الأميرة «أما»
لم يكن في الحسبان — حتى في نفس الوقت الذي نؤرخ الآن حوادثه — أن أميرًا مثل وليم يهاجم مملكة عظيمة كإنكلترا واسعة الأطراف قوية الجانب بالنسبة إلى إمارة نورماندي لو لم يكن لدى وليم حجة ولو على سبيل الادعاء، أما حجته فكانت أنه هو الوريث الأصيل لعرش إنكلترا، وأن الملك الذي تربع على دست مملكتها في زمان مهاجمته لها كان مغتصبًا؛ ولكي يفهم القارئ طبيعة هذا الطلب ومبدأ هذه الحجة رأينا من الضروري أن نبسط الكلام قليلًا عن تاريخ «أما».
فمن مراجعة سلسلة أمراء نورماندي المثبتة في الفصل الثاني من هذا التاريخ، يظهر أن «أما» كانت ابنة رتشرد الأول، وقد اشتهرت في ريعان صباها بحسن صورتها وجمال منظرها حتى كانت تدعى لؤلؤة نورماندي، وقد تزوجت بأحد ملوك إنكلترا المدعو أشرلد أيام كانت تلك البلاد مجروفة بسيول حرب أهلية بين حزبي السكسون والدانمارك، وكان فيها سلسلتان مختلفتان من الملوك تتنازعان السيادة، وتتزاحمان إلى الاستيلاء على قضيب السلطنة المطلقة، وفي تلك الحرب الدائمة كان السكسون ينتصرون تارة والدانمارك أخرى، وأحيانًا يقيم كل من الحزبين لنفسه هيئة حاكمة، ويناصب الآخر في التملك على أقسام مختلفة من تلك الجزيرة الكبيرة العظيمة، وهكذا اتفق أنه كان في إنكلترا في وقت واحد يقوم ملكان يساور كل منهما الآخر ويناظره في السطوة والحكم — ملكان وعاصمتان وإدارتان — لشعب واحد قضى عليه نكد الطالع أن يرزح تحت أثقال المطامع، ويكابد ويلات الحروب الناتجة عنها.
وكان أشرلد أحد ملوك السكسون، وعندما اقترن بأما كان أرملًا في سن الأربعين وله من امرأته الأولى أولاد من جملتهم ابن يدعى أدموند، وهو شاب نشيط الهمة قوي العزم صار فيما بعد ذلك ملكًا، وكان من جملة ما قصده أشرلد باقترانه بأما أن يعزز جانبه ويزيده مناعة بضم النورمانديين إليه؛ لأن أعداءه الدانمارك نورمانديون أيضًا، فحذرًا من أن حكومة نورماندي تمدهم بالقوة والرجال سبق إلى التقرب منهم، وعقد معهم زواجًا مكنه من اكتساب قرابتهم ومساعدتهم إياه على أعدائه.
فنجح فيما قصد واستنهض رتشرد أبا زوجته إلى شد أزره، لكنه لم ينصر على الدانمارك، بل بالعكس استظهروا عليه وضايقوه حتى اضطروه أن يفر إلى نورماندي بزوجته وابنيه، وكان اسماهما إدوارد وألفرد، فاستقبله رتشرد الثاني أخو أما بلطافة فائقة لا يستحق شيئًا منها، ولم يكن بالأمر الغريب أنه طرد من مملكته؛ لأنه لم يكن على شيء من تلك الصفات العقلية السامية التي تؤهل الإنسان للحصول على قوة الغلبة والحكم، بل كان كبقية الظُلَّام الخاملين يضحي الحكمة على مذبح الشراسة والقساوة، ويسرف بالقوة في طريق الجور والاعتساف ضد أعدائه، وحالما تزوج بأما أشعر بعظم القوة التي توهم الحصول عليها بداعي تلك الزيجة، فمنَى الدانمارك بمجزرة هائلة في يوم معين بواسطة مؤامرة سرية أهلك فيها منهم خلقًا كثيرًا، فاشتد البغض ونما الحقد بين الحزبين، حتى إن الذين تلقوا منه أوامر إتمام هذه المذبحة الدموية أنفذوها بقساوة وحشية تشيب لهولها الأطفال.
