اجتياز البوغاز
وأخيرًا اجتمعت العمارة التي أعدت لاجتياز البوغاز بمهمات الحملة عند مصب نهر صغير يدعى ريف، وذلك في أواخر شهر أيلول سنة ١٠٦٦، وتاريخ هذه الحادثة — غلبة النورمان — يتذكره جيدًا طلبة علم التاريخ؛ إذ هو من جملة حوادث التاريخ الشهيرة، وكان لتألب العمارة في مصب ذلك النهر وحشد الجيوش على عرض شاطئه مظهر عظيم شديد التأثير، فالعمارة البحرية المؤلَّفة من السفن والبوارج والقوارب والزوارق المغشية وجه المياه، وصفوف الخيام الطويلة المضروبة تحت الكهوف على الشاطئ، وفرق الفرسان الغارقة بالفولاذ، وجموع العساكر المنهمكين بنقل الذخائر والمؤن والآخذين بالاستعدادات الأخيرة ذهابًا وإيابًا تأهبًا للإقلاع، وجماهير الألوف من المتفرجين كانوا دائمًا يروحون ويجيئون، والدرك نفسه المستوي بعدة الكفاح على جواد الجلاد محاطًا بالخفراء والضباط والقواد.
كل هذه وغيرها من المظاهر الباهية العظيمة التي يكثر تجليها في مثل هذه الظروف كانت باعثة للنظر على الانبهار بأنوار ذلك المشهد الحافل بالبهجة والبهاء والافتخار، ومعلوم أن جمع هذه القوات العظيمة من الرجال والمراكب، وإكمال ما يتبعها من الاستعدادات المتنوعة تهيئًا للإقلاع كان قد استغرق وقتًا ليس بقصير، حتى إذا تم كل شيء وكان ذلك في أواخر أيلول — كما مر الكلام — حان وقت نوء الاعتدال، وأصبح الإقلاع متعذرًا؛ لأنه ما عتَّم أن توالى عصف الأرياح، وهياج الأنواء مصحوبة بالتغيرات الجوية مدة أسابيع عديدة، وقد تخلل هذه الأنواء فترات من الصحو انقشعت فيها الغيوم وظهرت أشعة الشمس، على أنها لم تكن كافية لأن تحل العمارة من قيود الانحصار، وتطلق لها سراح الإقلاع بداعي قصر مدتها، وعدم تمكن البحر فيها من الرجوع إلى حالة الهدوء والسكون؛ لأن تياراته المتعالية كانت تظل على عجيجها وهياجها متلاطمة متدافعة على الشاطئ، ومتساقطة على كثبان الرمل في مصب النهر محطمة السفن الواقفة في طريقها، والمعرضة لانكسارها، وكانت فترة الصحو لا تلبث أن تنقطع بهبوب الأرياح، وتعاظم الأنواء، وإنشاء السحب في عنان السماء، وإذ ذاك تُوقف السفن على مراسيها، وتلف شرُعها، وتُطوى أعلامها، وتُدار من نحو المقدم إلى جهة العاصفة بوجه العبوسة والغضب، وينكفئُ الناس على الشاطئ إلى الخيام، والمتفرجون يرجعون إلى بيوتهم ريثما وليم وضباطه يبقون يراقبون مرور السريع بمزيد القلق وعظيم الاضطراب.
