الإصلاح الزِّراعي
تعتبر الباكستان في جوهرها بلادًا زراعية يعيش زهاء ٨٥٪ من سكانها في القرى، وإنك لتجد ملايين من المزارعين الباكستانيين منتشرين في قراها وفوق جبالها وفي أحضان وديانها وعلى ضفاف أنهارها ونهيراتها الجميلة وهم يجدُّون ويعملون. لقد بزغ عليهم فجر الحرية، ولكن شمس التحرر التام من المرض والفقر والجوع — وهي العلل التي يشكون منها — لم تبزغْ بعد.
قال القائد الأعظم محمد علي جناح يومًا: «لقد حَبَتْكم الطبيعة بكل شيء، فلديكم موارد غير محدودة، وها هي ذي دعائم دولتكم قد أُرسيت، وعليكم الآن أن تبنوا وتبنوا بسرعة وبقدر ما في مستطاعكم».
إن الإجراءات الإصلاحية التي تُتَّخذ لتعديل ملكية الأراضي في بلد كالباكستان تدور في معظمها حول هدف واحد، هو الاستعاضة عن الملكيات الكبيرة الشاسعة التي يفلحها المستأجرون الزراعيون بوحدات زراعية صغيرة يملكها أولئك الذين يفلحونها.
ولقد ظهرت مشكلة هذه الإقطاعيات الكبيرة بأجلى معانيها في الباكستان الشرقية التي قامت حكومتها فعلًا باتخاذ إجراءات تشريعية للقضاء على هذا النظام الإقطاعي، كما اتخذت إجراءات مماثلة في إقليمي الحدود الشمالية الغربية والبنجاب، وهما الإقليمان اللذان تكثر فيهما الإقطاعيات الكبيرة التي يُطلق عليها اسم «جاجير»، وكانت تُمنح مجانًا في الماضي.
وتقضى هذه الإجراءات بمنح حقوق ملكية هذه الأراضي للمزارعين الذين يَفلحونها، ولا شك أن تحويل ملكية هذه الأراضي إلى الفلاحين يعتبر عملًا صائبًا، وذلك لأن هنالك ارتباطًا عاطفيًّا بين المزارع وقطعة الأرض التي يفلحها، وهذا هو الاعتبار الذي قامت عليه سياسة الإصلاح الزراعي التي تتبعها حكومة الباكستان.
والباكستان بإتاحة الفرصة للملايين من المزارعين أو المستأجرين المزارعين لامتلاك مزارع خاصة بهم تخطو نحو تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين الحالة الاقتصادية العامة، وهما الأمران اللذان يعتبران هدفًا لسياستها الزراعية، وإذا كانت لم تتمكن من تحقيق نتائج سريعة في هذا المضمار فقد كان السبب في ذلك هو الصعاب المالية والاقتصادية.
وقد زار مصر في مستهل عام ١٩٥٥ بير علي محمد راشدي الذي كان من أكبر المرحبين بوفد الصحافة المصري في باكستان عام ١٩٥٣، وقد علمت منه عندما قابلته هنا أنه حضر إلى مصر ليدرس قانون الإصلاح الزراعي الذي كان باكورة نتاج الثورة المصرية، ومع أنه ينهض في السِّند بشئون وزارتين خطيرتين هما وزارة الإيراد ووزارة الصحة، فإن أهم ما يشغل ذهنه في الوقت الحاضر هو دراسة قانون الإصلاح الزراعي في مصر.
لقد خلَّف لنا الاستعمار فيما خلَّفه نظامًا هو الإقطاع بعينه، ونحن نطلق عليه في باكستان اسم (جاجير دار)، فقد كان المستعمرون يهَبُون أنصارهم ومؤيديهم والمخلصين لهم مساحات هائلة من الأرض ويُعْفُونها من دفع الرسوم والضرائب …
وكان ذلك في عام ١٨٤٣ عندما أغار الإنجليز على ولاية السِّند، وقد استمرت هذه الإقطاعات في أيدي أصحابها ممن كانوا في الأصل من أعوان الاستعمار، حتى انتقل بعضها إلى أبنائهم وأحفادهم …
وتبلغ مساحة هذه الأراضي (الجاجير دار) في السند نحو مليون فدان يملكها نحو ٨٠ شخصًا فقط، ولذلك فقد قررت بمجرد أن توليت منصبي الوزاري أن أخلص البلاد من هذا النظام الفاسد، وأن أعيد توزيع الأراضي على الفلاحين الكادحين الذين يزرعونها.
