العربية في باكستان
عندما تتجول في طرقات كراتشي عاصمة الباكستان أو طرقات أي مدينة أخرى هناك، تلفت نظرك تلك اللافتات المكتوبة بأحرف عربية، ولكنك لا تكاد تقرأ هذه اللافتات حتى تكتشف أنك لا تفهم منها شيئًا …
وتتساءل بعد ذلك: إذن فما هذه الأحرف العربية؟
فيكون جواب تساؤلك: إنها اللغة الأوردية أو «الأوردو» …
ولغة الأوردو خليط من لغات مختلفة أهمها اللغة العربية، وقد بلغت نسبة الكلمات العربية في الأوردو حسب آخر إحصاء نحو ٤٠٪ من مجموع كلمات هذه اللغة …
أما باقي اللغات التي تتكون منها الأوردو فهي: السنسكريت، والإيرانية، والتركية، والأتيوبية، والإنجليزية!
وتُكْتب الأوردو بأحرف عربية …
وهذه اللافتات إلى جانب طرافتها من الوجهة اللغوية ترسم للقارئ صورة عن النشاط التجاري والصناعي في باكستان.
ولو دقَّق القارئ النظر فيها للاحظ أن اللغتين «الأوردو» والإنجليزية قد اختلطتا حتى أصبحت الكلمات الإنجليزية تُنقل كما هي إلى الأوردو.
وتعاني اللغة الإنجليزية «بهدلة» عامة في جميع اللافتات، فلا تكاد تخلو جملة واحدة من خطأ في الهجاء!
وإلى جانب «الأوردو» في باكستان توجد اللغة السندية ويتحدث بها الناس في ولاية السند، واللغة البنجابية ويتحدث بها الناس في ولاية البنجاب، ولغة «البشتو» ويتحدث بها الناس في الأقاليم الشمالية، واللغة البنغالية ويتحدث بها الناس في شرق باكستان الذي يتكون من ولاية البنغال …
وقد دار البحث أخيرًا في نشر اللغة العربية وتعليمها في باكستان، ووجدت الفكرة ترحيبًا كبيرًا نظرًا للتشابه الواضح بين الأوردو واللغة العربية …
ومن الطريف أن أهم صحف باكستان تصدر باللغة الإنجليزية، أما الصحف التي تصدر بالأوردو فأضعف بكثير من الصحف الإنجليزية …
ومع ذلك فقد أخذت باكستان منذ نشأتها تُعنى عناية فائقة بنشر الثقافة الإسلامية والعمل على توثيق الصلات الروحية والثقافية بينها وبين الدول الإسلامية الأخرى.
وقد أتى على العالم الإسلامي حينٌ من الدهر كانت تمتد حدوده من شمال الأندلس وشواطئ المحيط الأطلسي غربًا إلى بلاد تركستان شرقًا، وكانت اللغة السائدة فيه هي اللغة العربية، ثم حدثت نكسة صاحبت الاستعمار الأوروبي، الأمر الذي تأخرت معه الدراسات العربية والإسلامية في بعض أجزاء هذا العالم الإسلامي وأُهملت إهمالًا يكاد يكون تامًّا في أجزاء أخرى، وخاصة في شبه القارة الهندية.
واستمر ذلك إلى أن بدأت النهضة الأخيرة في مختلف دول العالم الإسلامي حين أخذ سكان العالم يحسون باليقظة وبالوعي الجديد وبضرورة العناية بماضيهم وإحياء هذه الدراسات.
والباكستان بوجهٍ خاصٍّ تحس بهذه الضرورة إحساسًا قويًّا لأنها قامت على أساس الدين والغالبية العظمى من سكانها يدينون بالدين الإسلامي، وهي ترغب — حكومة وشعبًا — في أن تقيم علاقات الود والصداقة بينها وبين الدول الإسلامية الأخرى على أساسٍ قويٍّ متين، وليس أقوى ولا أمتن من أن تعمل على إحياء الدراسات الإسلامية، ومن أن تعمل على العناية باللغة العربية وتعليمها ونشرها لتعيد لها مكانتها الأولى، فقد كانت في وقت ما لغة العلم والثقافة والتأليف في الهند الإسلامية.
ولما كانت الباكستان تحس بالحاجة القوية إلى اللغة العربية فقد جعلتها مادة إجبارية في المدارس بعد أن كانت في العهد الماضي مادة اختيارية، وذلك لأنها هي صلة الاتصال التي تربطها بالعالم العربي والإسلامي في الشرق الأوسط، فبعد أن انفصلت عن الهند أصبحت تولِّي وجهها شطر البلاد العربية وخاصة مصر، وأحست بالحاجة الشديدة إلى تفهم اللغة العربية ودراستها فأقبلت تعمل على ذلك بجدٍّ وعزيمة.
