سفر روبرت إلى الأرض المقدسة
وبعد أن قضى روبرت مدة ليست بطويلة في باريس دخل قصر ملكه هنري يستأذنه بالانصراف، وودع ابنه وليم وخرج في رجاله للذهاب إلى أورشليم، وقد لاقى في سفرته هذه صعوبات شديدة، ومخاطر عديدة لا محل للإتيان على ذكرها هنا من حيث خروجها عن موضوع هذا التاريخ الذي هو الابن وليس الأب، ومهما يكن من سفره بصفة زائر وحاج فقد كان بغاية البهرجة والإجلال، وبعدما عاج برومية لقضاء بعض أغراض تتعلق بسفره خلع عنه ثياب السفر، ولبس حلته الدوكية وجاء القسطنطينية، وهناك بالغ في إظهار غناه وعظمته، فإنه حينما دنا من المدينة امتطى بغلًا مرخَّمًا (أي مزينًا بأفخر زينة) وله النعال من ذهب عوضًا عن الحديد، وكانت تلك النعال غير مُحكمة الالتصاق بالحوافر، بقصد أنها تهتز في سير البغل فتسقط على الأرض فيلتقطها جمهور المتفرجين، وغاية ما هنالك أن يندهش الأهلون وتحار أفكارهم بوفرة غنى الراكب، وعظمة ثروته، ثم غادر الأستانة واتجه نحو الأرض المقدسة، ولم يخلُ له الجو في تلك السفرة من تقلبات الزمان وصروف الحدثان، فإنه أصيب فيها بمرض خبيث تركه يعاني الألم الشديد ردحًا من الزمان إلى أن تعافى قليلًا، بحيث أرجعت له بعض القوة وأصبح قادرًا على أن يستأنف المسير محمولًا في سرير؛ لأنه لم يستطع الركوب ولا المشي — ولم تكن بعدُ اخترعت المركبات — فرتبوا ستة عشر عبدًا يتبادلون حمله أربعة أربعة.
وفي ذات يوم التقى روبرت وقومه برجل نورماندي راجع إلى بلاده من زيارة الأرض المقدسة، هذا سأل روبرت إذا كان يريد أن يرسل معه شيئًا إلى نورماندي، فأجابه: «لا شيء سوى أن تقول للأهل هناك أنك صادفتني على طريقي إلى أورشليم محمولًا بأربعة عشر عبدًا».
ثم جاء روبرت أورشليم وقضى فروض الزيارة، وخرج منها قاصدًا بلاده، على أنه ما عتَّم بُعيد ذلك أن شاع في باريس خبر موته على الطريق، وظهر في بادئ الأمر أن ذلك مشكوك في صحته أو مكذوب فيه، وظل الناس بين مكذبين ومصدقين إلى أن تحقق الخبر، وظهر صدقه بين الجميع وانتشر، وإذ ذاك طفق إخوة روبرت وأبناء عمه وغيرهم من ذوي قرباه يتهيَّئون لاغتصاب الإمارة، كلٌّ يطلبها لنفسه وينازع فيها الآخرين كأنهم نسوا ما أقسموا به لروبرت من العمل على طاعة وليم بأمانة وإخلاص، وأخذ كل منهم يجهد نفسه في تحصيل إكليل الخلافة له، وكان وليم في أثناء ذلك في باريس وهو ابن إحدى عشرة سنة فقط، حيث كانت تصرف العناية التامة في تهذيبه وتثقيفه، وقد وكلت المناظرة في تعليمه العلوم الحربية إلى معلم ماهر يُدعى ثيرولد، فسُرَّ هذا المعلم سرورًا عظيمًا بنجاح تلميذه وتقدمه، ولا سيما في تمرينات ركوب الخيل المختلفة الأساليب، المتنوعة الأضْرُب — حسب اصطلاحات تلك الأيام — وقد هذَّبه في استعمال الأسلحة المختلفة كالقسيِّ والنبال والحِراب وسمر الرماح وبيض الصِّفاح إلى غير ذلك من أدوات الجلاد والكفاح، ومرَّنه في لبس عدد الحرب الفولاذية التي كانوا يلبسونها في تلك الأيام اتقاءَ مَضارب العدو من مِثْل الخوذة أو الطاسة والدرقة والدرع وغيرها.
