خاتمة
ابتدأ المصريون في هذه السنين الأخيرة يشعرون بسوء حالتهم الاجتماعية، وبدت عليهم علامات التألم منها، وأحسوا بضرورة العمل على تحسينها وصلت إليهم أخبار الغربيين واختلطوا وعاشروا الكثير منهم، وعرفوا مبلغ تقدمهم، رأوا أنهم متمتعون بطيب العيش واتساع السلطة ونفوذ الكلمة وغير ذلك من المزايا التي وجدوا أنفسهم محرومين منها، والتي لا قيمة للحياة بدونها، أنبعث فيهم الشوق إلى مجاراتهم، والرغبة في الحصول على تلك النعم، وقام بيننا المرشدون وتزاحموا على بث الأفكار التي اعتقدوا أنها تهدي الأمة إلى طريق النجاح، هذا يدعو إلى العمل النشاط، وذاك إلى ائتلاف القلوب والاتحاد ونبذ أسباب الشقاق، وآخر إلى حب الوطن والتفاني في خدمته، وغيره إلى التمسك بأحكام الدين، وهلم جرا.
ولكن فات هؤلاء المرشدين أمر واحد، وهو أن هذه الكلمات ومشاكلها لا يمكن أن يكون لها في حياة الأمة أثر يذكر إذا وصلت إلى النساء وأدركت معانيها وتعلقت نفوسهن بحبها وتوجهت ميولهن إليها؛ حتى يمكنهن بعد ذلك أن يضعن أولادهن بأحسن الصور التي تمثل كمال الإنسان في أذهانهن.
ذلك لأن كل حال اجتماعية لا يمكن تغييرها إلا إذا وجهت التربية نحو التغيير المطلوب، ولأنه لا يكفي في الإصلاح، مهما كان موضوعه، مجرد الحاجة إليه، ولا أمر تصدره الحكومة بحمل الناس عليه، ولا خطبة تلقى على مسامعهم لترغيبهم فيه، ولا كتب تؤلف في بيان منافعه ولا مقالات تنشر لشرح مزاياه. فإن هذه الأمور كلها لا أثر لها إلا في إرشاد الأمة وتنبيهها إلى سوء حالها، ولكنها ليست من الوسائل التي تغيير الأمم وتحولها من حال إلى حال؛ لأن كل تغيير في الأمم إنما يكون نتيجة لمجموع فضائل وصفات وأخلاق وعادات لا تتولد في النفوس ولا تتمكن منها إلا بالتربية، أي: بواسطة المرأة.
فإذا أراد المصريون أن يصلحوا أحوالهم فعليهم أن يبتدئوا في الإصلاح من أوله، يجب عليهم أن يعتقدوا بأن لا رجاء في أن يكونوا أمة حية ذات شأن بين الأمم الراقية ومقام في عالم التمدن الإنساني قبل أن تكون بيوتهم وعائلاتهم وسطا صالحا لإعداد رجال متصفين بتلك الصفات التي يتوقف عليها النجاح. ولا رجاء في أن البيوت والعائلات تصير ذلك الوسط الصالح إلا إذا تربت النساء وشاركن الرجال في أفكارهم وآمالهم وآلامهم إلّم يشاركنهم في جميع أعمالهم.
هذه الحقيقة مع بساطتها وبداهتها قد اعتبرها الناس يوم جاهرنا بها في العام الماضي ضربا من الهذيان، وحكم الفقهاء بأنها خرق في الإسلام، وعدها الكثير من متخرجي المدارس مبالغة في تقليد الغربيين، بل انتهى بعضهم إلى القول بأنها جناية على الوطن والدين، وأوهموا فيما كتبوا أن تحرير المرأة الشرقية أمنية من أماني الأمم المسيحية تريد بها هدم الدين الإسلامي ضدها من المسلمين فليس منهم. غير ذلك من الأوهام التي يصغي إليها البسطاء ويتلذذ باعتقادها الجهلاء لعدم إدراكهم منافعهم الحقيقية.
ونحن لا نريد أن نرد عليهم إلا بكلمة واحدة وهي: أن الأوربيين إذا كانوا يقصدون الإضرار بنا، فما عليهم إلا أن يتركونا لأنفسنا، فإنهم لا يجدون وسيلة أوفى بغرضهم فينا من حالتنا الحاضرة.
هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، ومهما اجتهد قوم في إخفائه وغفل آخرون عنه فلا بد أن ينجلي للكل، عاجلا أو آجلا، شأن الحقيقة في جميع الأزمان.
