من طرائف الرحلة
جمعت الرحلة التي قام بها الصحفيون المصريون إلى باكستان سبعة من الصحفيين وموظفًا رسميًّا وصحفية واحدة هي السيدة أمينة السعيد.
ولم تكن هذه هي أول مرة تزور فيها السيدة أمينة السعيد تلك الجهات النائية، فقد سبق لها أن زارت شبه جزيرة الهند قبل تقسيمها إلى دولتين: الهند وباكستان.
وكانت قد زارت باكستان في عام سابق سيدة فاضلة أخرى هي السيدة راجية حرم الأستاذ محمد عبد القادر حمزة واشتركت في مؤتمر السيدات المسلمات الدولي، وقد عرفَت كثيرات من السيدات في الحفلات التي كنا نُدعى إليها أن الأستاذ محمد عبد القادر حمزة زوج السيدة راجية من بين أعضاء بعثة الصحفيين المصريين، ولذلك كنَّ يسألن عنه ويقبِلن عليه لسؤاله عن السيدة زوجته التي تعرَّفن إليها من قبل عند زيارتها للباكستان للاشتراك في المؤتمر، بل إن بعضهن كن قد احتفظن لها ببعض الصور الفوتوغرافية التي أُخذت لها عند زيارتها فسلَّمن هذه الصور لزوجها لكي يحملها إليها …
وقد أثبتت السيدة أمينة السعيد في مناسبتين أنها قوية الأعصاب شديدة الاحتمال للمتاعب … أثبتت أنها قوية الأعصاب عندما زرنا كشمير الحرة أو «أزاد كشمير»، ووقف الأستاذ محمد عبد القادر يتحدث إلى موظفي الحكومة التي تدير هذا القسم من كشمير وإلى بعض الأهالي فكادت تخنقه العبرات وهو يخطب حتى اضطُرَّ أن يتوقف دقائق لكي يستجمع أفكاره من فرط تأثره، وقد انتقل هذا التأثر إلينا جميعًا وإلى السامعين فساد صمتٌ عميق وأخذ بعض الحاضرين في تجفيف دموعهم … بل لقد ارتفعت أصوات بعض سكان أزاد كشمير بالنحيب الخافت … إلا سيدة واحدة ظلت محتفظة برباطة جأشها وتمكنت من التحكم في أعصابها وهي السيدة أمينة السعيد …
وكان الطريق إلى أزاد كشمير طريقًا وعرًا كله انحناءات وانثناءات والرحلة إليها تعتبر من أشق الرحلات. ولما وصلنا أخيرًا إلى مقر الحكومة في «مظفر أباد» كان التعب قد أصابنا وشعرنا جميعًا بدوار حتى اضطر الزميلان محمد عبد القادر حمزة وحسني سلمان إلى البحث عن مكان يستريحان فيه، وقد ناما بعض الوقت حتى أمكن لكل منهما أن يستعيد قوته. وكانت السيدة الوحيدة في الركب هي التي صمدت في هذه الرحلة الشاقة!
وقد تميز الطعام الذي كان يُقدم للصحفيين في باكستان بوجود التوابل الكثيرة و«الشطة» فيه، وقد أحب بعض الصحفيين هذا الطعام وأقبلوا عليه، في حين أن البعض الآخر لم يحتمل هذا الطعام المصحوب بكميات الشطة الوفيرة، وكان أشد الثائرين ضدها هو الأستاذ عزيز ميرزا رئيس تحرير الأهرام، حتى لقد كان يفضل في أكثر الحفلات والمآدب ألَّا يتناول الطعام على الإطلاق هربًا من الشطة.
وفي إحدى الحفلات وجدت الأستاذ عزيز ميرزا يعيد طبقه إلى المائدة بطريقة عصبية وقد ظهر الامتعاض الشديد على وجهه فقلت له: خير! ماذا حدث …؟
فأجابني: حاجة تجنن صحيح! لقد تركت جميع ألوان الطعام لأني أعرف أنها مليئة بالشطة التي سببت لي التهابًا في اللثة … تركت جميع الأطباق وفضلت أن أقنع بطبق الحلو المصنوع من «الشيكولاته»، فلما بدأت أتناوله تبين لي أن «الحلو» نفسه مصنوع بالشطة!
وضحكت … ثم تناولت طبقًا من هذه الحلوى المصنوعة من الشيكولاته فوجدته فعلًا ممزوجًا ببعض الشطة.
وقد بدأت الرحلة — كما قلنا — بتسعة … ولكنها ما لبثت أن انتهت بأربعة هم الذين عادوا بعد إتمام البرنامج الموضوع للزيارة …
وكان أول المتخلفين الأستاذ سعيد رمضان الذي كان في إندونيسيا ثم لحق بالصحفيين في كراتشي، ولكنه اعتذر عن عدم مرافقتهم إلى شمال باكستان لكثرة شواغله بسبب اضطراره إلى العودة إلى مصر قبلهم، وكان قد سبق له فضلًا عن ذلك أن زار كل تلك المناطق التي تقرر أن يزورها الصحفيون …
وسافرت البعثة بعد ذلك إلى مدينة حيدر أباد، وهناك بدا التعب والإعياء الشديد على الزميل الأستاذ أحمد أبو الفتح رئيس تحرير المصري … فقرر أن يعود إلى كراتشي على أن يلحق بالبعثة في لاهور، وذلك لكي يتسنى له السفر بالطائرة بدلًا من السفر بالقطار في رحلة تستغرق نحو ١٢ ساعة.