فبين وليم يأخذ عن أستاذه في باريس هذه الفنون الحربية تأهُّبًا للاستواء على عرش الإمارة، إذ قام في نورماندي عدد عديد من المنافسين والمناظرين، وتهيأ كل منهم للسبق في ميدان المنازعة، وكان أشدهم جهادًا وأبذلهم جهدًا في ذلك أمير أرك — وكان اسمه وليم أيضًا، ولكن لكي يتميز عن الدوك وليم الشاب ندعوه أرك — وإذ إنه كان أخا روبرت ادَّعى بأن حق الخلافة إنما هو له من وجه أن أخاه لم يخلف ولدًا شرعيًّا، وعليه حشد كل قواته وجمع كل رجاله وتأهب لفتح البلاد والتسلط عليها.
ومما لا يذهب من بال القُرَّاء أن روبرت قبيل سفره إلى أورشليم عهد الوكالة في الإمارة ليد ألانَ، وفوَّضه الحكم باسمه إلى حين رجوعه، وإن لم يرجع فباسم ابنه وليم؛ حتى يشب ويبلغ سن الرشاد وتوجد فيه الأهلية ليحكم على كل هاتيك البلاد، فلما بلغ ألانَ ما صارت إليه البلاد بشيوع خبر موت روبرت من الاضطرابات والقلاقل، وأن أرك عازم على اغتصاب الإمارة عنوة إن لم تسلم إليه باللين؛ أمر حالًا بتشكيل لجنة من كبار الحكومة الذين بمساعدتهم كان يدبر شئون الوكالة، ولما تنظمت تلك الجلسة تحت رئاسته همَى سيل البحث من سماء الأفكار وابلًا مدرارًا، وأجمع الجميع برأي واحد على قبول الدوك وليم خليفة بعد أبيه روبرت، وأخذوا من تلك الساعة يقضون باسمه، ولما أُخطروا بقدوم الأمير أرك متأهبًا لمصادمتهم واغتصابهم قضيب الملك؛ بادروا في الحال لملاقاته على طريق التأهب والاستعداد، وهكذا هبت نيران الحرب تتقد من تحت رماد السلام بما كان يهبُّ عليها من رياح البغض والخصام.
وقبلما اشتعلت بين الفريقين نار الحرب ودارت رحى الطعن والضرب، جاء نورماندي الأمراءُ الذين كانوا مع روبرت، وكانوا على جانب عظيم من رفعة الشأن وعلو الكلمة وشدة النفوذ، حتى إن كلا الفريقين المُتهيِّئين للقتال تمنى لو أنهم يكونون من حزبه؛ لأنهم فضلًا عن اقتدارهم على المساعدة المادية لهم استطاعة عظيمة على الإسعاف الأدبي أيضًا؛ لأن سياحتهم هذه الطويلة المحفوفة بالمخاطر والأتعاب أكسبتهم اعتبارًا ووقارًا في عيون الشعب الذي كان ينظر إليهم بعين الاحترام وفوق ذلك؛ لأنهم انتُخبوا من كل أطراف الإمارة لمرافقة روبرت في تلك الزيارة، وقضوا تلك السفرة الطويلة تحت تجشُّم الأخطار والمشقات، وظلوا يقومون في خدمة أميرهم والسهر عليه إلى أن أدركته المنية، وكل ذلك مما كان يحدو الشعب على عدِّهم أخلص أصدقاء روبرت، وأصدقهم حبًّا له؛ فلأجل هذا ولأسباب أُخَر أضربنا عن ذكرها كان الشعب يتوقع النصر والفوز للفريق الذي يُسعده الحظ بانضمام أولئك الأمراء إليه.
