ولادة وليم
قلنا أن رولو اتخذ مدينة روان عاصمة إمارته، وجعلها غاية في المنعة والحصانة، بحيث صارت العظمى في مقاطعة نورماندي، ولا تزال كذلك في الوقت الحاضر، على أنها لم تبق مركزًا للخلافة في عهد الأمراء الذين خلفوا رولو، فإن الأمير روبرت أبا وليم — وهو السادس في السلسلة الدوكية — غادرها واتخذ قلعة كبيرة في فاليس مقرًّا لإمارته، وتلك القلعة كانت مبنية على أكمة تبعد قليلًا عن المدينة، وقد مضى عليها عهد طويل وهي مهجورة متروكة صلقعًا بلقعًا، على أن أطلالها ورسومها لا تزال إلى الآن تشهد على عظمتها الغابرة، وشهرة رفعتها الدابرة، بل لا تزال محط ركاب السياح المتقاطرين إليها من جميع النواحي؛ ليشاهدوا مولد (مكان ولادة) ذلك البطل القاهر والملك الظافر.
أما تلك الهضبة المبنية عليها القلعة، فكانت تنتهي من إحدى جهاتها بأحادير صخرية، ومثلها من جهتين أخريين، بحيث كان يتعذَّر على العدو الصعود إليها من هذه الجهات الثلاث المحاطة بالأحادير والأجراف، وأما جهتها الرابعة فكانت كذلك من حيث التحدُّر والعلو، ومنها المدخل بطريق كثيرة التعاريج تخرج من المدينة إلى القلعة، وكان الموصل بينهما محصنًا على الجانبين بخندق وجسر يوضع عند المرور ويرفع بعده، وعلى كلٍّ من جانبي بوابة القلعة برج حصين زيادة في المنعة، وفي الوادي بين المدينة والقلعة نهر صغير يجري وينعطف دائرًا على حضيض تلك الهضبة، فيحيط بها إحاطة الهالة بالقمر والأكمام بالثمر، أما دار القلعة فكانت محصنة بسور كثيف غاية في القوة والمتانة، وداخله أبنية كثيرة عديدة متفرقة منها: كنيسة وبرج مربع الشكل مبني من حجر أبيض، وقيل: إنه لا يزال باقيًا للآن غير منهدم فيه شيء، وعلى أربع جهات السور مَراقِب أو أبراج كان يقضي فيها الخفراء أدق الخفارة نهارًا وليلًا احتسابًا من مفاجأة الأعداء، وكانت تلك المراقب تطل على بر شاسع وسهل واسع، وحقول مزينة بأنواع الأشجار، ورياض مرصعة بالأنوار والأزهار، تدبجت فيها الألوان هذا أبيض وذاك أخضر وذلك أحمر، وتأرجت منها الأطياب هذا ورد وذاك نرجس وذلك مسك أذخر، وبينها مجاري أنهر صافية يترقرق عذبها على ذياك العقيق، بما يذكرك العذيب والعقيق، ويسيل لجين مائها على دُرِّ حصبائها، ويطيب القلب باعتلال هوائها:
وقد مر بنا أن أبا وليم روبرت كان السادس في سلسلة الإمارة، وعليه يكون وليم خلفه السابع، ولما كان من غرض راوي الحوادث إفادة القارئ فائدة تاريخية، فضلًا عن تسليته بما يتنزل لديه منزلة قصة؛ رأينا أن نأتي إلى حادثة ولادة وليم على طريق تاريخ موجز عن كل حلقات السلسلة الدوكية من رولو إلى وليم.
وإننا لنشير على القارئ أن يستوعب هذه الخلاصة التاريخية بملء الاعتناء والمبالاة، علمًا بأن الأسباب الحقيقية التي قادت وليم إلى بلاد الإنكليز يتعذَّر إدراكها بدون الوقوف على بعض الحوادث المهمة التي تعلق بالأمراء أسلافه قبل ولادته، ولا سيما بالأميرة «أَما» ابنة الأمير الثالث، كما سيأتي معنا بالخلاصة الآتية، فإن تاريخ حياتها الغريب الحوادث له علاقة شديدة مع الأسباب التي جرَّت وليم إلى ذلك الافتتاح الخطير، والظفر العظيم الكبير؛ ولذلك لم نر بدًّا من سرده بالتفصيل حتى إننا أفردنا له فصلًا مخصوصًا في كتابنا هذا.
