك الحال في الأدب والأخلاق؛ إذ لا شيء على الإنسان أسهل من أن يعلم مقدار الفائدة في ضبط شهواته وقهره نفسه. ولكن لا شيء أصعب في العمل من أن يأتي ذلك بالفعل؛ لأن قهر الإنسان لهواه وجعله تحت سلطان العقل يستدعيان قوة عظيمة في الإرادة، ولا توجد هذه القوة في الإرادة بإقامة الحوائل المادية بينه وبين النقائض، ولا بمجرد حشو ذهنه بالقواعد الأدبية، وإنما تتولد بالتعرض لملاقاة الحوادث والتعود على مغالبتها والتغلب عليها.
فمزاولة الأعمال ومشاهدة الحوادث، واختبار الأمور ومخالطة الناس والاحتكاك بهم والتجارب، كل هذه الأشياء هي منابع للعلم والآداب الصحيحة، بها ترتقي النفوس الكريمة؛ حتى تبلغ أعلى الدرجات، وأمامها تنهزم النفوس الضعيفة وتسقط إلى أسفل الدرجات.
«لا فائدة من التربية التي تجعل الإنسان مستودعًا لأفكار غيره؛ لأن الكلمات التي توضع في الكتب لا يمكن أن تنتج معاني إلا على نسبة التجارب المكتسبة».
«إن ترتيب الحوادث وسير الوجود يرشدنا إلى أن الأمم التي بلغت فيها همة الإنسان منتهاها، وهي ملجأ الحياة الأدبية الصحيحة؛ حيث تثبت الأخلاق وتبقى المحامد، وبيانه أن المؤثر الأدبي إنما يجعل المرء قادرًا على قهر النفس والتغلب على هواها، وليس من درس يتعلم فيه الرجل قهر نفسه وقيادة زمامها أشد فعلا من الحياة العملية التي يتعلم فيها أن لا اعتماد إلا على نفسه، وليس من مربٍّ يأخذ بمجامع القلوب أكثر من تلك الحياة، فهي التي تقود المرء إلى الحياة الحقيقية، وهي المدرسة الطبيعة التي تريه كيف يتحمل المتاعب والرزايا، وهي الأسهل تناولا والأكثر شيوعًا وطلابا، تلك ضرورات أشد فعلا في النفوس من وعظ الواعظين ونصح الحكماء والمرشدين الذين يدخل كلامهم من إحدى الأذنين ويخرج من الأخرى؛ ذلك لأن الأعمال تدعو إلى العمل أكثر من الأقوال».
فالتجارب هي أساس العلم والأدب الحقيقيين. والحجاب مانع للمرأة من ورود هذا المنبع النفيس؛ لأن المرأة التي تعيش مسجونة في بيتها، ولا تبصر العالم مالا من نوافذ الجدران أو من بين أستار العربة، ولا تمشي إلا وهي كما قال الأمير عليّ القاضي: «ملتفة بكفن»، لا يمكن أن تكون إنسانا حيا شاعرًا خبيرًا بأحوال الناس, قادرا على أن يعيش بينهم.
ولا يكفي لإخراج المرأة المصرية من هذا الحياة الصناعية التي يشكو الكل منها، أن تمكث بضع سنين في المدرسة، ثم تنتقل منها إلى بيت تحتجب فيه بقية عمرها، بل يلزم أن تستمر في الاعتناء بجسمها وعقلها بعد المدرسة، ونشركها في حياتنا الطبيعية، يلزم أن نضع يدنا في يدها، ونسير معها في الأرض، ونريها عجائب الكون ولطائف الصناعة ودقائق الفنون وآثار الزمن الغابر، واختراعات الزمن الحاضر، يلزم أن تقاسمنا أفكارنا وآمالنا وأفراحنا وآلامنا، وتحضر مجالسنا، فتستفيد مما يعرض فيها من الأخلاق والأفكار والمباحث، وتفيدنا على رعاية الحشمة والتأدب في القول.
يقول معترض: «إنا نراك تريد أن تحسن حال المرأة المصرية بحملها على تقليد المرأة الغربية، فهلا أعرت تمدننا القديم الذي كان من أصوله احتجاب النساء — نظرةً، وهل من نفوس كريمة يهزها ذكرى مجدها القديم فتلتفت إلى أصوله لفتة علمية ترى أنه هو المجد الصحيح الذي يجب أن نشد له رواحل العزائم، والذي سيتضح للعالم أجمع يومًا ما أنه هو نفس الكمال الذي ينشده الإنسان ويلتمسه الوجدان؟».
هذا الاعتراض ربما يلذ للقارئ سماعه لطلاوة لفظه، وربما ينجذب إليه؛ لأنه يحرك الميل الغريزي في كل إنسان إلى التعلق بآثار الآباء والأجداد. ولكن الأجدر بنا أن نجعل للفظ تأثيرا فينا إلى حد يذهلنا عن الحق، وعلينا أن نأخذ أهبتنا لمقاومة سلطة العادات الموروثة إذا خشينا أن تسلبنا إرادتنا واختيارنا، والتعلق بالتقاليد الراسخة لا يحتاج إلى التحريض والترغيب؛ لأنه حالة لازمة للنفس آخذ بزمامها، فهي مستغرقة فيها من ذاتها، وإنما الذي يحتاج للتشويق والتشجيع هو التخلص من ماضٍ ضار، واعتناق مستقبل نافع.
إذا أمكنا أن نأخذ تلك الأهبة كان، أهم ما يجب علينا أن نلتفت إلى التمدن الإسلامي القديم ونرجع إليه، ولكن لا لننسخ منه صورة، ونحتذي مثال ما كان فيه سواء بسواء، بل لكي نزن ذلك التمدن بميزان العقل ونتدبر في أسباب ارتقاء الأمة الإسلامية وأسباب انحطاطها، ونستخلص من ذلك قاعدة يمكننا أن نقيم عليها بناء ننتفع به اليوم وفي ما يستقبل من الزمان.
ظهر الدين الإسلامي في جزيرة العرب بين قوم كانوا يعيشون في حال البداوة، أي في أدنى الحالات الاجتماعية، فأوجد بينهم رابطة ملية، وأخضعهم إلى رئيس واحد، ووضع لهم شرعا نسخ ما كان عندهم من العادات المتبعة في معاملاتهم من قديم الزمان، ولما أمرهم بالجهاد أخذوا يحاربون الأمم الأخرى، واستولوا عليها، ولم يكن ذلك بامتيازهم على من جاورهم من الأمم في العلوم والصنائع، ولكن كان يروح الوحدة التي بعثها الإسلام فيهم، مع استعدادهم الفطري للقتال، فلما اختلطوا بالمصريين والشاميين والفرس والصينين والهنود، وغيرهم وجدوا عند هؤلاء الأمم كثيرًا من العلوم والصنائع والفنون، فاستفادوا منها ونقلوا معظمها إلى لسانهم، سمحوا لأولئك المغلوبين، أن يأتوا في ترقيتها بما شاءوا، وظهرت عند ذلك نهضة علمية، كما هو الشأن في الأمم عقب كل انقلاب يجري لغاية صالحة، استمرت مدة أربعة قرون تقريبا.