أما هم فحالما بلغوا نورماندي اتحدوا مع الفريق النازع لمبايعة وليم رغمًا عن اجتهاد الفريق الآخر في استمالتهم إليه، فأدخلهم ألانُ في ديوانه، وعلى الفور عقدوا مجلسًا للبحث في شأن إحضار وليم من فرنسا وعدمه، فذهب البعض منهم إلى إبقائه في فرنسا من وجه أنه لا يزال صغيرًا، وليس في وسعه أن يأتيهم بأدنى مساعدة في ساحة الوغى سوى أنه يكون معرضًا أكثر منهم للأسر أو للقتل، وعليه ارتأوا أن يظل في الوقت الحاضر في باريس تحت حماية الملك هنري.
أما البعض الآخر فذهب بالعكس وصرَّح بوجوب الإتيان به، واحتجَّ بأن وجوده في نورماندي وإن كان صبيًّا في سن المراهقة يؤثر في قلوب أتباعه نشاطًا وانتعاشًا، ويحدث في جميع جهات الإمارة ميلًا إليه شديدًا، وانتباهًا نحوه جديدًا؛ حتى يرى أهل القلوب اللينة من نعومة أظفاره وعجزه عن القيام بطلب حقه محاميًا يحتجُّ عنه أيَّما احتجاج، ويَجِدُ ألوفٌ من الشعب من ريعان حداثته، وجمال صورته، ووضاء طلعته حاديًا يسوقهم إلى طاعته، وسحرًا يجذبهم إلى محبته، مع أنهم كانوا ينسونه ولربما ينفرون عنه إذا بقي في باريس، وفوق كل ذلك من يقدر أن يضمن سلامته عند الملك هنري، ولربما هذا الملك ذاته يطلب حق الاستيلاء على عرش الإمارة النورماندية، فيولي عليها أحد المقربين إليه، ويحجر على وليم في أحد قلاعه، ويتركه هناك أسيرًا غير مهان من حيث المعاملة، ولكن يقطع الرجاء من إطلاقه ونجاته، أو أنه يدس له سمًّا مُميتًا يذهب بحياته.
فصدق الأكثرون على هذا الرأي واستصوبوه، وعليه أنفذ ألانُ علمًا للملك هنري به يطلب إرسال وليم إلى نورماندي، فأبى إرساله متصعبًا متمنعًا، فاضطرب الحزب الوِلْيَمي وأشفق من تحقق الظن في طلبه حق الاستيلاء والسيادة، فاستأنف طلب وليم بمزيد اللجاجة والإلحاح، وبعد مداولات ومخابرات عديدة ومعاهدات متنوعة بين ذلك الحزب والملك هنري أجاب هذا طلبهم، وسمح لوليم بالرجوع لبلاده وهو إذ ذاك في سن الثانية أو الثالثة عشرة.
فخرج من باريس مخفورًا بالرسل الذين أنفذهم ألان للإتيان به، وحامية قوية من الجند سارت في حراسته على الطريق ومعه معلمه الحربي ثيرولد، وهكذا جاء قصر ألان على جناح السلام والأمان، وكان لحضوره في نورماندي وقع عظيم كما كان في حسبان الذين ارتأوا ذلك — كما سبق الإلماع إليه — وقد حرك في قلوب الأكثرين عوامل الميل نحوه، فسرَّ الجنود سرورًا لا مزيد عليه بأن رأوا قائدهم الصغير مالكًا زمام الملاحة، قابضًا على عنان النشاط وسدة العزم منذ الصغر؛ ولا سيما لأنهم أبصروا منه في ركوب الخيل فارسًا مُجربًا، إذ كان مغرمًا أشد الغرام في ركوبها منذ طفوليَّته، أما الآن وقد تهيأ له الحصول على أجودها وأكرمها، وأخذ عن أستاذه ثيرولد كلَّ ما يتعلق بأساليب فن الركوب وطرائقه، فلا نعجب من أن نرى منه على ظهر الجواد قلة من القلل يجري في ميدان السباق بأسرع من وميض البرق أو جري البراق، ويدخل ساحة الحرب من أبواب تقضي بالعجب العجاب، وحوله الأمراء والأعيان والرجالة والفرسان ينظرون إلى كرَّاته وغاراته، ويكبرون من لباقة خطراته ورشاقة حركاته، ويتوسمون طالع النصر والظفر في طالع جبينه الأنور، ويتلون في فرقان محياه: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، وعلى هذه الكيفية كُنتَ ترى وليم عند قومه، وقومه من قدومه في يومه.