وبالواقع كان لوليم أسباب جوهرية تبعثه على إيجاس الخوف من عاقبة هذا النوء الطويل المستديم في طريق مشروعه؛ لأن الإبطاء في الإقلاع كان بحد ذاته موجبًا للحذر وانشغال البال من حيث إن فصل الشتاء كان على الأبواب؛ لأنه كان بعد مرور شهر واحد يصبح اجتياز البوغاز بتلك العمارة أمرًا بعيدًا جدًّا، هذا فضلًا عن أن الرجال الذين يقلعون بحملات مخيفة مظلمة كالتي عزم عليها وليم كانت نفوسهم وقواهم عرضة للاشتداد والانسحاق، خاضعة لعوامل التغيرات العظيمة الفجائية، ومفعولة بقوة أقل الطوارئ الطفيفة الصغيرة، ولا شيء أفعل في نفوسهم في مثل تلك الظروف من ظواهر الجو، وقد أدرك وليم أن آثار حمية رجاله وغيرتهم كانت آخذة في الاختفاء تحت أطباق السحب المتكاثفة، ومسرعة في الانمحاء في مجاري السيول الجارفة، وكانت شعائر القنوط والخمول التي نبهها فيهم ذلك العاصف تزداد فيهم تعمقًا وانتشارًا بقوة الحس المشترك، فكنت تراهم لا يشغلهم شاغل سوى توقع المخاطر والأهوال، والتسلي أثناء مراقبة سير الغيوم وتلاطم الأمواج بانتظار الرزايا والمعارك ونتائج الاندحار، وغير ذلك من الأمور المخيفة المظلمة التي تذهب ببسالة الجندي، وتحدوه على اليأس والجزع.
ولم تكن تصورات المصائب والشدائد منحصرة فيما ذكر فقط؛ لأنه مع أن معظم العمارة كان باقيًا على مصب النهر، وفي أمن من العواصف والأنواء، فكثير من المراكب كان خارجًا عنه معرضًا لها، فمِن قطعٍ جيء بها مؤخرًا إلى ذلك المرسى أو طرادات أرسلت إلى بعض الثغور المجاورة لقضاء بعض الحاجات المتعلقة بالاستعدادات، أو سفن كان لنواخذتها «جمع ناخذة بمعنى قبطان» شجاعة ممتازة حملتهم على التعرض للمخاطر بدون داع، فأكثر هذه المذكورات حطمتها الأمواج، وقطعت أوصالها التيارات، وقذفت ببقاياها مع جثث نوتيتها الغرقى إلى الشاطئ، وقد هالت الناظرين رؤية تلك الجثث المنتفخة المهشمة والمطمور نصفها في الرمل كأن البحر حاول أن يخفي عن العيون منظر تلك الجرائم التي ارتكبها، فأصدر وليم الأوامر المشددة للإسراع في جمع تلك الجثث ودفنها سرًّا بحال وجودها، على أنه رغمًا عن هذه التحوطات لم تلبث أنباء هذه الأرزاء أن انتشرت في سائر أطراف المعسكر مُكبرة مُجسمة، وكان الخوف والرعب يزدادان كل يوم استيلاءً على الأفكار، وينذران بتوقع المكاره وانتظار الأخطار، فعوَّل وليم على الإقلاع عند أول فرصة ممكنة، وذلك لم يكن طويلًا، فإن الطقس تغير، وفي الحال هبت ريح جنوب لطيفة عارضت انقلاب الأمواج على الشواطئ الفرنسية، وعليه أصدرت الأوامر في الإقلاع، فهدمت الخيام ونقلت الذخائر إلى السفن، وحشدت العساكر في القوارب إلى المراكب، وازدحمت أقدام المتفرجين على الشاطئ أفواجًا أفواجًا، ونشرت القلع وأخذت الميناء تسيل بحركات تلك القطع متأهبة للاجتياز، ومستعدة للمخر في عباب البوغاز، على أن البحر ما كان إلا كالأفاعي، ومعلوم القول:
فإن ذلك التعبير المستحب ما كان إلا مجرد خدعة واحتيال وفخ أُخفى للوقوع في أشراك الرزايا والأهوال؛ لأنه ما أبطأ أن عادت الرياح إلى عصفها الشديد، والسحب إلى تلبُّد ما عليه مزيد، وبعد أن قطعت العمارة مسافة مائة ميل تحت جهد الخطر والعناء اضطرت على الرجوع إلى مرفأ سنت فالري طلبًا للوقاية والالتجاء، فساء ذلك وليم ولكنه اتخذ هذا التأخر وسيلة للتزود ببعض القوات الأخيرة، ومواصلة العاصمة ومتيلدا.
