مولد دولة جديدة
شهد فجر القرن الثامن عشر الميلادي بداية النهاية للحكم المغولي في شبه القارة الهندية، وذلك بعد أن أُرسيت تقاليد الإسلام وثقافته في هذه الأرجاء الواسعة. وقد أعقب هذه النهاية انهيار في القوة السياسية وتفكك في عُرى الوحدة، ونشأت حالة من الفوضى مهدت لقوة أجنبية طريق حكم البلاد، ونتج عن هذا أن عملت شركة الهند الشرقية على إقامة إمبراطورية هناك تسلمتها منها بعد زمن وجيز بريطانيا العظمى.
وكانت آخر محاولة قام بها مسلمو شبه القارة لاستعادة مراكزهم تلك المحاولة التي ظهرت في عام ١٨٥٧ والتي أطلق عليها بعض المؤرخين بلا حقٍّ حركة «العصيان الهندي»، وقد نتج عن هذه الحركة تحطيم قوة المسلمين السياسية والاقتصادية، وخلا الجو للإمبراطورية الهندية البريطانية التي عرفت كيف تبسط سلطانها على البلاد بقوة وبعزم.
وكان من نتيجة هذه السياسة أن قاسى المسلمون كثيرًا، وكان عليهم والحالة هذه أن يبتعدوا عن البريطانيين بل وأن يقاطعوهم.
هذا هو الموقف الذي واجه السيد أحمد خان عام ١٨٥٨، وهذا هو الوضع الذي ظل قرابة أربعين سنة من بعده، ولكن أحمد خان رأى بثاقب فكره أن هذه السياسة التي يتبعها المسلمون لن تؤدي إلى غاية، وأن مما يدعو المسلمين لأن يجاهدوا في سبيل بقائهم وكيانهم وجوب تزودهم بكل ما تنطوي عليه الحضارة الأوربية الغازية، وكان أن بذل جهوده لتعليم الشعب وتدريب الشبيبة المسلمة على المساهمة في تحديد الهدف السياسي والاقتصادي.
وكان أول عمل قام به السيد أحمد أن بذل جهودًا مشكورة في خلق جوٍّ من التفاهم بين الطوائف المختلفة بالهند، وفي عام ١٨٨٥ ظهر حزب المؤتمر الهندي وأخذ السيد أحمد يرقبه عن بعد طوال ثلاث سنين، انتهى بعدها إلى الحكم عليه بضيق أفقه، وفي هذه الأثناء ثار جدال حول استعمال اللغة الأوردية واللغة الهندية، وتأثر السيد أحمد خان بما رآه من تنافر بين الحضارتين الإسلامية والهندية، وأدرك — وكان أول من أدرك — أنهما حضارتان منفصلتان ليس بينهما تقارب أو تماثل.
وكان يعرف أن تنافرهما لا يقتصر على اللغة بل يتعداه إلى الميدان السياسي والاقتصادي والثقافي كذلك. وعلى هذا يمكن أن يقال إن السيد خان كان أول من فكر في وجوب إقامة دولة وأمة منفصلة تضم المسلمين وتبتعد عن الهندوس، وعلى هذا أيضًا يمكن أن يقال إن السيد أحمد خان كان أول باكستانيٍّ.
وبعد أن استأثرت رحمة الله بالسيد أحمد خان قام نواب محسن الملك ونواب وقار الملك فتزعما المسلمين في حركاتهم السياسية، وكان أول عمل لهما أن أبديا استنكارهما للسياسة اللغوية في البلاد.
وكان من أثر هذا التحدي الذي لمسه المسلمون من الأغلبية أن تيقظ الوعي القومي بينهم وسرت فيهم موجة كبيرة من النشاط والعمل، وتنبه المسلمون إلى ضرورة إنشاء وطن خاصٍّ بهم يستطيعون فيه أن يكْفُلُوا مصالحهم، وتركزت كل جهودهم في تنظيم صفوفهم، وبدا ذلك بوضوح في عليكرة عام ١٩٠١.