فمن جملة فظائعهم فيها أنهم طمروا النساء في حفر إلى أوساطهن، وأطلقوا عليهن الكلاب فمزقت أجسادهن العريانة وأماتتهن ألمًا ووجعًا، ومن عجيب ما اتفق في تاريخ هذه الحرب الأهلية أن الملك ألفرد الملقب بالعظيم لما حارب الدانمارك في إنكلترا، وذلك قبل زمان أشرلد بمائة سنة عاملهم في استظهاره عليهم بمزيد الرقة وكرم الأخلاق، وبهذه السياسة تغلب عليهم في النهاية، أما أشرلد فبخلافه سامهم أشد القساوة، وكانت النتيجة في الختام أنه بعثهم على التألُّب ضده والخروج عليه طلبًا للانتقام والأخذ بالثأر، حتى جلوه — كما تقدم الكلام — من إنكلترا بمزيد الخزي والخجل والعار، وكما مر بنا استقبله رتشرد ابن حميه بما لا يوصف من الترحاب والتأهيل جبرًا لخاطره المكسور، وإكرامًا لشقيقته أما وولديها، وقد كانت رغبة أما في الاقتران بأشرلد موقوفة به على حب الشهرة والطمع بنوال المجد حين تصبح ملكة إنكلترا، وهذا ما يحكم به عليها كل قراء تاريخها من مجرد اطلاعهم على سيرة حياتها التالية.
أما الآن فساءها إخفاق مساعيها وخيبة آمالها؛ إذ وجدت نفسها أنها عوضًا عن أن ترفد بواسطة زوجها، وترتقي إلى ذروة السعادة التي عللت نفسها بالحصول عليها، أصبحت مضطرة أن تنكفئ راجعة إلى وطنها السابق مستعبدة، وقد أضاقت إلى حملها على بيت أبيها حمل زوجها وولديها، وقد زاد طينتها بلة، وأضاف إلى ذلها ذلًّا موت أبيها، وتقلص اعتبارها، وانحطاط مكانتها لدى أخيها الذي ليس عليه حق شرعي أن يعولها، مع أنه لم يقصر في إكرام كل منها وزوجها وولديها.
وكانت تلك الحروب التي قضت على أشرلد بالفرار إلى نورماندي لا تزال قائمة على قدم وساق حتى مالت كفة النصر نحو السكسون، وتوفي على أثرها ملك الدانمارك الذي استولى على العرش بعد جلاء أشرلد، فاسترجع السكسون قوتهم السابقة وأرسلوا يطلبون أشرلد ليكون ملكًا عليهم، بشرط أنه يغير سلوكه القديم في الحكم والإدارة، أما هو فكان مع أما بغاية التلهف لإعادة مجدهما الغابر على أية طريقة كانت؛ ولهذا ما أبطأ أن رجعا إلى لندن حيث بايع الحزب السكسوني أشرلد الملك ثانية.
أما الحزب الدانماركي فلمَّ شعثه وقوَّى ضعفه وأقام له ملكًا يدعى كانيوت، ثم شبت نار القتال بين هذا الملك الجديد وأشرلد، أما كانيوت فكان رجلًا حاذقًا فهيمًا وغاية في الشجاعة والإقدام بعكس أشرلد، فإنه رغمًا عن جميع مواعيده ظل متناهيًا في الخمول والبلادة، وآية في القساوة والجبن، وبالحقيقة إن ابنه أدموند الذي من امرأته الأولى كان أقدر منه على مقاومة كاينوت نظرًا لما حصله من الفطنة والذكاء، واشتهر به من القوة وثبات القلب حتى إنه ساد على أبيه في بعض الاعتبارات، ومنها أنه في غضون تلك الاضطرابات سخط الملك أشرلد على أحد أشراف مملكته لأسباب، فحكم عليه بالقتل، وزاد على هذه الفظاعة أن نفى أرملته المسكينة وهي في ريعان صباها وجمالها إلى أحد الأديرة، فذهب ابنه أدموند إلى الدير وأطلقها واتخذها له امرأة، فبواسطة وقوع هذه المعاكسة بين الملك وابنه الذي كان أكبر قواد جيوشه أصبح أمل ثباته أمام كانيوت الدانماركي ضعيفًا.