خلاصة تاريخية عن الأمراء النورماندية
- وأولهم: رولو من سنة ٩١٢ب.م–٩١٧: إن رولو نفي من بلاده نروج نحو السنة ٨٧٠، وبعد سنين قليلة أتى فرنسا، ولم تستقر قدمه فيها ولا تهيأ له عقد صلات السلام مع ملكها شارل والجلوس على تخت الإمارة النورماندية إلَّا سنة ٩١٢، وكان إذ ذاك قد طعن في السن وتقدم في الأيام، فظل خمس سنوات يعتني في إصلاح شئون الإمارة وإحكام أمورها، ثم استقال عن منصبه وخلف ابنه عوضًا عنه، وطلب أن يصرف باقي حياته تحت ظلال الراحة والسلام، ومات سنة ٩٢٢، أي في السنة الخامسة من استقالته.
- الثاني: وليم الأول من ٩١٧–٩٤٢: هو ابن رولو، تولَّى الإمارة خمس سنين قبل وفاة أبيه، وقضى فيها نحو خمس وعشرين سنة بالنجاح والأمن، وقُتل غدرًا من عصبة سياسية تآمرت على اغتياله سنة ٩٤٢.
-
الثالث: رتشرد الأول من ٩٤٢–٩٩٦: وكان ابن عشر سنين حين غدر بأبيه، فصَلَاه ملك فرانسا حربًا عوانًا،
فاضطرَّ أن يستنجد أهلَ الشمال ويدعوهم إلى مساعدته، فلبوا دعوته على أنهم
حملوه أخيرًا أثقالًا لا تنقص عن أثقال عدوه الأول الذي استنصرهم عليه،
ولما تصعب عليه إجلاؤهم عن بلاده، وإرجاعهم من حيث أتوا؛ رأى أن يصطلح مع
ملك فرنسا، وبهذا تمكن من طردهم في الحين، وردهم على أعقابهم
منكوصين.
وكانت له بنت جميلة تدعى «أَما» هذه اكتسبت شهرة عظيمة، ونالت مقامًا رفيعًا، وحصَّلت ذكرًا خطيرًا في عصرها كما سيأتي معنا في أحد الفصول — إن شاء الله — ومات رتشرد سنة ٩٩٦ بعدما حكم ٥٤ سنة.
- الرابع: رتشرد الثاني من ٩٩٦–١٠٢٦: هو ابن رتشرد الأول، وإذ كان أبوه مثقلًا بأحمال الحروب مع سلطانه ملك فرنسا مدة ملكه؛ احتاط هو أيضًا بالمعارك المستمرة مع أتباعه سادات إمارته وأشرافها، فأرسل يدعو الشماليين لإغاثته كما فعل أبوه، وفي أيامه كانت نار الحرب منتشبة بين السكسونيين والدانيين، فجاء أثلرد مقدام الحزب الأول وزعيمه إلى نورماندي، وهناك تزوج بالأميرة «أما» أخت الدوك رتشرد الثاني — وسيأتي معنا تفصيل نتائج هذا الاقتران — ثم مات رتشرد هذا سنة ١٠٢٦ عن ابنين: رتشرد وروبرت، وكان وليم الظافر ابن أصغرهما ووُلِد قبل وفاة رتشرد الثاني بسنتين.
- الخامس: رتشرد الثالث من ١٠٢٦–١٠٢٨: هذا خلف أباه في الإمارة؛ لأنه كان الأكبر، أما أخوه روبرت فكان إذ ذاك في رتبة بارون، وكان عمر ابنه وليم «وهو الذي تلقب أخيرًا بالظافر» سنتين، وكان ميالًا كل الميل لأخذ مكان أخيه في الإمارة نظرًا لما كان مفطورًا عليه من الطمع في الشهرة وحب الارتقاء في سلم السيادة، فاغتنم الفرص واستعمل ما أمكنه من الوسائط في تقصير أيام أخيه، حتى مات فجأة موتًا مجهولًا يحمل البعض على الظن في أنه كان مسمومًا، على أنه لم يقم عليه دليل قاطع، وكان ذلك بعد توليه الإمارة بسنتين.
