عصيان البرنس روبرت
إن أهل الطمع والحرص على الشهرة العالمية الذين يقفون حياتهم ويصرفون عنايتهم في ربيع العمر نحو تحصيل المطامع الشخصية ونيل الأماني الذاتية، قلما يبالون بسياسة أولادهم وتهذيبهم؛ ولذلك كثيرًا ما تقضى سنوهم الأخيرة بمرارة وعذاب منشؤهما تطوُّح بنيهم في الرذائل، وانبعاثهم في التبذير والإسراف واتباعهم الشهوات، وسيرهم وراء كل مفسدات الأخلاق، وهكذا حدث لوليم، فإنه ما تنفس من إخضاع أعدائه وتسنُّمه عرش السيادة المطلقة على كلتا مملكته في إنكلترا وإمارته في نورماندي حتى شاب كأس سلامه وسعادته وتشوَّش نظام ملكه بكدر خصام عائلي.
فإنه كان اسم ابنه الأكبر روبرت، وعمره حين حمل أبوه على إنكلترا أربع عشرة سنة، وكان إذ ذاك غاية في الرعونة والطياشة؛ لأن أمه أحبته وأعزته إلى درجة لم تبق فيها على تفنيق أو تدليه إلا بذلته له، ويذكر القارئ أن وليم قبلما أقلع بعمارته إلى إنكلترا قلد متيلدا نيابة الحكم، وخولها السلطة على إمارة نورماندي مدة غيابه، فأُشرك هذا الصبي في النيابة مع والدته، وصار يعتبر نفسه أنه بلا شك أهم منها في المركز والوظيفة.
وبالاختصار نقول: إنه بينما كان وليم يجدُّ في إنكلترا بمطاردة أعدائه كان روبرت في نورماندي يشب على الصلف والبطالة، ويرد الرذائل لا يترك في كأسها أدنى ثمالة، وكان أبوه كثيرًا ما يشتبك معه في تردده من إنكلترا على نورماندي في منازعات ومخاصمات كانت متيلدا في كلها تتصحب للابن، وكان ابن وليم الثاني المسمى وليم روفوس يغار من أخيه الأكبر، ويغتاظ من سلوكه، ولا يصبر على عجبه وكبريائه، ويميل إلى جانب أبيه في هذه القلاقل العائلية، فكان فظًّا شرسَ الخُلُق كأخيه غير أنه لم يكن مثله منعمًا، وبالنتيجة كان مالكًا روحه وحاكمًا على نفسه، وعالمًا كيف يروِّض الأمور، ويرود مداخل الأحوال وخارجها، ويخفي في حضرة أبيه ما عنده من العواطف والانفعالات، وكان لهما أخ ثالث أوطأ منهما جانبًا، وألين عريكة، وأسهل مراسًا، فكان يعتزل المداخلة ويلزم جانب الحيادة في الخصام ما لم يبعثه على ذلك مكرهًا أخوه وليم روفوس؛ لأنه كان صديقه ورفيقه حتى إن روبرت كان يُعدُّه له عدوًّا.
وبالحقيقة إن الجميع ما عدا متيلدا كانوا ضد روبرت الذي كان ينظر إلى إخوته الأصاغر بعين العجب والسيادة، شأن كل ابن أكبر يرى نفسه وليًّا ووارثًا لبيت عامر بالعظمة، وآهل بالغنى، وأبوه الملك عوضًا عن كبح جماحه واستئصال جراثيم الكبرياء منه تارة بواسطة الحنو والرقة وأخرى بواسطة إظهار السيادة الوالدية — كان يزيده نكايةً وغيظًا بسلقه بتوبيخ حاد صارم، وكان يلقبه في أثناء هذه التأنيبات الهزلية ﺑ «حذاءِ القصير» نظرًا لقصر قامته، وإذ كان روبرت قد بلغ رشده كان يشق عليه ويكسر قلبه أن يسمع أباه يلقبه لقبًا مهينًا كهذا، ويوغر صدره حقدًا وحب انتقام.