وفي الواقع كانت الأحوال تزداد سوءًا وتعاسة، وأما تتجرع من وقت إلى آخر غصص القهر والكدر، وتنذر نفسها بتفاقم الويل وتعاظم الخطر، حتى توفي أشرلد سنة ١٠١٦، وبموته امتلأت كأس شقاوتها، وانطمست معالم سعادتها، إذ لم يكن لأحد من ولديها إدوارد وألفرد حق التملك عوضًا عن أبيهما، بداعي أن أدموند ابن امرأة أشرلد الأولى كان أكبر منهما، وكانا كلاهما أصغر من أن يركبا الأهوال ويشهدا المعارك؛ ليجعلا لهما مكانةً واهتمامًا في عيون الشعب، ثم إن أدموند نفسه إذ كان مزمعًا الآن أن يصير ملكًا لا يسر بتقدمهما، ولا يرى لهما إكرامًا، ولا يعتبرهما ووالدتهما سوى مقاومين له، وبالاختصار رأت أما أن مقامها في إنكلترا أصبح محفوفًا بالمخاطر، فهربت بولديها مرة ثانية، وجاءت بمزيد اليأس والفاقة تطلب لهما ملجأً في بيت أخيها في نورماندي، وقد أمست الآن أرملة وولداها يتيمين، وكانا غلامين صغيرين وأكبرهما إدوارد الذي تعلقت به آمال التقدم، وتحولت إليه مطامح الترقي، كان هادئًا رزينًا تلوح عليه بعض مخايل الشجاعة، وتنبثق من محياه أنوار تؤذن بنيط الأمل بتوقع شيء من الإقدام منه على كبار الأمور وعظائمها.
ولكن أخاه أدموند أصبح الآن ملكًا في غلواء شبابه وإبان شجاعته وثباته، وعليه أدلة ترجح أنه سيعيش ويعمر طويلًا، وعلى فرض مفاجأة كارثٍ يُعجِّل اخترامه ويُودي بحياته، فليس من رجاء لأما أنها تعود لمجدها المنصرم وعزها الفائت بداعي أن أدموند كان متزوجًا، وله ابنان فيخلفه أحدهما بعد وفاته، فمن كل جهة نرى أن نكد الطالع قد قدَّر لأما أن تصرف باقي حياتها مع ولديها بالذل والفاقة والإهمال، على أنه «وبينما العسر إذ دارت مياسير»، فإن النهاية كانت بالخلاف كما سيجيء، فإن أدموند لم يملك أكثر من سنة حتى اغتيل فجأة، وفي مدة تلك السنة كان يرى أن كانيوت الدانماركي أخذ في التغلب عليه والاستيلاء على إنكلترا قسمًا بعد قسم، فجرَّد جيوشه وخرج لمحاربيه، وقبل شبوب نيران القتال بينهما أرسل أدموند يسأل كانيوت هدنة، ويطلب منه العدول عن سفك دماء العساكر إلى المبارزة بينهما، فأبى كانيوت قبول هذا؛ لأنه دونه جثة وقوة أعضاء، لكنه ارتأى طرح المسألة أمام لجنة تُشكل من أمراء وقواد الحزبين، وكان الأمر، وفي الختام قسمت البلاد بين الملكين، واستبدلت الحرب بنوع من السلم، وبعد هذه العهدة بقليل قتل أدموند.
فأسرع كانيوت بدون إمهال واستولى على كل المملكة محتجًّا بأنه من جملة المعاهدة بينهما أن المملكة تستمر منقسمة بين الملكين ما دام كلاهما في قيد الحياة، وعند موت أحدهما يخلفه الآخر في التولي على قسمه، فلم تقم حجته هذه لدى قواد السكسون، لكنهم وجدوا نفوسهم لا يقوون على مقاومته؛ لأن ابني أشرلد من أما كانا لا يزالان قاصرين عن الإقدام على القيادة، وبَنِي أدموند كانوا أطفالًا، فلم يكن من فيه الأهلية ليصير زعيم السكسون وقائدهم العام، فالتزموا والحالة هذه أن يطووا كشحًا عن تمحلات كانيوت ودعاويه الفارغة ولو إلى وقت قصير، وعليه رأوا من الحكمة أن يتغاضوا مسامحين في حقوق بني أدموند برهة يسيرة، ووكلوا إليه المناظرة عليهم حتى يبلغوا أشدهم، وفي الوقت ذاته سمحوا له أن يبقى متوليًا بنفسه زمام الحكم على كل البلاد.