وأما قيادة الجيش وأزِمَّة الأحكام فلم تزل في يد ألان يجريها باسم وليم — كما سبقت إليه الإشارة — على أن وليم نفسه لم يعدم قوة النفوذ والسلطان، والأخذ بمجامع القلوب، بل ألان أيضًا رأى أن إتيان وليم زاد كلمته علوًّا، وسطوته تعزيزًا، وأحكامه نفوذًا، ومع كل ذلك فالبلاد كانت لم تزل بعيدة عن الطاعة والانقياد هاجرةً مضاجع الراحة والسكينة؛ لأن أمير أرك وغيره من طلاب الإمارة تحصنوا في قلاعهم، وجمع كلٌّ رجالَه إليه وجاهر في العصيان على الحكومة الوليمية، ولا يخفى على القارئ أنه في تلك الأيام كانت كل مقاطعة من البلاد تحت سلطة أمير مستقل في ذاته، فكان يجلس في قلعته متحصنًا بقواته، مُتمنِّعًا بسَطوة رجاله وهو حرٌّ مطلق الأمر فعَّال لما يريد، يجري أحكامه في البلاد على نمط الاستبداد الشديد، ويُنفِذ قضاءه على العباد بقضيب من حديد. وكانت نيران القتال بين أولئك الأمراء مستمرة الاشتعال، كل منهم يتعدى تخوم الآخرين، ويعيث مفسدًا أخذًا بثأر له عندهم، أو تأديبًا لهم على إساءة بدت منهم أو أنه توهمها فيهم، وكانت تلك الاضطرابات والانقلابات في إبان ثورانها حين رجوع وليم من باريس، وما برح شرها يزداد تفاقمًا، وخطبها هولًا واشتدادًا حتى عمت البلاد، وبلَت العباد بالويل والخراب، وتعذر على الحكومة الوليمية أن تعود تميز بين أعدائها وأصدقائها، فإنه حدث مرة أنها أصدرت أمرًا باسم وليم لأمير إحدى المقاطعات توعز إليه أن اجمعْ رجالك وتعال إلينا؛ فإننا في حاجة إليك في أمر ذي بال، أما هو فما كان منه إلا أن أجابها بما يأتي: عندي كثير من المشاغب والفتن التي تضطرني أن أقوم في إخماد نارها، وتصدني عن تلبية أمر آخر.
وما مر على وليم نحوٌ من سنتين في نورماندي وحكومته أشبه شيء بدفة في البحر تتقاذفها الأمواج، حتى زاد طينه بلة حادث جديد من الملك هنري نفسه، فإنه لما كان وليم ابن خمس عشرة سنة، وذلك بعد إتيانه من باريس بسنتين أو ثلاث، أرسل إليه الملك هنري يدعوه إلى ملاقاته في بلدة تدعى أفركس بين باريس وفاليس؛ لكي يقدم له رسوم الطاعة المفروضة على دوكيته، فداخل مُشيري وليم ريبٌ من جهة ذهابه وعدمه، على أنهم أخيرًا أجمعوا على وجوبه، وهكذا أعدت التأهبات اللازمة وركب وليم بمزيد الاحتفاء والعظمة لملاقاة سلطانه.