- الأولى: وهي الطريقة القديمة، وكانت الغاية منها هي دراسة الدين الإسلامي، وكانت هذه الطريقة على نسق الطريقة المتبعة في الأزهر قديمًا منذ ثلاثمائة سنة تقريبًا، وهي طريقة القسم العام بالأزهر. وكانت هذه الدراسة تقف عند مستوى العالِمية، أي إنه لم يكن فيها مجال للبحث والتطويل فهي تحصيلٌ فقط يقف دون مرحلة البحث، والمتعلمون بهذه الطريقة كانوا يعرفون العربية لغة ولكنهم لا يعرفون اللغة العربية ثقافة، أي إنهم يستطيعون فهم اللغة العربية وقراءة الكتب وخاصة القديم منها ولكنهم لا يعرفون الكثير من الثقافة العربية وتاريخ اللغة العربية وتاريخ العالم العربي وتاريخ الأدب العربي، وكانت معرفتهم للغة محدودة كذلك في نطاق الطرق القديمة، أي إنهم يفهمون اللغة ولكن لا يستطيعون التحرير أو الكتابة بها. وكانت تقوم بهذه الطريقة المدارس الدينية التي كان يقبل عليها الشعب.
- الطريقة الثانية: وهي الطريقة التي كانت متبعة في الجامعات النظامية، وكانت اللغة العربية تُدرَّس على أساس هذه الطريقة باللغة الإنجليزية، وكان يقوم على أقسام اللغة الدينية في بعض هذه الجامعات أساتذة إنجليز أو مستشرقون. وكان الدارس على هذه الطريقة يعرف الثقافة العربية خلال النظرة الإنجليزية أو الأوروبية، فهو يعرف الأدب العربي وتاريخ الحضارة الإسلامية وتاريخ الفكر الإسلامي، ولكن مقدرته في اللغة العربية ظلت قاصرة على فهم النص العربي القديم من كتب التاريخ أو الأدب، فاللغة العربية بهذه الطريقة كانت تُعامَل معاملة اللغة اللاتينية أو اليونانية في الجامعات الأوروبية.
والطريقتان كانتا تُعنيان بالنصوص القديمة، فالكتب التي تُدرس هي الكتب التي استوفت حظها من القدم، أما الكتب الجديدة فلا يعلمون عنها شيئًا، فكانت تُدرس المعلقات وديوان الحماسة والمتنبي والكامل وفتوح البلدان وغير ذلك، أما الأدب الحديث والإنتاج الحديث في اللغة العربية فلم يكن معروفًا هناك.
ونحن نحاول الآن في طريقتنا الحديثة أن تكون دراسة اللغة العربية دراسة للفكر العربي والثقافة العربية، كما تكون دراسة للغة نفسها. وتكون الدراسة بحثًا ونظرًا ونقدًا، وتكون دراسة للغةٍ لها أدبها وكتبها وصحفها لا للغة ميتة موجودة في بطون الكتب فحسب، ولذلك نولي عناية خاصة للتحرير والبحث والنقد باللغة العربية نفسها لا باللغة الإنجليزية التي هي الآن لغة التدريس في الجامعة.
وهذه الطريقة يتوقف نجاحها على شيئين إن توافرا أصابت نجاحًا، وهذان الشيئان هما: الاستعانة ببعض المدرسين من البلاد العربية وخاصة مصر، ممن يستطيعون أن ينهضوا بهذه الطريقة الجديدة، وإعداد المدرسين الباكستانيين سواء من تخرج منهم على الطريقة القديمة أو طريقة الجامعات، ليكونوا أهلًا لحمل أعباء الطريقة الجديدة ونشرها. والمسألة الأولى تقف العقبات المالية دونها، وإن كنا نحاول تذليلها في حدود ضيقة فقط للظروف الاقتصادية السائدة في الباكستان، وأما المسألة الثانية فهي أصعب من الأولى فأصحاب الطريقة القديمة يريدون المحافظة عليها، خاصة وأنهم يجدون صعوبة في اصطناع الطريقة الجديدة، فكلما أحسوا صعوبة نزعوا إلى الطريقة القديمة.