فقام كانيوت يدبر شئون الأحكام، ويعمل على اتساع نطاق نفوذه بغاية الضبط على وجه السداد والإنصاف، متعمدًا في سائر الأحوال والطرق صيانة حقوق السكسون وامتيازاتهم بنوع لا يجعل بينهم وبين الدانمارك أدنى فرق، وكان يخشى على حياة بني أدموند عنده، لكن السياسة التي اختطها للسير والتصرف خولت السكسون راحةً واطمئنانًا من نحوهم، وبالواقع لم يُسئ إليهم بل أرسلهم إلى بلاد الدانمارك لكي ينسى أمرهم على التمادي، ولعله أراد بذلك أنه إذا دعت الحاجة يدبر هناك طريقة سرية لهلاكهم، وكان لديه سبب آخر يحدوه على وقايتهم ويحول دون اغتيالهم، وهو أن هلاك بني أدموند لا يميت حق السكسون في الملك، بل يحوله إلى ابني أما في نورماندي اللذين يترقبان الفرص للقيام على منازعته واغتصابه الملك، فكان من باب الحكمة أن يبقى أولاد أدموند أحياءً، ويجلبوهم إلى حيث يأمن الاهتمام بهم.
أما احتسابه من جهة ابني أما فكان على غير طريقة، فإنه لكي يسقط حقيهما في الملك ويضعف قوتهما ارتأى أن يطلب الاقتران بوالدتهما، وبذلك يجعل عائلتهما تحت قبضة يده، ويحول دون قيام أصدقائها النورمانديين ضده، وبناء عليه طلبها، وهي لشدة طمعها في استرجاع مقام عظمتها السابق كملكة إنكلترا أجابت طلبه بلا تردد، وإن العالم ليدينها على تزوجها للمرة الثانية بمنازع أشد وعدو ألد لزوجها الأول، ولكن لم يكن ذلك ليهمها البتة، بل قصارى ما احتفلت به أن تكون ملكة سواء كان زوجها سكسونيًّا أو دانماركيًّا، فاستاء ابناها من هذا الاقتران وبذلا جهدهما في منعه، ولم يصفحا لوالدتهما عن ارتكاب هذا الإثم الفظيع، ولا غفرا لها تدنيها لتضحية صالحهما وحقهما، وقد ملأهما غيظًا ونكايةً ما تقرر في عهدة الزواج من أن وراثة الملك بعد كانيوت تكون لمن يولد له من أما التي ما لبثت أن ودعت نورماندي وابنيها، وشخصت إلى إنكلترا حيث احتفل بزفافها إلى كانيوت بغاية التجلة والاحتفاء، وخلا لها الجو مرة أخرى في أن تعود ملكة الإنكليز.
وقد اقتضت الضرورة الآن أن تجتاز بكلمات وجيزة مدة عشرين سنة من الزمان وهي تحيط بوقت ملك كانيوت الذي كان غايةً في النجاح والسلام، وفي خلال هذه المدة كان أبناء أما لا يزالان في نورماندي، وقد ولد لها ابن آخر في إنكلترا دعي كانيوت باسم أبيه، لكنه يعرف في التاريخ باسم هارديكنيوت — وهذه الزيادة كلمة سكسونية معناها قوي — وكان لكانيوت وزير شهير يدعى غودون، وهو رجل سكسوني واطئ النسب، وله في تاريخ حياته قصة غريبة لا محل لإيرادها هنا، لكنه كان ممتازًا في الحذق والدهاء وسائر الصفات السامية، وفي وقت موت كانيوت كانت له الأسبقية على جميع رجال الدولة في الوجاهة والنفوذ، أما كانيوت فلما حضرته الوفاة ووجد أن شمس حياته قد مالت به إلى الغروب.
وأنه من الضروري أن يرتب أمر الخلافة رأى أن الأحوط له السعي في إخراج معاهدته مع أما السابق ذكرها من القوة إلى الفعل، على أن هارديكنيوت الذي بموجب تلك المعاهدة يُحسب خلفًا له كان عندئذٍ ابن ست أو سبع عشرة سنة، وبالنتيجة قاصرًا عن إدارة أحكام المملكة، وبناء عليه أوصى بالملك لابن أكبر يدعى هارلود رُزقه قبل اقترانه بأما، وهذا كان مبعث انشقاق جديد، ومدعاة قلق حديث؛ لأن ميل السكسون وكذلك أصدقاء أما كان نحو هارديكنيوت، بينما كان الدانمارك يميلون لهارلود. أخيرًا انتصر غودون لجانب هذا الأخير، فتثبت هارلود على العرش، وتركت أما وجميع أولادها الذين وُلدوا لها من أشرلد وكانيوت في زوايا الإهمال والنسيان.