على هذين الأساسين شيدت المدنية الإسلامية:
ولكن لما كان العلم في تلك الأوقات في أول نشأته، وكانت أصوله ضروبًا من الظنون لا يؤيد أكثرها بشيء من التجارب، كانت قوة العلم ضعيفة بجانب قوة الدين، فتغلب الفقهاء على رجال العلم، ووضعوهم تحت مراقبتهم، وزجوا بأنفسهم المسائل العلمية وانتقدوها. وحيث إنهم لم يأتوا إليها من بابها، ولم يجهدوا أنفسهم في فهمها، أخذوا يؤولون الكتاب والأحاديث بتأويلات استنبطوا منها أدلة على فساد المذاهب العلمية وحملوا الناس على أن يسيئوا الظن بها، وما زالوا يطعنون على رجال العلم ويرمونهم بالذندقة والكفر حتى نفر الكل من دراسة العلم وهجروه، وانتهى بهم الحال إلى الاعتقاد بأن العلوم جميعها باطلة إلا العلوم الدينية، بل غلوا في دينهم وشطوا في رأيهم حتى قالوا في العلوم الدينية نفسها إنها لا بد أن تقف عند حد لا يجوز لأحد أن يتجاوزه، فقرروا أن ما وضعه بعض الفقهاء هو الحق الأبدي الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه، وكأنهم رأوا من قواعد الدين أن تسد أبواب فضل الله على أهله أجمعين.
هذا النزاع الذي قام بين أهل الدين وأهل العلم، ولا أقول بين الدين والعلم، لم يكن خاصًا بالأمة الإسلامية، بل وقع كذلك عند الأوربية، ولكن لما كانت هذه الأمم قد ورثت علوم اليونان والرومان والعرب، كان وصول تلك العلوم إليها قرب تمام تكوينها، لم تحتج أروبا إلى زمن طويل في اكتشاف الأصول الحقيقية لتلك العلوم، وقد نالت منها في مائتي سنة ما لم ينله غيرها في آلاف السنين، وتوالت الاكتشافات العلمية يجر بعضها بعضا ويرشد بعضها إلى بعض، فمنها اكتشاف قوانين سير الكون، وتحليل الضوء، وسرعة سيره، وكيفية تكون الأصوات وسرعتها وشكل اهتزازتها، وعلمت ماهية الحرارة، وكيفية تكون الكرة الأرضية وحقيقة شكلها، وتكون الأرض وتقادم الإعصار عليها وعلى سكانها، وضروب التغيرات التي طرأت عليها والأدوار التي تقابلت فيها من وقت أن كانت كتلة نارية إلى أن ظهر عليها النوع الإنساني بعد جميع الأنواع الأخرى.
ثم عرفت قوانين الحياة، ووظائف الدورة الدموية والتنفس والهضم، وخصائص قوى الإدراك، وكيف تتكون خلايا الجسم وكيف تعيش وكيف تفنى؟ وصححت وكملت أصول الكيمياء والطبيعية.
من هذه الاكتشافات أخذ الكتاب والفلاسفة ما دعت إليه الحاجة ليعلموا الإنسان من أين أتى وإلى أين يذهب وما هو مستقبله، ووضعوا أساس العلوم الأدبية والاجتماعية والسياسية.
بكشف هذه الحقائق شيد العلم بناء متينا لا يمكن لعاقل أن يفكر في أن يهدمه، ولهذا تغلب رجال العلم على رجال الدين في أوربا بعد النزاع والجهاد، وانتهى الحال بأن صار للعلم سلطة يعترف له بها الناس كافة.
إنه يجب على كل مسلم أن يدرس التمدن الإسلامي ويقف على ظواهر وخفاياه؛ لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ويجب عليه أن يعجب به؛ لأنه عمل انتفعت به الإنسانية وكلمت به ما كان ناقصا منها في بعض أدوارها، ولكن كثيرًا من ظواهر هذا التمدن لا يمكن أن يدخل في نظام معيشتنا الاجتماعية الحالية.
أما من جهة النظامات السياسية، فلأننا مهما دققنا البحث في التاريخ لا نجد عند أهل تلك العصور ما يستحق أن يسمى نظاما، فإن شكل حكومتهم كان عبارة عن خليفة أو سلطان غير مقيد، يحكم بواسطة موظفين غير مقيدين، فكان الحاكم وعماله يجرون في إدارتهم على حسب إرادتهم، فإن كانوا صالحين رجعوا إلى أصول العدالة بقدر الإمكان، وإن كانوا غير ذلك خرجوا من حدود العدالة وعاملوا الناس بالعنف، ولم يكن في النظام ما يردهم إلى أصول الشريعة.
ربما يقال: إن هذا الخليفة كان يولى بعد أن يبايعه أفراد الأمة، وأن هذا يدل على أن سلطة الخليفة مستمدة من الشعب الذي هو صاحب الأمر, ونحن لا ننكر هذا، ولكن هذه السلطة التي لا يتمتع بها الشعب إلا بعض دقائق هي سلطة لفظية، أما في الحقيقة، فالخليفة هو وحده صاحب الأمر، فهو الذي يعلن الحرب ويعقد الصلح، ويقرر الضرائب ويضع الأحكام ويدير مصالح الأمة مستبدا برأيه ولا يرى من الواجب عليه أن يشرك أحدًا في أمره.
ومن الغريب أن المسلمين في جميع أزمان تمدنهم لم يبلغوا مبلغ الأمة اليونانية، ولم يتوصلوا إلى ما وصلت إليه الأمة اليونانية من جهة وضع النظامات اللازمة لحفظ مصالح الأمة وحريتها، فقد كان لتلك الأمم جمعيات نيابية ومجالس سياسية بها من الحكام في إدارة شئونها.
وأغرب من هذا أن أمراء المسلمين وفقهاءهم لم يفكروا في وضع قانون يبين الأعمال التي وجدوا أنها تستحق العقاب ويحددوا العقوبات عليها، بل تركوا حق التعزير إلى الحاكم يتصرف فيه كيف يشاء، مع أن بيان الجرائم وعقابها هما من أوليات أصول العدالة.