هذا إلى أن بعضهم يرى أن الطريقة الجديدة ستفتح الباب لدخول مزاحمٍ لهم يحسون فيه خطرًا غامضًا يتخوفون منه، وإذا نجحنا في أن نحمل دارس العربية في الباكستان على اصطناع الطريقة الجديدة فقد ضمنَّا مستقبلًا قويًّا للعربية في الباكستان.
والطريقة في تيسير السبيل أمام الذين يقومون على تدريس اللغة العربية في الباكستان لكي يصطفوا الطريقة الحديثة، هي أن تعقد صلة قوية بينهم وبين البلاد العربية وخاصة مصر، وطريقة ذلك هي تيسير السبل أمامهم لزيارة مصر والإقامة فيها بعض الوقت، ولكن تحول دون ذلك العقبات المالية أيضًا. وحبذا لو اهتدى أولو الأمر إلى طريقة يوفرون بها لهؤلاء هذه الفرصة في حدود اقتصادياتهم المحدودة، وحبذا لو شجعت مصر أمثال هؤلاء ببعض وسائل التشجيع.
وقد تطورت اليقظة الجديدة في شعب الباكستان ورغب المتعلمون منه في أن يأخذوا أصول هذه اللغة من مصادرها، وكان أن وفدت إلى مصر في عام ١٩٥١ بعثة من عشرة طلاب بدعوة من الحكومة المصرية وُزِّعوا على مختلف كليات الجامعة الأزهرية، وهؤلاء الطلاب هم خير رسل لحمل لواء اللغة العربية إلى بلادهم النائية، واختلاطهم بزملائهم المصريين وغيرهم من العرب كفيل بتوثيق عرى الصداقة والتعارف بين هذه الشعوب جميعها.
ويتوقف مستقبل اللغة العربية في الباكستان على الكتب أيضًا، فالكتب العربية والجرائد والمجلات إنما مركزها الأساسي في البلاد العربية، وفي سبيل الحصول على النصوص العربية والكتب العربية نجد عناءً شديدًا، وذلك لخضوع شراء الكتب والمجلات لنظام الاستيراد، ولأن الصلة بين باعة الكتب في الباكستان وإخوانهم في مصر تكاد تكون غير موجودة.
وباعة الكتب في مصر لا يفكرون في فتح ميادين جديدة في الباكستان، بينما نجد المجهودات التي يقوم بها الناشرون الإنجليز والأمريكان في نشر كتبهم في الباكستان منطوية على كثير من البذل والتضحية، وأظن أن الزمن لم يأتِ بعدُ حتى يدرك باعة كتبنا أهمية الدور الذي يقومون به في نشر الثقافة العربية وأهمية الأدب والثقافة كوسيلة من وسائل الاتصال بين الشعوب.
وإذا كان باعة الكتب عندنا لا يدركون مثل هذا فيا حبذا لو عُنيت الجهات المسئولة بإنشاء إدارة خاصة في هيئة علمية أو في وزارة التربية والتعليم يكون من واجبها القيام بالدور الذي يعجز عنه باعة الكتب، في سبيل تحقيق رسالة الثقافة العربية في البلاد النائية وإيجاد طريقة لتزويدها بالكتب والمؤلفات ولو باستعمال كوبونات «يونسكو» أو غيرها من الطرق.
ومن الأدلة على اهتمام الباكستان باللغة العربية ذلك المؤتمر الذي عُقد بمدينة بشاور عاصمة إقليم الحدود الشمالية الغربية بالباكستان من ٢٨ إلى ٣٠ أبريل من عام ١٩٥٤، واشترك فيه عدد كبير من علماء الباكستان وأساتذة جامعتها المتخصصين في الدراسات العربية والإسلامية. وقد اشترك فيه أستاذان أحدهما الدكتور جمال الدين الشيال مندوب جامعة الإسكندرية، وثانيهما الأستاذ أمين المصري الملحق الثقافي لجمهورية سوريا بالباكستان، وتولى رئاسة المؤتمر الدكتور عبد الوهاب عزام سفير مصر في الباكستان وقتذاك.
- (١)
القيم الاقتصادية والسياسية للعناية بدراسة اللغة العربية في الباكستان.
- (٢)
وجوب إعادة تنظيم الطرق الخاصة لتدريس اللغة العربية على أسس من النظم التربوية الحديثة.
- (٣)
فشل الطرق القديمة المتبعة في تعليم اللغة العربية في الباكستان لاعتمادها كليةً على الترجمة، ولعنايتها الكبرى بالدراسات النحوية العتيقة.
- (٤)
المطالبة بإنشاء المعاهد في المدن الباكستانية الكبرى لتدريس اللغة العربية.