-
السادس: روبرت من ١٠٢٨–١٠٣٥: هذا خلف أخاه بعد موته كما تقدم معنا، وقد حدته محبة الذات والشهرة على
استخدام كل قوة إمارته في مساعدة ملك فرنسا على إخضاع أخيه الأصغر الذي كان
يسعى في ذات مشروع روبرت المتقدم ذكره، فأتت مساعدته الملك هنري بنتائج
حسنة، وقدَّرته على قمع عصيان أخيه وكبح جماحه، وجعلته يشعر بالشكر
والممنونية لروبرت على هذا الصنع الجميل، ويظل كل أيام حياته مستعدًّا
لإجابة كل مطالبه ومقترحاته، ثم مات روبرت سنة ١٠٣٥ حين كان وليم ابن إحدى
عشرة سنة.
أما ولادة وليم فكانت في غاية البساطة والحقارة مع أنه كان — كما لا يذهب من فكر القارئ — ابن أحد أولئك الأمراء «الدوكات» الذين تولوا مقاطعة نورماندي بكمال السطوة الملوكية والسيادة الباذخة، فإن أمه لم تكن زوجة روبرت أبيه، بل كانت في بدأتها بنتًا حقيرة ابنة دباغ من فاليس، ولم يكن أبو وليم حين تزوجها قد تسنَّم غارب الإمارة، واقتعد مَتْن السيادة، بل كان عندئذ بارونًا عند أبيه حتى إنه لم يكن من المحقق أنه سيصير دوكًا؛ لأن أخاه الأكبر ولي العهد كان لا يزال حيًّا، أما كيفية تعرفه (روبرت) بابنة الدباغ هذه، فكانت على الوجه الآتي.
بينما كان روبرت راجعًا من سفارة أرسله إليها أبوه لقي بعضًا من بنات الفلاحين يغسلن على شاطئ النهر، وكُنَّ جميعهن حافيات متسترات بثياب عبث بها الخلق والرثاثة، وكان بينهن بنت دباغ تدعى «أرلت» هذه أسرَتْ ذلك البارون الشاب بجمالها، فرمقها بعين الانذهال والولوع حين مرَّ بهنَّ؛ لأنها كانت حسنة الطلعة جميلة العينين زرقاويتهما، وقد لاحت على وجهها تباشير اليمن والسعادة.
وكانت عوائد تلك الأيام — كما في وقتنا الحاضر — لا تبيح لمن كان شريفًا رفيعًا أن يتزوج بنت فلاح، وعليه فلم يكن يَسوغ لروبرت أن يتخذ أرلت زوجة له، على أنه لم يكن يصدُّه شيء عن أن يأتي بها إلى قصره ويُسكنها معه؛ إذ لا يحرم ذلك سوى ناموس الله، وهذا قلما كان الدوكات والأمراء في الأجيال المتوسطة يعيرونه جانب الالتفات والمراعاة، حتى إنه إلى هذا اليوم لا يزال مهملًا في البلدان التي ما برحت تحت سيادة الدوكات والأمراء الذين لا يُجرون من السنن والشرائع إلا ما يرونه وفق مرغوباتهم وطبق أميالهم.
وبناء عليه فحالما بلغ روبرت القلعة أنفذ رسولًا من قبله إلى القرية إلى أبي أرلت يوعز إليه أن أرسل ابنتك إليَّ، فأسقط ذلك الأب بيده حيرة لا يدري ماذا يفعل، وقيل: إنه كان له أخ راهب أو ناسك، وقد صرف معظم حياته منقطعًا للتزهد والتبتل إلى الله في صومعة بقرب فاليس، فأرسل يستدعيه ليستشيره في هذا الشأن، فأشار عليه أن يمتثل أمر الأمير ويجيبه على طلبه كيف كان، وإذ ذاك ألقى ذلك الدباغ المسئولية على عاتق أخيه، وتسلَّح بمشورته، وسرَّ قلبه بانفتاح هذا الباب الذي قدر لنفسه ولكل عائلته الولوج منه إلى ديار الرفعة والنجاح بواسطة التقرب من ذلك الأمير الخطير، وبادر في الحال إلى تحلية ابنته وتزيينها وتهيئتها كخروف إلى الذبح؛ ليرسلها إلى فاليس.
وهناك أفرزت لها غرفة داخل القلعة ذات كوًى وشبابيك تطل منها على الحقول والغياض في السهول الريَّانة الجميلة، وقد أحبها روبرت محبة شديدة خالصة، وبالغ في إكرامها وإعزازها، ولا سيما بعدما ولدت له وليم.