ولست محتاجا أن أقول: إنهم ما كانوا يعرفون شيئا من العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإن هذه العلوم حديثة العهد، وإذا أراد مكابر أن يتحقق من ذلك، فما عليه إلا أن يتصفح مقدمة ابن خلدون، وهو الكتاب الفرد الذي وضع في الأصول الأجتماعية عند المسلمين يرى أن الأصول التي اعتمد عليها لا يخلو معظمها من الخطأ، ويندهش على الخصوص عندما يرى أن هذه الكتاب الذي وضع للبحث في المسائل الاجتماعية، لم تذكر فيه كلمة واحدة في العائلة التي هي أساس كل هيئة اجتماعية، فإذا كانت حالتهم السياسية هي كما ترى، فما الذي يطلب منها أن تستعيره منها؟
كذلك إذا نظرنا إلى حالتهم العائلية نجد أنها مجردة عن كل نظام؛ حيث كان الرجل يكتفي في عقد زواجه بأن يكون أمام شاهدين، ويطلق زوجته بلا سبب أو بأوهى الأسباب، ويتزوج عدة نساء بدون مراعاة حدود الكتاب. كل ذلك كان واستمر إلى الآن على ما هو مشهور، ولم يفكر أحد من الحكام أو الفقهاء في وضع نظام يمنع انحلال روابط العائلة، وأقل ما كان يلزمهم لرفع ذلك الخلل أن يقروا مثلا إيقاع الطلاق.
وعقود الزواج والرجعة لا بد أن تكون أمام مأمور شرعي؛ حتى لا تبقى هذه الشئون موضعا للريب ومحلا للشبهة ومثارا للنزاع والشقاق.
أين هذه الفوضى من النظامات والقوانين التي وضعها الأوربيون لتأكيد روابط الزوجية وعلاقات الأهلية؟ بل أين هي من القوانين اليونانية والرومانية التي لم تغفل في جميع أدوارها عن أهمية العائلة وشأنها في الهيئة الاجتماعية؟ فأي شيء من هذا يمكن أن يكون صالحا لتحسين حالنا اليوم؟
بقي علينا أن نلتفت إلى التمدن الإسلامي من جهة الآداب، يعتقد أهل عصرنا أن المسلمين السابقين كانوا حائزين لجميع أنواع الكمالات الأخلاقية الصحيحة، وهو اعتقاد غير صحيح، أو على الأقل مبالغ فيه.
أما من جهة أصول الأدب، فالمعلوم أن المسلمين لم يأتوا للعالم بأصول جديدة، فقد سبق المسلمين أمم كاليهود والنصارى والبوذيين والصينيين والمصريين وغيرهم، وقد كانت تلك الأمم تعرف تلك الأصول، وضمنتها كتبها، ونزلت على بعضها في وحي سماوي.
وأما من جهة عمل المسلمين على مقتضى تلك الأصول الأدبية، فالتاريخ يشهد على أن كل كعصر لا يخلو من الطيّب والرديء والحسن والقبيح. وقد وصلت إلينا أخبار العرب مدونة في الكتب التاريخية والأدبية، فكشفت لنا الغطاء عن أخلاقهم ومعاملاتهم، واطلعنا على شعرهم وأمثالهم وأغانيهم فما وجدنا زمنا من الأزمان خاليا من الآداب الفاسدة والأخلاق الرذيلة والطبائع الدنيئة.
رأينا الدولة العربية من بعد وفاة النبي — صلى الله عليه وسلم — إلى آخر أيامها ممزقة بالمنازعات الداخلية الناشئة على التباغض والحقد وحب الذات، حتى في الأوقات التي كانت فيها الدولة مشتغلة بأهم الحروب مع الأمم الأخرى رأينا أحد أولاد عليّ — رضي الله عنه — تزوج بأكثر من مائة امرأة حتى التجأ والده أن ينصح الناس بألا يزوجوه بناتهم؟
ورأينا من الرجال من كان يعترض النساء في الطريق ويختلس النظر إليهم من خروق الحائط! رأينا من أمرائهم وأعاظمهم من كان يشرب الخمر؛ حتى لا يعي ما يقول في مجالس تحضرها الجواري وتطرب الحاضرين بنغمات الموسيقى!.. رأينا من شعرائهم من يستجدي العطايا ويمد يده ملتمسا رزقه من فضلات الأمراء والأغنياء، ومنهم من يمدح نفسه ويثني عليها، ويذهب في ذلك إلى حد ليس بعده إلا الجنون، أو يتغزل في ولد، أو يهجو خصمه بعبارات الفحش وألفاظ الوقاحة التي يستحى من تصورها، فضلا عن التفوه بها! رأينا من مؤرخيهم من يزور في التاريخ ومن فقهائهم من يخترع الأحاديث ويضعها لغايته الذاتية!
فأيّ زمن من الأزمان السابقة كان منزهًا عن العيوب حتى يصح أن يقال: إنه نموذج الكمال البشري؟ الكمال البشري لا يجب أن نبحث عنه في الماضي، بل إن أراد الله أن يمن على عباده فلا يكون إلا في المستقبل البعيد جدا.
من أغرب ما اعتاد عليه العقل الإنساني أن يظن أن العصر الذي هو فيه أحط منزلة في الكمال من العصر الذي سبقه. ومنشأ ذلك أن الأبناء ينشئون على احترام آبائهم وتعظيم كل ما يصدر عنهم، فالكمال عندهم ما وجدوا عليه آباءهم، ويزيد ذلك تقريرا في نفوسهم أن الآباء يستهجنون دائما ما صار إليه أبناؤهم مما لم يكن معهودا لهم، لا يستطيعون أن يغيروا أنفسهم، فيكون وهم الأبناء وغرور الآباء كل منهما عونا للآخر على استقباح الحاضر وعبادة الماضي.
ولو صح ما يزعمون لكان أكمل إنسان هو أول من وجد من نوعه، ولاستمر النقض عصرًا بعد عصرا إلى هذا اليوم، ولكانت نهاية الإنسان أن يصير حيوانا أعجم، أنه من الثابت أن عصورًا مضت على النوع الإنساني وهو في أدنى مراتب الإنسانية، ثم ارتقى بالتدريج إلى أن وصل إلى هذه الدرجة العليا التي يحق له أن يفتخر بها.
متى تقرر أن المدنية الإسلامية القديمة هي غير ما هو راسخ في مخيلة الكتاب الذين وصفوها بما يحبون أن تكون عليه، لا بما كانت في الحقيقة عليه، وثبت أنها كانت ناقصة من وجوه كثيرة، فسيان عندنا بعد ذلك أن احتجاج المرأة كان من أصولها أو لم يكن، وساء صح أن النساء في أزمان خلافة بغداد أو الأندلس كن يحضرن مجالس الرجال أو لم يصح، فقد صح أن الحجاب هو عادة لا يليق استعمالها في عصرنا.
ونحن لا نستغرب أن المدينة الإسلامية أخطأت في فهم طبيعة المرأة وتقدير شأنها، فليس خطؤها في ذلك أكبر من خطئها في كثير من الأمور الأخرى.
