مشاكل الدَّولة الجديدَة
إن مشكلة تكوين باكستان من قسمين متباعدين أحدهما في شرق الهند والآخر في غربها ليست هي المشكلة الوحيدة التي تواجه هذه الدولة، فهناك مشاكل كثيرة أخطر من هذه.
وأكبر مشكلة هي مشكلة كشمير التي لا تزال تنتظر إجراء استفتاء عادل يفصح عن رغبة أهلها، فإما الاستقلال وإما الانضمام إلى باكستان أو الهند.
وثمة مشكلة ثالثة تتعلق بموقف أفغانستان من باكستان، فالحالة على الحدود بين هاتين الدولتين غير مستقرة، ورغم أن أفغانستان هي التي تجاور باكستان مباشرة ورغم الروابط الدينية، فإن أفغانستان أوثق صلة بالهند من باكستان. ومع ذلك فإن باكستان تسير في طريقها قُدُمًا، وتجاهد في سبيل تحقيق أمانيها بكافة الوسائل برغم العقبات التي تعترض طريقها، ومنها عقبات ورثتها عن الماضي وعقبات متجددة، أهمها مشكلة اللاجئين الذين يبلغ عددهم ثمانية ملايين يتزايدون باستمرار.
ولا تزال مشكلة هجرة اللاجئين وتدبير أمر استقرارهم من أكبر المشاكل التي تواجه الباكستان في الوقت الحاضر، ومع أن مشاكل اللاجئين تعتبر عادة من الظواهر العامة التي تلازم تأسيس أية دولة حديثة إلا أنها ذات وضع خاصٍّ بالنسبة لباكستان.
فقد ابتدأت هجرة المسلمين من سكان شبه القارة الهندية إلى الباكستان منذ اللحظة التي وافق فيها زعماء الطرفين على مشروع تقسيم البلاد إلى الباكستان والهند، وما إن أعلن عن ميلاد دولة الباكستان في أغسطس عام ١٩٤٧ حتى ابتدأت جموع اللاجئين المسلمين تتجه إليها بشتى الوسائل؛ بالقطارات والسيارات وقوافل المشاة.
ولم يكد ينتهي العام المذكور حتى كان قد دخل الباكستان زهاء خمسة ملايين شخص، كان معظمهم في حالة يُرثى لها، واستمر سيل هؤلاء اللاجئين حتى بعد أن تمت عملية الجلاء المنظم إلى الباكستان الغربية، وعندما أُجري أول إحصاء عامٍّ للبلاد في أوائل عام ١٩٥١ كان عدد اللاجئين في البلاد قد أربى على سبعة ملايين لاجئ، وإنه لمن المتعذر أن نحصي هنا جميع الصعاب التي جابهت هذه الدولة الفتية ذات الموارد المحدودة أثناء محاولتها توفير سبل الاستقرار لهؤلاء المشردين.
ومما يثير القلق في هذا الموضوع أن سيل اللاجئين من الهند لم ينقطع بعد، وخاصة عبر الحدود الفاصلة بين السند وجودبور في الباكستان الغربية، وهو الأمر الذي يزيد مشكلة إيواء اللاجئين المزمنة تعقيدًا، وقد تخطى عدد اللاجئين في البلاد المليون الثامن ويقيم سبعة ملايين منهم في الباكستان الغربية.
ومع ذلك فإن حكومة الباكستان تضع هذه المشكلة في المرتبة الثانية بعد مسألة الدفاع عن البلاد، وبرغم أن هذه الحكومة تقوم منذ قيام دولة الباكستان ببذل كافة الجهود لإيواء هؤلاء اللاجئين والعمل على استقرارهم، فأنه يجب علينا أن نعترف أن هذه المشكلة من الضخامة بحيث يتعذر حلها في وقت سريع.
