ملك وليم في نورماندي
ثم مضى على وليم منذ تربع على دست الإمارة يدير شئونها تحت ظلال الأمن والسلام إلى وقت حمله على بلاد الإنكليز زمان طويل ينيف على العشرين سنة، وكان في غضون هذه المدة مشغولًا في إدارة الأحكام، بيد الإتقان والإحكام، ومنصرف العناية نحو تشييد المعاقل وإقامة الحصون والقلاع، وبناء المدن والقرى والضياع، والتنكيل بأهل الفساد والعدوان، وقطع دابر الشقاق والعصيان، وسن الشرائع والقوانين المدنية في كل البلاد، وتنفيذ الأوامر على وجه الحق والسداد، وقد اعترك في ميدان حياته جملةً من فرسان الحوادث، ونازلها بثبات نستصغر لديه كبار الكوارث، وها نحن الآن نأتي على واحدة منها تبصرة للقارئ وذكرى.
وهي أنه عقدت ذات يوم مؤامرة على اغتياله والفتك به سرًّا، وكان مقدام هذه الغارة وإصبع تلك الإشارة عمه المدعو «غي أف برغندي» وأما هتك ستارها وكشف أسرارها فتم بواسطة ظريف كان في بلاط وليم بصفة ماجن، أي رجل يتعاطى الهزل كأبي نواس عند هارون الرشيد، وكان المُجَّان في تلك الأيام غاية في الكثرة، بحيث لم يخل قصر كل ملك أو أمير من واحد أو أكثر منهم، وكان بعضهم لا يمتازون عن المجانين من حيث الغرابة في التصرف والهجنة في الأخلاق، والتناهي في الحمق والبلاهة، وبعضهم متناولين من العته والخبل على الأقل نصفه، وكنت تراهم يعتورون الغريب إلى نهايته في الملابس، ويدركون الزخرفة غايتها في الزينة على اختلاف الألوان، وتضارب أنواعها، ويلبسون البرانس والقلانس (العراقي والطواقي)، ويعلقون الرخوت (الأجراس) المختلفة الأنواع، ويجلسون في المحاكم آخذين بأطراف المجون والمزاح، وكان اسم ماجن وليم «غالت».
أما غي أف برغندي وأتباعه فانقطعوا إلى قلعة منفردة موحشة على متاخمة نورماندي، وهناك طفقوا يجتمعون لأجل استتمام مقاصدهم وتسديد مكائدهم، وحشد رجالهم وتعزيز قواتهم تحت ليل الاحتيال والدهاء، في ظلام الغموض والخفاء، وقبلما تهيأ لهم إتمام مكيدتهم حدث أن وليم خرج للصيد إلى قفر يجاورهم في عصبة من حاشيته، وكان غالت الماجن بينهم.
فلما بلغ غي وأتباعه المغتالين قدومُ وليم إلى تلك الأطراف أجمعوا على إنفاذ مؤامرتهم، والاستئثار به عند رجوعه، وعليه انسحبوا من مخابئهم بين محاجئ الصخور واحدًا واحدًا لكي يدفعوا عنهم مظنة التآمر، وأتوا مدينة تدعى بايكس ينتظرون فيها رجوع وليم، وهناك عقدوا مؤامراتهم السرية، وارتأوا الآراء النهائية، ثم بعثوا بعصبة من رجالهم إلى مفارق الطرق التي كانوا يتوقعون مرور وليم فيها، وأوعزوا إليهم أن يتعهدوه بعين الضبط والانتباه، ويسدوا دونه كل أبواب النجاة، وهكذا أتوا على آخر إجراءاتهم بطريق التستر والخفاء، وجعلوا يقطعون بتحقق أمانيهم بلا مراء، والله من وراء ما كانوا يعملون.