فاستغرقت هذه المقابلة بين وليم وملكه بضعة أيام، وكان لوليم قلعة في جنوبي دوكيته على متاخمة أملاك هنري، واسمها تلير يتولَّى حراستها ضابط أمين متقدم في الأيام يدعى دي كرسين، هذا أقامه روبرت أبو وليم على حراسة تلك القلعة، وأمدَّه بحامية من الجند، فأخذ الملك هنري يتشكى إلى وليم بخصوص القلعة وقال: إن حرَّاسها دائمًا يشنون الغارة على تخومه، ويبلون تلك الأطراف بالسلب والنهب، فأجابه وليم مُظهرًا مزيد حزنه وأسفه أنه سوف يتولَّى بنفسه البحث عن هذا الشأن، حتى إذا تحقق صدقه بادر في الحال إلى كبح جماحهم وقمع تعديهم، فأجابه الملك هنري: «هذا ليس كافيًا، بل أعطني تلك القلعة فأدُكها إلى الحضيض فتصبح رُكامًا مركومًا» فساء في عيني وليم هذا الطلب، وإذ إنه كان قد تعود العمل على طاعة الملك هنري من نعومة أظفاره:
رأى ذاته مضطرًّا أن يجيب سؤاله هذا، وفي الحال أصدر أمرًا في تسليمها مُكرهًا.
فلما بلغ دي كرسين ذلك الأمر رفضه وأبى القيام بموجبه، محتجًّا بأن تلك القلعة سلمت لمناظرته على عهد الدوك روبرت حاكم نورماندي، وعليه فهو يرفض تسليمها لسلطة أخرى أيٍّ كانت، ولما وقف وليم ومستشاروه على هذا الجواب اغتاظوا غيظًا شديدًا، عالمين أن مقاومة الملك هنري في مثل تلك الظروف لا تجديهم نفعًا، بل بالحري ترتد عليهم نكالًا من حيث إن وليم كان عندئذ في حوزته وتحت قبضة سلطانه، فاستأنفوا إرسال الأوامر للقائد دي كرسين بأكثر إلحاح وأشد لجاجة في تسليم القلعة، فامتثل لأمرهم أخيرًا وسلَّم مفاتيحها، وانسحب منها هو ورجاله، وإذ ذاك أجيز لوليم أن يرجع لبلاده، ولم تلبث القلعة أن دُكت إلى الأرض وتُركت أثرًا بعد عين.
على أن هذه الحادثة آلت إلى زرع العداوة بين الحكومتين الفرنسية والنورماندية، وطوت القلوب على الضغينة والحقد، حتى إنها انتهت بشبوب حرب عوان افتتحت بأن زحف الملك هنري بجيشه على نورماندي، وطفق يفتح المدن، ويخرب القلاع، ويهدم الحصون والمعاقل، ويُعمل السيف في رقاب من لم يطيعوه، ويضرم النار في مساكن من راموا أن يقفوا في وجهه ويصدوه، وما زال يتقدم في نورماندي بين افتتاح وإخراب حتى جاء قلعة فاليس ومدَّ عليها مطمار الحصار، فانخلعت إذ ذاك قلوب الوليميين وخارت قواهم، وأُسقطوا قنوطًا وفشلًا لما رأوا من تعاقب الخطوب ومعاكسة الأحوال، على أنهم ما لبثوا أن نهضوا بعزيمة شديدة، واتحدوا على الذبِّ والدفاع عن بلادهم، وتأهبوا لرفع الحصار عن فاليس، وإجلاء عساكر هنري عنها بعدما كانوا قد أحاطوا بها من كل جانب، وشددوا عليها الحصار وكادوا يفتتحونها لولا أن وليم تداركها وفلَّ جيوش الأعداء مدحورين مذعورين. وتفصيل ذلك أن الملك هنري رشَا حاكم القلعة، فوعده أن يسلمه مفاتيح الأبواب ويدخله إليها ظافرًا منتصرًا، وبينما هما يسعيان في تدبير هذه الخيانة قدم وليم بفرقة من النورمان الشجعان، وانطبقوا على معسكر هنري، وغاروا على المُحاصِرين كالأسود الكاسرة، فلما أبصرهم أهل المدينة فرحوا وتهللوا، واستبشروا بحلول الفرج وزوال الضيق، وكادوا يطيرون سرورًا حالما رأوا فارسهم المدافع وليم الظافر قادمًا لإنقاذهم، وحينئذ تذكروه يوم كان ولدًا صغيرًا يلعب حول أسوار تلك القلعة، وألان جاء يرد الأعداء عن مسقط رأسه بهيئة تولي الناظرين عجبًا واندهاشًا، فلعبت في أعطافهم راح الابتهاج والفرح، ورفعوا أصوات التأهيل والترحاب بقدومه، أما ذلك القائد الخائن فلم يُجازَ على خيانته بالقتل حسب شريعة تلك الأيام، بل خلعت عنه ثيابه الرسمية وضبطت أملاكه وأُخلي سبيله.