وفضلًا عما ذكر كان لديه أسباب أُخر للتشكي من أبيه أعظم شأنًا وأجل اعتبارًا، فإن أباه كان قد خطب له وهو بعد طفل حسب عادة الأيام ابنه أحد الأمراء المجاورين، ووريثته الوحيدة، وكانت طفلة نظيره، واسمها مرغريتا، والمقاطعة المعدة لها ميراثًا كانت ماين، وهي بلاد غاية في جودة التربة والخصب والغنى على متاخمة نورماندي، وكان من شروط الخطبة أن تسلم أملاك الخطيبة الصغيرة لأبي الخطيب، وهذا يظل قائمًا في نظارتها والوكالة عليها حتى يبلغ الخطيب أشده، وتزف إليه العروس، وبالحقيقة إن امتلاك مقاطعة كهذه كان الباعث الوحيد الذي حدا وليم على القبول بمثل هذه الخطبة.
فإن صح أن هذه كانت بُغية وليم فقد جرت التقادير على أكثر من مرامه وأعظم من انتظاره؛ لأن تلك الوريثة الصغيرة ما لبثت أن توفيت بعد أن تسلم حموها أملاكها، ولم يكن حينئذٍ من يستردها منه، فبقيت في حوزته حتى أدرك ابنه العريس سن الرشاد، وإذ ذاك طلبها من أبيه مدعيًا أنها له، فأبى وليم تسليمها بحجة أن ما حدث بين ابنه في طفوليَّته ومرغريتا لم يكن زواجًا بل خطبة — عربون قرانٍ في المستقبل يُعقد عند بلوغ العروسين سن الزواج الشرعي — وإذ قد حال موت مرغريتا دون إتمام هذا القران، فروبرت لم يكن زوجها، وبالنتيجة لا يسوغ له طلب حقوق زوج، بل ينبغي أن تبقى الأراضي في يدي وصيها، ومهما يكن من الحقوق التي يدعيها ورثة مرغريتا، فواضح أن ابنه ليس له شيء من ذلك.
وهب أن هذا الاحتجاج كان مقنعًا وسديدًا في عيني وليم، فروبرت لم يعدَّه سوى ضرب من المماحكة والتعنت والنكاية، وحسبه جورًا وخسفًا من أبيه الذي لم يقنع بما لديه من الأملاك والمقتنيات حتى طمع في سلب ما لابنه، وكانت أمه متيلدا من رأيه في هذا، أما وليم روفوس وهنري فلم يباليا بالمسألة من وجه حقانيتها أو بطلانها، بل سرًّا بنتيجتها وابتهجا برؤية أخيهما يلتهب حنقًا ويتميز غيظًا من جراء فشله في محاولة امتلاك تلك المقاطعة.
وكان لخصام روبرت مع أبيه داع آخر لا يقل عما ذكر شأنًا وأهمية، وهو أن وليم — كما سبق معنا — كان قَبلَ حَملِه على إنكلترا قد أقام متيلدا وروبرت نائبين عنه في الحكم مدة غيابه، ففي بداءة الأمر كان روبرت بعدُ صغيرًا فكان مرجع الحكم في كل القضايا لوالدته، وعندما أخذ يشب وينمو طفق يتظاهر بالنفوذ والسطوة، وإذ كان أليف الطمع وحب الذات، وعزيزًا عند والدته؛ تمكن شيئًا فشيئًا من حصر القوة والسيادة في يده، وقد مر على وليم منذ بارَح نورماندي ثماني سنوات قبلما استطاع أن يُمكن سلطانه في إنكلترا، ويوطد سيادته عليها على دعائم الرسوخ والثبات، وعند خروجه من نورماندي فارق روبرت صبيًّا في سن الرابعة عشرة عديم القوة والنفوذ بالكلية، وإن كان عندئذٍ في غاية الشكاسة والطياشة، وفي رجوعه من إنكلترا وجده رجلًا ابن اثنتين وعشرين سنة، وأشد شكاسة وطياشة، وفوق ذلك رآه قابضًا على زمام السلطة والنفوذ، وغير راضٍ في التنحي عن الحكم وتسليمه له.