وغني عن البيان أننا عند كلامنا على المدينة الإسلامية لم نقصد الحكم عليها من جهة الدين، بل من جهة العلوم والفنون والصنايع والآداب والعادات، التي يكون مجموعها الحالة الاجتماعية التي اختصت بها؛ ذلك لأن عامل الدين لم يكن وحده المؤثر في وجود تلك الحالة الاجتماعية فهو على ما به من قوة السلطان على الأخلاق لم ينتج إلا أثرا مناسبا لدرجة عقول وآداب الأمم التي سبقت.
والذي أراه أن تمسكنا بالماضي إلى هذا الحد هو من الأهواء التي يجب أن ننهض جميعا لمحاربتها؛ لأنه ميل يجرنا إلى التدني والتقهقر، ولا يوجد سبب في بقاء هذا الميل في نفوسنا إلا شعورنا بأننا ضعاف عاجزون عن إنشاء حال خاصة بنا تليق بزماننا ويمكن أن تستقيم بها مصالحنا، فهو صورة من صور الاتكال على الغير، كأن كلا منا يناجي نفسه قائلا لها: اتركي الفكر والعمل والعناء، واسترخي؛ فليس في الإمكان أن نأتي بأبدع مما كان!
هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه، وليس من دواء إلا أن نربي أولادنا على أن يعرفوا شئون المدينة الغربية ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها.
إذا أتى هذا الحين — ونرجو ألا يكون بعيدا — انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس، وعرفنا قيمة التمدن الغربي، وتيقنا أنه من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسسا على العلوم العصرية الحديثة، وأن أحوال الإنسان مهما اختلفت وسواء كانت مادية أو أدبية خاضعة لسلطة العلم.
لهذا نرى أن الأمم المتمدنة على اختلافها في الجنس واللغة والوطن والدين متشابهة تشابها عظيما في شكل حكومتها وإدارتها ومحاكمها، ونظام عائلتها، وطرق تربيتها ولغاتها وكتابتها ومبانيها وطرقها، بل في كثير من العادات البسيطة كالملبس والتحية والأكل، أما من جهة العلوم والصنايع فلا يوجد اختلاف إلا من حيث كونها تزيد أو تنقص في أمة عن أمة أخرى.
من هذا يتبين أن نتيجة التمدن هي سوق الإنسانية في طريق واحد، وأن التباين الذي يشاهد بين الأمم المتوحشة أو التي لم تصل إلى درجة معلومة من التمدن منشؤه أن أولئك الأمم لم تهتد إلى وضع حالتها الاجتماعية على أصول علمية.
هذا هو الذي جعلنا نضرب الأمثال بالأوربيين ونشيد بتقليدهم، وحملنا على أن نستلفت الأنظار إلى المرأة الأوربية.
هذه مسألة تحديد حقوق المرأة وتربيتها قد اجتهدت كثيرا في أن أقف على رأي علماء المسلمين فيها، من المتقدمين أو المتأخرين، فما وجدت شيئا، وقد نبهني أصحابي إلى كتاب ألفه في هذا الموضوع حضرة الشيخ حمزة فتح الله المفتش بنظارة المعارف، وقد قرأته من أوله إلى آخره، فوجدته يحتوي على كل شيء، ولكنه لم يشتمل على شيء مما وضع الكتاب لأجله!
ومن الغريب أن الذين لم يرق في نظرهم إعجابنا بالأوربيين اضطروا جميعهم بمن فيهم الشيخ الأزهري أن يستشهدوا في الرد علينا بآراء بعض العلماء والكتاب الأوربيين، نساء ورجالا!
فإن كان منهم من يقول:إني قليل الاطلاع على ما كتبه المسلمون، قصير الباع في علومهم، فأنا لا أجادله في هذا، وإنما يسرني ويملأ قلبي بهجة أن أرى كتابا إسلاميا، قديما أو جديدا، يحتوي على حقوق المرأة وما يجب عليها من حيث هي امرأة وزوجة وأم وفرد من أمة، فإن جاءني من يزعم قلة اطلاعي وقصر باعي بكتاب مثل هذا، أثقلته حمدا وشكرا.
وسيقول أرباب الأفكار عندنا: إنا نسلم بأن المدنية الأوربية صحيحة حسنة نافعة بالنسبة للعلوم التي توصلت إلى جمعها وإنمائها واستخدامها، ولكنها فاسدة رديئة ضارة بالنسبة للأخلاق والآداب التي تلازمها في كل مكان وصلت إليه.
فهم يعترفون للغربيين بأنهم أرقى منا في العلوم والفنون والصنايع، ويعترفون بأن معارفهم أوصلتهم إلى توجيه أعمالهم في طريق تحصيل منافعهم بأحسن الوسائل الموصلة إلى السعادة في هذه الدنيا، ولكنهم متى رأوا طرق معاملاتهم بعضهم مع بعض، وخصوصا كيفية معاملة رجالهم لنسائهم، أو سمعوا بها، تغير حكمهم عليهم تغيرا كليا، وأعرضوا عن فهم ما هم فيه، وصرحوا بأنهم أحط منا في الآداب.
هذا الاعتقاد يشبه أن يكون عاما فينا كما يلاحظ من يقرأ الجرائد ومن يلتفت إلى الأحاديث التي تدور بين الناس، وهو اعتقاد لا يصعب علينا بيان سببه.
ذلك آثارهما محيطة بنا من جميع أطرافنا، فكلما التفتنا إلى جهة من جهاتنا وجدنا أثرا منها مشهودا، نراها في البيت في مأكلنا ومشربنا وملبسنا، وجميع أدوات المنزل وأثاثه، نراها في المدرسة مدة التعليم، ثم من النظامات التي تدور عليها جميع أصول وفروع إدارتنا وحكومتنا، نراها في الطريق على شكل عمارات فاخرة وجوانب كبيرة وبساتين منتظمة، وشوارع نظيفة تسير فيها العربات والآلات البخارية والكهربية، وبالجملة نرى في كل آن وفي كل مكان برهانا ماديا لا يمكن معه إلا التسليم بأننا متأخرون عن الغربيين كثيرا في المعارف العلمية والصناعية.
وكأنما نريد أن نمحو العار الذي يلحقنا من هذا الاعتراف ونأخذ بثأرنا، فلا نجد وسيلة لذلك إلا أن ندعي أننا أرقى منهم في الآداب، وأنهم إن سبقونا في الماديات ومظاهرها فقد سبقناهم في الروحانيات وسرائرها.
