نورماندي
أما وحدة النسل في هذين الشعبين — أعني الإنكليز وسكان شمالي فرنسا — فهي لأن هذين المكانين أخضعا لجيل من الناس يدعون «سكان نافيين» وهم أخلاط من النرويجيين والدانماركيين وغيرهم من بلدان البلتيك، وقد لقبوا حينئذ بالشماليين، والذين حلوا بلاد الإنكليز دعوا دانيين (نسبة إلى دانمارك) مع أنه لم يكن منهم في الحقيقة من بلاد الدانمارك إلا الجزء القليل فقط، على أنهم تسلسلوا من أصل واحد، ونالوا وحدة الصفات من حيث الشجاعة وشدة البأس والجرأة على ارتكاب المخاطر. وهذا كله لا يزال أخلافهم يمتازون به في العصر الحاضر.
أولئك خرجوا في تلك الأيام جمهورًا عظيمًا على عمارات قرصانية، ومخروا في عرض الأوقيانوس الجرماني إلى الأبحر البريطانية يقتحمون المصاعب، ويركبون الأخطار استكشافًا لأرض جديدة ذات خصب وكلاء ليحلوها، وكانوا في غضون ذلك يظهرون ذات القوة والشجاعة، ويكابدون عين هذه الأهوال في صيد حيتان المحيط الباسيفيكي، والحمل على بلاد الهند واغتنام كنوز غناها، والتبحبح بنعيم ثروتها، ومثل ذلك أيضًا في الاندفاع للدوران حول نصف الكرة لاستخراج الذهب من كاليفورنيا. أجل إن الزمان تغير والأحوال استحالت، ولكن النوع باقٍ كما كان، والروح هي هي من عهد النشأة وستظل كذلك إلى آخر الزمان.
أما اسم المقاطعة نورماندي فمأخوذ من النورثمان (أي الشماليين) الذين اغتصبوها من الإفرنس؛ فإنهم دخلوها من البحر على نهر السين الذي يجري من داخل البلاد كما يُرى على الخارطة، ومخروا فيه بمراكبهم حتى استقرت أقدامهم في قلب تلك المقاطعة، وكان حلولهم فيها بضعة أجيال قبل ابتداء تاريخنا هذا، وقد تولى إدارة الحكم فيها سلسلة من الأمراء كانوا سلاطين مطلقي الإرادة إلا قليلًا، ودعوا أمراء (دوكاث) نورماندي.
فالأمير الأول الواضع أساسها، والرافع نبراسها مقدام الغارة في الاستيلاء على هذه الإمارة كان بطلًا من الشمال، مغوارًا وفارسًا بين الرجال كرارًا، عريقًا بالبربرية، ولصيقًا بجانب الوحشية يدعى «رولو» وكثيرًا ما يلقب في التاريخ برولو الداني (الدانماركي).
هذا نشأ في نروج، واستلم زمام القيادة بالإرث، ولما شبَّ وبلغ أشده وشب معه حب الغزوات والفتوحات جمع إليه عصابة من الرجال الأشداء، وخرج بهم للقرصانية واللصوصية حتى روَّع البلاد، وهلع قلوب العباد، فجلاه الملك إلى خارج المملكة.
على أن هذا الجلاء لم يكن ليثني عزمه عن اجتراح هذه الكبائر والجرائم، بل زاده إقدامًا وتنشيطًا، فجمع إليه كل قواته وانطلق بعمارة يمخر في الأوقيانوس الجرماني نحو شواطئ بريطانيا، وكان في ذلك الوقت في جوار تخم إسكوتلاندا الشمالي الغربي سلسلة جزر موحشة كانت ملجأ للقرصان واللصوص، فجعلها رولو مقرًّا له؛ حيث انضم إليه فيها عصابة أخرى من الأشقياء الذين بعضهم هربوا إليها من طائلة ما كان لهم في إثارة الشغب والفتن، والبعض الآخر في تبعة ارتكاب المعاصي واجتراح المحارم.
أولئك مالوا إليه لما أنسوا فيه من شدة البأس والشجاعة، وتألَّبوا حوله وأجمعوا على جعله قائدًا عليهم، أما هو فلما رأى ازدياد قوته عقد النية على حشد جيش جرار والإقلاع نحو الجنوب، لعلهم يدفعون إلى بلاط طيبة الأرض خصبتها؛ فيغتصبوها ويستعمروها.
فوافقوه على رأيه، وأعدوا الزاد والمهمات وأقلعوا لا ينحون مكانًا مخصوصًا، بل يسيرون إلى حيث يجدون موضعًا يناسبهم للاستيطان، فيلقون فيه عصا الرحيل، ويتخذونه محلًّا للمقيل، فدخل نهر السين حائرًا خائفًا من قوة العدو البحرية هناك، على أنه حالًا رأى إمكان تغلبه على هذه الصعوبة؛ إذ قد أسعده الحظ بعدم وجود قوة كافية للعدو لتصده، فاجتاز حتى جاء روان، فبلغ ذلك شارل ملك فرنسا، الملقب بالبسيط، فأخذ يجمع الجيوش ويحشد القوات تأهبًا لملاقاته، على أن رولو تمكن من الاستيلاء على روان، وتوطيد قدمه فيها قبلما استطاع شارل أن يخرجه بالقوة، ومع أنها كانت حصينة، فرولو زادها منعةً وحصانة، فإنه حالًا شرع في ترميم الحصون وتكبيرها، وبنى بيوتًا للزاد، وأقام المعاقل والأبراج من كل جهة، ومجمل القول أنه جعلها من أمكن المراكز الحربية التي يتعذر على العدو أخذها.
