التعليم في باكستان

قبل تقسيم شبه القارة كان أكثر من ٨٠٪ من السكان، وعددهم نحو ٤٠٠ مليون، أمِّيِّين، أما في الباكستان وحدها، وهي التي تحتوي على أكثر مناطق شبه القارة تأخرًا في التعليم، فكانت نسبة المتعلمين منخفضة عن ذلك. ويبلغ عدد المتعلمين — وفقًا لإحصاء عام ١٩٥١ — ١٠٣٧٤٠٠٠، أي ما يعادل ١٣٫٨٪ من مجموع السكان، ولذلك فقد أولت الحكومة مشكلة التعليم عناية فائقة منذ اللحظة الأولى.

وفي نوفمبر من عام ١٩٤٧ دعا وزير المعارف في الحكومة المركزية إلى عقد مؤتمر من وزراء المعارف في حكومات الأقاليم، ونواب مستشاري الجامعات الباكستانية، ومديري التعليم العام، وغيرهم من كبار رجال التربية والتعليم، لإعادة النظر في نظم التعليم الباكستانية وإصلاحها بما يحقق حاجات البلاد وأمانيها، وقد عُني المؤتمر عناية فائقة ببحث كل ما يتعلق بالتعليم، ووافقت الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم وسائر الولايات على قرار المؤتمر بأن تكون المثل العليا الإسلامية هي الأساس الذي يشاد عليه صرح التعليم في الباكستان.

ولم يكد قيام الدولة الباكستانية يتحقق حتى تبينت الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم والولايات أنها تواجه مشكلات خطيرة نشأت عن «التقسيم»، وكان عليها أن تحافظ على مواردها المالية على قلتها لتستطيع تخصيصها لإنشاء القوات الدفاعية ولإقرار ودعم حياة البلاد الاقتصادية، ولاستقبال ذلك العدد الكبير من اللاجئين الذين وفدوا إليها نتيجة التقسيم.

أما فيما يختص بالتعليم فقد كانت المهمة الأولى لهذه الحكومات هي علاج الأضرار الناشئة عن هجرة المعلمين غير المسلمين بالجملة، ومن غلق الكليات والمدارس التى كان مديروها من غير المسلمين، وقبول المدرسين والطلبة القادمين إلى الباكستان من الهند.

وكان من العقبات أيضًا انعدام البيانات الإحصائية المبنية على أرقام دقيقة يمكن الاعتماد عليها.

وعلى الرغم من كل هذه المصاعب ورغم المهام الأخرى الكثيرة التي كان لها علاقة مباشرة بما تمخض عن التقسيم من مشكلات، استطاعت الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم والولايات أن تسير قُدُمًا نحو إصلاح التعليم حتى يلائم احتياجات الباكستان كدولة مستقلة.

إن بعض البلدان التي ضربت في التقدم بسهم وافر تُقدِّم التعليم حتى المرحلة الثانوية مجانًا وإجباريًّا لكل مواطن، ولكن نظرًا لأن موارد الباكستان في المال والرجال الفنيين محدودة للغاية فإنها اكتفت في الوقت الحاضر بتقرير حق كل مواطن في أن يتعلم بالمجان تعليمًا ابتدائيًّا مداه خمس سنوات، كما قررت أن يكون ذلك إجباريًّا.

وحددت حكومة البنغال الشرقية عشر سنوات لهذه الغاية، بينما ترى حكومات البنجاب وإقليم الحدود الشمالية الغربية والمناطق القبلية وبلوجستان وبهالبور أنها بحاجة إلى عشرين عامًا، أما السند فقد طُبِّق فيها هذا النظام فعلًا على حوالي نصف سكان الإقليم، والمظنون أن تعميمه لن يطول أكثر من ست سنوات أخرى، وأما كراتشي فقد أعدت برنامجًا مداه عشر سنوات.

وإن في زيادة المدارس الابتدائية في كافة الأقاليم زيادة سريعة مطردة، وهي الظاهرة التي امتاز بها التعليم بالأقاليم خلال السنوات الخمس الماضية؛ لدليلًا يبرر ما يذهب إليه من يتوقعون أنه في خلال السنوات العشرين القادمة سيكون التعليم الابتدائي المجاني الإجباري قد عمَّ أنحاء الباكستان.

