قِسمة شبه القارة

لكي يتحقق ذلك الحلم الجميل الذي داعب خيال الشاعر إقبال، ولكي يتحقق ذلك الأمل الوطني الذي نادى به السياسي محمد علي جناح وهو تكوين وطن لمسلمي الهند، كان لا بد في النهاية أن تقسَّم شبه القارة الهندية، فيستقل المسلمون في جزء منها وينفرد الهندوس بالجزء الآخر.

وقد اختلفت الآراء في هذه القسمة التي انتهت إليها شبه القارة، وتساءل الكثيرون: هل كان التقسيم إجراءً طبيعيًّا في هذه الوحدة الجغرافية المتحدة؟ وهل كان في مصلحة السكان الذين تضمهم شبه القارة؟ ألم يكن في وسع السياسيين أن يبحثوا عن وسيلة أخرى يتمكن بها سكان شبه القارة الهندية جميعًا، من هندوس ومسلمين وغيرهم، من العيش في سلام دون الالتجاء إلى وسيلة التقسيم؟ هل أضر هذا التقسيم بمصالح المسلمين أو بمصالح الهندوس؟ وهل أرضى التقسيم رغبات الفريقين؟ وهل أنهى التقسيم الخلافات العنيفة التي استمرت أزمانًا طويلة بين المسلمين والهندوس؟ وهل كانت القسمة التي انتهت إليها شبه القارة قسمة عادلة روعيت فيها المصالح العليا للسكان؟ وهل أصبحت العلاقات بين المسلمين والهندوس بعد تقسيم شبه القارة بينهما أحسن مما كانت قبل التقسيم أو أسوأ منها؟ ومن هو المسئول الأول عن كل ذلك؟

كل هذه أسئلة تتردد في ذهن كل من يزور شبه القارة الهندية أو من يدرس تاريخها أو تاريخ دولة من دولتيها … أو يتعرض لدراسة مشكلة من مشكلاتها القائمة وفي مقدمتها مشكلة كشمير.

لقد كان من أكبر أسباب الأزمات التي تعرضت لها شبه القارة الهندية في نضالها ضد الاستعمار الأجنبي ذلك الخلاف الكبير بين أكبر شعبين من شعوبها وهما الهندوس والمسلمون، وذلك الاختلاف الكبير في وجهات النظر بين زعماء المسلمين الذين نادوا بإنشاء «باكستان» لتكون وطنًا لمسلمي الهند، وبين زعماء الهندوس الذين عارضوا هذه الفكرة وقاوموها.

فقد كانت الهند وزعيمها يؤمنان بأن شبه القارة كله يتكون من أمة واحدة، أما المسلمون وزعيمهم فقد كانوا يؤمنون بأنه لا مفر من الاعتراف بوجود أمتين في شبه القارة. وقد سبق أن أشرنا إلى حقيقة الأسباب والبواعث التي جعلت محمد علي جناح يؤمن بذلك.١

كان جواهر لال نهرو يؤمن بالوحدة القومية للهند كلها، وكان يؤمن بأن هذه الوحدة ليست إلا نتيجة طبيعية للتاريخ المشترك والنضال المشترك والتأثير المشترك للثقافات المختلفة وعادات الشعوب المختلفة.

وكان نهرو يفسر الخلافات بين الهندوس والمسلمين بأنها خلاف «بين الطبقات العليا حول توزيع مغانم السلطة أو التمثيل في المجالس النيابية»، وكان نهرو مقتنعًا بأن تلك الخلافات يسببها «طرف ثالث» هو بريطانيا التي حكمت الهند على مبدأ «فرِّق تسُدْ» divide et impera، وكان غاندي يشاركه هذا الرأي.

ولكن محمد علي جناح كان لا يؤمن بفلسفة نهرو الخاصة بوحدة الهند، وكان كثيرًا ما يتساءل: لماذا لا يحاول أصدقاؤه الهنود أن يتفهموا طبيعة الإسلام وحقيقته وما يفرق بينه وبين الهندوسية؟!

«إنهما ليسا دينين بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، بل هما في الحقيقة نظامان اجتماعيان يتميز كل منهما عن الآخر كلية. وإنه لحلم أن يندمج الهندوس والمسلمون في أمة واحدة. إن الهندوس والمسلمين يتبعان فلسفتين دينيتين تختلف كلٌّ منهما عن الأخرى، وعادات اجتماعية مختلفة وآدابًا مختلفة. إنهم لا يتزاوجون فيما بينهم ولا يشتركون في طعامٍ، وكل منهم إنما يتبع في الحقيقة حضارة مختلفة عن حضارة الآخر تقوم على آراء ونظريات تتعارض مع الآراء والنظريات التي تقوم عليها الحضارة الأخرى».