فحدث أن بعضًا من أتباع وليم سبقوه في الرجوع، ومن جملتهم الماجن غالت، وقدموا أبايكس يوم حلتها إقدام أولئك المغتالين، أما أهل تلك المدينة فلم يعلموا شيئًا من أمر أولئك الثائرين؛ لأنه كثر حينئذٍ تردد العساكر إلى بلدتهم فرسانًا ومشاة، فلم يستطيعوا أن يفرقوا بين أصدقاء وليم وأعدائه، أما غالت فبعدما طاف في أنحاء تلك البلدة، ورأى فيها عددًا عديدًا من الضباط والجنود التي لم يعرفها من رجال أميره، وجد في ذلك ما يستميله للانتباه، ويدعوه للملاحظة، فشرع يراقب حركات أولئك الغرباء بملء الفطنة والذكاء، ويصغي إليهم على حين كان يتظاهر بعدم الإصغاء، لعله يصيب منهم كلامًا كانوا يخاطبون بعضهم بعضًا به وهم متجمعون فِرَقًا هنا حشد وهنالك اجتماع، أو سائرون في الشوارع مثنى وثلاث ورباع، حتى توفق بآرائه السديدة، ودقة ملاحظاته العديدة، إلى هتك ستار المؤامرة وكشف حجاب المكيدة، وعلى الفور خلع عنه برنسه وأجراسه ولباسه، وخرج يعدو ملتهبًا بنار السرعة في التفتيش على وليم ليقص عليه الخبر، وينذره بدنو الخطر، فاهتدى إليه في قرية تدعى «فالنجس» وكان وصوله إليها ليلًا، فاندفع نحو المخدع، حيث كان وليم نائمًا، مُزاحمًا الحراس مُدافعًا الخدم الذين لم يبدوا في وجهه إلا بعض الممانعة لسبب تعوُّدهم عليه، وتحققهم سماح وليم له في كل وقت بالمثول لديه، ثم نادى بأعلى صوته موقظًا أميره من سباته، مخبرًا إياه بشدة الخطر الذي دنا من حياته، أما وليم فلم يصدق غالت في بادئ الأمر؛ إذ لم ير سببًا لهذا الخوف كله، على أنه ما لبث أن اقتنع بصحة كلام ماجنه، وأيقن بصدق إنذاره، فنهض يلبس ثيابه بيد السرعة، ولم يأتمن أحدًا على نفسه في تلك الساعة شأن الملوك والأمراء حين اكتشافهم للمكائد المنصوبة لهم؛ إذ لا يعودون والحالة هذه يعرفون المخلصين لهم ليتكلوا عليهم، وهكذا ذهب وليم بنفسه وأسرج حصانه بيده وركبه، وخرج يبذل في شاكلته المهماز، ويرد صدور الأرض على الأعجاز.
وبالحقيقة إن باب النجاة الذي خرج منه كان أضيق من سَمِّ الخِياط؛ لأنه في وقت إسراع غالت إليه في فالنجس قدم المغتالون إلى تلك القرية نفسها، ومدوا عليها مطمار الحصار، وكانوا على أهبة الهجوم على محلة وليم للإيقاع به في ذات الساعة التي خرج فيها طالبًا الفرار موليًا الأدبار، حتى إنه لم يبعد قليلًا في عدوه إلَّا طرق أذنيه صوت وقع الحوافر على الطريق خلفه، وصليل أسلحة العساكر من الأعداء الذين لما رأوه أركن إلى الهزيمة خرجوا يتأثرونه ليُوردوه حتفَه، فارتأى أن يسرع في التعريج من أمامهم إلى غاب كثيفة يختبئ فيها، ويتركهم يذهبون يطلبونه من حيث لا يجدونه، فأقام في ذلك المخبأ برهة قصيرة، ثم خرج منه متحرزًا، ولم يجسر أن يعمل على المسير في الطريق العمومية مع أن الوقت كان ليلًا، بل اعتسف منها في القفار المهجورة والمسالك المجهولة التي انتهت به أخيرًا إلى شاطئ البحر، وعند فلق الصبح مر بقصر كبير، وعلى حين لم يكن يخطر بباله أن يرى أحدًا في وقت كهذا استوقفه بغتة منظر رجل في بوابة القصر مدججًا بسلاحه، تلوح على وجهه سمات الانتظار — وقد كان بالحقيقة منتظرًا حصانه — فتعرف وليمَ حالًا، وخاطبه بلسان الاندهاش قائلًا: «أليس من العجيب أن تكون أنت هذا الرجل يا سيدي الدوك وليم؟» فقد أعجبه جدًّا أن يرى أمير نورماندي وحاكمها خارجًا في وقت كهذا، أو في حالة كهذه وحيدًا معيبًا وثيابه غير مرتبة من جراء السرعة التي كان فيها حين لبسها، وجواده منقطع النفس، وعليه من الغبار ستار كثيف، وهو على وشك السقوط عياءً وتعبًا، فلما رأى وليم أن قد شق ستر الخفاء عن محيا أمره لم يعد له ندحة عن أن يقص لذلك الرجل قصته، وظهر إذ ذاك أن هذا الرجل كان هاربرت أحد الثائرين المتواطئين على اغتيال وليم.