وقد استهدفت باكستان من التعليم الثانوي أن يكون مرحلة مستقلة من مراحل التعليم العام وليس مجرد وسيلة لتغذية التعليم الجامعي كما هو الآن، صحيح أنه سيظل من أهم وظائف هذا التعليم أن يقدم أصلح خريجيه للجامعات، ولكن هدفه الرئيسي سيكون إتاحة الفرصة لأغلبية الطلاب للاشتغال مباشرة بعدد كبير من الحِرَف والمهن التي لا يحتاج المشتغل بها إلى شهادة جامعية.

وتبحث حكومة البنغال الشرقية جديًّا الآن في إنشاء جامعتين جديدتين.

ولم يترك التقسيم للباكستان إلا ثلاث كليات هندسية وبعض المعاهد الصناعية، ولذلك أحس المسئولون بضرورة إصلاح التعليم الفني بالبلاد، ولتحقيق هذه الغاية شكلت الحكومة مجلسًا للتعليم الفني قام بوضع الخطة اللازمة لذلك.

وأنشئت أول مدرسة فنية عالية في كراتشي في يوليه سنة ١٩٥١، وتقدم هذه المدرسة لطلابها تعليمًا عاليًا تغلب عليه التوجيهات والاعتبارات الفنية.

وقد واجهت الباكستان، وهي دولة ناشئة، عقبات جمة في طريق تيسير التعليم للمرأة، ولكنها تغلبت على أكثرها وأصابت تقدمًا ملحوظًا في هذا السبيل، فقد أصبح الآن في البلاد أكثر من عشرة آلاف مدرِّسة مدربة يشرفن على تعليم وتثقيف نحو مليون طالبة وتلميذة.

وقد ارتفع عدد مدارس البنات بنسبة كبيرة، فأصبح منها الآن أكثر من ستة آلاف مدرسة ابتدائية ونحو ألف مدرسة ثانوية و١٠٠ مدرسة للتدريب و١٣ معهدًا فنيًّا، علاوة على ١١٧ مدرسة عليا و١٣ كلية.

وعلاوة على ذلك فإن نظام الجمع بين الجنسين يُطبَّق في كليات وجامعات الباكستان وخاصة في كليات العلوم، ويبدو من الإحصائيات أن فتيات الباكستان يفضلن بوجه خاصٍّ دراسة السياسة والعلوم المنزلية والاقتصاد والتاريخ واللغات الحديثة والآداب والموسيقى وعلم النفس الخاص بالأطفال.

وفي الباكستان أيضًا عدد من المؤسسات العلمية الممتازة التابعة للإرساليات المسيحية تساهم الحكومة في نفقاتها وتشرف عليها الراهبات، وقد أرسلت الحكومة على نفقتها عددًا من الفتيات لإكمال دراستهن العليا في الجامعات الأجنبية.

ولعل أعظم عمل يُسجَّل لحكومة الباكستان هو فرض نظام التعليم الإجباري للجنسين من سن ٦ سنوات إلى سن ١١ سنة.

ولما كانت مشكلة النقص في عدد الأطباء والممرضات والمستشفيات من بين المشاكل الخطيرة التي واجهتها الباكستان عند تأسيسها، فقد تكاتفت الأيدي للعمل على الخلاص من هذه المشكلة وكان التعليم هو الوسيلة الفعالة لذلك، فقد أُنشئت خمس كليات للطب من بينها كلية «فاطمة جناح» المخصصة للبنات، وقد التحق عدد كبير من الطالبات بجميع هذه الكليات كما أُرسل قليلٌ منهن لإكمال دراستهن الطبية والجراحية في الجامعات الأجنبية.

وقد أنشئ في مختلف أنحاء البلاد عدد من المعاهد لتخريج الممرضات والقابلات، وأنشئت لجنة خاصة برياسة فاطمة جناح لرعاية الطفولة، وقد ساهمت نساء الباكستان مساهمة فعالة في الجهود التي بذلتها الحكومة والمؤسسات الدولية الأخرى لمكافحة الأمية والأمراض.

زيارة لجامعة بشاور

وقد كان من أجمل الزيارات التي قمنا بها في باكستان زيارة جامعة بشاور الحديثة، وكان من المصادفات الحسنة أن نسعد بلقاء أستاذٍ مصريٍّ كريم هو الدكتور عبد المحسن الحسيني الذي يرأس قسم اللغة العربية في تلك الجامعة.