أما وليم فكان محبوبًا جدًّا من أبيه، وبعد ولادته بسنتين مات أبو روبرت، وخلفه أخوه الأكبر، أي رتشرد الثالث الذي لم يمض عليه سنتان صرفهما بالحروب معه حتى لحق بأبيه، وخلا الجوُّ له فتولَّى دست الإمارة في القلعة، وأصبح حاكمًا على كل مقاطعات نورماندي ومدنها.
وكان وليم إذ ذاك ابن أربع سنين، وقد لاحت على وجهه تباشير النشاط، وبرقت أَسِرَّته بأنوار الجمال، وأخذ يزداد إقدامًا وبراعة، ولم يحتقره أبوه أو ينكره كما كان المنتظر والمظنون، بل كان يفتخر جدًّا بأن يجلس ويشاهد حركات ألعابه الغريبة، ويقر جهارًا بأنه أبوه وهو ابنه، وبالحقيقة أن وليم كان محبوبًا عند جميع من كانوا في القلعة، ولما صار ابن خمس أو ست سنوات أولع شديدًا بلعب العسكرية، فكان ينظم الأولاد رفقاءه جيشًا صغيرًا ويسحبهم حول القلعة بغاية الترتيب والتهذيب، وذلك أكسبه الجراءة والبسالة، ونفخ فيه روح العزم والنشاط، وربى فيه منظر الوقار والرزانة، بحيث بات مالكًا زمام أمور عشرته ومتسلطًا عليهم، فكان في يده الحل والعقد في كل ألعابهم ومشاجراتهم ومحاوراتهم وسائر شئونهم، ومجمل القول أنه نال ميزة رقَّته بكل سهولة إلى الدرجة التي كانت تطلبها ظروف أبيه، أعني كونه ابن حاكم نورماندي كما صار يدعى حينئذٍ. وبعد مضي بضع سنين عقد روبرت النية على زيارة الأرض المقدسة، ولم يبعثه على ذلك الإخلاص في الدين والتعمق في التقوى، بل حب الشهرة والحصول على البركة والعظمة اللتين ينالهما كل ملك أو أمير يزور أو يحج إلى تلك الأماكن، ولا ريب أنها كانت على روبرت سفرة طويلة مخطرة جدًّا. ولرُبَّما نشأ الاعتقاد بنوال البركة والعظمة بالسفر إلى الأرض المقدسة من النظر إلى ما يكابده المسافر من الأتعاب والمخاطر برًّا وبحرًا، ولا سيما في تلك الأيام.
وكان من عادة الملوك والأمراء أنهم قبل خروجهم للسفر يقيمون معتمدًا من قبلهم يَكِلون إليه رئاسة الأحكام وتدبير شئون المملكة في غيابهم، ويشيرون إلى من يخلفونهم في الملك إذا لم يرجعوا سالمين.
وعليه فلم يعزم روبرت على السفر حتى تشاغلت أفكار الناس وتضاربت في أمر الخلافة ومن ستعهد إليه؛ لأن روبرت لم يكن بعدُ قد تزوج (شرعيًّا) وبالنتيجة لم يكن له ابن يخلفه، وقد كان له أخوان وعم وبعض أقارب، وجميع أولئك تنازعوا طلب الخلافة، وانبرى كل منهم يستميل إليه الضباط والقواد وكبار المأمورين، ويمهد لنفسه طريق الاستيلاء على منصب الإمارة بينما كان روبرت نفسه يسعى سرًّا في تسمية وليم الصغير ولي عهده، على أنه لم يَفُه بكلمة في هذا الشأن، بل بذل جهده في تعظيم أهمية ابنه في عيون الجميع، وتشهيره في سائر الأمور.
وكان وليم يتدرَّج في مدارج نباهة الشأن، ويترقى في مراقي النبالة والبسالة والحزم والإقدام؛ من جمال في المنظر، ووقار في المعشر؛ حتى أصبح معزوزًا محبوبًا من كل الأمراء والضباط وسائر الأشراف الذين كانوا يجتمعون به كثيرًا في قصر أبيه، وبعض الأحيان كان يزورهم إلى قلاعهم وحصونهم في موكب والده.