وقد انفرد في ذلك القصر لهذا القصد، ولأمر يريده الله رجع عن تلك الغاية وقال لوليم: «ما من داع يدعوك إلى الخوف، عليَّ نجاتك وسوف أسعى في إنقاذ حياتك كأنها حياتي» قال هذا وأهاب ببنيه الثلاثة الذين كانوا من الأبطال المجربين والشجعان المنتخبين، وأوعز إليهم «أن اركبوا خيولكم وكونوا على أهبة السفر» ثم أدخل وليم قلعته، وسعى بإحضار ما تسنى من الأطعمة والأشربة سدًّا لجوعه الشديد، ونقعًا لظمئه الذي لم يكن عليه من مزيد، ثم خرج به إلى عرصة الدار، حيث أراه الفرسان الثلاثة راكبين مستعدين لأن يرافقوه، وفرسًا كريمًا من جياد الخيل مسرجًا له فامتطاه، وأمر هاربرت بنيه أن يوصلوا وليم إلى فاليس على جناح السرعة والأمان، وأوصاهم أن لا يستطرقوا الطرق العمومية، ولا يمروا على مدينة أو قرية في الطريق، وهكذا أطاعوا الأمر وذهبوا به على نحو ما أوصاهم أبوهم إلى فاليس، وفي صباح ذلك اليوم بعد خروج وليم من قلعة هاربرت، جاءها مطاردوه يفتشون عليه، وسألوا هاربرت عما إذا كان رآه مارًّا من هناك، فأجابهم بالإيجاب وامتطى في الحال جواده، وأشار لهم أن يتبعوه ليدلهم على الطريق التي سار فيها وليم، وألح عليهم في الإسراع لعلهم يدركونه قبل أن يتوارى عنهم في أحد المخابئ، أو يصل حيث يتعذر عليهم متابعته، فحثوا الركاب بجدٍّ يفوق الحد وهاربرت يسير أمامهم، ويعدهم أنهم سوف ينالون مرامهم، ولكنه إذ ذهب بهم في غير الطريق التي اتخذها وليم كانوا يبتعدون عنه أكثر فأكثر.
وأخيرًا رأوا أن لا فائدة من تأثره فانكفأوا مع هاربرت راجعين إلى قلعة تحت راية الحبوط والإخفاق، في وقت وصول وليم وبني هاربرت الثلاثة إلى فاليس بسلام.