وكل ناظر في أحوال هيئتنا الاجتماعية الحاضرة يجد فيها ما يدل على أن النساء عندنا قطعن طور الاستعباد، ولم يبق بينهن وبين الحرية إلا حجاب رقيق، إذا يرى:
«هذا وإني أرفع صوتي بالشكوى من كثرة ما يجمع الفقراء من الزوجات في عصمة واحدة، فإن الكثير منهم عنده أربع من الزوجات أو ثلاث أو اثنتان، وهو لا يستطيع الإنفاق عليهن، ولا يزال معهن في نزاع على النفقات وسائر حقوق الزوجية، ثم إنه لا يطلقهن ولا واحدة منهن، ولا يزال الفساد يتغلغل فيهن وفي أولادهن، ولا يمكن له ولا لهن أن يقيموا حدود الله، وضرر ذلك بالدين والأمة غير خاف على.
أحد، وقد حدث في هذا العام أن كثيرًا من النساء اللواتي حُكم على أزواجهن بالأشغال الشاقة مؤبدًا أو بالسجن المؤبد، أو بالحبس مدة طويلة تشكون إلى نظارة الحقانية من حالتهن التعيسة؛ حيث لا سبيل لهن من الانفصال من أزواجهن، ولا يوجد لهن عائل يقوم بنفقاتهن ومعاش أولادهن، فاضطرت نظارة الحقانية إلى استفتاء حضره مفتي الديار المصرية عن الوجوه الشرعية التي يمكن اتخاذها لإزالة أسباب الشكوى، فبحث حضرته في هذه المسألة وفي مسائل أخرى تشابهها، واستنتج من فقه المالكية إحدى عشرة مادة، وقدمها إلى نظارة الحقانية، وإليك بيانها ننشرها إفادة للقراء.
وكل ضرب الآجال لاعتداد زوجة المفقود إذا كان في ماله ما تنفق منه الزوجة، أو لم تخش على نفسها الفتنة وإلا رفعت الأمر إلى القاضي ليطلق عليه متى ثبت له صحة دعواها.
«حضرة الأستاذ صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية أيده الله»
باطلاعنا على خطاب فضيلتكم المؤرخ ٤ الجاري نمرة ١٩ وعلى المشروع المرفق به المشتمل على إحدى عشرة مادة مستخلصة من مذهب الإمام مالك رضي الله عنه, المطلوب إبداء رأينا فيه. قد رأينا ما رأيتموه، ووقعنا عليه بالموافقة، وشكرنا همتكم العالية على اعتناء فضيلتكم بهذا الخطاب الجليل وطيّه المشروع المذكور يا أفندم.
الفقير سليم البشري، المالكي خادم العلم والفقراء بالأزهر ٦ ربيع آخر سنة ١٣١٨.
هاتان المسألتان: مسألة تعداد الزوجات، ومسألة تخويل المرأة حق الطلاق. هما من أهم المسائل التي استلفتنا إليها الأنظار في كتاب (تحرير المرأة) ويسرنا أن عالما عظيما وفقيها حكيما مثل حضرة الأستاذ الشيخ محمد عبده رأى أنهما جديرتان بهمته، فأيد بصوته المسموع ما اقترحناه فيهما.
جميع هذه العلامات وغيرها مما يلاحظ في البيوت كل يوم تنبئنا بأن حالة المرأة المصرية آخذة في التحسن والترقي.
غير أن هذه الحركة لم تصدر عن نظر وروية، بل حدثت فينا بالتأثر عن مخالطة الغربيين، وبمقتضى حكم الناموس المعروف عند علماء التاريخ الطبيعي القاضي بأن كل حيوان يتطبع بطبيعة الوسط الذي يعيش فيه. والدليل على أن لا دخل لإرادتنا في هذه الحركة أننا عندما قلنا بوجوب المحافظة عليها، وإعدادها حتى نبلغ منها الغاية لاقينا معارضة شديدة، حتى ممن ظهرت مبادئ هذا التحول في نفوسهم وبدت بوادره في بيوتهم.
ولا عجب في ذلك، فإن شأننا أن نتبع أهواءنا في جميع أعمالنا.