وكانت الأحداث تسير بسرعة … ولكي يُرضي البريطانيون المسلمين ويخففوا بعض ما يلاقونه قرروا في يوليه ١٩٠٥ تقسيم البنغال، ومع أنه كان في هذا العمل ترضية للمسلمين وردُّ بعض الحق والإنصاف إليهم، إلا أنه سرعان ما أُلغي هذا القرار في عام ١٩١١، وهنا أخذ الهندوس في ضم صفوفهم لتنظيم المعارضة. وقد أتاح تقسيم البنغال للمسلمين في شرقيِّها فرصًا جديدة رحبوا بها، ولكن معارضة الهندوس كانت شديدة. وكان أن اضطربت النفوس، واضطر المسلمون الذي كانوا مبتعدين عن الجو السياسي إلى أن يُقْلِعوا عن هذه السياسة، ولما زاد الهياج في الخواطر اضطروا إلى أن يوفدوا وفدًا منهم للورد منتو ﺑ «سملا»، وكان ذلك في أول أكتوبر عام ١٩٠٦، ونجح الوفد في استخلاص بعض الدوائر الانتخابية الخاصة بالمسلمين. وكان هذا الوفد من أقوى الوفود التي اتصلت بحكومة الهند، وكان مكونًا من ٣٦ عضوًا يمثلون كل الأقاليم وكل الطبقات المتعلمة، وكان مطلبه الأول من الحكومة السماح للمسلمين بتمثيل أنفسهم في إدارة البلاد والاعتراف بمركزهم بوصفهم فئة مستقلة عن الأمة.
وقد مهدت هذه الأحداث لغيرها من الحوادث السياسية عام ١٩٠٦، حيث عُقد الاجتماع التاريخي الأول الذي وُضع فيه أساس حزب الرابطة لكل مسلمي الهند، وهو الحزب الذي كان له أكبر أثر في المصير السياسي لشبه القارة فيما بعد، وقد تأسس هذا الحزب وكان من أول أهدافه كفالة حقوق المسلمين السياسية.
وقد استُغِلَّ حادث تقسيم البنغال في إثارة حفيظة المتطرفين من الهندوس، وهنا ثار الشعور الديني وبدأت الاضطرابات الطائفية.
وكان تكوين حزب الرابطة الإسلامية بداكا أول خطوة اتُّخذت في سبيل الوحدة وفي سبيل الشعور بالواقع والحقائق السياسية بين المسلمين. وفي أول اجتماع عقده هذا الحزب وجَّه إنذارًا للحكومة ضمَّنه عدم رضائه عن إلغاء تقسيم البنغال وجزعه من أي إجراء مثل هذا، لأن تقسيم البنغال كان أمر حياة أو موت لمسلمي البنغال الشرقية. ونما حزب الرابطة وأصبحت له مكانة مرموقة بين الجماهير حتى افتتح له فرعًا في لندن، وفي عام ١٩٠٩ انتُخب أغاخان رئيسًا للحزب، وكان أكبر همه أن يمحو الأميَّة السائدة بين المسلمين.
وفي عام ١٩٠٩ رأى المسلمون في المقترحات التي تقدمت بها لجنة «منتور مورلاي» بصيصًا من الأمل، وذلك لأنها اعترفت بحقهم في دوائر انتخابية مستقلة.
وفي سنة ١٩١١ اهتز كيان المسلمين نتيجة للقرار الذي اتخذته الحكومة البريطانية بإلغاء تقسيم البنغال برغم الوعود والتعهدات التي أخذتها على نفسها من قبل، مما أثر في نفوس مسلمي الهند.
وفي هذه الظروف الحرجة ألَّف حزب الرابطة الإسلامية لجنة لوضع برنامج للمستقبل، وطالبت الرابطة لأول مرة بضرورة تأسيس حكومة ذاتية للهند.