إلا أن الأستاذ أحمد أبو الفتح بقي في كراتشي، ولما جاء موعد سفر الطائرة إلى لاهور تشاءم من السفر بمفرده في تلك الرحلة فقرر مدَّ إقامته في كراتشي … وما لبث بعد ذلك أن عاد إلى مصر.
وفي مدينة «لاهور» قرر الزميل الأستاذ حسين فهمي أن يعود إلى مصر، فركب الطائرة من لاهور وعاد بها إلى كراتشي، ومن كراتشي استقل طائرة أخرى إلى مصر …
ولما عدنا من بشاور إلى كراتشي، وقبل موعد انتهاء الزيارة الرسمية بيومين، قرر الأستاذان محمد عبد القادر حمزة وحسني سلمان العودة إلى مصر بأول طائرة.
… وهكذا لم يبقَ إلى نهاية الرحلة إلا ثلاثة من الصحفيين كان يصحبهم الأستاذ مصطفى بنشي مندوب وزارة الخارجية … وكانت السيدة أمينة السعيد ممن صمدوا حتى النهاية.
وكنا في كل يوم نتحدث في موضوع «البردة»، وهو الحجاب الباكستاني الذي ترتديه النساء هناك، فتبدو كل امرأة كأنها عبارة عن «ستار» متحركة وقد احتجب وجهها وكل شيء فيها.
حدث في إحدى الحفلات أن جاءت سيدة إلى الحفلة وهي ترتدي هذه البردة وطلبت أن تتحدث مع السيدة أمينة السعيد فأُجيبت إلى طلبها وتحدثت إليها، وكانت هناك سيدة باكستانية أخرى تترجم الحديث بين السيدة التي ترتدي البردة والسيدة أمينة السعيد، لأن صاحبة البردة لم تكن تتحدث الإنجليزية.
وكانت السيدة أمينة ثائرة ضد البردة، فقالت للمترجمة: أرجو أن تسألي هذه السيدة لماذا ترتدي هذه الملابس.
وأجابت صاحبة البردة بوساطة المترجمة: لأنني مسلمة محافظة على التقاليد.
قالت السيدة أمينة للمترجمة: أرجو أن تقولي لها إنني مسلمة مثلها ومحافظة على التقاليد، ولكنني لا أوافقها على أن هذه الملابس من الإسلام في شيء!
وكان لهذه الإجابة وقع عميق في نفس صاحبة البردة!
وحدث بعد زيارة الوفد للبيجوم لياقت علي خان أن طلب المصورون أخذ صور للوفد مع البيجوم، فوقفت هي ووقف الجميع ينتظرون الصورة المطلوبة، وساد الصمت التام احترامًا للسيدة الجليلة، وطال الوقت دون أن يتم التقاط الصور فقالت البيجوم: عندما يستعد الجميع للصورة بهذا الشكل ويسكتون … في أغلب الحالات تتعطل آلة التصوير وتفشل الصورة!
وتعالى ضحك الجميع لما قالته البيجوم، وفي أثناء ضحكهم التُقطت الصورة … فظهروا وهم يضحكون إلا واحدة فقط احتفظت بوقارها وهدوئها … وهي البيجوم لياقت … صاحبة النكتة!
وكان أول شيء استرعى أنظارنا في باكستان هو البان …
و«البان» عبارة عن ورقة خضراء من أوراق شجرة معينة، وتُدهن الورقة بسائل لزجٍ أحمر اللون ثم يوضع عليها بعض التوابل وكمية من الجير … ومن أهم التوابل التي توضع في الورقة جوزة الطيب والحبهان والمستكة … إلخ، وكلما تعددت الأصناف ارتفعت قيمة «البان». وإذا انتهى إعداد ورقة «البان» ووُضعت عليها كل هذه الأشياء لُفَّت بعناية وقُدمت للمشتري الذي يتناولها في الحال ويضعها في جانب من فمه ويشرع في مضغها، وهي بمثابة اللبان الأمريكي (التشوينج جم) الذي لا يستغني عنه أمريكي.
والفقراء والأغنياء في باكستان يستعملون البان، على أن «بان» الأغنياء يتميز بكثرة ما يوضع فيه من توابل، بل لقد سمعت أن بعضهم — أي بعض الأغنياء — يضع في البان تراب الماس بعد صحنه جيدًا، وكثيرًا ما يُقدِّم المضيف إلى ضيوفه البان الفاخر ملفوفًا في الورق المفضض.
سألت فتاةً باكستانية مثقفة: هل تمضغين البان؟
قالت: طبعًا!
سألتها: ولماذا؟
قالت: لأنه مفيد للصحة بوجهٍ عام … وللأسنان بوجه خاص!
قلت: ولكنه يترك أثرًا أحمر اللون في الفم والأسنان!
قالت: ولكن هذا لا يهم إذا قيس بالفائدة التي يجنيها ماضغ البان!
وهذا هو «البان» أو «اللبان» الباكستاني!