وقد حدثنا الدكتور الحسيني عن جامعة بشاور بما يلي:
جامعة بشاور هي أحدث جامعات الباكستان، افتُتحت رسميًّا في أكتوبر ١٩٥٠، وتولى افتتاحها رئيس وزراء الحكومة المركزية الراحل شهيد الملة لياقت علي خان. والمقصود بجامعة «بشاور» هو مجموعة الدراسات العالية بعد درجة الليسانس أو البكالوريوس، لأن بشاور كان بها قبل افتتاح الجامعة الكلية الإسلامية التي أُسِّست سنة ١٩١٣ وكانت تخرِّج حتى درجة الليسانس والبكالوريوس، وكانت هذه الكلية تابعة لجامعة البنجاب، فاعتبرت هذه الكلية نواة للجامعة، وأنشئت الدراسات العليا في الجامعة في عام ١٩٥٠، وليست الكلية الإسلامية هي الكلية الوحيدة التي تتبع جامعة بشاور بل هناك كليات أخرى في بعض بلدان ولاية الحدود N. W. F. P. بها كليات تابعة لجامعة بشاور، مثل مردان وبنو وديره إسماعيل خان وأبوت أباد.

وفي بشاور نفسها كليتان من الكليات الخاصة تتبعان جامعة بشاور: الأولى هي كلية البنات لأن التعليم الجامعي حتى الليسانس غير مختلط، والكلية الثانية هي كلية إدوارد وهي كلية مسيحية كانت تقوم مناظِرة للكلية الإسلامية، وكلية إدوارد كان يقوم على إدارتها المرسلون المسيحيون. ومن هذه الكليات جميعًا تكونت جامعة بشاور.

أما الدراسات العالية بجامعة بشاور فقد أُنشئت في الفروع الآتية حيث خُصِّص لكل فرع قسمٌ به: اللغة الإنجليزية، اللغة العربية، الاقتصاد السياسي، التربية والتعليم، الرياضة والهندسة. فهذه هي الأقسام التي أُنشئت حتى الآن، وفي كل عام ينشأ قسم جديد، وفي العام القادم سيُفتح قسم البشتو وهي لغة ولاية الحدود وبعض بلاد أفغانستان ويتكلمها ١٤ مليونًا. والدرجات الموجودة التي تمنحها الجامعة حتى الآن هي درجة الماجستير، وبعد سنتين أو ثلاث ستكون هناك درجات في الدكتوراه.

وجامعة بشاور توجد خارج حدود مدينة بشاور على الطريق بين بشاور وممر خيبر، وتبعد عن المدينة مسافة تتراوح بين خمسة أو ستة أميال تقريبًا، وعن خيبر سبعة أميال تقريبًا. ومنطقة الجامعة ومنطقة الكلية الإسلامية هي منطقة مربعة تقريبًا طول ضلعها ميلان، ويتكون قسم منها من المباني القديمة للكلية الإسلامية والقسم الآخر هو المباني الحديثة للجامعة والكلية، والأساتذة يسكنون في هذه المنطقة بعيدًا عن المدينة في عزلة تكاد تكون تامة فالمواصلات بين المدينة والجامعة بعد الغروب تكاد تكون مقطوعة تمامًا، وفي أثناء النهار لا يتعدى الاتصال عشر رحلات للأوتوبيس بمعدل رحلة في كل ساعة، أما في أيام العطلات فهي أربع فقط.

وقد أنشئ قسم اللغة العربية بجامعة بشاور في سبتمبر ١٩٥٢، وتولى أعماله الدكتور عبد المحسن الحسيني بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية. وقد بدأ القسم بالسنة الأولى من الماجستير، وفي عام ١٩٥٣ تخرجت أول دفعة من طلبة الدراسات العالية. وقسم اللغة العربية هو فرع من كلية الدراسات الشرقية التي تضم اللغة الأوروبية، اللغة الفارسية، لغة البشتو. ويتولى الدكتور عبد المحسن عمادة هذه الكلية منذ أول يناير ١٩٥٣، وفي أول يناير من كل عام ينتخب أعضاء الكلية عميدًا لهم مدة العام الميلادي.

ومنهج الدراسة في قسم اللغة العربية بجامعة بشاور يختلف عن غيره من المناهج في جامعات الباكستان الأخرى، فقد وُجِّه توجيهًا جديدًا يكفل لجامعة بشاور أن تكون في الصف الأول بالنسبة لجامعات الباكستان في هذا النوع من التخصص. كما حرص الدكتور الحسيني على أن يكون القسم على اتصال قويٍّ بالأدب العربي والثقافة العربية بمصر والبلاد العربية. وقد وضعت الأموال لوصل الدراسة العربية في الباكستان بالدراسات الدينية بمصر، كما أُعدَّت الخطط للاستعانة بالأساتذة المصريين في هذا الصدد حتى تتوطد أواصر الصداقة والصلات بين البلدين.