وفي هذه الأثناء، أُعلن قيام الحرب الكبرى ضد ألمانيا، وانتهز الحزبان الكبيران بالهند، وهما حزب المؤتمر وحزب الرابطة، هذه الفرصة ليطالبا بتعديلات جوهرية في نظام الإدارة بالهند، وظهر تعاون الحزبين في كثير من المسائل، ووقف رئيس حزب الرابطة يخطب في الدورة الثانية التي عقدها حزب المؤتمر في بومباي عام ١٩١٥، مما اعتُبر تعاونًا لم يشهد مثله تاريخ الإمبراطورية الهندية البريطانية من قبل.
وبدأ حزب الرابطة يتحدى السلطة حين عدل عن إظهار شعوره وإخلاصه للحكومة البريطانية، وراح يعرب عن غضبه وتأثره للحركة التي أدت إلى حبس مولانا محمد علي وشوكت علي وظفر علي خان وإلى مصادرة صحف المسلمين استنادًا إلى قانون الصحافة الذي كان معمولًا به يومئذ.
وطلب الزعيم الخالد الذكر محمد علي جناح من حزب الرابطة الإسلامية في كل الهند تأليف لجنة يُناط بها وضع الإصلاحات التي تراها مع السماح لها بالتفاهم مع المنظمات السياسية الأخرى. وفي نوفمبر ١٩١٦ اجتمعت لجنة من حزب المؤتمر الهندي بحزب الرابطة الإسلامية في كلكتا، ثم اجتمعا ثانية بلكناو في ديسمبر من العام نفسه وذلك بغية وضع تفاصيل المقترحات التي يريانها للتمهيد لإقامة الحكومة الذاتية.
وانتشرت فكرة الحكم الذاتي في الهند انتشارًا واسعًا حتى اضطرت الحكومة البريطانية أن تبعث بأحد وزرائها إلى الهند لدراسة الموقف.
وفي ٢٦ نوفمبر عام ١٩١٧ استقبل لورد مونتاجو وفدًا من الحزبين، ولكن الجو كان قد تعكر نتيجة لتدخل بعض المنظمات السياسية الأخرى، واستمرار حبس الزعماء المسلمين، الأمر الذي نتج عنه شغب طائفي كان قد توقف بعض الشيء منذ زمن بعد أن ترك مرارة وحزازة في صدور كل من الهندوس والمسلمين. وقد اعتبر حزب الرابطة هذه المشاغبات ضربة شديدة موجهة إلى حركة الجهاد المشترك.
ولم يرضَ الهنود عن التقرير الذي وضعه لورد مونتاجو ونائب الملك لورد تشيلمسفورد عن دستور الهند المقبل، وثارت النفوس بالهند، وأعرب الهندوس وكذلك المسلمون عن استيائهم من التوصيات التي تقدمت بها الحكومة. وقام الدكتور أنصاري يحذر الحكومة من أن المسلمين لن يسمحوا بإحداث أي تغيير في حقوق المسلمين في الدوائر الانتخابية المستقلة.
وهنا قام مسلمو شبه القارة بحركة تحدٍّ ضد الحكومة البريطانية لم يسبق لها مثيل. وأصبحت حركة الخلافة التي أثارها مولانا محمد علي بعد ما انتاب تركيا من نكبات على أثر انتهاء الحرب العظمى حركةً يهتم لها كل مسلم في الهند، بعد أن كانت المسائل السياسية من اختصاص المتعلمين منهم وذوي الرأي والفكر فقط، وكان من أثر ذلك أن أصبح حزب الرابطة الإسلامية حزبًا شعبيًّا كبيرًا.
وفي هذه الأثناء اقترح مولانا «موهاني» إعلان استقلال الهند استقلالًا تامًّا.
وكان موقف جناح من هذه الأحداث موقف السياسي المحنك، فكان من رأيه الجهاد في سبيل الدستور مع الانضمام ﻟ «المجالس» في سبيل الحصول على نظام «الدومنيون»، وكان قد اعترى حزب الرابطة خلال هذه المدة بعض الضعف فبُذلت الجهود الكبيرة لإحياء الحزب، ورأس جناح الحزب في وضعه الجديد، وفي المجلس التشريعي المركزي قام جناح يطالب بتأليف لجنة جديدة لدراسة الإصلاحات المرجوة من جديد.