وإذا ذاك رأى أولئك الثائرون أنه يستحيل عليهم البقاء تحت غاياتهم المستترة بذيل الخفاء والغموض، وتيقنوا أنهم أصبحوا عرضة لخطر هجوم وليم عليهم بعساكره، وإهلاكهم عن آخرهم، فلم يعد لهم والحالة هذه بدٌّ من إجراء أمرين؛ وهما: إما الهزيمة على جناح السرعة، أو المجاهرة بالعصيان، فأجمعوا على الثاني، فدارت بينه وبينهم حرب عوان دارت فيها الدائرة عليهم، ورجع كيدهم إليهم، إذ نازلهم فأصاب منهم كل مضرب، واستظهر عليهم ففرق شملهم تحت كل كوكب، وأكثرهم سقطوا بين يديه أسرى، فأذاقهم من مر القصاص ما جعلهم للغير عبرة وذكرى، وكان من جملة ما قاصهم به أنه ارتأَى أن يصنع تذكارًا لانتصاره هذا، بأن يمد طريقًا عموميًّا في البلاد على الخط الذي سار فيه يوم كان هاربًا من وجه أعدائه مع أولاد هاربرت، ويكلف الأسرى العصاة إنشاءه.
وقد أتى هذا المشروع بفائدة عظيمة لذلك القسم من البلاد؛ لأن طرقها القديمة كانت في غاية الصعوبة على السالك فيها بسبب تراكم الأوحال عليها؛ نظرًا لانخفاض أرضها وانغمارها بالمياه في أكثر فصول السنة حتى كنتَ تراها كلها مستنقعات، وهكذا أخذ أولئك العصاة يشتغلون في تمهيد تلك الطريق السلطانية مُكابدين الأتعاب والمشقات حتى أكملوها، فكانت خير مشروع حصل في ذلك العهد، فتطرقتها أبناء السبيل، وانطلقت ألسن سكان ذلك القطر على وليم بالثناء الجميل والشكر الجزيل، وما برحت آثار تلك الطريق إلى هذه الأيام شاهدة لوليم بحسن الصنيع، وسائقة له الرحمة والرضوان من ألسن الجميع.
وكانت مساكنهم قلاعًا عظيمة مبنية على تلال رفيعة، ومهما يكن من حسن آثارها الباقية لهذا اليوم، فقد كانت غاية في عدم الترتيب والنظام، وكنت تراهم في غاية الفرح والابتهاج يوم كانوا يرون بعض أصدقائهم مسرعين إلى الالتجاء عندهم من وجه الأعداء، أو حينما يصقلون أسلحتهم ويعدونها استعدادًا للخروج في أخذ ثأر أو شن غارة، وأما في وقت السلام فكنت تراهم بغاية الكدر والانكماش، ويصعب علينا في هذه الأيام أن نتصور فراغ تلك القلاع والحصون من وسائط الراحة وأسباب الأمنية، فإنها كانت مبنية — كما تقدم الكلام — في أماكن يتعذر الصعود إليها، وتلك الصعوبة الطبيعية من جراء الموقع كانت تزداد منعة وصعوبة، بواسطة الأسوار والأبواب والمعاقل والحفر والأبراج والجسور التي كانت ترفع بعد المرور عليها، فالأبواب كانت عبارة عن كوًى في الحيطان على علو عشر أو خمس عشرة قدمًا من الأرض، ولها المرافئ تدلَّى من الداخل، فيصعد عليها الأصدقاء والأصحاب، أما مِن داخل تلك القلعة فكانت الأرض مرصوفة بالحجارة، والحيطان عريانة، والأغمية (السقوف) معقودة من حجارة غليظة، والغرف صغيرة بعضها فوق بعض طبقات متتابعة، وكانت على صغرها كالقبور والسراديب المظلمة لا يزينها شيء من شبابيك أيامنا الواسعة المبهجة التي فضلًا عن فائدتها في إدخال النور إلى داخل البيت تمتع الناظر منها بالإطلال على المناظر الجميلة والمشاهد البديعة، ولم يكن كتب في تلك المساكن الموحشة، لا أثاث سوى الأسلحة، ولا مسرات غير المسكر والطيش بملاهي الأعياد والمواسم.