وقد بدا لي أن أسأل الدكتور الحسيني عما لمسه من فروق بين الطالب المصري والطالب الباكستاني بعد أن خَبَر الاثنين فقال:

الفرق بين الطالب المصري والطالب الباكستاني هو الفرق بين عمر مصر وعمر الباكستان؛ فمصر أمة أكبر عمرًا من الباكستان وأكثر تجربة في الحياة، وأما الباكستان فقد وُلدت منذ سنوات قليلة فقط، ومصر أمة تعيش على تقاليد موروثة وثقافة متصلة، وأما الباكستان فهي تبدأ في تأسيس ثقافتها وحضارتها ومقومات شخصيتها.

ولذلك فإن وعي الطالب المصري أقوى وأعمق من وعي الطالب في الباكستان، فهو يعرف نفسه ويعرف أمته ويعرف ثقافته ويحس بها جميعًا وبموقعها من العالم، وأما الطالب الباكستاني فهو يتلمَّس هذه الخصائص التي يحسها غامضة في نفسه.

figure
جامعة بشاور.

ولا يحس بالعالم إلا أنه يعيش في بقعة منعزلة عنه، فطابع شبه جزيرة الهند الذي فرض العزلة على سكانها يجعل الطالب الهندي عامة والباكستاني خاصة بمعزل عن التيارات الثقافية والحضارية في العالم.

والفارق الثاني بين الطالب المصري والطالب الباكستاني هو فرق ما بين ثقافة مصر وثقافة الهند والباكستان قبل التقسيم، فأهداف السياسة الإنجليزية في التعليم غير خافية فقد كان كل غرضها أن تُخرِّج موظفين للدولة لا أن تكوِّن عقولًا مستقلة.

وأستطيع أن أقول: إن الثقافة المصرية في جملتها تهدف إلى تكوين المواطن الصالح، وأما الثقافة الإنجليزية التي فُرضت على الهند والباكستان فقد كانت تهدف إلى تخريج الموظف الصالح أي المطيع! وكان من أثر ذلك أن دراسة العلوم الإنسانية في جامعات الباكستان لا تحل محلًّا لائقًا بها، كما أن دراسة العلوم الاجتماعية لا تبذل لها أية عناية، والقدر الذي يوجد منها يبتعد عن حقيقة الدراسة الاجتماعية، فالتاريخ مثلًا يتجه في أكثر الأحيان لدراسة تاريخ إنجلترا، والجغرافيا تعتبر مادة من مواد كلية العلوم، أي إنها تدرس في ضوء المناهج التي تدرس بها العلوم وليست التي تدرس بها المواد الاجتماعية. والفلسفة لا تُعنى بالفروق بين المذاهب والمدارس وغير ذلك، وأما علم النفس فهو نوع من التربية.

وأما الفرق الثالث بين الطالب المصري والطالب الباكستاني فهو فرق ما بين السياسة الاجتماعية في الباكستان ومصر، فالسياسة الاجتماعية في مصر تتجه نحو الحضارة الأوروبية والتقدم الأوروبي، وأما في الباكستان فيرون أن النظم الاجتماعية والحضارة في أوروبا ذات طابع «بورجوازي»، وهم يريدون أن يكون طابع الثقافة والمجتمع في الباكستان طابعًا شعبيًّا، وفي هذه الحدود تتجه سياسة التعليم كما علمت من وزير المعارف في ولاية الحدود، وكان من أثر هذه السياسة أن الطلبة والطالبات يلبسون هنا — في الغالبية — الملابس الشعبية أو البلدية ولا يلبسون الملابس الإفرنجية، ووزير المعارف يُرى في أكثر الأحيان بالملابس الوطنية ولا يلبس الملابس الإفرنجية إلا نادرًا.