وبالواقع أبى أن يتخلى لأبيه عن إدارة السيادة في نورماندي محتجًّا أن أباه كثيرًا ما وعده بهذه الإمارة عندما يبلغ طور الشباب، والآن فهو يطلب منه إنجاز وعده، ثم زاد على ذلك قوله: أن هذه الإمارة لم تعد ذات شأن عظيم في عيني أبيه الذي أصبح الآن ملك إنكلترا، ولبس في بقائها تحت سلطانه ما يزيده شهرةً وعظمةً، فيمكنه — إن أراد — أن يمنحها لابنه بدون تكبده خسارة عظيمة في ذلك، على أن وليم لم يحتفل بكل هذه التمحلات، ولا وافق على أنه وعده بإمارة نورماندي، ومن جهة منحه إياها فهو لا يصوب سياسة الرجل الذي يسلم قوته أو أملاكه لأولاده قبلما يكونون قد استحقوا ذلك كوارثين له بعد موته، ومن ثم فلا يفعل ذلك مطلقًا، ولم يكن قط ليفتكر «بخلع ثيابه قبل ساعة نومه».
وكان شر الاستياء والغيظ يزداد بفعل هذه المعاكسات، وخطبهما يتفاقم يومًا بعد يوم، لكنه بقي مدة سريًّا بيتيًّا لا تتجاوز أنباؤه أبواب القصر، على أنه حدث بعد ذلك ما رفع عنه الخفاء، وهتك حجاب كتمانه، فاستحالت المخاصمة العائلية السرية إلى منازعة علنية جهارية، وتفصيل ذلك ما يأتي:
خرج وليم سنة ١٠٧٦ بعائلته ورجال حكومته إلى إحدى قلاعه في نورماندي المدعوة ليغل (النسر)؛ ليقضي فيها فضلًا من السنة، ففي ذات يوم كان ابنه وليم روفوس وأخوه هنري في إحدى غرف الطابق العلوي من القلعة يلعبان بالنرد، ويأخذان بأطراف التسلية والمنادمة مع نخبة من شبان الحكومة بألعاب مختلفة، وكان لتلك الغرفة شباك يقود إلى شرفة أمامه يطل منها على دار الحكومة في أسفل القلعة، فروبرت كان في فسحة تلك الدار مع نفر من أتباعه يتمشى مدفوعًا بفواعل الغيظ الناشئة عن بعض مخاصمات سابقة مع أخويه، فأطل وليم روفوس من الشرفة ورآه.
فحاول إضرام جمرة غيظه بأن صب عليه قليلًا من الماء، وذلك بعث بروبرت على أن ينشط من عقال الغيظ الساكن، ويهب من ضجعة الحرد الهادئ الداخلي إلى هيجان وحب انتقام لا ينقصهما شيء من مظاهر الجنون، فجرد حسامه ووثب نحو درج طبقة العليا وهو يقذف بالشتائم واللعنات المخيفة، ويتوعد من ارتكب هذا الفعل المهين بالقتل ولو كان أخاه، وعندها أصدي جوُّ تلك الدار بالصياح والصراخ، وعلت فيها أصوات الصخب والضوضاء، وتزاحمت إلى ساحتها أقدام المتراكضين، واختلطت فيها إشارات المنذرين بالويل والثبور، وأخذ كلٌّ يهرول صاعدًا نحو الغرفة التي صب الماء من شرفتها بعضهم لمجرد المشاهدة، والبعض الآخر لملاقاة الشر ومداركة تفاقم الخطب، واتفق أن الملك ذاته كان أوانئذ في القلعة فخف مسرعًا إلى الغرفة؛ ليحول دون منازعة بنيه، ويصدهم عن ارتكاب هذا الإثم العظيم، وكان ذلك كما رآه هو نفسه غاية في الصعوبة يتطلب بذل كل سلطته الأبوية وسيادته الوالدية، على أنه أخيرًا تمكن بواسطة مساعدة الحضور من الفصل بين المتخاصمين، وإخراج روبرت منقطع الأنفاس منهوك القوى من شدة الغيظ والغضب إلى خارج.