وقد اتجه تفكيري في الحال إلى شقيقتنا مصر، وقلت لنفسي إنه من العبث أن نجرب نظامًا جديدًا، وما دامت مصر قد نفذت نظام الإصلاح الزراعي الذي نال شهرة في العالم كله فلننتفع إذن بتجاربها في هذا الميدان.
ولهذا جئت إلى مصر وكلي رغبة في دراسة قانون الإصلاح الزراعي دراسة عملية، إذ أردت أن أعرف الصعوبات التي اعترضت القانون في مراحله الأولى، ونتائج الإصلاح في عامه الأول، والوحدة الاقتصادية التي سار عليها النظام، ومدى الإنتاج.
كل هذه مسائل هامة حضرت لدراستها في مصر قبل أن نُقْدِم على إلغاء النظام القائم في باكستان حتى نفيد من تجارب مصر في هذا النظام.
وسوف أحمل معي كل ما يتعلق بقانون الإصلاح الزراعي في مصر، وسوف نحاول أن نطبقه عندنا في باكستان بعد أن ندخل عليه من التعديلات ما يتلاءم مع حالة بلادنا.
كما أنني دعوت الأستاذ سيد مرعي لزيارة باكستان حتى يساعدنا بآرائه، وقد قبل الدعوة.
وقد اقترح علينا البعض أن نجرب طريقة فرض الضرائب التصاعدية على مُلَّاك الإقطاعيات الزراعية ولكننا فضَّلنا هذه الفكرة، مترسِّمين خطى مصر في ذلك، إذ إننا لا نريد أن ينتظر الفلاح عشرات السنين حتى تئول إليه الأرض، بل نريد أن يشعر من الآن أن الأرض أصبحت أرضه، وأن نعيد إليه العزة والكرامة كما فعل جمال عبد الناصر وجمال سالم في مصر.
ولم تكتفِ حكومة الباكستان بالعمل على تنفيذ الإصلاح الزراعي، ولكنها علاوة على ذلك أعدت برنامجًا شاملًا للنهوض بالقرية ينطوي على ضرورة إعادة بناء الحياة في القرى حتى يتسنى لسكانها أن يحيَوْا حياة ميسورة صحيحة.
وأول ما يرمي إليه هذا البرنامج زيادة وتحسين الإنتاج الزراعي، فقد لوحظ أن الصعاب التي جابهتها البلاد في الماضي كان منشؤها قلة المياه، أو قلة المعلومات عن طرق صناعة أو استخدام الأسمدة أو المخصِّبات الكيماوية بأنواعها أو مقاومة الحشرات بالوسائل الزراعية الحديثة، أو قلة المعلومات عن طرق تحسين التقاوي والمعدات، أو عدم وجود نظام سليم للتسليف الزراعي.
والعناية الصحية أمر مرتبط بمشكلة تحسين الأحوال الزراعية، وذلك لأن سوء الحالة الصحية ينشأ عن تلوث مياه الشرب أو خزانات المياه أو التربة أو البيئة أو عن الحشرات الناقلة للأمراض أو انعدام الغذاء الصحي أو العناية الصحية وأسباب الوقاية من بعض الأمراض أو عدم وجود وسائل التهوية المناسبة. يضاف إلى كل هذا اختفاء التعليم بسبب عجز الناس هناك عن إدراك قيمة التعليم للبنين والبنات أو لقلة المدارس والمدرسين والمعدات.
ومن الأمور التي لا تزال بحاجة إلى العناية في القرية مسألة التدبير المنزلي؛ إذ إن ربة البيت الريفي لا تزال بحاجة إلى من يعلِّمها طرق تدبير شئون بيتها بمصادرها المحدودة، وطرق تقديم وجبات متنوعة من الطعام، وحفظ المأكولات، وتحسين أحوال المعيشة بتجميل البيت، وفصل الحيوانات عن الآدميين، وبناء صوامع منفصلة للغلال.
ومن الأمور الأخرى الهامة في حياة القرية زيادة أسباب التسلية فيها بإدخال الألعاب الرياضية فيها وإنشاء الملاعب وتدريب القرويين على شتى الألعاب وتشجيعهم على متابعة النشاط الرياضي والثقافي، وتهيئة بعض الأعمال الإضافية للقرويين ليزاولوها في أوقات فراغهم، وبذا يتسنى لهم زيادة دخلهم.
وكل هذا هو ما تعمل الحكومة بهمة على إدخاله في المجتمع الزراعي بالباكستان كعلاج لأمراضه المستعصية.