ولم يكن أمراء ذلك العهد وكبراؤه يستطيعون أن يشغلوا نفوسهم بأمر مفيد، فلم يروا شيئًا أشهى إليهم من الحرب، وكانوا يشيحون بوجوه باسرة عن جميع وسائل الدأب وطرق السعي، فحراثة الأرض وتربية المواشي ومعالجة الصنائع والمعامل والمتاجر وغيرها من الذرائع التي يتوخاها الإنسان لنفع بني نوعه كانت بالكلية غير معروفة عندهم، بل محتقرة لديهم، ولك أن تستدل على صحة هذا القول من النظر إلى الباقين من ذريتهم في الوقت الحاضر، فإنهم حتى في نفس إنكلترا ينظرون هذا النظر، ويرتأون هذه الآراء، فبَنُوهم الأصغرون ينخرطون في سلك العسكرية البرية أو البحرية، ويصرفون حياتهم بالقتل والإفساد وبدون خجل، تحت ظلال الكسل وارتكاب القبائح والرذائل، وأما أن يتعاطوا للعمل سببًا من أسبابه الحقيقية التي عليه يتوقف مجد إنكلترا وعظمتها، فذلك عندهم وصمة وعار أبديان؛ فالشاب الشريف منهم يخدم كأدنى الشعب في سفينة حربية، ويقبل على خدمته أجرة بدون أن يحتسب ذلك حطة لقدره، ولكن أن يبني سفينة حربية ويُؤجَر عليها يعدُّه تعرِّيًا من شرفه، وسقوطًا من رتبته.
وبالنتيجة فقد كان السلام للأمراء والأشراف في عصر وليم مدعاة القلق، ومجلبة السأم والضجر، فلم يكن يستكن لهم مضجعٌ ولا يهنأ عيش بدون إصلاء نار الحرب وشهود مواقع القتال، وذلك لا ريب في أنه كان من جملة البواعث التي كانت تدفع الأمراء إلى المؤامرة على وليم، وشق عصا الطاعة له.
على أنه كان لهم سبب جوهريٌّ لمقاومته في حق المُلك، وهو أنه كان يشق عليهم أن ينظروا من رجل كوليم واطئ النسبة، بل خسيسها ومرذولها من حيث الأم، وارثًا لخلافة عظيمة كدوقية نورماندي، وقد اعتاد أعداؤه أن يقذفوه ويشنعوه بألقاب مستهجنة يشتقونها من مصادر حوادث ولادته، ومع أنه كان صبَّارًا على الأذى، وكريمًا يعفو عن إساءة الآخرين، كانت تلك الإهانات المطبوعة على ذاكرة والدته كحمة تلسعه في جلده، وتستثير كمين ضغنه، ودفين حقده، وتحيي فيه روح الغل والكشاحة، ويؤيد ذلك هذه الحادثة — وقد وردت في أكثر تواريخ وليم المكتوبة — اتفق في أحد حروبه أنه زحف في البلاد لمهاجمة قلعة حصينة، كانت فضلًا عن مناعة أسوارها وحصونها الطبيعية محصنة بحامية قوية كثيرة العدد، ولعظم ثقة هذه الحامية بشدة قوتها وكثرة عددها جرَّدت إذ سمعت بقدومه فِرْقةً لملاقاته، ليس لكي تفتح معه حربًا جهارية، بل بقصد أن تكمن في الطريق وتفاجئ مقدمة جيشه على حين غفلة وهو غير حاذر عدوًّا قريبًا، وبعيدٌ عن نجدة باقي العساكر.
ولكنهم لم يجدوا كما عهدوا، فإنهم في الحال ذعروا من مكمنهم، ونكصوا على أعقابهم هاربين أمام وليم ورجاله الذين تأثروهم على الأعقاب، وبالجهد استطاعت تلك الفرقة أن تصل القلعة وترفع وراءها الجسور، وتوصد خلفها الأبواب في وجه المُطارِدين قبل أن أدركها وليم ومدَّ عليها بعساكره مطمار الحصار.