وإنما سهل علينا التمسك بهذه الدعوى؛ لأن التقدم في الماديات مما يقع تحت الحس، فلا يمكن إنكاره، أما التقدم في الأمور المعنوية فهو مما لا يدرك إلا بالعقل، فلا يقف عليه كل إنسان ويجد المكابر في غيبته عن الحس مجالا للإنكار، وقد يساعد المكابر في مكابرته ما يراه أو يسمع به في البلاط الغربية من كثرة الملاهي ومسارح الشهوات وغير ذلك من سيئ العادات التي يتبرأ منها الغربيون أنفسهم ويتألمون لانتشارها، والعقلاء منهم يسعون في محوها أو تقليلها، ولكنهم يأسفون على أن مساعيهم تعجز عن الوصول إلى ما يتمنون، فاغتنمنا فرصة وجود هذه العيوب، وأقمنا منها حجة لتأييد دعوانا.
ومما أخذناه على الغربيين في آدابهم تكشف نسائهم واختلاطهن بالرجال، وتمتعهن بالحرية التامة واحترام الرجال لهن، وكثير منا يعد هذه العادات أسبابا لفشو الفساد فيهم، ويعتقدون أن جميع نسائهم لا يعرفن العفة، وكل الرجال مجردون من الغيرة.
ولما كانت غاية التمدن هي تهذيب النفس وتطهيرها من الرذائل والابتعاد بها عن المنكرات والخبائث، ونشر الفضيلة بين الناس، كان لنا الحق في احتقار المدنية الأوربية، إن صح ما اعتقدناه فيها.
ولكن هل هذا الاعتقاد صحيح؟
إن العداوة القديمة التي استمرت أجيالا بين أهل الشرق والغرب، بسبب اختلاف الدين، كانت ولا تزال إلى الآن بسبب في جهل بعضهم أحوال بعض، وأساء كل منهم الظن بالآخر، وأثرت في عقولهم حتى جعلتهم يتصورون الأشياء على غير حقيقتها؛ إذ لا شيء يبعد الإنسان عن الحقيقة أكثر من أن يكون عند النظر إليها تحت سلطان شهوة من الشهوات؛ لأنه أن كان مخلصا في بحثه محبا للوقوف على الحقيقة، وهو ما يندر وجوده، فلابد أن شهوته تشوش عليه في حكمه، وأدنى آثارها أن تزين له ما يوافقها وتستميله إليه، وإن كان من الذين لا منزلة للحق من نفوسهم — وهم السواد الأعظم — ضربوا دون الحق أستارًا من الأكاذيب والأوهام والأضاليل مما تسوله لهم شهوتهم؛ حتى لا يبقى لشعاع من أشعة الحق منفذ إلى القلوب.
وزد على ذلك أن التربية العلمية لم توجد في العالم الغربي إلا من زمن قريب، وهي لا تزال إلى الآن مفقودة في الشرق، والمحروم من هذه التربية لا يسهل عليه أن يبني أحكامه على مقدمات صحيحة؛ لأن الجاهل يستمد حكمه من إحساسه لا من عقله، فهو لا يستحسن الشيء؛ لأنه مطابق للحق، وإنما يعتقد الشيء مطابقًا للحق؛ لأنه يستحسنه، بخلاف المتعود على الأبحاث العلمية، فإن عقله ينخدع بإحساسه، فكلما أراد أن يشتغل بمسألة طبيعية أو تاريخية مثلا، جمع الحوادث التي تتعلق بها ورتب الوقائع واستنبط منها القاعدة التي يحكم بصحتها بناء على ما حصل من المقدمات، غير صادر في ذلك إلا عن حب الحقيقة، فإذا عرض له أن يشتغل بالنظر في حال جاره أو عدوه استعمل الطريقة التي ألفها، وسلم بما تؤدي إليه من النتائج وخضع لها ولو كانت مخالفة لما يهواه.
ولقد وصل الغربيون إلى درجة رفيعة من التربية، واشتغل كثير ممن كملت فيهم تلك التربية بالبحث عن أحوال الشرقيين والمسلمين، وكتبوا في عادتهم ولغتهم وآثارهم ودينهم، وألفوا فيها كتبا نفيسة أودعوها آراءهم من نتائج بحثهم. وامتدحوا ما رأوه مستحقا للمدح، وقدحوا في ما رأوه محلا للقدح، غير ناظرين في ذلك إلا إلى تقرير الحق وإعلان الحقيقة، صادفوا الصواب أم أخطئوه.
أما عندنا فلم تبلغ التربية من الناس هذه المبلغ؛ ولهذا كان حكم كتابنا في هذه الأشياء في قيادة الشهوات وتحت سلطة الإحساس والإلف والعادة، ومن وجد لشعاع الحق لمعانا في بصيرته، ووجد من خوف اللائمة عقيدة في لسانه تمنعه من إظهاره، أو حمله الرياء على إطالة القول في تأييد ما لا يعتقده، فإذا وجد بينهم مخلصًا في القصد طالب للحق وجهر به، كان نصيبه أن يتهم بالتجرد عن الوطنية وبالعداوة للدين والملة — وأشدهم اقتصادا في ذمه يرميه بالبطش والخفة؛ توهما منه أن الاعتراف بفضل الأجنبي مما يزيد طمع الأجانب فينا، وأن إظهار عيوبنا مما يوقع اليأس في قلوبنا.
ولا عذر لهم في حكمهم هذا إلا أنهم قد جروا فيه على سنتهم في سائر أحكامهم، وإلا فهم مخطئون؛ لأن السبب في طمح الأجانب فينا ليس هو اعترافنا بانحطاطنا، وإنما هو نفس ذلك الانحطاط الذي عرفه الأجانب منا قبل أن نحس به من أنفسنا، فهم قد اكتشفوا ما كانت عليه بلادنا منذ خمسة آلاف سنة، ووقفوا على أخلاق المصريين وتفصيل أحوالهم في معيشتهم أيام الفراعنة، وجمعوا من حقائق ذلك الوقت شيئا كثيرا لم يصل إلينا إلا منهم، وقليل منا من يعرفه! فلا عجب أن يكونوا أسبق منا إلى معرفة حالتنا الحاضرة. نقصها وكمالها.
ثم لا خوف أن يلحقنا اليأس عند شعورنا بانحطاطنا؛ لأن اليأس إنما يكون عند استحالة الخلاص من التهلكة، وليس لهذه الاستحالة محل بالنسبة إلينا، خصوصا أن الأمم لا تقف في حياتها عند حد، بل هي موضوع للتقلبات والتغيرات، وتتوارد عليها أحوال القوة والضعف والشدة والرخاء، فلا تدوم على حال، وإذا عرضت عليها الشدة يوما لا تلبث أن تخرج مها بجهدها واجتهادها.
وبدهيّ أن التوجه إلى الإصلاح والكمال لا يمكن إلا بعد شعور بالنقص، فلما لم تستشعر الأمة بتأخرها عن الأمم الأخرى، وتقصيرها عن الوصول إلى ما وصل إليه من غايات الكمال لا تنبعث إلى التقدم ولا تتحرك لإدراك غاية من هذه الغايات؛ ولذلك كان تنبيه الأمة إلى نقصها وإشعارها بحقيقة منزلتها من بقية الأمم أول فرض يجب القيام به، كما أن شعور الأمة بهذا النقص يعد أول خطوة في سبيل ترقيتها.