وكذلك النظام في الطعام والمسكن وغير ذلك فإنه يتجه اتجاهًا وطنيًّا، وخاصة لأن البضائع الإفرنجية غالية جدًّا في باكستان غلاءً يفوق حد التصور في بعض الأحيان. ولما كانت المرأة هي التي تشجع أكثر البضائع الإفرنجية وتعتمد عليها فإننا نجد الطالبة الباكستانية قد استغنت عن الملابس الأوروبية وأدوات الزينة الأوروبية، فهي تحتفظ بحجابها حتى في الجامعة وفي قاعة الدرس، وهي تلبس الملابس الوطنية التي تستر جميع الجسم من قمة الرأس إلى أخمص القدم وتسدل على وجهها حجابًا كثيفًا، وأغلب ملابسها من القطن والأقمشة الرخيصة، ولباس الطالب هو القميص الإفرنجي والسروال الطويل المصنوع من البفتة والصندل.

فحياة الطالب في الباكستان أكثر تقشفًا من حياة الطالب في مصر، ومشاكله الاجتماعية أقل من مشاكل الطالب في مصر، والتدخين والسينما يُنظر إليهما نظرات غير مرضية، حتى تناول الطعام بالشوكة والسكين غير مألوف في الحياة العامة.

والطالب الباكستاني في غير العلوم الاجتماعية والإنسانية أقوى من الطالب المصري وأكثر عمقًا، فهو يدرس العلوم البحتة واللغات دراسة عميقة ولا يُعنِّي نفسه بمشاكل الثقافة أو السياسة أو الاجتماع التي تهدف إليها هذه العلوم وإنما هو يدرس العلوم نفسها دراسة عميقة، فهو عقل يُعنى بالوسائل دون الغايات وهو يجيد الوسائل أكثر من إجادة الطالب المصري، وإن كان الطالب المصري يدرك الغايات أكثر من إدراك الطالب الباكستاني.

ومشاكل العقل الباكستاني مشاكل اقتصادية أكثر منها اجتماعية أو فنية أو سياسية، والمشكلة الأولى التي تكافحها الباكستان هي مشكلة الجوع، وقد لاحظنا أن مدير الجامعة كان يتكلم مرة عن الحرية والديمقراطية فردد عبارة Free from Hunger أو «التحرر من الجوع»، ولا أدري هل السبب في ذلك هو المجاعات التي تتعرض لها الهند والباكستان دائمًا بسبب الجفاف وقسوة العوامل الطبيعية وتغيرها أو هو النظام الاقتصادي الذي فرضه الإنجليز على الباكستان والذي جعل المشكلة الأولى في الباكستان هي مشكلة الاقتصاد ثم ربطهم فيها بالكومنولث؟ ويكفي في هذا أن تعلم الشخص العادي في الباكستان قد لا يجد ما يكفيه من الخبز في بعض الأحيان، ولقد سمعت عن مشاكل جامعية قامت بسبب نصيب كل طالب من الدقيق، فقد أضرب الطلبة في بعض المعاهد طلبًا لرفع المقررات لأن ما يأخذه الطالب لا يكفي طعامًا له. وإذا كان ما يأخذه الأستاذ هو ثلاثة أمثال ما يأخذه الطالب، ويكاد يكون هو القدر المعقول الذي يكفي شخصًا عاديًّا، فلا أدري كيف يتصرف الطلبة!
وقد ظهرت مشكلة الجوع على أشدها في عام ١٩٥٣، ولكن هي مشكلة تعاود الهند والباكستان من وقت لآخر حتى علَّمت القوم الادخار والاحتياط، وجعلت المعايير هناك معايير اقتصادية قبل كل شيء، فالمثالية والمروءة التي نألفها في مصر والبلاد العربية لا توجد في باكستان ويوجد بدلها واقعية واحتياط شديد وإمساك، ولهذا كان هدف التعليم فيها اقتصاديًّا للكسب وليس هدفًا مثاليًّا لرفع إنسانية الإنسان وعقله، ولهذا تعجب في الجامعة للأعداد الضخمة التي تُقبل على دراسة الحقوق لأنها الطريق إلى وظائف الحكومة، ولقد سمعت من بعض الناس مثلًا عندهم يقول Law means money أي دراسة القانون معناها الثروة.