أما حامية القلعة فامتعضت من خيبة تلك الفرقة امتعاضًا، وملئت صدور عسكرها على إخفاق مسعاهم انكماشًا وانقباضًا، وقد أحفظهم أن تلك الفرقة لم تفشل في سعيها فقط، بل دُحرت أمام عدوها لا تلوي إلا على الخزي والعار، ولم تنج من فتكه إلا بعد شق النفس، وقد تعقبها موقعًا فيها الفضيحة والذل والانكسار، ولكي يسلوا سخيمتهم، ويميتوا ضغنهم، ويردوا على وليم الكيد الذي كادهم به صعدوا إلى أعالي الحصون والأسوار، ومن هناك أطلوا عليه وطفقوا يرمونه بأعلى أصواتهم بألفاظ الشتائم والمسبات، ويقذفونه بالإهانات والتعييرات حتى إذا فرغت منهم حياض الشتائم، ولم تُبرِّد شيئًا من غليل الضغائن والسخائم، عمدوا إلى مشترَى ما استطاعوه من الأُدُم «جمع أديم وهو الجلد الأحمر المدبوغ» ومآزر الحور «السختيان» وغيرها مما له علاقة بصناعة الدباغة، وأخذوا ينشرون بأيديهم على مرأى وليم وعساكره، وهم يجهدون بأصوات التهكم والاستخفاف كأنهم يذكرون وليم بجده أبي أمه الدباغ، حتى أوغروا صدره حردًا واحتدامًا، وغادروا مراجل السخط تضرم في قلبه إضرامًا، واضطروه أن يشير في الحال إلى فرقة من رجاله بهجوم شديد، فكروا كرَّ الصناديد، واندفعوا بقوة التحمس ينقضون انقضاض البواشق، وينشبون نشب الصواعق، وإذ لم يقع في أيدهم أحد من حامية القلعة المنظمين داخلها استعاضوا عنهم بمن وجدوه من القلعة خارجها، وأتوا بهم أسرى بين يدي وليم، فأمر في الحال أن يمزقوا قطعًا قطعًا، ويرموا بالمقاليع الكبيرة من فوق الأسوار إلى داخل القلعة.
وفي أثناء هذه المدة التي يحيط هذا الفصل بتاريخ حوادثها في فترة الحروب النورماندية التي كان وليم يتمتع بسلامها وسكونها بعض الأحيان، حدث أن هنري ملك فرنسا عصت عليه بعض مقاطعاته، فخرج وليم بجيش من النورمانديين يشد أزره في إخضاعهم، فسرَّ هنري في البداءة وشكر لوليم على هذه الأريحية والمساعدة في إبان الاحتياج إليها، لكنه ما عتَّم أن غمطها، وأخذ ينظر بعين الغيرة والحسد إلى ما حازه وليم من علو الشهرة ورفعة الشأن وهو بعد لدن الإهاب غض الشباب غير متجاوز الأربع والعشرين سنة، ويده تدبر حركة القيام بكل شيء بمزيد السرعة وغاية النشاط والدقة، فكان يشهد معامع القتال، ويخوض المعارك بعزم أسود الدحال، ويدير الحصار بإرشادات تحير العقول، وشجاعة تخور لديها عزائم الأبطال، حتى استمال إليه قلب كل إنسان، وأصبح موضوع مدح أبناء ذلك الزمان سوى الملك هنري، فإنه طوى قلبه على البغض له والحسد، إذ وجد أنه قد خلفه بل سلبه حق الاعتبار والاحترام الذي كان يناله من الشعب، وأمسى لديه أهون من النقد، وأذل من بيضة البلد.