وهذه الموانع المخيفة والمنذرة بالشر كانت لا تخلو من فائدة عظيمة لم يدركها وليم حينئذٍ، من وجه أنها قادت هارلود في إنكلترا للظن في رجوع وليم عن عزم الحمل عليه، وهكذا عدل عن التحرز والتيقظ، ولم يكن — كما سبق القول — في تلك الأيام وسائل قياسية لتبادل الأخبار بحيث يسهل شيوع الأنباء عن الحوادث الخطيرة والإجراءات المهمة كما في أيامنا هذه، وعليه كانت كل حكومة تعتمد على الجواسيس في الوقوف على حركات الأعداء، وكان قد شاع في إنكلترا في شهر آب خبر عزم وليم على الحملة، فاستعد هارلود لملاقاته وصده، لكنه إذ رآه أبطأ في الحضور، ومضى شهر أيلول أسبوعًا بعد أسبوع، ولم تبن أدنى علامة للعدو، ولا ظهرت له أسباب هذا التأخر، استنتج إغفال ذلك العزم أو إرجاءه إلى الربيع، وإذ كان الشتاء قريبًا رأى من الموافق أن يستعد في إرسال عساكره إلى مشاتيها، فصرف عنه بعضها، والبعض الآخر وزعه في كثير من القلاع والمدن الحصينة، حيث يصرفون فصل الشتاء، ويكفون مشقات الأمطار والزمهرير، وفي الوقت نفسه يكونون على أهبة الاندفاع عند حدوث أقل سبب مفاجئ، على أنه ما لبث أن دعاهم لدفاع كما سيأتي معنا.
ومع أن هذه التنظيمات التي أجراها هارلود كانت في نظره أضمن لسلامة رجاله وراحتهم، لم يكفَّ في أثنائها عن التجسس والمراقبة والاستطلاع ساعيًا جهده في الاستعلام عن عدوه، وتنسُّم أخبار حركاته، فأقام الأرصاد ونشر العيون على تخمه الجنوبي، وشدد الأوامر في تدقيق الملاحظة وضبط السهر على كل شيء يجِدُّ لديهم، أو يبدو لهم الإسراع في إبلاغه.
ومعلوم أن وليم كان يبذل كل ما في وسعه لأجل قطع موارد الأخبار، وقد ساعدته التقادير على ذلك، فإن تلك الأنواء التي حدثت جعلت السفر في البوغاز متعذرًا على سفن التجارة وقوارب الصيد؛ ولذلك لم يستفد الرقباء على تخم إنكلترا الجنوبي من استطلاع الحوادث إلا النزر القليل.
أخيرًا فرغت جعبة الصبر عند هارلود، وتعذر عليه البقاء على تلك الحالة المبهمة، فعقد النية على إرسال نفر من رجاله إلى نورماندي توصلًا لاستجلاء الحقائق ودفع الشبهات، وليس بخافٍ أن المرسلين بطريقة سرية أو إلى بلاد العدو إلى معسكره يعتبرون بحكم القوانين الحربية جواسيس، ويعاقبون إذا قبض عليهم بالموت؛ ولذلك كانت إرسالية كهذه غاية في الهول والخطر، وإذا كان الموت المحكوم به على من يوجد بهذه الصفة مهينًا للغاية؛ إذ الجواسيس كانوا يشنقون بلا شفقة علنًا، ولا يقتلون بإطلاق الرصاص، فأكثر الناس يأبون التعرض لهذا الخطر المخيف، ومع ذلك كله فصفات البأس كانت لكثيرين من رجال الحرب الذين يقدمون على الأهوال، ويركبون المخاطر موعودين بالمكافأة الحسنى والجزاء النادر، فبدا لجواسيس هارلود أن يقطعوا البوغاز مجتازين إلى رأس بعيد في شرقي نورماندي، حيث المدخل ضيق، فأتوا الشاطئ وساروا في البر متخفين بزي الفلاحين حتى جاءوا سنت فالري حيث كانت عمارة وليم، وهناك جلسوا متفقدين مستطلعين مستكشفين بكل ضبط واحتيال، لكنه رغمًا عن ملء التحفظ والتحرز عرفت دخيلة أمرهم، وهتك حجاب سرِّهم، وظهر أنهم جواسيس فألقي عليهم القبض، وسيقوا إلى وليم لينالوا عقابهم.