أما روبرت فاعتبر أباه ضدًّا له في هذه المخاصمة، وصرح علانية بأنه لم يعد في طاقته أن يصبر بعدُ على هذه المعاملة الجائرة، وقد آنس شيئًا من ميل والدته نحوه، فذهب إليها متظلمًا متشكيًا، وهي قاسمته الكدر وشاركته في مصابه، واجتهدت في أن تصب زيتًا على أمواج غيظه المتلاطمة، أما هو فلم يقتنع بضروب هذه المجاملة، بل قضى غابر ذلك النهار ومساءه في إغراء فريق من الشبان الشرفاء الطائشين العاطلين من حلي التهذيب والآداب على شق عصا الطاعة لأبيه، واغتصابه إمارة نورماندي عنوة، فأجابوه إلى ذلك وأجمعوا سرًّا على إخفاء مقاصدهم وكتمانها، وعولوا تلك الليلة على مغادرة القلعة والخروج على مدينة روان العاصمة ومحاصرتها، وعليه فما انتصف الليل حتى امتطى أولئك الثائرون ظهر خيولهم وساروا، وفي الصباح أخبر الملك بذهابهم، فجند جيشًا قويًّا وسيره وراءهم، وكان من ذلك أن أخفق مسعاهم في محاصرة روان؛ لأن جيش الملك تأثرهم ونازلهم في معركة انجلت عن أسر بعض العصاة، أما روبرت فنجا ببعض أتباعه وفر إلى مقاطعة مجاورة يطلب لنفسه ملجأ في قلعة أحد أعداء أبيه، فأفعمت هذه الحادثة فؤاد متيلدا همًّا وحزنًا؛ إذ رأت أنه لم يبق بدٌّ من انتشاب حرب أهلية بين الأب وابنه.
وبينما كانت مقتضيات الواجب ودواعي الحكمة تفرض عليها الانحياز نحو الأب، قامت في قلبها بواعث المحبة الوالدية تتغلب على تلك المقتضيات والدواعي، وتميل بها بقوة لا تقاوم نحو ابنها، أما روبرت فأخذ يجمع إليه في ملجئه جميع أهل المطامع الطامحين الطائشين من سائر أنحاء المملكة، ويعمل على نكاية أبيه وتعكير كأس راحته، وفي غضون ذلك كانت أمه قائمة مقام المحامي في وجه أبيه، وملازمة مواصلته سرًّا بكل ما يجدُّ ويحدث من الأخبار، ويبدو لها من المشورات، ويتيسر لديها من الإعانات حتى كانت ولا ريب مرتكبة في ذلك جريمة فظيعة، جريمة المؤامرة ومواصلة الأخبار مع العصاة، وقد كان لتصرفها هذا وجه من الحق، وقد نتج عنه شيء من الفائدة؛ لأنها سعت جهدها في إصلاح ذات البين بين الأب وابنه، فبهذه الواسطة خففت نوعًا ثقل وطأة تلك المخاصمة.
ومعلوم أن الفوز في حرب أهلية كهذه كان نيله مضمونًا للملك؛ فوليم كان مالكًا متحيزًا لجميع ما في المملكة من القوى من الجيوش والمدن والقلاع والأموال، أما روبرت فلم يكن لديه سوى عصابة مؤلفة من شبان متوحشين طائشين خاملين ثائرين بلا سلطة وبلا مال، وبلا أقل وجهٍ من الحق في الثورة والعصيان، حتى إنه جعل من تلقاء نفسه يقتنع بالتدريج بعدم فائدة هذا العتو والتمرد، ومتيلدا ذاتها إذ أدركت صيرورة هذه الثورة إلى التلاشي والانحلال شرعت تُجاهر بزيادة في تسديد مساعيها نحو إخمادها بالكلية، وأخيرًا نجحت في حمل روبرت على ترك السلاح ودعوته إلى مقابلة أبيه رجاء استئصال مواد الخصام، وتأصيل جذوع الصلح والسلام.