وكان يظهر من بعض الحوادث الخصوصية شجاعة لوليم تقضي على عساكره بالعجب والاستغراب، وتحدوهم على الهتاف بأصوات الاستجادة والاستحسان، وهذه كانت تشاهد منه في الغالب عند إقدامه على صفوف الأعداء، أو نجاته من مطاردين تفوق كثرتهم الإحصاء، وقد كان لحسن الحظ وسعد الطالع يدٌ في توليد هذه النتائج ربما أطول من يد القوة والشجاعة، ولعل حسن حظ الجندي في تلك الأيام كان على مدحه باعثًا لا يقل عن باعث قوة عضلاته وشجاعة قلبه، وبالحقيقة إن هذا الاعتبار في محله، وهو حق لا ريب فيه؛ لأن قوة الذراع وبرودة الشجاعة بل ضراوتها وغيرهما من مسببات الكر والإقدام في ساعات الحروب هي صفات أخلق بالوحوش منها بالناس؛ لأننا إنما نستحسنها في الأسد أو النمر، ولكننا نحكم بشجبها ولعنها حينما يستعملها الإنسان ضد أخيه الإنسان منساقًا بفجور البغض ودعارة الانتقام.
وإليك واحدة من طرف نجاح وليم الخارق العادة؛ وهو أنه أراد مرة أن يتجسس أعداءه، فذهب مصحوبًا فقط بخمسة أمراء من حرسه الخاص حتى أشرفوا على معسكر العدو، وفي زعمهم أنهم غير مراقبين، ولكن وقعت عليهم العين في الحين، وانتُقي اثنا عشر من الفرسان المعدودين وأنفذوا للإيقاع بهم على الطريق، فسارت هذه الفرقة وكمنت لهم في مكان كان لا مندوحة لهم عن المرور به، حتى إذ دنوا منه طلعت عليهم، وأمرتهم أن يسلموا قبل أن يتكلموا؛ لأن الستة أمام الاثني عشر لا ترى غير الفرار سبيلًا، وليست المقاومة تجديها فتيلًا، على أن عزة النفس وثبات القلب في وليم أبيا إلا الإقدام والهجوم على الكمين، فهز رمحه وقومه، وهمز جواده وأقحمه، حتى صار قدام مقدم الفرقة فابتدره بطعنة أكبته على الحضيض، ووهبته أن يسر إلى الأرض مركاس الجريض، ثم أعادها على من تلاه، فصرعه مجندلًا على قفاه، وعند ذلك اقترب إليه حرسه الخمسة مكبرين متحيرين.
وكان قد نما خبر الواقعة إلى جنوده، فعدا لإغاثته نخبة من أبطاله المجربين، أما العشرة الذين سلِموا من فرقة الكمين، فأركنوا إلى الفرار ووليم وحرسه يَجِدُّون في تأثرهم، فأدركوا سبعة منهم وشدوا وثاقهم، والثلاثة الباقون لم يستطيعوا لحاقهم، فرجع وليم ورجاله بالأسرى يطلبون الخيام، وفي طريقهم التقوا بالملك هنري يتقدم ثلاثمائة رجل من عسكره مسرعًا إليهم، وإذ ذاك كان لوليم من رؤية نفسه راجعًا منصورًا، ومن استماعه حرسه الخمسة يقصون أخبار بسالته وثبات جنانه في ذلك الخطر، ومشاهدته جميع القواد والعساكر يضجون بأصوات تعظيمه — أسباب جوهرية تحمله على العسكر براح الابتهاج، وتبعث بالملك هنري على تجرع ما من دونه المُرُّ الأجاج.
وعلى هذا المنوال كان وليم يعصم لذاته علو المكان ونفوذ السلطان، وينكل بأهل البغي والعدوان، ويدوس شوكة التمرد والعصيان، حتى دانت له المصاعب وذلت رقاب المتاعب، فقام يدير شئون إمارته ويدبر أحوالها بيد الحكمة والدراية على طريق الحق والسداد، ثم وجه نظره نحو التدويخ والافتتاح، وضاقت عليه نورماندي فنزع إلى التوسع بغيرها، وفي غضون ذلك تزوج، ولما كانت حوادث زيجته لا تخلو من الغرابة آثرنا أن نجعلها موضوعًا للفصل القادم.