وتبلغ نسبة المزارعين بين اللاجئين في الباكستان زهاء ٧٠٪ من مجموعهم، وقد وفد معظم هؤلاء إلى إقليمي البنجاب والسند خلال الفترة بين عامي ١٩٤٧-١٩٤٨، وقد أُقطعوا حال وصولهم بعض الأراضي كما مُنحوا قروضًا وإعانات، وفي ١٩٥٠ برز إلى الوجود مشروع تسوية أحوال اللاجئين الذي مُنح مثلُ هؤلاء اللاجئين المزارعين بموجبه بعض الحقوق الدائمة بصورة مؤقتة، وقد تم تنفيذ هذا المشروع في ١٨٢٤٥ ضيعة، وتم النظر في ١٠١٤٠٧٣ طلبًا من الطلبات التي قُدِّمت لامتلاك أراضي النازحين عن البلاد، وبلغت مساحة الأراضي التي تمت تسوية هذه المسائل فيها ١٠٩٤٩٥١ فدانًا، وبذا يمكن القول إنه قد تمت تسوية ٨٥٪ من مثل هذه المشاكل في البنجاب.
وقد منح اللاجئون في بلوجستان مثل هذه الحقوق المؤقتة، كما قطع هذا المشروع مرحلة مرضية في إقليم السند، أما ولاية بهاولبور وخير بور وإقليم الحدود وكراتشي فإنها جميعًا ماضية في تنفيذه.
وكان من الطبيعي أن يؤدي استمرار وفود اللاجئين إلى البلاد إلى عدم كفاية الأرض الزراعية في إقليمي الباكستان الشرقي والغربي لسد حاجاتهم، ولذا بدأ استصلاح بعض الأراضي الجديدة في إقليمي البنجاب والسند، حيث يجري إنشاء قناطر ضخمة لاستصلاح ٢٨٠٠٠٠٠ فدان من الأراضي، ويتوقف توفير الاستقرار للمزارعين من اللاجئين هناك على نتائج هذا المشروع. أما في الباكستان الشرقية فإن مثل هذه المشكلة تعتبر أشد تعقيدًا، وذلك لشدة الضغط على الأراضي بسبب ازدحام الإقليم بالسكان.
ولقد أدت هجرة اللاجئين على هذا النطاق الواسع إلى ازدحام معظم مدن الباكستان الغربية والبنغال الشرقية، ويظهر حرج الموقف الناجم عن ذلك في المدن الكبرى كلاهور وحيدر أباد وكراتشي وداكا، التي يُهرع إليها اللاجئون للبحث عن الوظائف والأعمال. والمشكلة الرئيسية التي تنجم عن هذا هي مشكلة توفير السكن لهؤلاء اللاجئين المدنيين في مثل هذه المدن المزدحمة بالسكان، وتعتزم حكومة الباكستان حلًّا لهذه المشكلة إنشاء مدن جديدة تلحق بهذه المدن أو توسيع أحياء المدن القائمة، وقد قامت حتى الآن بتقديم قروض إلى الأقاليم والولايات بلغ مجموعها ١٠٤٫٥ ملايين روبية، منها ٥٠ مليونًا لمشاريع إيواء اللاجئين و٥٤٫٥ مليون روبية هي قيمة ما حصَّلته من ضريبة اللاجئين منذ بُدئ بتحصيلها في نوفمبر عام ١٩٥٠ حتى نهاية مارس ١٩٥٤، كما قدمت الحكومة المركزية قرضًا قدره ١٥ مليون روبية للبنجاب، و١٦٫٦ مليون روبية للبنغال الشرقية، وخمسة ملايين روبية للسند؛ وذلك لتدعيم القروض التي قدمت لها في العام السابق للغرض نفسه، وقد استُغل زهاء ٦٠ مليون روبية من مجموع القروض التي قدمت للولايات حتى الآن في إنشاء مثل هذه المدن الجديدة في الأقاليم.
وتجيء بعد ذلك مشكلة مياه الأنهار والقنوات.
ومشكلة مياه الأنهار وثيقة الصلة بمشكلة كشمير، ومما يستحق الذكر بشأنها أنه لما استدعت لجنة الأمم المتحدة للوساطة في موضوع كشمير الجنرال سير دوجلاس جريسي القائد العام للجيش الباكستاني وقتئذ، وهو بريطاني، روى لها الرجل وهو يبرر دخول القوات الباكستانية إلى كشمير أن إدارة المخابرات العسكرية في الجيش الباكستاني قد نمى إليها أن الجيش الهندي يعد حركة هجوم على نطاق واسع يهدف بها إلى احتلال كشمير، وقال القائد: إن المشروع، كما وصل إليه رجال المخابرات، كان يتضمن الوصول إلى نقط استراتيجية بعيدة سواء في الشمال الغربي أو الجنوب الغربي في مناطق قريبة جدًّا من حدود باكستان، وكلها شديدة الازدحام بالسكان وتبلغ نسبة المسلمين فيها ١٠٠٪.