ثم انتشبت بينهما حرب طويلة كان فيها النصر لرولو، وذلك زاده افتخارًا وتعظيمًا، فإنه ضايق الملك شارل حتى أركن للفرار، فتأثره من مدينة إلى مدينة، ومن ساحة إلى أخرى حتى استولى على قسم كبير من شمالي فرنسا، ونظم له حكومة مستقلة تحت إدارته رغمًا عن اجتهاد الملك شارل في صده وطرده، ولم يزل ينازله ويظفر به حتى حصره ضمن باريس، وعندها اضطر شارل أن يكف عن قتاله، ويسعى في الصلح والسلام معه.
فطلب رولو أن تُعطى البلاد حوالي نهر السين ملكًا له ولأتباعه، فلم يرد شارل أن يفلت من يده هذا القسم الكبير، بل ارتضى أن يكون إمارة مستمرة تحت سلطانه ورولو يتولاها كدوك معترفًا بسيادة ملك فرنسا عليها.
فقبل رولو بذلك؛ لأنه كان قد طال عليه زمان الحرب، وملَّ الطعن والضرب زُهاء الثلاثين سنة، وكان من شروط الصلح بينهما: أن «جسيل» ابنة شارل تُعطَى زوجةً لرولو، وأن رولو يتنصر، ويقدم الطاعة لشارل علانيةً أمام الرؤساء والأعيان — كما كانت العادة في تلك الأيام — وهكذا ترتب للصلح ثلاثة شروط؛ أولها: تقديم رولو الطاعة لشارل، وثانيها: تنصره، وثالثها: اقترانه بجسيل ابنة شارل، وكلها واحد من حيث غايتها؛ أعني خضوع ذلك الأمير المُقيَّد السلطة (أي رولو) لسيادة ذلك الملك المطلق السلطان (أي شارل).
ولما جاء وقت إتمام الشرط الأول، وغص المشهد بالأمراء والضباط والقواد؛ أنِف رولو أن يخضع لحكم ذلك الشرط على العادة المألوفة في ذلك العصر، أي أن يركع أمام الملك ويضم يديه إحداهما إلى الأخرى بين يدي الملك علامة الخضوع، ويُقبِّل رِجْل الملك ضِمن خفٍّ ثمين، وقد شق عليه على الخصوص القيام بالقسم الأخير من هذا الشرط؛ أعني تقبيل الرِّجل.
على أن هذه العادة لم تكن غريبة في تلك الأيام، فإن البابا كان قد أوجبها على أحد الملوك قبل ذلك العهد بمائة سنة، ولكن تقبيلها كان يسهل على من يتنازل لها من حيث النظر إلى الصليب الموضوع عليها، والفكر بأنه قبَّل علامة آلام المسيح وموته لا رِجْلًا بشرية.
أما رولو فتمنع عن تقبيل رِجْل الملك شارل، وعدَّ هذا الفعل حطَّةً في شأنه، وتنزيلًا من علو قدره، ولكن ارتضى أن يقوم في ذلك أحد رجاله عوضًا عنه، فتقدم ذلك الرجل إلى رِجْل الملك ورفعها بعنف وخشونة، بحيث كاد يقلب الملك عن مجلسه إلى الوراء، وهذا أحدث بين الحاضرين ضحكًا شديدًا.
ثم بعد أيام قليلة احتفل عماد رولو في كنيسة روان بغاية التجلة والإكرام، وعقد اقترانه بجسيل، واستحالت قلاقل الحروب التي كابدها نيِّفًا وثلاثين سنة إلى سكون وراح في ظلال المسرات والأفراح، وتولى منصب الإمارة (الدوكية) باقي حياته بالأمان والسلام والحكمة والتقدم حتى صيرها من أغنى إمارات أوربا، وخلف فيها شيئًا كثيرًا من معدات الارتقاء للذين خلفوه بعد موته.
ويظهر أن الذي حدا رولا ورجاله على اختيار هذه المقاطعة دون غيرها إنما هو إمكان الدخول إليها من الخليج الإنكليزي على نهر السين، وكثرة غناها، وشدة خصبها؛ لأنها معدودة في كل زمان جنة فرنسا، وحينما يأتيها السياح في الوقت الحاضر ينظرون إلى حسن مواقعها، وبهجة مناظرها بعين العجب والاندهاش.
وظلت سلسلة أمراء نورماندي من رولو متصلة الحلقات إلى وليم مدة مائة وخمسين سنة بدون انقطاع، والبلاد في بحر هذا الوقت كانت ترتقي في معراج التقدم والنجاح، وتزداد غنًى وثروةً فضلًا عن الازدياد في عدد السكان، والسير في سبيل الحضارة والعمران بقدر ما كانت تسمح به ظروف ذلك الزمان. ولا يتبادر إلى ذهن القارئ أن سكانها الأصليين هاجروا منها، بل ليَعلمْ أنهم لبثوا فيها يتعاطون الفلاحة والرعاية عند أسيادهم النورديين، لكنه على تمادي الأيام اختلط النوعان أحدهما بالآخر، بحيث صار تمييزهما في الوقت الحاضر يتعسَّر أو يتعذَّر.