لهذا لا نتردد في أن نصرح بأن القول بأننا أرقى من الغربيين في الآداب، هو من قبيل ما تنشده الأمهات من النغائم لتنويم الأطفال!
وغاية ما في الأمر أن تقدم الأوربيين علينا من هذه الجهة لا يقام الدليل عليه بآثار مادية، كتقدمهم في العلوم والصنائع. وإنما يعرفه من خالطهم واختبرهم في ظاهر شئونهم وباطنها حتى وقف على منزلتهم من الخصائص الأدبية.
ينقسم الأوربيون، كما تنقسم سائر الأمم، إلى ثلاث طبقات: عليا، ووسطى ودنيا، فأما الطبقة الدنيا فأكبر حظها من التربية معرفة القراءة والكتابة وقليل من مبادئ العلوم، وهم في أخلاقهم الشخصية أشد فسادا من عامتنا في أخلاقهم.
وأما الطبقة العليا فتصيب حظًا عظيما من التربية العقلية، ولكن يغلب عليها ما يغري به الغنى والبطالة، وتستولي عليها الشهوات، فهو يتفننون في اللذائذ تفنن أهل الجد في الاختراعات والصنائع.
وسبب ذلك أن التمدن الذي يعيشون فيه قد يسهّل لهم إرضاء شهواتهم، ويجدون من الوسائل لذلك ما لا يوجد عندنا، فأبدعوا في اختراع طرق التلذذ، وأعطوها الأشكال التي تجذب النفوس إليها، فالكهرباء مثلا التي تضيء المدن وتنقل الأخبار، وينتفع منها الزراع والتجار والصانع والمسافر والمريض، تقوم لأرباب الخلاعة بخدمات من الوجه الذي يناسبهم. وكذلك ترى لهم جرائد وكتبا وميادين تمثيل تختص بهم، كما أن لهم الجنان الناضرة والقصور الشاهقة.
هذا الفساد مما تتحمله المدنية المغربية وتصير عليه؛ لأنها لا تستطيع محوه، فإن هذه المدينة مؤسسة على الحرية الشخصية. فهي مضطرة لأن تقبل ما يتبع هذه الحرية من الضرر؛ لأنها تعلم أن منافعها أكثر من مضارها.
فوجود الفساد في الغرب إنما هو لاحق طبيعيي من لواحق الحرية الشخصية ونتيجة من نتائجها في الطور الأدبي الحالي الذي توجد فيه تلك البلاد الآن.
ولا يشك أحد في أنه مع مرور الزمن وانتشار المعارف، وتحسين طرق التربية في طبقات الأمة، عاليها ودانيها، تتهذب النفوس شيئا فشيئا، وتقرب من الكمال الذي هو ضالتها.
غير أنه لا يفوت القارئ أن هذا الفساد الذي ذكرناه في الأمم الغربية لم يضعف فيهم الفضائل الاجتماعية التي هي الركن الأقوى لبناء الأمم، وما يتبع تلك الفضائل من بذل الأنفس والأموال في سبيل تعزيز الوطن أو الدفاع عنه، فأدنى رجل في الغرب كأعلى رجل فيه إذا دعا داع إلى هجوم أو قيام لدفاع، أو إلى عمل نافع، يترك جميع لذائذه وينساها، وينهض لإجابة الداعي ويخاطر بنفسه ويبذل ماله إلى أن يتم للأمة ما تريد، فأين حال هاتين الطبقتين من هذه الفضائل الجليلة في الأمم الغربية من حالة الأمم الشرقية؟
وأما الطبقة الوسطى فلا ريب أنها أرقى من التي تقابلها عندنا، نحن في الحقيقة لا نعرف من أحوال الغربيين إلا بعض ما ظهر منا، والكثير منا لا تزيد معرفته على ما عرف منها في الشوارع والقهاوي، وما قرأه في بعض القصص والحكايات، وليس من الحق ولا من العدل أن نظن هذه الظواهر هي صورة تامة لحقيقة منزلتهم من الأدب.
من أراد أن يكون حكمه فيهم صحيحا، فعليه أن يلم بجميع مظاهر حياة تلك الأمم ويقف على جميع الإحساسات والعواطف التي تحرك نفوسهم، وهذا أمر يحتاج لمعرفة تامة بلغتهم وتاريخهم وعاداتهم وأخلاقهم، فإذا تمت للباحث هذه الشروط أمكنه أن يعرف لم يهب رجل ألماني حياته ويترك زوجته وأولاده مساعدة لأمة البوير؟
ولماذا يحتقر عالم من العلماء طيب العيش ولذائذ الحياة ويرجح الاشتغال بحل مسألة أو كشف غامضة أو فهم علة؟ وكيف أن سياسيا واسع الثروة عالي المقام يفني زمنه في تدبير الوسائل لإعلاء شأن أمته، وربما حرم نفسه راحة النوم من ذلك السبيل؟ وما هو المحرك للسائح الذي يقضي الشهور والسنين بعيدا عن أهله وبلده؛ لكشف منابع النيل مثلا؟ وما هو الإحساس الذي يرضي القسيس بالمعيشة بين المتوحشين مع ما يتكبده من أنواع العذاب، وما يحيط به من الأخطار؟ وما هذا الوجدان الذي يسوق الغني إلى أن يبذل آلافا من الجنيهات لجمعية من الجمعيات الخيرية أو لعمل يعود نفعه على أمته أو على الإنسانية؟
إذا علم السر في هذه الصفات ومصادر هذه الأعمال الجليلة، ثم علم ما بين أعضاء العائلات من الوفاق والائتلاف والمحبة، ونظر إلى ما في معاملاتهم من الصدق في القول والغيرة على الحق ونمو إحساس الشرف والميل إلى مساعدة الضعيف والفقير، والرأفة بالحيوان، فلا شك أنه ينتهي من هذا العلم بنتيجة صحيحة، وهي أن هؤلاء القوم على جانب عظيم من الأدب والفضيلة؛ لأن هذه الأعمال والأحوال تدل على ضعف سلطان حب النفس، كما تدل على نمو الإحساس بحاجة كل من أفراد الأمة إلى الآخر، والترقي الأدبي إنما هو التضامن بعينه.