وكان طبيعيَّا أن يؤثر إلغاء الخلافة في تركيا الكمالية على حركتها بالهند، فقامت بعض الاضطرابات الطائفية بين المسلمين والهندوس. وظهر أن من المتعذر تحقيق اتحاد المسلمين مع الهنود، وكانت آخر محاولة في هذا السبيل تلك المحاولة التي بُذلت عام ١٩٢٤ وباءت بالفشل.
وفي عام ١٩٢٧ أرسلت إنجلترا إلى الهند لجنة «سيمون» بقصد دراسة الأوضاع، وهنا قام جناح يطالب بالنقاط الأربعة عشرة التي تتضمن فيما تتضمن كفالة حقوق الأقلية المسلمة.
وفي آخر أكتوبر ١٩٣٠ أعلن نائب الملك بالهند قرار الحكومة البريطانية بعقد مؤتمر الدائرة المستديرة، لكي يشترك فيه الزعماء السياسيون في شبه القارة. واجتمع هذا المؤتمر بلندن في ١٢ نوفمبر ١٩٣٠، وفيه طالب المسلمون بوجوب النص في الدستور على كفالة حقوقهم.
وفي هذا الوقت كانت الرابطة الإسلامية تعقد دورتها السنوية في «الله أباد» وعلى رأسها الدكتور محمد إقبال، وهناك طالب إقبال في خطاب تاريخي عظيم بوجوب اتحاد المسلمين وتكوين دولة خاصة بهم.
ليست الوحدات في المجتمع الهندي إقليمية كما هو شأنها في الدول الأوروبية، فالهند قارة تضم إليها مجموعات بشرية ترجع إلى أجناس مختلفة وتتكلم لغات متباينة وتؤمن بأديان غير متقاربة، وإن المبدأ الذي تعتنقه أوروبا الديمقراطية لا يمكن تطبيقه بحال على الهند دون أن يسبقه اعتراف بوجود المجموعات الطائفية، وعلى هذا فمطالبة المسلمين بتأسيس هند إسلامية داخل الهند مطلب له ما يبرره تمامًا … وبودِّي أن أرى البنجاب وإقليم الحدود الشمالية الغربية والسند وبلوجستان وقد توحدت وأصبحت دولة واحدة.
ويبدو لي أنه ليس أمام المسلمين سوى هدف أخير واحد، هو تكوين حكومة ذاتية لهم إما داخل الإمبراطورية البريطانية وإما خارجها، وتكوين دولة إسلامية هندية تقع في شمال غربي الهند. وهذا الرأي يجب ألا يخيف الهندوس أو البريطانيين، فالهند إنما هي أكبر دولة إسلامية في العالم، وحياة الإسلام كعامل ثقافيٍّ حضاريٍّ في هذه الدولة إنما ينهض على تركيزه في حدود معينة فقط، وفي رأيي أن تركيز هذا العدد الهائل من المسلمين في الهند، ومنهم جنود الجيش ورجال البوليس الذين جعلوا الحكم البريطاني في هذه الدولة سهلًا ممكنًا، برغم المعاملة غير العادلة التي يلقونها من البريطانيين. أقول إن هذا التركيز إنما هو الحل لمشكلة الهند بل لمشكلة آسيا أيضًا، وهذا الحل من شأنه أن يزيد من مسئولياتهم وأن يُرْهِف من شعورهم الوطني. وإذا ما أتيح لهذه الدولة المسلمة الجديدة أن تقوم فإنها ستكون المدافع الأكبر عن الهند ضد أي هجوم أجنبيٍّ عليها، سواء أكان هذا الهجوم هجوم مبادئ أم هجوم حراب …
وأنا لهذا أطالب بتكوين دولة إسلامية موحدة … وقيامها هذا سيكون في صالح الهند كما هو في صالح الإسلام … سيكون قيام هذه الدولة الجديدة في صالح الهند لأنها ستُعنى بإقرار السلام والطمأنينة نتيجة لتوازن القوى في الداخل، وستكون كذلك في صالح الإسلام لأنها ستعمل على محو الطابع الاستعماري الغربي الذي أُجبرت على أن تُطبع به، ولأنها ستتيح للقوانين الإسلامية أن تسود، وللتعليم والثقافة أن يعملا جنبًا إلى جنب، وفي تعاون، لإظهار الروح الإسلامية الصحيحة وإمكان تطبيقها في هذا العصر الحديث.