وقد أطلنا الوقت الذي يجب فيه أن نعرف ماذا نريد؟
إن كان مقصدنا من الحياة أن يعيش كل منا بضع سنين يقضيها في أيّ حال كانت، واستوى لدينا العز والذل. والغنى والفقر، والحرية الرق، والعلم والجهل، والفضيلة والرذيلة. فأرى أن ما منح إلى الآن للمرأة المصرية من الحرية والتربية لا داعي له. ولا أجد مانعًا من أن يتمتع الرجل بعدة نساء، ويتزوج كل يوم امرأة ثم يطلقها في اليوم التالي ويسجن زوجاته وبناته وأخواته وأمه وجدته إذا شاء!
يوجد في أفريقيا وآسيا أمم عديدة تعيش النساء فيها مدفونات في البيوت بحيث لا يرين إنسانا ولا يراهن أحد. ويوجد بين هذه الأمم من وصلت عندها حياة المرأة من الحقارة إلى حد أنه متى توفي زوجها وجب عليها أن تعدم نفسها؛ لكيلا تتمتع بالحياة بعده! فما علينا إلا أن نوجه أنظارنا إلى هؤلاء الأمم ونسألهم عن سر تقدم نسائهم في الجهل والاحتجاب، لعلنا نجد عندهم ما يقوي حجتنا في تشديد الحجاب والحجر على المرأة!
أما إذا كان المقصد هو ما نقرؤه ونسمعه كل يوم من أن المصريين يريدون أن يكونوا أمة حية راقية متمدنة فلنا أن نقول لهم:
«توجد وسيلة تخرجكم من الحالة السيئة التي تشتكون منها، وتصعد بكم إلى أعلى مراتب المدن، كما تشتهون وفوق ما تشتهون، ألا وهي تحرير نسائكم من قيود الجهل والحجاب، هذه الوسيلة نحن لم نبتكرها، وليس لنا فضل في اختراعها؛ فقد استعملتها أمم من قبلنا وجربتها وانتفعت منها. انظروا إلى الأمم الغربية تجدوا بين نسائها اختلافات عظيمة. تجدوا أن تربية المرأة الأمريكية وأخلاقها وعاداتها وآدابها غير تربية وأخلاق وآداب المرأة الفرنساوية، وأن هذه تختلف من كل هذه الوجوه عن المرأة الروسية، وأن المرأة الطليانية لا تشبه في شيء من ذلك المرأة السويدية ولا الألمانية، ولكن هؤلاء النساء على اختلاف الإقليم والجنس واللغة والدين بينهن اتحدن، واجتمعن في أمر واحد وهو أنهن يملكن حريتهن ويتمتعن باستقلالهن.
هذه الحرية هي التي أخرجت المرأة الغربية من انحطاطها القديم، فكما أضيف عليها التعليم وجهت إرادتها إلى أن تشترك مع الرجال في تقدم الجمعية التي تنسب إليها، وتم هذا الاشتراك بإتيانها أعمالا مفيدة تختلف بلا ريب عن أعمال الرجال، ولكن لا تنقص عنها في الأهمية فالتاجر الذي يقضي نهاره في حانوت لبيع بضاعته، والكاتب الذي يمضي بضع ساعات في ديوان من دواوين الحكومة يشتغل فيه بتحرير إفادة إلى مصلحة أخرى. والمهندس الذي يبني قنطرة لتسهيل المواصلات بين البلاد. والطبيب الذي يقطع عضوا ليحيى باقي أعضاء الجسم، والقاضي الذي يفصل في المنازعات التي تقوم بين الناس، جميع هؤلاء وغيرهم لا يوجد منهم واحد يحق له أن يدعي أن عمله يفيد الهيئة الاجتماعية أكثر من عمل امرأة تهدي إلى الجمعية رجلا وتربيه على أن يكون نافعا لنفسه ولأهله ولأمته.
نحن لا نقول لكم كما يقول غيرنا: اتحدوا، كونوا عون بعضكم لبعض، أو طهروا أنفسكم من العيوب التي تعهدونها في أخلاقكم. أو اخدموا أهلكم ووطنكم، أو ما يماثل ذلك من الكلام الذي يذهب في الهواء.
نحن نعلم أن تغيير النفوس لا تنفع فيه نصيحة مرشد ولا أمر سلطان ولا سحر ساحر ولا كرامة ولى. وإنما يتم. كما ذكرنا، بإعداد نفوس الناشئين إلى الحال المطلوب إحداثها.
ذلك هو السير الطبيعي البعيد الأمد المحفوف بمصاعب. ولكن أسهل المصاعب هي التي تنتهي بالفوز والنجاح.
وأقرب الطرق هي التي توصل إلى المقصد.