وهكذا استظهر وليم على عدوه الملك هنري، وازداد قوة ومنعة، على أن عمه أمير أرك كان لا يزال مجاهرًا في العصيان عليه، وقد ساعدته التقادير بانشغال وليم بالقتال مع الملك هنري حتى خلا له الجو، فنهض من زاوية التربص، وشرع يجمع رجاله متأهبًا لاستئناف المشاغب والفتن وشن الغارات إذلالًا للحكومة الوليمية، وسعيًا في إسقاطها وقلبها، فجمع إليه عصابته، وتحصن في قلعته أرك — وهي إلى الشمال من نورماندي على متاخمة البحر، ولا تزال أطلالها ورسومها إلى هذا اليوم — وكان هذا الأمير قد بنَى في أعلاها برجًا حصينًا يلتجئ إليه مع نفر من رجاله عند مسيس الحاجة.
فزحف إليها وليم برجاله وخيَّم حولها، وحصَر العُصاة ضمنها، أما الملك هنري الذي كان لا يزال باقيًا على مقربة من نورماندي، فأخذ يتهيأ بجيشه ليأتي إلى نجدة الأمير أرك.
فلما أحاط وليم علمًا بقدومه ترك قسمًا من عسكره في محاصرة القلعة، وخرج في القسم الآخر لملاقاة الملك هنري، وانتهى الأمر بقتال عنيف دارت فيه الدائرة على الملك هنري، وحاز وليم الشاب انتصارًا مجيدًا.
وبيان ذلك أنه كان على الملك هنري أن يسير بجيشه في وادٍ طويل ضيق مظلم إلى جهة قلعة أرك، فجرَّ عساكره في مجاهيل ذلك المضيق وهم في غاية النظام والإحكام، وكان مقدم ذلك الجيش مؤلفًا من كُماة غارقين في الحديد، متسلحين بالأقواس الحربية والحراب والرماح وأنواع أُخر من الأسلحة التي اشتهر استعمالها في ذلك العهد، ثم عقب هذه الفرقة حاملو الأثقال من خيام ومئونات ومهمات أُخر حربية، ثم جاء بعدهم الخدام من طباخين وساقة مركبات وفعلة وغيرهم من الذين أتوا لإعداد الضروريات حلًّا وترحالًا، وبعدهم دخلت فرقة القلب وفيها الملك يتقدمها مخفورًا بحرسه الملوكي، ثم تلاها مؤخر الجيش.
ولما بلغ وليم أن الملك هنري زاحف إليه بذلك الجيش الكثيف ارتأى في الحال أن يكمن له في الطريق، ويجره إلى تيهٍ سحيق، يعجل فيه اخترامه، ويوصل إلى كل هاتيك الأنحاء انهزامه، وعليه انتخب من رجاله النورمانديين أبطالًا مجربين، وكُماة بكل ضروب الأسلحة مدججين، وساقهم إلى مضيق وأمرهم بالاختباء على جانبيه بين الأدغال والغابات، وأوعز إلى فرقة أخرى أن تتقدمهم لملاقاة جيوش هنري وتفتح معها القتال، ثم تنكسر قدامها متقهقرة بترتيب، بحيث يتوهَّم الملك هنري أن هذه كل حامية وليم وقد ولت الأدبار، وأركنت إلى الفرار، فيطمع في أنه حازها ويتأثَّرها وهي تنكفئ نحو ذلك المضيق، حتى إذا ما تعقبها هنري بكامل جيوشه، وأصبح هو وكل عساكره في بطن ذلك الوادي طلعت عليه تلك الأسود الكامنة في غاباتها من الوراء، وانهالت على طلائعه كالقضاء، وارتدت إليه تلك الأبطال من الأمام، بعد إذ تظاهرت بالانهزام.