أما وليم فعوضًا عن الحكم عليهم بالموت الذي توقعوا أنه سيكون نصيبهم المحتوم، وجزاءهم الذي لا مفر منه، عفا عنهم، وأمر بإطلاقهم قائلًا لهم: «ارجعوا إلى الملك هارلود وأخبروه أنه كان في غنًى عن تحمل النفقات في إرسال الجواسيس إلى نورماندي؛ ليقف على الاستعداد الذي أقوم به للخروج عليه، إذ إنه لا يلبث أن يبلغه بوسائط أخرى — أسرع مما يمكنه أن يتصور — فاذهبوا وقولوا له عني: أن يجعل ذاته إذا شاء في آمن مكان يستطيع أن يجده في كل بلاده، وإن لم يجد عليه قبل نهاية هذه السنة، فلا تعود له حاجة للخوف مني ما دام حيًّا».
ولم تكن هذه الثقة التي عبَّر عنها وليم في نجاحه مجرد ادِّعاء ومحض افتخار باطل؛ لأنه علم قواته وقوات هارلود، ولم تكن حملته هذه مدفوعة بقوة الرعونة والطياشة، بل محمولة على مزيد التروي والتأمل، وقد تراءت بمظهر الخوف والشك لعيون الذين قاسوها على ظواهر الحال، فحمَّقوا مشورة دوق كوليم يحكم على مقاطعة صغيرة كنورماندي، ويثير حربًا هائلة على ملك إنكلترا القابض على زمام أعظم وأقوى مملكة في العالم.
أما وليم فبالعكس كان يعتقد وجوب القيام بذلك تحصيلًا لحقه الإرثي من يد مغتصبه، وقد تحقق لديه نوال الميل والانضمام حتى من شعب إنكلترا حالما يتمكن من أن يريهم استطاعته على حفظ حقوقه، وأنه قادر على إيضاح ذلك لهم ببرهان ناصع البيان، ودليل حسي منظور؛ أعني به تلك العمارة الكبيرة الغاصة بها الميناء، وتلك الخيام الكثيرة المملوءة بالعساكر المغشي بها وجه الشاطئ، واتفق أن بعض قواده أوضحوا أمامه رعبهم من قوات هارلود، وإيجاسهم خوف عدم استطاعتهم الثبات ضدها، فأجابهم أنه بقدر ما تكون قوات هارلود مخيفة ينبغي أن يعظم فرحهم وسرورهم بالمجد العظيم الذي ينالونه بالغلبة عليه، ثم زاد عليه قوله: «لا بأس من تأتي في قلوبكم على سبيل التسلية أفكار قوته واقتداره حالة كوني أعجب كل العجب من عدم افتكاركم بعظم قواتنا نحن، فلست في حاجة إلى أقل اهتمام؛ لئلا يدرك هارلود على بعده عنا بواسطه جواسيسه شيئًا عن القوة التي أسير بها إليه حينما أنتم القريبين مني يظهر أنكم لا تعرفون عنها إلا شيئًا يسيرًا، فلا تهتموا على الإطلاق، فاتكلوا على عدالة دعواكم، وثقوا بما أتوقعه أنا وكونوا رجالًا، فتجدوا أن النتيجة التي أشعر بتحققها وترجونها أنتم ستنال بكل تأكيد وإثبات».
