فيلبس
عندما مات حبيبُنا ماتت الإنسانية كلُّها، وسكن كلُّ ما في الفضاء وامتقَع لونه، فالشَّرق أظلم، وهبَّت من أعماقه عاصفةٌ هوجاء اجتاحت كلَّ الأرض. وكانت عيون السماء تنفتِح وتنطبِق، وتساقَطَتْ الأمطار أنهارًا فجرَفَت الدمَ الجاري من يديه ومن قدميه.
وأنا أيضًا مُتُّ مع المائتين، وفي أعماق غَفلتي سَمِعتُه يتكلَّم ويقول: يا أبتاه، اغفِر لهم لأنَّهم لا يَدرون ما يفعلون.
وقد طلب صوتُه رُوحي المُختنِقة فأرجعَني إلى الشاطئ ثانية.
ففتحتُ عينيَّ ورأيتُ جسده الناصِع البياض مُعلَّقًا أمام السَّحاب، وقد تجسَّدَت الكلمات التي سمعتُها منه في أعماق قلبي فصرتُ رجلًا جديدًا، ولم أعرف طعم الكآبة فيما بعد.
فمن يحزَن على البحر الذي يحسُر القناع عن وجهه، أو الجبل الذي يضحك في الشمس؟
هل خطر على قلب بَشَر، وقد طعن ذلك القلب، أن يقول مثل هذه الكلمات؟
وأي قاضٍ من قُضاة البَشر صفَح عن قُضاته؟ وهل سبق للمحبَّة في كلِّ أدوارها أن تغلَّبَت على البُغض بمثل هذه القوَّة الواثِقة بذاتها؟
وهل سمِعَت الإنسانية صوتًا كصوت هذا البُوق المدوِّي بين الأرض والسماء؟
هل سُمِعَ من قبل أن القتيل يسترحِم لقاتله؟ أو أن الشِّهاب يُوقِف سَيره من أجل الخُلد؟
أجل، ستنقضي الفصول وستُطوى السنون قبل أن يزول من الأرض أثر هذه الكلمات: يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يَدرون ما يفعلون.
وأنا وأنت وإن وُلِدنا المرَّة بعد المرة، فإنَّنا لن ننسى هذه الكلمات. وها أنا الآن أمضي إلى بيتي لأقِف مُتسوِّلًا رفيع الرأس على بابه.