وليس هذا بغريب، فإن التقدم في العلوم يؤدي إلى التقدم في الآداب والأخلاق، لا ريب أن الارتقاء العقلي يصحبه الارتقاء الأدبي دائما، فإن العلم هو المادة التي يتغذى منها الأدب، لا أقول: إنه لا يوجد الأدب إلا حيث يوجد العلم، وإنما أقول: إن أدب الجاهل لا يمكن أن يكون ثابتا في نفسه مثل ثبات الأدب في نفس العالم، العلم يخاطب العقل والحقائق العلمية لا تطلب أن يسلم بها من غير مناقشة، بل تحتاج إلي بحث وتعب وشغل، والاعتياد على الاشتغال بالعلم يكسب الاعتياد على ضبط النفس، الذي هو أهم أركان الأدب، فإن هم شخص أشربت نفسه العلم أن يعمل أمرا مخالفا للآداب نزع منه نازع إلى النظر في ذلك الأمر، وآثاره ومزاياه ومضاره، ثم رجع إلى نفسه ليعلم هل هو يصح لها أو لا يصح؟ ويندر حينئذ أن يقدم عليه.
أما الجاهل فإن كان فاضلا لم تكن الفضيلة فيه إلا عادة مجردة، وهو مستعد للإذعان إلى ما يتأثر به، حسنا أو قبيحا، ومائل إلى قبول ما يرى أغلب الناس عليه بدون بحث، فإذا انقطعت العادة مرة، وذاق لذة الرذيلة، انفلت قياد نفسه من يده، واستحال عليه أن يرجع إلى ما كان عليه من قبل.
رأينا أن العلم يقوي حكم العقل ويهذب النفس، وأضيف على ذلك أنه يعظم الإحساس الديني، وليس في ذكر هذه العبارة خروج عن الموضوع؛ لأن الدين والأدب يرجعان في الحقيقة إلى شيء واحد.
«ليس العلم منافيا للإحساس الديني، كما يزعم كثير من الناس، بل ترك العلم هو المنافي للدين، ولنضرب لذلك مثلا فنفرض أن عالما من كبار المؤلفين يصنف الكتب ويقرر الحقائق، والناس يثنون عليه ويطلقون ألسنتهم بمدحه، ولكنهم مع ذلك لم يروا من كتبه إلا أغلفتها، ولم يقرءوا شيئا منها، ولم يجهدوا أنفسهم يوما في فهم ما احتوت عليه، فماذا تكون قيمة هذه المدح في نظرنا؟ وما الذي نعتقده في صدق هؤلاء المادحين إن جاز لنا أن نقيس عظائم الأشياء بصغارها؟ نقول: إن الناس يعاملون الكون وخالقه بهذه المعاملة! وأدهى ما يأتون من تلك المعاملة أنهم لا يكتفون بأن يعيشوا ويموتوا وهم لا يعرفون حقيقة من حقائق تلك الأشياء التي ينادون بأنها من أبداع البدائع وأغرب الغرائب، بل ينحون باللائمة على من يشتغل بفهم حقائقها، والوقوف على ما أودع فيها من الأسرار، ولو فقهوا لعلموا أن إهمال العلم هو الضعف للإحساس الديني، بل الماحق له.
أما خدمة العلم فهي عبادة يؤديها القلب؛ لأن خدمة العلم في اعتراف ضمني بأن للمخلوقات قيمة عالية، وأن الذي أوجدها له شأن أعلى ومقام أسمى. خدمة العلم هي احترام للكون وصانعه يؤديه طالب العلم، لا بمجرد الفم واللسان ولكن ببذل وقته وفكره وعمله».
نستنتج مما سبق أن تقدم الغربيين في العلوم ساعد كل المساعدة على ترقيتهم في الأدب، وأن تأخر المعارف عندنا كان سببا في انحطاط أدبنا.
وهذه حوادث عائلاتنا وما يجرى فيها بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والزوج وزوجته مما لا يحتاج بيانه إلى تفصيل. وهذه حوادث القرى وما يشاهد فيها من الحسد والتباغض والخيانة والمنازعات والجرائم والبهيمية التي يحار العقل فيها، وهذه حوادث الوطن وما يرى في روابط أهله من الانحلال، وتفرقهم في الرأي في أحقر الشئون وحرصهم على المال ألا ينفقوه في سبيل أية منفعة من المنافع العامة، وضنهم بشيء من أوقاتهم للفكر في أية مصلحة من مصالح بلادهم، كل هذا برهان على انحطاط أخلاقنا، وما يكون عندنا من محاسن الأخلاق، كالكرم المعهود في كثير من بلاد الأرياف، يرجع في الحقيقة إلى عيب من العيوب كالتنافس في حب الشهرة؛ ولهذا ترى الكثير من أعيان البلاد، المشهورين بإكرام الضيف والمبالغة في الاحتفال به، يسيرون في سائر شئونهم على خلاف مقتضى الكرم؛ فيظلمون الفقير ويطمعون في أموال الضعفاء في أقاربهم، وخصوصا النساء منهم، ويضيقون على عائلاتهم في المعيشة، ويأتون من ذلك ما تأباه النفس الكريمة.
وحال الأمة التركية لا يختلف في ذلك عن حالنا، نعم، في بعض بلاد الريف هناك رقي في الأدب والأخلاق، وامتياز لها على الأخلاق والآداب المصرية، ولكن لا سبب لذلك ألا أن التركي يعيش في قريته بغاية السذاجة، وعلى ضرب من سعة العيش، فلا يجد ما يحمله على ارتكاب ما يخالف الآداب الحسنة، وهو بعيد عن كثير من الرذائل؛ لأنه يجهلها ولا يتصور وجودها، فإذا فارق قريته وسكن مدينة من المدن رأيته لا يجاريه أحد في مسابقة أهلها إلى مراتع اللذات ومسارح الشهوات، وفاق أمثاله في جميع العيون الأخرى!
بالجملة نقول: إن التمدن الأوربي ليس خيرا محضًا، فإن الخير المحض ليس موجودا في عالمنا هذا؛ لأنه عالم النقص، وإنما هو الخير الذي أمكن للإنسان أن يصل إليه الآن. فقد أتم به شيئا مما كان ينقصه، وارتقى به درجة من الكمال.
ومهما كانت هذه النتيجة صغيرة، في جانب ما ينتظر للنفس الإنسانية من الكمال، فإنه ينبغي لنا أن نقنع بها، وعلى المستقبل أن يصل بأهله إلى ما هو أعلى منها.
ومن الخطأ ما يتوهمه الكثير منا أن الترقي يحصل في بعض شئون الأمة، ولا يؤثر في سائرها، والصواب أن الترقي لا يكون ترقيا صحيحا إلا إذا وجد منه روح تظهر في جميع شئون الأمة، جزئياتها وكلياتها، حتى إذا شاء باحث أن يحلل جملته وجدها مركبة من جزئيات من الترقي تظهر في المسكن والمطعم والملبس والمباني والطرق والجمعيات والأفراح والمآتم وأساليب التعليم والتربية، والتياترات والملاهي، كما تظهر في الصنائع والتجارة والزراعة والعلوم والفنون، وعلى الجملة يجد أثرا للترقي في جميع مظاهر حياتها العقلية والأدبية.