وهكذا تسنَّى لوليم بهذه المكيدة الاستظهار على هنري والفتك به، ورده ورجاله على أعقابهم مدحورين منكوصين، فإن مقدم جيوش هنري انخدع بانكسار الفرقة النورماندية أمامه، وظنها أيضًا أنها كل عسكر العدو فصغرت في عينيه، وسهلت الظفر لديه؛ ولذاك غار عليها بملء الغيرة والحمية، واتصل نبأ هذا الهجوم إلى كل أقسام جيش هنري، فهاجوا وماجوا وأرغوا وأزبدوا وأبرقوا وأرعدوا، واندفعوا يتزاحمون نحو عدوهم الهارب أمامهم حتى سالت بهم تلك الأرض وارتجت من صخب أصواتهم بالطول والعرض، وما فتئوا بين دفاع وازدحام في ذلك المضيق على بعضهم البعض، وطفقوا يموجون فيه ويخطرون، ويطلبون الأعداء ولا ينظرون، وبينما هم كذلك انطبق عليهم الكمين من الوراء انطباق القدر، ورجع إليهم المنهزمون وانصبوا انصباب المطر، ومطرتهم سماء المنون بسهام ورماح وحراب لا تبقي ولا تذر، حتى انطرح منهم في الحال مئات، وتمنى الأحياء بينهم لو سبقوا الأموات، وما برحوا يخرُّون صرعى المنون في تلك الوهاد، ويرون عدد ضراغم النورمانديين الخارجة من عرنها في تكاثر وازدياد حتى زهقت من جميعهم الأرواح، وتيقنوا حلول الأجل المتاح، فأخذوا يتدافعون ويلتطمون ويزحمون بعضهم بعضًا، ويدوسون بعضهم بعضًا لعلهم يجدون إلى الحياة سبيلًا، أو ينقعون من ماء النجاة غليلًا، حتى سقطت موتاهم في تلك القفار طعامًا لطيور السماء ووحوش الفلاة، وفرَّ أحياؤهم لا يلوون إلا على الخزي والعار وهم يقولون: النجاة النجاة.
وبالجهد قدر الملك هنري أن يلم شعث رجاله الطوال الأعمال الذين تفرقوا تحت كل كوكب في هاتيك الأنحاء، فظل أكثر من يومين ينشدهم بين النجاد والوهاد، حتى جمعهم شرذمة قليلة العدد، وخيم بهم في بقعة صغيرة.
ومهما يكن في نبأ هذا الانتصار من العجب والانذهال، فهو دون الطفيف في جانب النظر إلى اتِّضاع وليم وكرم أخلاقه وصدق عاطفته؛ لأنه وهو معديٌّ عليه أولًا، وظافر قاهر آخرًا بادر في الحال وقدم لملكه هنري رقيم الطاعة، يفصح فيه عن أسفه على ما جرى، ويبين له استمراره على الرضوخ له، وحسبانه ملكه وسلطانه، واستعداده للقيام بكل ما يندبه إليه من المهام والأعمال إصلاحية كانت أو دفاعية، واتكاله عليه في شق عصا العصاة، وإرغام أنوف البغاة العتاة، على أن وليم وإن أقر باحتياجه إلى إمداد سلطانه، فقد تعلم منذ نعومة أظفاره أن يعول على ذاته، ويحك جلده بظفره؛ ولهذا ما عتَّم بعد أن خبت نيران الحرب بينه وبين هنري أن زحف على قلعة أرك، وحالًا افتتحها عنوة، وعفا عن أميرها. وتلك كانت خاتمة الثورات، وأرك آخر الثورة.
وعندها ركب وليم راجعًا لفاليس منتصرًا مظفرًا تخفق فوق رأسه أعلام النصر والغلبة، وتسير أمامه مواكب العز والاحتفاء، وهكذا جلس على عرش الإمارة يدبر الأحكام بالسلام، وطائر الأمن والمسرة يشدو فوق الربوع النورماندية بأطرب الأنغام.