على أنه ما لبث أن ظهر من خلال هذه المقابلة أن لا سبيل للحصول على مصالحة وثيقة العرى، وسلم وحيدة الأركان؛ لأنه مع انتهاك قوى كلا الأب والابن في تلك الحرب الأهلية التي بها صلَى كل منهما الآخر، فمحبة الذات والمطامع الشخصية التي بنيت عليها تلك المخاصمات ظلت في كل منهما هي إياها بدون أدنى تحول، فإن روبرت جعل فاتحة حديثه تقاضي أبيه وعده له بحكومة نورماندي، أما أبوه فأجابه على ذلك موبخًا إياه بصرامة على عصيانه الردي، وإنذاره بتوقع نصيب أبشالوم الذي حذا روبرت حذوه في هذا التمرد، فرد عليه روبرت بقوله: إنه لم ينوِ مقابلة أبيه بقصد استماع موعظة منه؛ لأنه كان قد نال كفايته من استماع العظات عندما كان صبيًّا يدرس قواعد اللغة، فغاية ما يريده من الآن هو الإنصاف لا الوعظ.
أما الملك فقال: إنه لا يرضى مطلقًا أن يقاسم أحدًا أملاكه وهو بعدُ حيٌّ، وزاد على ذلك قائلًا بأنه وإن كان روبرت قد ذكر المواعظ بمعرض الهزء والازدراء، فالإنجيل المقدس يقول: كل بيت ينقسم على ذاته لا يثبت، ثم استطرق إلى تأنيب ابنه وتقريعه بشدة على خيانته كأحد الرعية وعلى حقوقه وعدم برِّه كابن وقال: إنه مما لا يحتمل أن يكون الابن أشد مقاوم وأكبر عدو لأبيه في حالة كونه مديونًا له، ليس فقط في كل ما يتمتع بنواله منه، بل في أمر وجوده أيضًا.
وقد لفظ وليم كل هذه التوبيخات على طريق الغيظ والغضب، ونطق بها بلسان الوعيد والتهديد، وعوضًا عن أنها تؤثر في روبرت شعورًا بخطئه يحدوه على التوبة والندامة ضاعفت فيه روح العناد والعصيان، ولم يأت توبيخ أبيه على حقوقه وكفره بالحقوق الوالدية بأدنى جدوى، فخرج من لدنه بغتة والغيظ حشو حشائه، والشتائم ملء فيه، وفي قلبه من نار السخائم والضغائن ما فيه، وعوَّل مرة ثانية على مهاجرة البلاد رغمًا عن كل ما انتحته والدته متيلدا من الوسائل والوسائط في منعه قائلًا: إنه بالأحرى يفضل أن يكون من الجالية التائهين بلا مأوى في بلاد غريبة، على بقائه في قصر أبيه معاملًا بالقساوة ممَّن كان يتوقع الإخلاص والصداقة بداعي الحقوق والواجبات، وإذ لم تقوى والدته أن تثنيه عن عزمه هذا دعا إليه بعض الطرارين من رفقائه، وضرب بهم نحو الشمال مجتازًا نورماندي يفتش على ملجأ عند خاله أمير فلندرس، فاستقبله هذا بكل إعزاز وترحاب؛ أولًا: إكرامًا لأخته، وثانيًا: نكاية بالملك وليم جاره القوي البطاش الذي كان (أمير فلندرس) يحسده على رفعة شأنه وعظمة مجده، وسعة نطاق توفيقه، وحسن طالع سعده.