ويرى بعض المفكرين في هذا الذي نادى به إقبال عام ١٩٣٠ نبوءة عن تأسيس دولة الباكستان، كما يرون أنه المؤسس الروحي لهذه الدولة.
وكان جناح في هذه الأيام في لندن ولكنهم طلبوا منه العودة ليتسلم زمام المسلمين، فلما عاد ألف فرعًا للرابطة الإسلامية في داخل الجمعية التشريعية.
وكانت الرابطة قد أصابها وهنٌ سرعان ما تغلب جناح عليه وردَّ فيها الحياة. وفي أبريل ١٩٣٦ عقدت الرابطة دورتها في بومباي، وفيها تقرر دخول المسلمين الانتخابات الإقليمية، كما تألف فيها مجلس برلماني مركزي. وفي الاجتماع السنوي الذي تلا هذا الاجتماع، وكان في لكنو، وضع جناح برنامجه الإنشائي، وفيه تقرر عدم قصر عضوية الحزب على القلة المتعلمة، بل السماح لملايين المسلمين بالانضمام إليه.
وكان عسيرًا على الهيئة الجديدة الاشتراك في هذه الانتخابات، خاصة وأن المسلمين يقلون بكثير جدًّا عن الهنود. وبرغم أن اجتماع حزب الرابطة لم يسفر عن نجاح مشهود في هذا السبيل فإنه كان فرصة للمسلمين لكي يعبروا عن مشاعرهم في المجالس التشريعية.
وعندما اشتد ساعد حزب المؤتمر، الذي يمثل الأغلبية الهندية، في الأقاليم بدأ المسلمون يشعرون بما أصاب مصالحهم بل وثقافتهم من ظلم، الأمر الذي أدى إلى إيقاظ الوعي القومي فيهم.
وابتدأ حزب الرابطة يقوى وأصبح برنامجه ثوريًّا يهدف إلى التغيير والتعديل، وبعد أن كان يحاول الحصول على حكومة مسئولة أصبح يهدف إلى الاستقلال المطلق، كما أعلن عن عزمه على إلغاء نظام الملكية.
•••
وعندما نشبت الحرب العالمية الأخيرة في عام ١٩٣٩ رأت الحكومة البريطانية نفسها مضطرة لأن تعدِّل سياستها بالهند، وقد عمد حزب المؤتمر الهندي إلى إحراج مركز الحكومة البريطانية وذلك بأن طلب إلى وزاراته بالأقاليم المختلفة الاستقالة من الحكم، وقد عدَّ المسلمون هذا العمل نصرًا كبيرًا واحتفلوا به في كل مكان على أنه يوم من أيام الخلاص، وكانت بريطانيا وقتئذ تقاسي من أهوال الحرب، ولم يكن هناك من يتوقع لها النصر.
وعمد حزب الرابطة في هذه الأثناء إلى تعديل برامجه وأهدافه كذلك، وأخيرًا قُبلت فكرة إقبال وتقرر في الدورة التاريخية التي عقدها حزب الرابطة بلاهور عام ١٩٤٠ الموافقة على قرار «الباكستان».
وفي رأي المؤتمر في دورته الحاليَّة أنه لن يمكن تحقيق أي خطة دستورية في هذه البلاد يقبلها المسلمون، إلا إذا جرت حسب المبادئ الأساسية التالية، بمعنى أن الوحدات الجغرافية المتجاورة يجب أن تخطط وتحدد بعد إدخال بعض التعديلات الإقليمية إن دعت الضرورة لذلك، بحيث تصبح المناطق التي تقطنها غالبية من المسلمين، كما هو الحال في المناطق الشمالية الغربية والشرقية من الهند، ولايات مستقلة تتمتع الوحدات المكونة لها بالاستقلال والسيادة.