فهذا التغيير الفجائي الذي طرأ على أما لم يكن ليرضيها البتة، فلبثت في إنكلترا وقد ساءها جدًّا أن ترى زوجها الثاني قد خان عهده معها، ونكث بوعده لها من جهة عهد الخلافة لمن يولد لهما جديدًا، وكما أنه أغفل ابنه المولود له منها، وقدم عليه ابنه المولود له سابقًا، هكذا هي أيضًا تركت الاعتناء بأمر هارديكنيوت، وطفقت تسعى سرًّا بين السكسون في تقديم ابنها إدوارد وترشيحه للعرش، حتى إذا رأت نفسها أنها مهدت له السبيل اللازم بعثت برسالة إلى ابنيها في نورماندي مفادها: أن الشعب السكسوني لم يعد يستطيع الصبر على تحامل الحكومة الدانماركية وجورها، ومن رأيها أنهم (أي السكسون) مستعدون لخلع الطاعة الدانماركية متى وجدوا لهم زعيمًا وقائدًا، وعليه طلبت منهما أن يأتيا لندن للمداولة معها بهذا الشأن.
وقد أشارت عليهما أن يحضرا بطريقة سلمية بسيطة مُتجنِّبين كل ما من شأنه أن يثير القلاقل، ويوقظ ساكن البلابل، فلما وقفا على كتابها ارتضى أكبرهما إدوارد أن يذهب إلى لندن، لكنه أحب أن أخاه ألفرد يقدم على هذه المهمة إن أراد، فأجابه ألفرد إلى ذلك. وفي الواقع إن هذين الأخوين كانا على اختلاف عظيم في المنازع والمشارب؛ فإدوارد كان هادئًا رزينًا متأنيًا، وأما ألفرد فكان حاد الطبع طموح النظر، وعليه وطن الأصغر نفسه على ركوب أخطار السفر، والأكبر عوَّل على البقاء في نورماندي، وكانت النتيجة من ذلك شرًّا وبلاءً، فإن ألفرد خالف مشورة والدته وساق معه جيشًا من النورماند وقطع بهم البوغاز زاحفًا نحو لندن، فجرد عليه هارلود قوة عظيمة اعترضته في الطريق فحاصرته وأخذته وجميع من معه أسرى، ثم حكم عليه بقلع عينيه.
لكنه ما عتَّم أن مات بعد صدور ذلك الحكم الهائل بسبب ما اعتراه منه آلام الحمى، ناهيك عن تأثير القهر والسقوط في يده خيبة وفشلًا، فهربت أما إلى فلندرس، وأخيرًا مات هارلود وخلفه هارديكنيوت الذي لم يحكم إلا وقتًا قصيرًا حتى مات أيضًا غير مخلف ورثاء للملك، وإذ كان في ذلك الوقت أولاد إدموند بن أثلرد الأكبر في هنكاريا، وأمرهم على نوع ما منسيٌّ ظهر جو الخلافة كأنه خال من منازع لإدوارد بن أما الأكبر الذي كان باقيًا في نورماندي لا يُبدي حراكًا، وبموجبه صرح به ملكًا، وذلك سنة ١٠٤١، وظل مالكًا نحو عشرين سنة، وقد صاقب ابتداء ملكه وقت تربُّع وليم الظافر على دوكية نورماندي، ولا ريب أن إدوارد كان قد تعرف بوليم في أثناء وجوده في ذلك الوقت الطويل في نورماندي، وقد زاره وليم أيضًا إلى إنكلترا بعدما صار عليها ملكًا.
ومما لا ريب فيه أيضًا أن وليم اعتبر نفسه وارثًا لإدوارد من وجه أنه لما كان ليس لإدوارد من أولاد وإن كان متزوجًا؛ يكون الأمراء النورماند أقرب أنسبائه، وقد ادعى أن إدوارد وعده بأنه يوصي له بحق الملك بعد وفاته، وكانت أما قد شاخت وتقدمت في الأيام، وانكسرت فيها شوكة قوة الطمع في الشهرة وحب الرئاسة التي تسلطت عليها في ماضي حياتها؛ لأنه كان لها زوجان وابنان كلٌّ منهم ملَك إنكلترا، لكنها عندما تناهت بها الأيام وأدركها الانحلال رأت نفسها صرعى الشقاق وتعاسة الحال.