أخيرًا عقد الدوك روبرت مجلس شورى من كل الأسياد والأمراء وجميع كبار بلاده وأشرافها؛ للبحث في أمر سفره إلى البلاد المقدسة، فأتوا من كل أنحاء نورماندي وكل منهم محفوف بمظاهر التجلة والتكريم، ومصحوب بفرقة من الرجالة والفرسان مدججين بآلات الكفاح والجلاد، وغارقين بالحديد والفولاذ، ولما الْتأم المحفل أعلن لهم روبرت قصده وعزمه على السفر، فقام واحد من الحضور — يُلقب غاي كونت برغندي — وخاطبه بما يأتي: «إني حزين لأسمع أن الدوك ابن عمي ينحو هذا المنحى؛ لأني أوجس خوفًا على سلامة البلاد في غيابه حين تصبح كل أحوال الحكومة ونظاماتها والأمراء والأسياد والضباط والعساكر بدون رأس».
فأجابه روبرت: «كلا، ليس الأمر كذلك؛ لأني عازم أن أخلف لكم حاكمًا عوضًا عني» قال هذا وأشار نحو الغلام الجميل وليم الذي كان بجانبه وقال: «عندي هذا الغلام الصغير الذي — وإن يكن الآن قاصرًا — لي ثقة به أنه سينمو بنعمة الله شيئًا فشيئًا، وأترجى منه رجلًا شجاعًا حكيمًا، فأسلمكم إياه مُذ الآن وأبيح له حق الاستيلاء على دوكية نورماندي وريثًا لي بمعرفتي وإرادتي، وهو ذا قد أقمت الآن دوك برتاني ليحكم على نورماندي باسمي إلى حين رجوعي، وإن لم أرجع فباسم وليم ابني حتى يدرك ويبلغ سن الرشاد» فأسقط جميع الحضور حيرة واندهاشًا من جراء هذا التعيين والانتخاب، وأصبحوا على بكرة أبيهم ينازعون العجب العجاب، أما ألانُ دوك برتاني أحد المتنازعين الخلافة فطفح قلبه سرورًا من حصوله على شرف هذه الوكالة التي دُعي إليها على حين غفلة؛ لأنه كان يُفضِّل في تلك الظروف الحكم باسم غيره على الحكم باسمه نظرًا لما كان يتهدده من المخاطر والمشاق، لو فرضنا أنه استطاع أن يغتصب لنفسه الحكومة المطلقة.
وأما المنازعون الآخرون «أي: طالبو الملك لأنفسهم» فلم يعودوا يستطيعون أن يفوهوا ببنت شفة، وأما باقي الحضور فسرَّهم أن سمعوا خبر تمليك وليم غاية السرور، وإذ ذاك رأى الدوك روبرت أنه تهيَّأ له إتمام ما كان يرغبه، فعمد إلى وليم وأقامه على ذراعيه وقبَّله وأداره صوب الجمهور، فحدق وليم نظره فيهم، وشخَص إلى عددهم الحربية بعين النشاط والزَّكْن، وعندئذٍ خرُّوا جميعهم أمامه بيانًا لطاعتهم له حسب عادة تلك الأيام، وقطعوا عهدًا على أنهم يعملون على الخضوع له بالأمانة والإخلاص، وقد رأى روبرت أنه ليس من الحكمة أن يترك ابنه تحت مناظرة المنافسين والمناظرين في نورماندي، وعليه أخذه معه إلى باريس وهو ذاهب في طريقه إلى أورشليم، واستودعه بلاط هنري ملك فرنسا الذي عقد جلسة خصوصية للنظر في أمر قبوله، فجلس في بهرة المحفل محفوفًا بالوزراء والأمراء وسائر كبار دولته، ولما جاء الوقت المعين دخل الدوك روبرت لابسًا حلة السفر وقابضًا على يد ابنه وليم، وهو محاط بحاشيته وخواصه الذين أزمعوا أن يرافقوه في سفره، وسار إلى حيث سلطانه الملك هنري جالس، وخرَّ عند قدميه علامة الخضوع والانقياد، وأمر ابنه وليم أن يفعل كذلك، فاستقبل الملك هنري وليم بمزيد الاحتفاء والإكرام بأن أخذه إليه واحتضنه، ووعد أن يُسكنه قصره ويبذل غاية جهده في الاعتناء به مدة غياب أبيه.
فأعجب جلساء الملك بجمال وليم، وحسن طلعته، ونباهة شأنه، وما لاح على ساطع مُحيَّاه من لوائح الحذق والنبل وتباشير العظمة والوقار مع أنه لم يكن حينئذ سوى ابن تسع سنوات.