ويجب أن يتضمن الدستور كفالة حقوق الأقليات في الوحدات وفي المناطق كفالة تامة فيما يتعلق بحماية دينهم وثقافتهم واقتصادهم وسياستهم وشئون الإدارة بينهم، وكذلك كفالة الحقوق والمصالح الأخرى بالتشاور معهم. وفي المناطق الأخرى من الهند حيث يكون المسلمون أقلية يجب كفالة حقوقهم كفالة تامة فيما يتعلق بالاحتفاظ بدينهم وثقافتهم واقتصادهم وسياستهم وشئون الإدارة بينهم، وكذلك صيانة حقوقهم ومصالحهم الأخرى بالتشاور معهم.
وقد خوَّل المؤتمر السلطة للجنة التنفيذية لوضع مشروع للدستور يتمشى مع هذه المبادئ الأساسية ويستطيع أن يزود الأقاليم المختصة بكل السلطات كالدفاع والشئون الخارجية والمواصلات والجمارك وغيرها مما تدعو الحاجة إليه.
وعلى الرغم من أن إقبال كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل هذا بسنتين، فإن محمد علي جناح كان قد اعتنق فكرته كما اعتنقها معه حزب الرابطة الإسلامية ومن ورائه ما يقرب من مئة مليون مسلم يقطنون شبه القارة الهندية الباكستانية.
وتلا ذلك أعوام من الشدة والقلق إذ اقتربت الحرب من حدود شبه القارة، وكان دخول اليابان الحرب وتأرجح مصير الحلفاء في مختلف الميادين مدعاة لقيام حزب المؤتمر الهندي بحملة جديدة أخرى شنها في وقت كانت بريطانيا نفسها تناضل فيه للإبقاء على ذاتها.
ولما فشلت مهمة سير ستافورد كريبس تشجع زعماء حزب المؤتمر وظنوا أن الحكومة البريطانية لا تستطيع العمل بدونهم. وقامت بعثة برلمانية بزيارة الهند، ودعا نائب الملك وقتئذ، لورد ويفل، إلى اجتماع يعقد في سملا ويشترك فيه زعماء المؤتمر والرابطة الإسلامية. وفي هذا الاجتماع أصرَّ محمد علي جناح على وجوب تحقيق فكرة الباكستان التي أصبحت الهدف الذي يتطلع إليه حزب الرابطة، ورفض أن يشترك في أية مباحثات ما لم تقبل هذه الفكرة أساسًا لها، ولما لم يرضَ المسلمون عن خطة ويفل أعلن فشل المباحثات.
وأعقب قدوم البعثة البرلمانية إلى الهند قدوم بعثة أخرى مكونة من أعضاء من مجلس الوزراء البريطاني، وقد تقدمت بمشروع جديد يتضمن حلًّا يقوم على تقسيم المناطق، ومع أن حزب الرابطة كان قد قبل هذا الحل في أول الأمر إلا أن المناورات والسياسة التي كان يتبعها زعماء حزب المؤتمر قضت على كل أمل في إمكان قيام وحدة في البلاد. ومن جديد قام حزب الرابطة، ومن ورائه الملايين العديدة من المسلمين، يطالب بقيام الباكستان دولة إسلامية مستقلة ذات سيادة، باعتبار أن هذا هو الحل الوحيد الذي يقبلونه.
ولما تولى حزب المؤتمر الحكم في الحكومة المركزية عدَّ المسلمون هذا العمل ضربة موجهة إليهم، وفي الحال عقدت الرابطة اجتماعًا في بومباي حيث اتخذت القرار التاريخي المعروف بقرار «العمل المباشر»، وطلب الحزب من كل أعضائه التنازل عن أي لقب يحمله أحدهم من الحكومة البريطانية، وأعلن عن نضاله السافر ضدها.