وأخيرًا انقضت العواصف وسكنت الأنواء، وتأهبت العمارة للمبارحة الأخيرة، وفي معظم هذه الحركة النهائية حدث في أحد الأصباح ما استدعى انتباه جميع الذين كانوا في المراكب وعلى الشاطئ، وذلك بأن رأوا سفينة جميلة قادمة على الميناء عرفت أنها قطعة كبيرة متقنة كانت الدوقة متيلدا قد بنتها على نفقتها وجيء بها تقدمة منها وداعية لزوجها، وكانت هي ذاتها راكبة فيها مع قوادها وحرسها لأجل مشاهدة سفر وليم ووداعه، وقد كان ولا ريب لحضورها في حالة كهذه وقع عظيم بعث الجميع على الحمية والنشاط، فتصاعدت من السفن في الميناء ومن جماهير الوقوف على الشاطئ ضجات الفرح والاستحسان احتفاءً بقدومها البهج.
وبالواقع كانت سفينة متيلدا مبنية بمزيد الدقة ومنتهى الزخرفة والزينة، فالشرع كانت مدبجة بألوان مختلفة أكسبتها منظرًا بهيًّا، وقد رسم عليها في أماكن متعددة صورة الثلاثة أسود التي كانت تمثل شارة النورماند، وعلى جانبيها من لدن المقدم رسم صورة رأس تمثّل ابن وليم ومتيلدا الثاني يرمي بالنبال؛ لأن وليم كان يسرُّ على الخصوص برؤيته ابنه يفعل ذلك، وكان السهم مسحوبًا في الرسم إلى المقدم مشيرًا إلى شدة وقوة الساعدين على رميه، ومخيلًا للناظر أنه على أهبة النشب، وكان اسم تلك السفينة ميرا، فجعلها وليم في مقدم العمارة، ورفع عليها تلك الراية البديعة الإتقان التي أرسلت إليه من رومية، ثم اجتاز إليها محفوفًا بالقواد والحرس بمظاهر التجلة والاحتفاء، واستعدت العمارة للإقلاع، فنشرت الشرع وأخذت السفن تسير الهوينا مقلعة عن الميناء.
وإن صدقت رواية مؤرخي ذلك العهد يكون عدد السفن الكبيرة في تلك العمارة أربعمائة، ومعها أكثر من ألف قارب، وكانت كلها مشحونة بالرجال، وأعالي سواريها تخفق بالرايات والشاطئ على رحبه ضيقًا بالمتفرجين، والبحر هادئًا، والهواء لطيفًا، والشرع التي كست وجه المياه ثوبًا أبيض تسير سيرًا لينًا على بساطها المتجعد، وتشخص لعين الناظر فقط منظرًا جميلًا بديعًا، وأما لعين المتأمل بالنتائج الصادرة عن نجاح هذه الحملة فمشهدًا ساميًا رفيعًا.
وقد ظهر بالامتحان أن تلك السفينة البديعة التي قدمتها متيلدا لزوجها ليست مجرد لعيبة، فإنها سارت في مقدم السفن والعيون تحدق بها، فوجب أنها آخذة في السبق شيئًا فشيئًا، فسر وليم أن يراها هكذا سريعة الجري، وأمر ربانها أن يظل سائرًا غير مبال بما وراءه، حتى إذا جاء المساء وظهر أن المسافة بينهما وبين بقية العمارة خلفها أصبحت شاسعة، بحيث غابت كل السفن عن عيون من كانوا على ظهر ميرا، لكنه إذ كان المساء قد أقبل والظلام خيم توقعوا أنهم ينظرونها في الصباح، فلما كان الغد استولى عليهم الانذهال والاندهاش، حين التفتوا إلى جهة الأفق الجنوبية ممعنين النظر ولم يجدوا للعمارة خلفهم أدنى أثر، فقلقوا وارتابوا، أما وليم فلم يبال بذلك وأمر أن تطوى الشرع، وأنفذ رجلًا إلى أعلى الساري للاستكشاف والإشراف فلم ير شيئًا، ووليم ظل في الظاهر غير مهتم، فأمر بتهيئة الفطور وأكثر على المائدة من وضع الخمور وغيرها من الوسائل الداعية الأفكار إلى هجر القلق، والارتياح إلى الفرح والسرور، ثم أرسل المراقب مرة ثانية إلى رأس الساري وسأله وليم: «ماذا ترى؟ فأجاب بعدما حدَّق بنظره: أرى أربع لطخ صغيرة جدًّا في الأفق» ثم زيدت هذه المسرة التي أوجبها هذا الاستكشاف بالصراخ: «هأنذا أنظر أكثر فأكثر، هي السفن، نعم كل العمارة ظهرت».