ذلك لأن الحالة العقلية والحالة الأدبية متلازمتان تلازما تاما بل هما في الحقيقة حالة واحدة، وإنما وضع لهما اسمان بحسب اختلاف الجهة التي ينظر منها إليها، فإن كل معلوم يرد على العقل يفيده معرفة جيدة، ثم هو بهذه الإفادة نفسها يدخل في نظم سلوكنا، ولو كان العلم مقصورًا على المعرفة فقط وليس له أثر في العمل لفقد معظم أهميته إلّم نقل كلها.
وأما اختلاف عادات الغربيين عن عاداتنا، وخروج نسائهم مكشوفات الوجوه واجتماعهن مع الرجال، وتمتعهن بالحرية، واحترام الرجال لهن، فليس مما يدل على انحطاط الآداب عندهم.
نعم، يعد الكثير منا هذه العادات عيوبا، ولكن إذا سئلت: لماذا يعامل الغربيون نساءهم على هذه الطريقة؟
لماذا يحترم الرجل منهم امرأته ويجلسها عن يمينه ويحب أن تكون نبيهة متعلمة؟
لماذا يسمح لها أن تخرج متى شاءت وتسافر وتخالط الرجال والنساء؟
لماذا كل هذه الحرية وكل هذا الاحترام؟
فجواب الواحد منا لا يكون إلا أن هذه هي عادتهم السيئة. ولكن هذا الجواب لا يفيد شيئا؛ لأنه يستدعي سؤالا آخر، وهو: لماذا كانت هذه العادة؟
وهنا يتيسر له الجواب.
لو كان موضوع بحثنا عادة من عادات أمة متوحشة لسهل علينا أن نقول: إن هذه العادة طرأت عليها بحكم الحوادث، وتلك الأمة تعمل تحت سلطانها بدون أن تفكر فيها، وهي تجهل أصلها وارتباطها بأحوالها كما تجهل الأثر الذي ينشأ عنها في شئونها.
ولكن مما لا يسلمه العقل أن أهل أوربا وأمريكا يسيرون على هذه العادة من غير شعور منهم بأسبابها ونتائجها، ويصعب على العقل أن يظن أن علماءهم الذين يجهدون أنفسهم كل يوم في اكتشاف أسرار الطبيعة، وأن هؤلاء الذين بحثوا عن الميكروبات ووجدوها وبينوا أنواعها ووصفوها بأدق أوصافها وربوها واستولدوها، غفلوا عن هذه العادة وأهملوها.
والحقيقة أنهم درسوها درسا تاما، كغيرها من المسائل الأخرى وقارنوا بينها وبين عاداتنا الشرقية، ولا أعلم أن واحدا منهم قام ينادي قومه يوما ويحثهم على تغييرها، بل الكل متفقون على أن حجاب النساء هو سبب انحطاط الشرق. وأن عدم الحجاب هو السر في تقدم الغرب، وإنما الخلاف يوجد بينهم في تحديد حقوق المرأة السياسية كما بيناه.
هذا الإجماع أمر جدير بأن يستوقف نظرنا. وجد بين الغربيين رجال يرون أن الملكية الخاصة هي سرقة، وأن الأموال يجب أن تكون ملكا شائعا بين جميع أفراد الأمة. وظهر فيهم من يقول بإلغاء نظام الزواج؛ حتى تكون العلاقات بين الرجل والمرأة حرة لا تخضع لنظام، ولا يحددها قانون، وخرج منهم طائفة تنادي بهدم كل نظام وشرع. ولا تعترف الحكومة مهما كان شكلها بحق الوجود، ومع ذلك لم يخطر على بال واحد منهم أن يطلب حجاب النساء. بل ترى الأمر بالعكس، فإن المتطرفين من أرباب المذاهب يطلبون التوسع في حرية المرأة والزيادة في حقوقها إلى أن تصير مساوية للرجل، فهم على شططهم متفقون في ذلك مع أرباب المشارب المعتدلة.
فما هو سر هذا الاتفاق وما سببه؟
لأن الأوربيين لا يحبون التغيير في عاداتهم؟ كلا. فإن التغيير عندهم هو قانون تقدمهم، ومن ألقى نظرة عامة في تاريخهم من قرن واحد يجد أنهم غيروا كل شيء عندهم، غيروا حكومتهم ولغتهم علومهم وفنونهم وقوانينهم وملابسهم وعاداتهم، وأن كل ما وصت إليه هذه الأمور معرض الآن لانتقاد الباحثين منهم ومهدد بالتغيير والتبديل من وقت إلى آخر.
كذلك لا يصح أن يكون من أسباب هذا الاتفاق ما يقال من أن الأوربيين لا يقدرون شرف النفس حق قدره ولا يغارون على نسائهم، هذا القول الذي سمعته من كثير من الناس لا يمكن أن يصدر إلا من قليل الخبرة، ناقص المعرفة، لم يقف على شيء من أحوال سكان تلك البلاد، فهو لا يدري منها أكثر ما يدريه من أحوالنا سائح غربي يدور في (الأزبكية) وما جاورها، ويكتب من عوائدنا ما يراه من الطائفين حول تلك الأماكن المشهورة. إذن فما هو السبب؟
السبب هو أن مسألة حقوق المرأة وحريتها ليست في الحقيقة مجرد عادة، نرى الغربي يرفع قبعته إذا أراد التحية، والشرقي يحرك يده ويضعها على رأسه، فهذه عادة من العادات يمكن أن يكون لها ارتباط بتاريخ الشرق والغرب، ولكن أهميتها لا تتعدى الموضوع الصغير الذي وضعت لأجله، ولا يمكن أن يترتب عليها نتيجة في الحياة الشخصية أو العامة، أما كون المرأة تتعلم أو لا تتعلم، وتعيش مسجونة في البيت أو متمتعة بحريتها، وتخالط الرجال أو لا تخالطهن، وما هي حقوقها في الزواج والطلاق، وماذا يكون شأنها في العائلة وفي الأمة؟ فهذه أولا مسألة اجتماعية، فهي بذلك مسألة علمية، ولا غرابة بعد ذلك في حصول الاتفاق فيها.
لهذا يلزمنا بدل أن نهزأ بالغربيين ونحكم عليهم بمقتضى قاعدة تخيلناها، وهي أنهم ضلوا عن الحق فيما يختص بشأن النساء عندهم، يلزمنا بدل ذلك أن نقف على أفكارهم في هذه المسألة، ونبحث في آرائهم وفي أسباب النهضة العظيمة التي قام بها الرجال والنساء في هذا القرن، وندرس جميع نتائجها الحالية، وبعد ذلك يمكن أن نكوّن لأنفسنا رأيا صحيحا مؤسسا على النظريات العقلية الصحيحة ومؤيدا بالتجارب والوقائع.