وقد بُذلت المحاولة الأخيرة لمنح شبه القارة حريته مع الاحتفاظ بوحدته في نفس الوقت في ربيع عام ١٩٤٦، فقد زارت بعثة وزارية بريطانية مدينة دلهي في شهر مايو وتقدمت بمشروع لإقامة «هند» مستقلة مع ضمانات لحقوق الأقليات وضرورة تمثيلها في المجالس التشريعية.

وظن المراقبون في ذلك الوقت أن هذه هي الفرصة المواتية التي يمكن أن يتفق فيها حزب المؤتمر مع الرابطة الإسلامية، إلا أن المشروع لم يصادف نجاحًا لسبب غير جديٍّ وهو عدم اتفاق الفريقين على تكوين الحكومة، وهذا السبب يكشف في حد ذاته عن مدى التباعد الكبير الذي كان قائمًا بين الفريقين، وعمق الخلافات التي كان يحسها كلٌّ منهما تجاه الآخر.

ومنذ ذلك الوقت أسرعت الحوادث في عَدْوها لكي تصل في النهاية إلى مرحلة القسمة، القسمة التي لا مفر منها … وكان غريبًا أن تقسم هذه البلاد في نفس اليوم الذي كان يجب أن تحتفل به بالخلاص الأبدي من رِبقة الاستعمار.

وفي عام ١٩٤٧ كانت الأحوال في شبه القارة الهندية قد وصلت إلى درجة صار لا بد معها من إعلان الاستقلال، وأصدرت الحكومة البريطانية في ٢٠ فبراير من ذلك العام بلاغًا ذكرت فيه عزمها النهائي على اتخاذ الخطوات اللازمة لنقل السلطة إلى الأيدي الهندية المسئولة في موعد لا يتجاوز شهر يونيو من عام ١٩٤٨.

وعُيِّن لورد مونتباتن نائبًا للملك في الهند، ومُنح السلطات اللازمة ليؤدي واجبًا ساميًا هو نقل السلطة من البريطانيين إلى السلطات الجديدة، فإما إلى حكومة موحدة للهند كلها وإما إلى حكومتي الهند وباكستان.

ووصل مونتباتن إلى دلهي في ٢٣ مارس من عام ١٩٤٧، وما إن وصل حتى أدرك في الحال استحالة التوفيق بين حزب المؤتمر الهندي والرابطة الإسلامية لإقامة حكومة موحدة للهند كلها، وأعلن أنه سيسير على أساس إقامة حكومتين منفصلتين، وفي ٣ يوليو نشرت الحكومة البريطانية، بناءً على نصيحته، مشروعًا لقسمة الهند.

وبعد ستة أسابيع وفي يوم ١٨ يوليو على وجه التحديد، صدر قانون استقلال الهند، وأُعلن فيه أنه ابتداء من يوم ١٥ أغسطس ستصبح كلٌّ من الهند وباكستان دولة مستقلة. وتقرر أن يتم التقسيم طبقًا للقومية السائدة في الولايات؛ فالولايات ذات الأغلبية الهندوسية من السكان يتكون منها الاتحاد الهندي، والولايات ذات الأغلبية المسلمة من السكان تتكون منها دولة الباكستان.

ولا شك أن مهمة مونتباتن كانت مهمة عسيرة في ذلك الخضم المضطرب، وفي وسط الخلافات العنصرية والمذهبية، كما أنه كان مكلفًا بالاتصال بعدة شخصيات تختلف عن بعضها اختلافًا تامًّا؛ فقد كان هناك جواهر لال نهرو زعيم حزب المؤتمر الهندي الذي لم يؤمن في يوم من الأيام بفكرة قيام دولة «باكستان» مستقلة، وكان هناك «مهاتما» غاندي الذي وإن لم يكن له منصبٌ رسميٌّ إلا أنه كان كبير التأثير بين قومه بواسطة المقالات اليومية التي كان ينشرها في الصحف وإقامة الصلوات وعقد الاجتماعات الخاصة، وكان على استعداد دائم لإعلان «الصيام» في أي وقت بقصد إثارة الملايين من الناس.