ثم ما أبطأت أن دنت من ميرا التي عادت إلى نشر شراعها، وراحت كلها تشق العباب نحو إنكلترا وقد جعلت طريقها نحو الشرق، حتى إذا جاءت البر لا تكون بعيدة عن مضيق دوفر، وفيما كانوا يقتربون نحو الشواطئ الإنكليزية كانوا يراقبون بكل اعتناء وجود البعض من سفن هارلود التي توقعوا طبيعيًّا مصادفتها في تلك الجهات جائلة لحماية الشطوط البحرية، لكنهم لم يجدوا واحدة منها، نعم إن هارلود كان قد سيرها للطواف والحراسة، وكان منها كثير في بقية الثغور، لكنه اتفق لحسن حظ وليم أن تلك التي عهد إليها حراسة هذا القسم من الجزيرة كانت قد انسحبت منه منذ أيام بداعي نفاد زادها وذخائرها، وهكذا لما وصلت العمارة تلك الجهة لم تصادف عدوًّا معارضًا، فرست في خليج بيفنسي الذي تراءى لها متبسمًا مادًّا ذراعيه لاستقبالها، وعندها أخذوا في التأهب للخروج إلى البر، وأول من وطئت أقدامهم الشاطئ فرقة من رماة النبال المنتخبين.
فتقدم وليم معهم وأن كان متلهفًا للوصول إلى البر زلَّت قدمه وهو يطفر من القارب فقط، فتطير الضباط وجميع من كانوا حوله وعدوا ذلك فألًا رديًّا، أما هو فحضرته سرعة الخاطر في الحال ومد ذراعيه وتمسك بالشاطئ مُدَّعيًا أنه فعل ذلك تعمدًا، وقال في نفس الوقت: «هكذا أقبض على هذه الأرض ومِن هذه الدقيقة تكون ملكي» ولما نهض أسرع أحد ضباطه إلى كوخ مجاور على الشاطئ وأتى منه بقليل من «البلان» إلى وليم ووضعه في يده وقال له: إنه هكذا أعطي ملكه الجديد. وتلك كانت عادة في ذلك العهد أن يُعطى المتملك الجديد الأراضي التي اشتراها أو نالها بطريقة أخرى، فكان المقتني الجديد يذهب إلى الأرض المراد امتلاكها، وهناك أصحابها الأولون ينتزعون شيئًا مما فيها ويقدمونه له قائلين: «هكذا نخوِّلك امتلاك الأرض» وحالما خرج العساكر إلى البر طفقوا يقيمون المعسكرات وينشئون الاستحكامات؛ تفاديًا من عدو مباغت أو هجوم مفاجئ ريثما كانت القوارب آخذة في تكملة النقل من السفن إلى البر، وكان بينهم عدد عديد من الفعلة والعاملين في صناعات مختلفة من المهندسين وممهدي الطرق والنجارين والبنائين وغيرهم، فكانوا قد أحضروا معهم ثلاثة أبراج، أو بالحري حصون من خشب هيَّئُوها قبل السفر في نورماندي، وأتوا بها لتقام عند وصولهم لحفظ الذخائر والمؤن.
