حنَّة أم مريم
وُلِدَ يسوع حفيدي هُنا في النَّاصِرة في شهر كانون الأول. وفي الليلة التي وُلِد فيها يسوع زارَنا رجال من المَشرِق، فقد كانوا أعجامًا جاءوا إلى أسدريلون مع قوافل المِيديِّين في طريقهم إلى مصر. وإذ لم يَجدوا مكانًا في الفُندُق طلبوا ملجأً في بيتِنا.
وقد رَحَّبتُ بهم وقُلتُ لهم: إن ابنتي وَلَدت صبيًّا في هذه الليلة، وأنتم ولا شكَّ تَغضُّون الطرْفَ عن قُصوري إذا لم أقُم بواجِب الضِّيافة كما يَليق بكم.
فشكروني على قَبولهم في منزلي، وبعد العَشاء قالوا لي: نودُّ أن نرى الطِّفل الجديد.
وكان ابنُ مريم جميلَ الصورة، وهي أيضًا كانت جميلة.
وعندما رأى الأعجام مَريم وطفلَها أخرجوا ذَهبًا وفضَّةً من أكياسهم ومرًّا ولبانًا، وطرحوها كلَّها عند قَدَمَي الطفل.
ثمَّ سجدوا وصلُّوا بلُغةٍ غريبةٍ لم نفهمْها.
وعندما ذهبتُ بهم إلى غُرفة النوم التي أعددتُها لهم دَخلوا بملء الاحترام ممَّا رأوا وشاهدوا.
وعند الصَّباح تركونا وساروا في طريقهم إلى مصر.
ولكن قبل انصِرافهم قالوا لي: إن هذا الطفل وإن كان ابنَ يومٍ واحدٍ فإننا قد رأينا نُور إلهِنا في عَيْنيه وابتسامةَ إلهِنا على شَفَتيه.
فنرجو منكم أن تَحرُسوه بِعِنايَتكم ليَحرُسكم بِعنايته.
وإذ قالوا هذا رَكِبوا جِمالهم ولم نرَهُم بعد ذلك.
أمَّا مريم فلم يكُن فرَحُها بِبِكْرها ليُضاهي شدَّةَ دَهشتِها وذُهولها أمامه.
فكانت تُحدِّق إليه طويلًا ثمَّ تُدير وَجْهها إلى النَّافذة وتتأمَّل السماء البعيدة مُنذَهِلةً كأنها ترى رُؤًى سماوية.
وكان بين قلبِها وقلبي أودِيَةٌ بعيدة العُمق.
وكان الصبيُّ ينمو بالجَسَد والرُّوح، وكان يختلِف كلَّ الاختلاف عن جميع أتْرابِه؛ فكان مُحِبًّا للوِحدة، يصعُب الحُكم عليه، ولم أقدِر أن أضعَ يدي عليه قط.
بيد أنه كان محبوبًا من جميع أهل النَّاصرة. وفي أعماق قلبي عرفتُ السَّبَبَ في ذلك.
وكثيرًا ما كان يأخُذ طعامَنا ويُعطيه لعابِري السَّبيل، وكلَّما أعطيتُه شيئًا من الحلوى كان يُعطيه للأولاد رُفقائه قبل أن يَذُوقَه بفمِه.
وكان يتسلَّق أشجار البُستان ويقطف أثمارها ليحمِلها إلى غيره ممَّن لا أثمار في بساتينهم.
وكثيرًا ما رأيتُه بعيني وهو يتسابق مع الأولاد، وإذ يرى أنه أسرع خُطًى منهم، يتباطأ في سيره حتى يَسبِقوه إلى المَحجَّة قبل أن يصِل هو إليها.
وكان في بعض الليالي عندما أقودُه إلى فِراشه يقول لي: أخبري أُمِّي وغيرها أن جسدي فقط ينام، ولكنَّ فكري سَيظلُّ رفيقًا لهم حتى يأتي فِكرهم إلى صباحي.
وغير هذا كثير من الآيات العجيبة التي كان يقولها لي في صَبوته، ولكنَّ ضَعف ذاكرتي في شيْخُوخَتي يَحول دون تذكُّرها.
واليوم يقولون لي إنَّني لن أراه فيما بعد، ولكن كيف أستطيع أن أُصدِّقَ ما يقولون؟
إنَّني ما زلتُ أسمَع ضحكه. وصوت وَقْع قدميه على أرض الدَّار لا يُفارِق أذُني. وكلَّما قبَّلتُ وَجنَةَ ابنتي أشعُر بعِطر قُبلاته يَفوح في قلبي، وأُحسُّ بجسَده الجميل يتموَّج في ذراعيَّ.
ولكن، أليسَ من الغَرابة العَجيبة أن ابنَتي لا تتكلَّم عن ابنِها البِكر أمامي أبدًا؟
وكثيرًا ما يخطُر لي أنَّ شَوقي إليه أعظَمُ من شَوقها؛ لأنها تقِف شاخِصةً أمام نُور النَّهار كأنَّها تمثالٌ من النُّحاس الصامِت في حين أنَّ قلبي يَذوب في صَدْري ويَجري مُنسَكِبًا كالجَدْول، ومن يدري، فلعلَّها تعلَم ما لا أعلَم. ويا ليتَها تُحدِّثُني بما تعرِف من الأسرار الغامِضة عليَّ.