ولم يكن ابنها لينسى جريمتها الفظيعة التي ارتكبتها في هجرها له ولأخيه، واقترانها بمن كان ألد عدو لهما ولأبيهما، وإنفاذها لما تعهدت به يوم زفافها إلى كانيوت من حرمانهما الوراثة الملكية، وفضلًا عن ذلك تخلت عنهما بمزيد الإهمال وعدم الاكتراث في أيام زوجها كانيوت، بينما كانت هي نفسها عائشة معه في لندن على سعة الرغد ورحب الأبهة والعظمة، وقد شكاها أيضًا بأنها كانت تقلب جفنيها ناظرة إلى موت أخيه ألفرد؛ ولذلك أصدر أمرًا بمحاكمتها في هذه الدعاوى العريضة على النار، وتلك طريقة كانوا يمتحنون بها المتهمين بالجنايات والجرائم، بأن يضعوا على أرض كنيسة قطعًا من حديد محمية إلى درجة البياض وعلى بُعد معين بين بعضها البعض، ويشيروا إلى المشكو عليه بالمشي عليها بقدمين حافيتين، معتقدين بأنه إن كان بريئًا فالعناية الإلهية ترشد خطواته، وتقيه من مس قطع الحديد فيجتازها آمنًا، وإن كان مجرمًا يحترق.
وقد نقل عن رواة حوادث ذلك الوقت أن أمًّا حكم عليها بهذا الامتحان في كنيسة ونشستر الكاتدرائية؛ لمعرفة ما إذا كانت عالمة بقتل ابنها، وسواء صدقت هذه الرواية أو لا فليس من ريب في أن إدوارد حكم عليها بالسجن في دير ونشستر، حيث أكملت أيامها متجرعة غصص الذل والهوان.
ولما رأى إدوارد أن الموت صار منه قريبًا على الأبواب أخذ يهتم في أمر الخلافة، وكان لها وريث من أخيه إدموند الذي يذكر القارئ أن كانيوت نفى أولاده إلى بلاد الدانمارك ليتخلص من منازعتهم له، وهذا الخلف كان لا يزال حيًّا في هنكاريا واسمه إدوارد، وهو الخليفة الشرعي للعرش، ولكن قد صرف حياته متغربًا بعيدًا عن وطنه، وفي الوقت ذاته كان الأمير غودون — الذي مر الكلام على نهوضه من بيت سكسوني دنيِّ الشان إلى أعلى مقام في المملكة — قد أحرز سطوة مكينة ونفوذًا بيِّنًا، فظهر بهما أمنع جانبًا من ذات الملك، وقد مات أخيرًا لكن ابنه هارلود الذي تأسله بالبسالة والإقدام وثبات الجنان خلفه في القوة، وتراءى كما ظن إدوارد أنه يطمح في المستقبل نحو اغتصاب العرش.
وكان إدوارد يكره غودون وعائلته كرهًا شديدًا، وصار الآن يتخذ كل الاحتياطات التي تكفل له إحباط مساعي ابنه هارلود في الجلوس على تخت الملك، وعليه أرسل يطلب حضور ابن عمه إدوارد من هنكاريا؛ ليرشحه للملك من بعده ويخذل هارلود، فجاء بعائلته وكان له ابن يدعى إدغر، ولكنه لسوء الحظ لم يلبث أن توفي بعد حضوره إلى إنكلترا بقليل، وابنه إدغر بعدُ صغير لا فائدة من قيام الحكومة باسمه؛ إذ لا تستطيع الثبوت ضد هارلود، فلما رأى ذلك الملك إدوارد وجَّه أفكاره نحو وليم حاكم نورماندي الذي كان أقرب نسيب إليه من جهة أمه، وتحقق أنه يكون أفعل وسيلة لتخليص الملك من السقوط في يدي هارلود المغتصب، وعلى أثر ذلك قامت مصادرات عديدة ومناضلات مختلفة، فكان هارلود يفرغ جعب الجد والسعي في الحصول على الخلافة، وإدوارد ينضي مطايا المساورة والمقاومة في منعه عنه وتحويله إلى وليم النورماندي، وكان النفوذ في البداءة لهارلود وفي النهاية لإدوارد ووليم.