وإذ ذاك سير وليم فرقة من الخيالة لتردد تلك الأطراف، وتتجسس الأنباء عن قدوم هارلود، فرجع أولئك الفرسان واحدًا بعد الآخر بعدما ضربوا في تلك الأطراف، وتوغلوا في التجسس والاستكشاف، وأفادوا أنهم لم يقفوا لقدوم العدو على أثر، وكانت الاستحكامات حينئذ قد أُقيمت، ولم يبق من شاغل في الإفراغ والتنظيم، فأمر وليم أن تشعل النيران بالخيام لأجل الليل وتستعد العساكر لمناولة العشاء، وقد أعد له العشاء في ذات خيمته فتناوله مع قواده بمزيد الانشراح والابتهاج، وبغاية اطمئنان البال من جهة ما صادفه ذلك اليوم من النجاح في سائر الأعمال.
وقد كانت كل حوادث الخروج إلى البر ومتعلقاتها داعية إلى الرضى والاستحسان سوى واحدة، وهي ضياع سفينتين من العمارة، فاستعلم وليم وهو على العشاء عمَّا إذا كان قد جدَّ شيء بخصوصهما، فأجيب أن الإفادات الأخيرة عنهما تعلن انقذافهما إلى الصخور وانكسارهما، وكان أحد المنجمين قد تنبأ بخصوص تلك الحملة قبل خروجهما من نورماندي، وأعلم بمقتضى مراقبة النجوم أن وليم سوف ينجح في عمله ولا يصادف أدنى مقاومة من هارلود، وكان ذلك المنجم على ظهر إحدى تينك السفينتين المفقودتين فمات غرقًا، فعندما بلغت وليم تلك الإفادات قال: «ما أشد حماقة ذلك الرجل الذي ظن أنه بواسطة النجوم يستطيع معرفة مستقبل غيره، بينما هو لم يعرف شيئًا عن مستقبل نفسه». ويروى أن ذلك الطعام الذي تناوله وليم وقتئذ أُعد له على حجر كبير عوضًا عن المائدة، ولا يزال ذلك الحجر إلى الآن يدعى «حجر الظافر».
وفي اليوم الثاني أخذت العساكر تتقدم نحو الشرق ولم يكن في طريقهم عدو يحاربهم أو يصد تقدمهم، وقد حال الخوف والرعب دون سكان البلاد التي كانوا يجتازونها، فلم يبدوا أدنى مقاومة لهم، وكان الباعث على زيادة خوفهم بعض تعديات أتاها بعض العساكر، فاستولى الهلع على سكان الدساكر والقرى عند مفاجأتهم بتلك القوات الغريبة العظيمة التي غشيت شواطئهم، وانتشرت في أنحائهم، فأركن بعضهم للهرب إلى داخلية البلاد، وبعضهم ساقوا عيالهم وحملوا أشياءهم الثمينة والتجئوا إلى الصوامع والكنائس، متوهمين أن أماكن كهذه يتهيب حتى العساكر الدخول إليها ما لم يكونوا وثنيين، والبعض الآخر عزموا أن يختبئوا بين الهشيم والعليق حتى تمر عاصفة أولئك الثائرين عليهم.
وظلوا يتقدمون حتى أتوا هضبة قرب البحر فاختارها وليم محلًّا مؤقتًا، فخيم فيها محصنًا مستحكمًا، وكان إلى الغرب منها وادٍ وفي أسفله قرية تدعى هستن لم تكن قبلًا ذات شأن وأهمية، ولكن بسبب المعركة الهائلة التي حدثت بالقرب منها بعد وصول وليم ببضعة أيام لا يزال ذكرها حيًّا للآن، وما أتم وليم نقل الذخائر والمعدات إلى تلك الهضبة — وكان يفرغ من إقامة الحصون والقلاع — حتى بلغته الأخبار بواسطة الرقباء والجواسيس من نحو الشمال أن هارلود قادم عليه بعد أربعة أيام في طليعة مائة ألف مقاتل.