وإذ كان روبرت عاجزًا عن تجديد الحرب مع أبيه مجردًا عن القوى والوسائط أنشأ يراسل جميع أمراء نورماندي وأشرافها الذين رأى فيهم الارتياح إلى ذلك، ويحثهم على القيام معه سرًّا ضد أبيه، فلبى أولئك دعوته وأنشئوا اكتتابًا سريًّا سدًّا لحاجاته، على وعد أنه يُعوض عليهم بالمنح والهدايا وحسن المجازاتد، بعد إذ يتمكن من نيل حقوقه المطلوبة من أبيه، ولم يغفل في الوقت ذاته عن مراسلة أمه متيلدا واستمداد بعض الاحتياجات منها، ولكن كل ذلك كان سرًّا أيضًا بغاية التحرس والاحتياط، وقد توفق لاكتساب صداقة غير الذين مالئوه في نورماندي، فإن فيليب ملك فرنسا ذاته كان مسرورًا جدًّا بشبوب نيران هذا الخصام في عائلة جاره الذي بعدما كان خاضعًا لسلطانه أصبح بغلبته على إنكلترا مزاحمه الأكبر، ومناظره الأسبق في مضمار السؤدد والأبهة، وكان من أشهى الأمور لديه استماع ما يبعث على خسوف مجد وليم وتقلص ظل سلطانه، وينذر بانقسام قوته، وتفرق شمل كلمته؛ ولذا نشر من قبله سعاة وسفراء في جميع أنحاء نورماندي وسائر أطراف فلندرس يشجعون الثائرين، ويثبتونهم في القيام على حكومة وليم، وقد احترز غاية الاحتراز من أن يعدهم جهرًا بالمساعدة، على أنه سعى سرًّا بألف واسطة مكتومة في تنشيط روبرت وتحريضه وحمله على توقع العون منه.
وهكذا كنت ترى الثورة يتسع خرقها ويمتد نطاقها وهي باقية محصورة ضمن حدود القوة لا تتعداها إلى الفعل، وكان السر في ذلك خلو روبرت من الوسائط الفعالة، وتعريه من القوى العقلية الضرورية في الإقدام على عمل خطير كهذا، فمرت الأيام وانقضت الشهور بدون أدنى مجاهرة في العصيان، حتى إن مُشايعي روبرت في نورماندي داخلهم الخوف، واستولى عليهم اليأس، فانقطعوا عن جمع الاكتتاب، وابتدءوا شيئًا فشيئًا ينسون قائدهم الغائب الخامل، أما روبرت فقضى وقته بارتكاب المعاصي واجتراح المآثم، وإنفاق ما أرسله إليه أتباعه على الانبعاث في أوحال السُّكر، والارتطام بحمأة الفواحش، وأوشك عندما فرغت يداه من المال ونضب حوض معداته أن يهيم على وجهه مقذوفًا بتيار القنوط والضيق، لو لم يدم له صديق واحد وأي صديق، صديق عطف عليه ومال إليه، وقشع ديجور اليأس عن عينيه، وذلك الصديق كان أمه نصيرته في كل ملمة.
وقد علمت متيلدا جيدًا أن كل ما تصنعه لابنها الغائب ينبغي أن يصنع بمزيد الدقة والحرص، بحيث لا يتجاوز دائرة الغموض والخفاء، وذلك اقتضى له ما لا مزيد عليه من الاحتيال والدهاء، وقد ساعدها عليه تغيُّب زوجها، فإنه كان في هذا الوقت قد مضى إلى إنكلترا مدعوًّا بإلحاح شديد للنظر في بعض المسائل العمومية، وعهد نظارة الحكومة في نورماندي إلى وزير استسهلت متيلدا مراقبته، ورأت أنه لا يصعب عليها مواصلة ابنها في أيام نظارته، فأمدت روبرت في فلندرس بما لديها من المال، ثم صارت تلبيه بالمعين لها، وكلما أرسلت له بزيادة كان بمقدار ذلك يكرر الطلب، ويلح في استدعاء إعانات جديدة.