والطالب الباكستاني يُعنى بالرياضة البدنية عناية عظيمة وهذا من أثر التوجيه الإنجليزي، فالتربية الإنجليزية تهدف إلى تكوين جسم قويٍّ ينفع في الجيش وإن كانت لا تُعنى بالعقل الذي يصرِّف أمور هذا الجسم. وتوضع الرياضة في باكستان في موضع خاصٍّ يؤثر في مجرى الحياة العامة، ومن طريف ما يُذكر في ذلك أننا أعلنَّا عن حاجتنا إلى مدرس في قسم اللغة العربية فكان مما أثار دهشتي أن أعثر بين الطلبات التي قدمها الراغبون في هذه الوظيفة على طلبات كثيرة يذكر أصحابها من قبيل المؤهلات أنهم يجيدون لعب الهوكي أو البولو أو غير ذلك فكنت أعجب من هذه المؤهلات! وقد كنت عضوًا في لجنة من اللجان لاختيار أستاذ للتاريخ في بعض الكليات فوجدت من بين الأسئلة التي وُضعت أمام راغب الوظيفة: أي لعبة من الألعاب الرياضية تلعب؟

والطلبة الذين يجيدون الألعاب الرياضية وذوو الأجسام القوية يعاملون معاملة خاصة، فهم يؤخذون لمدرسة من بين مدارس الكلية اسمها Pre Cadet Wing، وهي مدرسة عسكرية تقوم مقام التدريب العسكري لطلبة الجامعة وهم يعيشون فيها معيشة عسكرية في حدود النظام العسكري ويتلقون تعليمهم الجامعي، حتى إذا أتموا المرحلة الجامعية يكونون قد أتموا المرحلة العسكرية ويتخرجون ضباطًا في الجيش.

والطالب العادي يُنفَق على طعامه وسكنه وغير ذلك ٢٥ روبية في الشهر وأما الطالب في هذه المدرسة فيُنفَق عليه ٨٠ روبية، وتحدث في بعض الأحيان مشادات بين طلبة هذه المدرسة وبقية الطلبة نظرًا لما يتمتعون به من امتيازات يُحْرم منها الباقون. غير أن الذي يُلاحظ أن مستوى الرياضة بين طلبة الباكستان أعلى بكثير من مستواها بين الطلبة في مصر.

ومن الأمثلة الرائعة لليقظة العلمية والأدبية في باكستان حلقات «المشاعرة» التي يمكن اعتبارها امتدادًا لأسواق العرب الأدبية، وهي حلقات لا تجدها في غير باكستان. وقد بدأت حلقات المشاعرة بالجلسات الخاصة التي كانت تنعقد في قصور الأمراء والعظماء والأدباء، ثم انتقلت إلى المجالس العامة والندوات الشعبية.

وقد اشتُهرت مجالس المشاعرة في الهند في عهد السلطان أكبر المغولي الذي وطَّد دعائم الحضارة الإسلامية في شبه القارة، وقد أنشأ هذا الملك حلقة خاصة للشعراء، متشبهًا في ذلك بالخلفاء وأمراء المسلمين، وكان يُجْزل العطاء لأصحاب القصائد التي تنال استحسانه.

وقد ظلت مجالس المشاعرة في الهند قاصرة على الجماعات الإسلامية مما جعلها من مميزات المسلمين، ولذلك كان من الطبيعي أن تنتقل إلى باكستان بعد تأليفها مع ما انتقل إليها من التراث الإسلامي.

وتعقد اليوم في كراتشي، عاصمة باكستان، وغيرها من المدن الكبرى مثل لاهور وداكا وغيرها، حلقات «المشاعرة» تحت رعاية الدولة التي تشجعها باستمرار.

أما قبل التقسيم فقد كانت الرابطة الإسلامية هي التي تتولى تنظيم المشاعرة، وكان القائد الأعظم محمد علي جناح من أكبر مشجعي حلقات المشاعرة، ولم ينقطع عن الاشتراك فيها حتى بعد أن تولى مقاليد الحكم.

وكذلك شاعر الباكستان الخالد «محمد إقبال» كان أول ظهوره في حلقات المشاعرة بلاهور، وكانت هذه الحلقات سببًا من أسباب شهرته الكبيرة، إذ سهَّلت اتصاله بالجمهور كما قرَّبت إليه هؤلاء القوم البسطاء الذين كان يحبهم.

ويهتم الجمهور اهتمامًا كبيرًا بحلقات المشاعرة، وتعلن الصحف عن مواعيدها كما تنشر وصفًا كاملًا لهذه الحلقات، وتُعقَد مجالس المشاعرة عادة في مكان فسيح يتسع للجماهير وقد يكون صحن أحد المساجد الكبرى في المدينة أو مكانًا عامًّا آخر، وتقام منصة عالية للشعراء أما الجمهور فيجلس على الأرض التي تُفْرَش بالأبسطة، ويتعاقب الشعراء بعد ذلك أمام الجمهور الذي يتذوق ما يقدم له من شعر أو شعر منثور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