وأخيرًا — لا آخرًا — كان هناك القائد الأعظم محمد علي جناح الزعيم الذي كان يقدسه المسلمون، والذي قال فيه الشاعر إقبال:

إنه المسلم الوحيد في الهند الذي يمكن للمسلمين أن يتطلعوا إليه باطمئنان في طلب القيادة والهداية.

ولا شك أن جناح كان يتمتع بسلطة مطلقة بين أتباعه، إلا أن معارضيه وجدوا فيه خصمًا عنيدًا، وما كان جناح بالشخص العنيد ولكنه كان وطنيًّا كبيرًا آمن بفكرته إيمانًا جعله لا يقبل فيها مساومة.

وكان جناح يشتبه في نيات قادة حزب المؤتمر، كما أنه كان قليل الثقة في لورد مونتباتن.

ولم يتمكن غير عدد قليل جدًّا من المراقبين الأجانب أو المراسلين من عقد أواصر الود معه، ولكنهم مع ذلك كانوا يلمسون قوة شخصيته، وصلابة إرادته، وأكيد عزمه، ومقدرته السياسية الفائقة …

كانت هذه القوات الرئيسية الثلاث التي يجب على مونتباتن أن يتفاوض معها أثناء عملية تقسيم شبه القارة الهندية … ولكن هذه القوات الرئيسية الثلاث لم تكن هي الوحيدة في الميدان، فقد كان هناك الأمراء أيضًا، وقد زعموا أن من حقهم أن يكون لهم رأي وأن يشتركوا في تلك القرارات التاريخية الحاسمة التي كانت على وشك أن تُتَّخذ.

•••

إن باكستان تحس أن ظلمًا كبيرًا قد وقع عليها في هذه القسمة التي انتهت إليها شبه الجزيرة الهندية، ولا تكاد تقابل أحدًا من سياسييها في كراتشي أو حيدر أباد أو لاهور أو بشاور إلا ويشكو إليك من هذا الظلم!

ولستَ في حاجة إلى ذكاء كبير لكي تعرف من المسئول عن هذا الظلم … ومن المسئول عن القسمة الجائرة.

إن مسئولية بريطانيا كبيرة جدًّا أمام التاريخ، فقد كان من نتائج قسمة شبه الجزيرة الهندية، على الوضع الذي انتهت إليه، أن كادت الحرب الأهلية تنشب أكثر من مرة في هذا الجزء من العالم بين أقوام عاشوا جنبًا إلى جنب سنوات طويلة.

ولطالما ارتفع صوت الظلم الذي تحس به باكستان إلى أذن القاضي الذي احتكمت إليه، ولكن القاضي كان يصم أذنيه عن سماع الشكوى أو يتظاهر بالانشغال عنها متناسيًا أن باكستان أكبر دولة في الدول الإسلامية التي تمتد من شاطئ الأطلنطي في شمال أفريقيا عبر مصر وإيران والمملكة العربية السعودية حتى سنغافورة، ومتناسيًا فوق ذلك أن باكستان تقف حجر عثرة في طريق روسيا إلى الشرق، وربما كانت الحجر الوحيد الباقي في هذا الركن من الكرة الأرضية.

ومن العجيب أن بريطانيا، التي قامت في قسمة الهند بدور السمسار الأمين، تمد كل دولة من الدولتين باكستان والهند بالضباط والجنود البريطانيين علاوة على العتاد الحربي والذخيرة، دون أن تهتم قبل ذلك بتهدئة الجو بين الدولتين، أو تسوية المشاكل القائمة بينهما على أساس العدالة، مع أنها تعرف أكثر من غيرها مقدار ما يتعرض له السلام العالمي من خطر بسبب استمرار المنازعات بين دولتين تضمهما مجموعة الدول البريطانية (الكومنولث).

قال لي ضابط بريطاني قابلته في باكستان، وكان ذلك في فبراير عام ١٩٥٣: لا شك أنه سيكون من العار أن تنشب الحرب بين دولتين في داخل «الكومنولث»، ولكن لا شك أن هذه هي النتيجة المحتومة إذا لم تتدارك لندن الموقف …

وسألت الضابط البريطاني: ولكن ماذا يكون موقفك أنت لو حدثت حرب أو مذابح بين الهند وباكستان؟ هل تشترك بوصفك ضابطًا باكستانيًّا وتحارب مع الباكستانيين؟

وابتسم الرجل وقال: لا! إن التعليمات صريحة، ولو حدث شيء من هذا القبيل بين الدولتين فإن على كل ضابط بريطاني أن يترك قيادته في الحال، وإلا وُجِّهت إليه تهمة التمرد وعصيان الأوامر بعد عودته إلى بريطانيا …

وهكذا تبين أن حكومة لندن قد وضعت لنفسها خطة تتبعها في حالة الحرب … ولكنها لم تحاول أن تضع خطة للسلم!