ومعلوم أن ثروة الأم سواء كثرت أم قلت لا تكفي لسد عوز ابن مسرف بطال، فلما فرغت جعبة دراهمها باعت جواهرها، ثم ملابسها الفاخرة، وأخيرًا الأشياء الثمينة المختصة بها أو بزوجها، وكل ذلك بطريقة سرية جدًّا، فالوزير المعهودة إليه نظارة الحكومة إذ كان أمينًا وساهرًا على رعاية ما عهد إليه لحظ أن أمورًا سرية تجري في البلاط الملوكي، وذلك استدعى ارتيابه واشتباهه، وهذان استلزما مراقبته وانتباهه، فعلق يجوس حركات متيلدا ويترصد أعمالها، وفي الحال اكتشف على الحقيقة، وأرسل يعلم وليم بذلك، أما وليم فصعب عليه تصديق ما قرره له الوزير؛ ولذا عزم في الحال أن يتخذ جميع الوسائط الكافلة له تحقيق الأمر، فرجع إلى نورماندي، وهناك اتفق له في طريقه أن يقبض على أحد رسل متيلدا بينما كان ذاهبًا إلى فلندرس يحمل إلى روبرت مالًا ورسائل، وكان اسمه سمبسون، فأخذ منه وليم الدراهم والرسائل وأرسله ليُسجن في إحدى القلاع، وبعد إذ وقع على البينات الكافية الناطقة بجريمة متيلدا انطلق مفعمًا حيرة وغيظًا يطلب مشاهدتها؛ لينيلها ما تستحقه من التوبيخ على فعلها هذا الأثيم الذي أقل ما فيه الغدر بزوجها وتسليمه.
وقد وقع عليها لومه مرًّا وحدًّا، وإن كان قد عبر عنه بأسلوب رقيق، ونطق به بصوت يشف به عن الحزن أكثر منه عن الغضب، فإنه قال لها: «لا أرتاب في أني كنت لك على المدى زوجًا أمينًا مخلصًا، ولست أعلم ماذا أردته فوق ما فعلته لك، فقد أحببتك حبًّا صادقًا صحيحًا، وبذلت قدامك ما يتعذر وصفه من الإعزاز والإكرام، فرفعتك إلى أسمى رتبة وأعلى مقام، واتكلت عليك غير مرة في مشاركتي في الحكم وإدارة شئون المملكة، ووثقت بك فاستودعتك أهم ما تحت سلطاني، والآن هذا هو جزائي، فإنك استعملت نفس المركز والقوة والوسائط التي أقامك عليها زوجك الأمين آلة لتسليمه بأقبح الطرق، ووسيلة لمساعدة وتقوية ألد أعدائه وأشدهم».
فلم تجب متيلدا بشيء على توبيخه سوى احتجاجها عن ولدها واعتذارها بأنه فعلت ذلك إصغاء لصوت المحبة الوالدية الذي لم يمكنها سد أذنيها دونه، فقالت له: ولم يسعني احتمال ترك روبرت يعاني الضيق والألم على حين أستطيع إنقاذه؛ فهو ولدي ودائمًا أفتكر به، وإني لأحبه أكثر من نفسي، وهو ذا الآن أُصرِّح على مرأى ومسمع منك بأنه لو مات وأمكنني إرجاعه إلى الحياة بأن أموت لأجله لفعلت ذلك بكل فرح وسرور، فإذًا كيف تتوهم أنه يمكنني أن أعيش هنا على السعة والرحب، وأتقلب على بساط الرخاء والرغد بينما هو يجول من مكان إلى آخر في غاية الضنك ولا أجتهد في إعانته، فسواء كان يحق لي أن أشعر هكذا أو لا لست أعلم، إنما هذا أعلم وهو أنه ينبغي لي أن أشعر هكذا، فما احتيالي هو ابننا البكر ولا أستطيع أن أهجره؟».
فخرج وليم من حضرتها يتضرم غيظًا وكدرًا غير قادر أن يفعل معها شيئًا سوى التوبيخ، لكنه عول على معاقبة الرسول سمبسون معاقبة شديدة، فأصدر أمرًا إلى القلعة حيث كان مسجونًا بأن تقلع عيناه، فبلغ ذلك متيلدا، وفي الحال أرسلت له نذيرًا فلم يعتَّم أن هرب إلى دير كان تحت حمايتها وعنايتها، ومعلوم أن الأديرة في ذلك العهد كانت كمدن الملجأ في أيام الإسرائيليين حرمًا لا يجسر أحد أيًّا كان أن يطارد فريسته إلى داخلها، أما رئيس ذلك الدير فلكي يضمن حماية سمبسون أشار عليه أن يترهب، وهذا إذ كان راضيًا أن يفعل بسرور كل ما يكفل له سلامة حياته حلَق في الحال وقص شعره ولبس الحلة الرهبانية، ووقف حياته على تلك الخدمة متعهدًا بوفاء نذورها، متبعًا طريقة إخوانه الرهبان فيما يتعلق بالأصوام والتقشفات، وعندها تركه وليم يمارس خدمته بسلام.