وقد دلَّ حزب الرابطة في كل أعماله على أنه ممثل المسلمين كافة، واستطاع أعضاؤه أن يفوزوا بأغلبية أصوات المسلمين في الانتخابات المركزية والإقليمية. ولما اشترك المسلمون مع الهندوس في حكومة ائتلافية يرأسها نائب الملك، كان حلم الباكستان وشيك التحقيق وظهرت أمام المسلمين بارقة من الأمل، ودعت الحكومة البريطانية إلى مؤتمر يعقد بلندن وحضره ممثلون لحزب الرابطة ولحزب المؤتمر، وفي ٣ يونيه عام ١٩٤٧ أُعلن قبول فكرة تأسيس الباكستان كما أعلن استقلال الهند.
وفي ١٤ أغسطس من عام ١٩٤٧ قامت الباكستان بعد جهاد طويل مرير بدأ منذ عام ١٨٥٧ واستمر تسعين سنة، بُذلت فيها تضحيات كبيرة وقاسى فيها المسلمون ألوانًا من الضيق والإكراه والشدة، ولكنهم كانوا خلالها أبطالًا صمدوا للأحداث وواجهوها بقلوب عامرة وعزمٍ ثابت، وهكذا قامت هذه الدولة وهي تستند إلى جهاد طويل وثقافة تعود إلى آلاف السنين.
ولقد دلت الأحداث الكثيرة التي مروا بها خلال القرن التاسع عشر على استحالة الحياة مع أمة غيرهم تكبرهم بثلاثة أضعاف.
ومنذ سنة ١٩٣٦ حتى ١٩٤٧ كان القائد الأعظم محمد علي جناح محور السياسة الذي كان حزب الرابطة يدور حوله، والقائد الزعيم الذي كان المسلمون يتطلعون إليه، وهكذا نجح هذا الزعيم القادر، وحوله القلوب المطمئنة المؤمنة، في تحقيق هذا الحلم الجميل.
وقد أُطلق على الدولة الجديدة اسم باكستان لأن باكستان معناها أرض الطهر. ولكن الكلمة ترمز إلى جانب ذلك إلى الولايات المختلفة التي تتكون منها هذه البلاد؛ فحرف (ب) يرمز إلى بنجاب، وحرف (ا) يرمز إلى الباتان، وحرف (ك) يرمز إلى كشمير وإن كانت لا تزال معلقة المصير، وحرف (س) يرمز إلى سند. أما كلمة ستان فمعناها دولة.
وباكستان هي حقًّا بلاد الجد والفضيلة والنهضة، وقد نشأ أهلها على حب مصر والمصريين، وهم يحرصون كل الحرص على علاقتهم الودية بمصر ويودون لو زاد المصريون من توثيق علاقاتهم بباكستان. ولا أزال أذكر كيف أنني في أول ليلة من وصولنا إلى كراتشي خرجت مع الزملاء من الفندق نلتمس مكانًا نقضي فيه السهرة أو بعض الوقت، فسرنا على أقدامنا مسافة طويلة ولم نجد شيئًا، ثم عدنا في النهاية إلى الفندق ليقضي كلٌّ منا السهرة في حجرته، كانت الأضواء قد سُلِّطت على المتاجر الكبيرة لتُعرض بعض مصنوعات باكستان الناهضة لا ليُعلن عن الملاهي أو دور السينما أو المشارب.
وقد قامت الباكستان لا لتكون غاية وإنما لكي تكون وسيلة تستهدف المساهمة مع بقية شعوب العالم في إقرار السلام وإشاعة الطمأنينة.
وقد جاهدت منذ أول يوم ارتفع فيه صوتها في المحافل الدولية في الدفاع عن الأمم الضعيفة والمظلومة، وليس ذلك غريبًا على دولة تأسست لنشر العدل والطمأنينة بين رعاياها بعد طول ما قاسوا من ظلمٍ واضطهاد.
ولكن هذا لا يمنع من القول إن الحياة في كراتشي عاصمة باكستان لا تكاد تختلف عن الحياة في أية عاصمة أخرى من العواصم الغربية، وإنه يمكن لمن يريد أن يجد فيها المتع التي يجدها في العواصم الأخرى.