إن باكستان تتهم نهرو دائمًا بالرغبة في القضاء على باكستان، ولكنني سمعتهم في كراتشي يتهمون شخصًا آخر هو لورد مونتباتن البريطاني ويقولون: إنه أكبر أصدقاء نهرو، وإنه هو المسئول الأول!

ويبدو أن الإنجليز عندما اضطروا إلى الانسحاب من شبه جزيرة الهند عزَّ عليهم أن ينسحبوا دون أن يتركوا أثرًا من آثار استعمارهم البغيض، فخلفوا من ورائهم بعض المشكلات الخطيرة التي تواجهها باكستان اليوم، وتعمل على أن تحلها مع جاراتها من الدول الأخرى بكافة الوسائل السلمية.

وأولى هذه المشاكل تكوين باكستان من وحدتين كبيرتين: باكستان الغربية التي تقع في الشمال الغربي من الهند، باكستان الشرقية وتقع في الشمال الشرقي من الهند.

فمن العجيب في هذا التكوين الشاذ أن الهند نفسها تفصل بين باكستان الشرقية وباكستان الغربية، إذ يقع جزء كبير من شمال الهند بينهما كما أن المسافة بين باكستان الشرقية وباكستان الغربية في أقرب المواضع تبلغ نحو ١٢٠٠ ميل تقع كلها داخل حدود الهند الشمالية طبعًا. لقد ذكرني هذا الوضع بموقف هتلر من بولندا عند نشوب الحرب العالمية الثانية في عام ١٩٣٩، فقد كان الممر البولندي قبل هذه الحرب يفصل بين الجزء الأكبر من الوطن الألماني وبين جزء صغير هو «بروسيا الشرقية»، وكان هتلر لا ينقطع قبل عام ١٩٣٩ عن المطالبة بوصل الحدود بين ألمانيا وبين بروسيا الشرقية، وربما لو قبل الحلفاء وقتئذ مسالمته في هذا وتنازلوا له عن الممر البولندي الذي كانت تملكه بولونيا في ذلك الوقت، لما هاجم بولندا ولما نشبت الحرب في عام ١٩٣٩ ولَتغير وجه التاريخ.٢

ولا شك أن وجود قسم كبير من باكستان في الشرق وصعوبة الاتصال بين باكستان الشرقية وباكستان الغربية، من العوامل التي تؤثر على علاقة باكستان الشرقية بالحكومة المركزية في كراتشي الواقعة في الغرب، كما أنه مما يزيد من نفقات الدفاع الذي يستنزف نسبة كبيرة من ميزانية الباكستان، وذلك لأن كل قسم من قسمي الباكستان، الشرقي والغربي، يحتاج إلى وسائل دفاعية كاملة مما يضاعف النفقات.

ليس هذا فحسب، بل إن الباكستان والهند كانتا تؤلفان قبل التقسيم وحدة سياسية واقتصادية كاملة، فلما أُجري التقسيم على أساس طائفيٍّ دون اعتبار للعوامل الاقتصادية كان من نتيجة ذلك أن وقع ظلم واضح على باكستان، فقد ظهر فيما بعد أن منابع الأنهار التي تُروى منها باكستان تقع كلها في ولايات ضُمَّت للهند أو ولايات واقعة تحت سيطرة الهند، والأنهار بالنسبة لباكستان هي شرايين الحياة التي تبعث الروح والنماء في الأرض.

وكان من نتيجة ذلك أن وقع نزاع خطير على مياه الأنهار بين الهند وباكستان، وكان النزاع يدور حول من هو صاحب الحق الأول في مياه الأنهار، فالهند تدَّعي لنفسها هذا الحق لأن الأنهار تنبع في ولاياتها، وباكستان تتمسك بهذه الأنهار لأنها تجري في أراضيها ولأنها مصدر الحياة لسكانها.

وعندما هددت المجاعة حياة الملايين من سكان الباكستان في عام ١٩٥٢-١٩٥٣ كان سبب القحط هو قلة المياه في مجاري الأنهار، وظهر أن الهند قد استولت على نسبة كبيرة من مياه هذه الأنهار وكانت باكستان تعتمد عليها لري أرضها، هذا مع العلم أن أراضي باكستان كفيلة بإنتاج ما يكفي سكانها من طعام.