وبعد اكتشاف هذه المواصلات بين الابن والأم صارت الأمور إلى حال أردأ بعدما كان ينتظر لها اطراد مجرى التحسين، فإن كثيرين داخل نورماندي وخارجها مالوا إلى جانب روبرت حتى ألف حزبه جيشًا كبيرًا، وعقدوا لواء قيادته له، وخرجوا به لمهاجمة مدينة روان، فأوجس الملك من ذلك خوفًا عظيمًا، وجمع كل ما كان لديه من القوات وانطلق لمحاربة ابنه العاصي الثائر وبرفقته ابنه وليم روفوس، وجلست متيلدا ضمن قصرها مُثقلة بآلام الخوف والحزن، وفي حالة كحالة كل أم وزوجة يتصل بها خبر معركة دموية بين ابنها وزوجها، فكان مجرد افتكارها فقط بأن أحدهما قد قتل الآخر كافيًا لأن يطبق عليها بظلام الحزن الأبدي، وبالحقيقة إن ما توقعته متيلدا من المخاطر كان على الأبواب، فإن روبرت لم يستطع في قلعة ليفل الوصول إلى أخيه والفتك به.
أما الآن فقد تمكن من أبيه في سهر أرشمبري حيث حدثت هذه المعركة، وطعنه طعنة كانت لولا قليل صرعته قتيلًا، وتفصيل ذلك أنه بينما كان الفرسان يجولون في معمعة القتال يضايقون بعضهم بعضًا وهم غارقون بعددهم الحربية لا يتبين الواحد منهم وجه الآخر الواقف أمامه، إذا بروبرت قد التقى بفارس طويل النجاد عظيم الجثة، فصوب سنان رمحه نحوه، وطعنه في ذراعه فسقط على الأرض يئن من شدة الألم، ومن صوته عرفه روبرت أنه أبوه، كما أن وليم عرف أيضًا أن عدوه الذي طعنه كان ابنه، فانبرى يفرغ عليه كنانة السخط والغضب، ويلعنه بأعظم اللعنات، وعندها ترجَّل روبرت مذعورًا، وخر على الأرض بجانب أبيه صارخًا مستغيثًا، فأشاح وليم عنه وأبى قبول أدنى مساعدة منه.
ولم ينحصر مصاب وليم وقتئذٍ بسقوطه عن جواده وتأثره من جرحه البليغ، بل زاد على ذلك تقهقر رجاله، وانتصار قوم روبرت، حتى إن وليم روفوس جُرح أيضًا كأبيه، ولا تسل عن حالة متيلدا وقتئذٍ، فإنها باتت غرقى في بحار الهموم تتقاذفها تيارات الكآبة والحزن، حتى لم يعد في وسعها أن تتكبد رؤية هذه المخاصمات المريعة، فتوسلت إلى زوجها بحرارة ودموع غزيرة أن يجد طريقة لحسم هذه المنازعة التي لأجلها قضت الليالي سهرًا، وصرفت الأيام نائحة باكية حتى عبثت بصحتها وقوتها أيدي النحول والخوار، ومالت بظلهما إلى التقلص والانحلال، وأصبحت ضئيلة نحيلة صفراء كالخيال، بحيث صار يتراءى للناظر إليها أنه إذا طالت مدة وطأة هذا المصاب عليها تذوب بنار حزنها وقهرها، وتنحدر بقوة يأسها إلى قبرها.
على أن وليم استجاب توسلاتها وأرسل فدعا ابنه، وبعد مداولات ومباحثات عقدت بينهما صلات الصلح والسلام، وانقطعت أسباب النزاع والخصام، وعاد وليم وروبرت إلى صداقة وطيدة البنيان، وتحاب شديد الالتحام، وبعد ذلك بقليل سافر وليم لإنكلترا لإنشاء قوة عسكرية في شماليها، فاستصحب روبرت معه إلى تلك الأقطار كأحد قواده الكبار.