وقد رأى المسئولون في باكستان أنه لو تم هذا المشروع لكان فيه القضاء على باكستان، وذلك لأن احتلال الهند لكشمير كان القصد منه وضع العالم كله أمام الأمر الواقع … كما أنه سيكون من نتيجة تنفيذ هذه الخطة هجرة بضع مئة ألف أخرى من اللاجئين إلى باكستان مما يزيد من حدة الأزمة الاقتصادية، كما أنه يؤدي إلى تهديد دائم للحدود الباكستانية بواسطة الجيش الهندي وتهديد للخط الحديدي الذي يوصل بين بشاور ولاهور مخترقًا غرب إقليم البنجاب … وأخيرًا فإن أخطر النتائج التي تترتب على ذلك هي احتلال مصادر المياه العليا للأنهار الثلاثة التي تنبع في كشمير وتجري في باكستان، إذ كان معناه سيطرة الهند على هذه المياه وإمكان خنق الباكستان في أي وقت.
وقد كان لهذا التهديد بحرمان باكستان من المياه أثر عميق في نفوس الباكستانيين، فقد كانت مياه الأنهار الستة، وهي السند وجيهلم وجيناب وراوي وستلج وبياس، ومجموعة القنوات التي تربط بينها ذات أهمية حيوية للزراعة في شبه القارة.
أما الهند فقد استنكرت هذا الاتهام بكل شدة وقالت إنه لم يَدُر أي تفكير في مشروع كهذا، وأشارت إلى الاستحالة المادية التي تعترض التصرف في هذه المياه وإلى ما يتكلفه تنفيذها، بفرض إمكانه، من أموال طائلة. كما أشارت إلى أن كميات المياه في هذه الأنهار من الوفرة بحيث يمكن أن تكفي حاجة الدولتين.
ولكن على الرغم من هذا ظلت الباكستان في قلق بسبب مشكلة المياه، وذلك لأن باكستان الغربية تعتمد اعتمادًا كليًّا على مياه حوض نهر السند التي تستمد منها حياتها، وسكان هذا الإقليم يتزايدون بكثرة، وقد زاد عليهم عدد اللاجئين الذين هاجروا إليه من الهند، وكل هؤلاء بحاجة إلى كل مياه الري التي سبق أن أحالت في الماضي ٣١ مليون فدان من أراضٍ صحراوية إلى أراضٍ زراعية تعد من أخصب أراضي العالم التي تنتج الحبوب.
وقد كان من الوسائل التي عمدت إليها بريطانيا في مكافحة المجاعات المروِّعة التي كانت تكتسح إمبراطوريتها بالهند في النصف الأخير من القرن التاسع عشر؛ إقامة نظام للري في إقليمي البنجاب والسند يعتبر من أحسن وأعظم أعمال الري في العالم كله، وقد ساعد هذا النظام على استغلال مياه الأنهار الخمسة التي تصب في نهر السند، وهي أنهار جيلوم وشناب وراوي وبياس وستلج، وفي تحويل ٣٦٫٥ مليون فدان من الأراضي الصحراوية إلى جنات زاهرة أُطلق عليها بحقٍّ «سلة الخبز» بالهند. ويكفي لكي نبين أهمية هذه الأنهار الخمسة لإقليم البنجاب أن نذكر أن كلمة «بنجاب» مشتقة منها، فكلمة «بانج» باللغة الأوردية معناها «خمسة» و«آب» معناها ماء، وعلى هذا يكون معنى «بنجاب» أرض الأنهار الخمسة.
ولولا كميات المياه التي تفيض بها هذه الأنهار لتحولت كل هذه الأراضي الخصيبة في الحال إلى صحار جرداء.
وتزخر أنهار حوض السند بالمياه الغزيرة في شهور يونيه ويوليه وأغسطس من كل عام، وذلك حين تنساب الثلوج المذابة في أعلى التلال وتتضاعف كمياتها بالتقائها بمياه الأمطار الموسمية في المناطق التي تتجمع فيها مياه هذه الأنهار، وتقل الإفادة من هذه المياه عند حلول موسم الفيضان وتنساب كميات كبيرة منها إلى البحر.