ومشكلة اللاجئين، وهي أكبر المشاكل التي تواجهها باكستان، جاءت هي الأخرى في أعقاب التقسيم.

ومشكلة كشمير، وهي أخطر المشاكل المعلَّقة بين الهند وباكستان، نتيجةٌ مباشرة من نتائج القسمة.

•••

فقسمة شبه القارة إذن، وإن كانت قد حقَّقت لمسلمي الهند آمالهم في وطن يستقرون فيه، وإن كانت قد جعلت من خيال إقبال ومن أبيات شعره حقيقة ملموسة وإن كانت قد مثَّلت نجاح محمد علي جناح في جهاده … إلا أنها لم تضع حدًّا نهائيًّا لخلافات المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية، بل إن هذه القسمة زادت من عدد المشاكل القائمة وحوَّلت الخلافات الدينية القديمة إلى خلافات اقتصادية وسياسية.

وقد ظلت نفوس الهندوس، حتى بعد أن أصبحت القسمة حقيقة واقعة، مفعمة بالمرارة والأسى، وليست مشكلة كشمير المعلقة إلا مثلًا من بين الأمثلة المتعددة التي تدل على أنهم لم يقبلوا مبدأ القسمة إلا مرغمين.

بل هل لنا أن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول إن القسمة حولت شبه القارة الموحد إلى معسكرين في كل معسكر منهما شعب وجيش، ينظر الشعب والجيش الآخران شَزْرًا وقد امتلأا بروح التحفز والتهديد.

ولكن هل العيب هو عيب القسمة في حد ذاتها أم أنه عيب الذين تولوا أمرها وأشرفوا على تنفيذها، فأثاروا في النفوس أحقادًا قديمة دفينة لا يعلم إلا الله متى يُقدَّر لها أن تزول، وما ذلك إلا لكي تكون لهم — وحدهم — السيادة في نهاية الأمر، وذلك عملًا بمبدأ الإمبراطورية القديم Divide et impera.

وقد صحبت قسمة شبه القارة، كما تلتها، اضطرابات وقلاقل كان أهمها مذبحة أميتسار في شرق البنجاب التي قضى فيها «السيخ» على عدد كبير من المسلمين، ولما انتشرت أخبار هذه المذبحة فزع المسلمون في جهات كثيرة وبدأت حركة الهجرة فانتقل الملايين من المسلمين الذين كانوا يقطنون ولايات تتبع الهند إلى الولايات التي تتكون منها باكستان.

ولما كانت الهند قد اتخذت عاصمتها في دلهي، وهي العاصمة القديمة، فقد كان من الطبيعي أن تحصل من القسمة على النصيب الأوفر من الامتيازات والتسهيلات والأموال المدخرة.

ولا أزال أذكر حديثًا دار بيننا وبين السرداد نشتر في كراتشي، فروى لنا أن حكومة الباكستان بعد تأسيسها واستقرارها في عاصمتها الجديدة كراتشي لم تكن تجد ورقًا أبيض تحرر عليه خطاباتها الرسمية أو تعليماتها …

بل لقد روى لنا السردار نشتر كيف أنه دخل مرة على القائد الأعظم محمد علي جناح، وكان ذلك بعد تأسيس الدولة الجديدة بشهرين، فوجده مهمومًا وأخذ يشكو إليه اضطراب الإدارات والمصالح الحكومية وعدم انتظامها في أعمالها بسبب افتقارها إلى الأدوات الأولية، حتى إن مدير السكك الحديدية أصدر أمره لموظفي المحطات بصرف تذاكر المسافرين على قصاصات من الورق الأبيض بعد ختمها …

وقال القائد الأعظم يسأل نشتر: إن ما أعجب له هو أين مخلفات الحكومة القديمة، ولماذا لا نستعملها؟!

فأجاب نشتر: ليس عندنا شيء منها، ونحن لا نملك شيئًا إلا وحدتنا وثقافتنا وتضامننا! وهز القائد الأعظم رأسه مؤمِّنًا وهو يقول: نعم! ليس عندنا حقًّا غير هذا!

١  راجع [القائد الأعظم].
٢  أُعطي هذا الممر لبولندا في أعقاب الحرب العظمى (١٩١٤–١٩١٨)، التي انتهت بهزيمة ألمانيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