وقد كانت المياه توزع توزيعًا عادلًا بين الولايات بما يتفق مع القواعد الدولية المرعية، بمعنى أن من يستغل هذه المياه عند أعلى مجاريها يجب أن يحترم حاجة من يريد الإفادة منها عند مصابِّها، ولذلك وضعت اللوائح المفصَّلة لحماية حقوق أصحاب الحاجة إلى هذه المياه عند المجاري السفلى.
وقد أُعيد النظر في هذه المبادئ في عام ١٩٤٢ على يد لجنة السند (لجنة راو)، وقد جاء في تقريرها أن إقامة سد «بهكرا» على أعالي نهر ستلج سيؤثر على كميات المياه التي تحصل عليها السند من ستلج، وقد وُضع هذا التقرير على أثر احتجاج تقدم به إقليم السند.
•••
توافق اللجنة على أنه ليس هناك ما يدعو لتعديل الأنصبة المصرَّح بها من الماء المخصص للمنطقتين وللقنوات المتعددة.
وإذا كان التقسيم قد منح الباكستان أكبر جزء من الأراضي الخاضعة لنظام الري في كل من البنجاب والسند، إلا أن المشاريع التي تتحكم في مياه بعض القنوات الضخمة التي تغذي الباكستان بمياهها قد تُركت في أيدي الهند أو كشمير.
ففي المناطق الغربية من البنجاب والسند في الباكستان أراضٍ تعتبر من أخصب الأراضي التي تنتج المواد الغذائية في العالم، ولكن هذه الأراضي لن تلبث أن تتحول إلى صحارى إذا ما حُرمت من مياه الري، فقد يجف في أسبوع واحد ٢٠ مليون فدان من الأراضي وبذلك يتعرض عشرات الملايين من السكان لخطر الموت جوعًا، وليس في استطاعة أي جيش بما لديه من قنابل وقذائف نارية أن يدمر هذه الأراضي كما يدمرها مجرد حرمانها من المياه التي تبعث الحياة في حقول الباكستان وأرواح سكانها.
وإذا ما استثنينا الفترة القصيرة التي تسقط فيها الأمطار الموسمية فإن الأمطار لا تسقط في الباكستان والأراضي المجاورة لها من الهند، وهي المنطقة التي تكوِّن جزءًا من حوض السند العظيم وفروعه الستة، وإذا ما علمت أن مدينة عظيمة كلاهور تعتمد في مياه الشرب على إحدى القنوات أدركت أن المزارع ليست هي الوحيدة التي تحتاج إلى مياه هذه القنوات، وهذا ما يجعل الباكستان في خوف دائم من المستقبل.
ومن جهة أخرى، فإن على الهند أن تحصل على مياه وفيرة وإلا هددتها أخطار المجاعة، إذ إن التقسيم لم يمنح الهند أية قناة أو أي مشروع من مشاريع الري، كما أن نسبة الأراضي التي ترويها مثل هذه المياه ضئيلة إذا قورنت بما تحتاجه الهند منها، إذ تبلغ حصة الباكستان من الاثنين والعشرين مليون فدان التي ترويها مياه نهر السند ١٨ مليون فدان، أما حصة الهند فهي تقرب من خمسة ملايين فدان، ومع ذلك فإن عشرين مليون نسمة يقطنون هذه المناطق من حوض السند في الهند، أما عدد الذين يسكنون هذه المناطق في الباكستان فيبلغ ٢٢ مليون نسمة، وهنالك ٣٥ ألف فدان أخرى من نصيب الهند في وادي السند يمكن أن تُستغل استغلالًا عظيمًا في زيادة إنتاج المواد الغذائية إذا توفر لها الري المناسب، ولذا فإننا نرى الهند تسارع إلى حفر القنوات وإنشاء السدود والمصارف لتوفير المياه اللازمة لهذه المساحة الكبيرة من الأراضي بقدر المستطاع.
وكان من الطبيعي أن يصاب الباكستانيون بالفزع حين يعلمون بنبأ هذا البرنامج الذي ينفذه الهنود لتحسين حال الريِّ في بلادهم، إذ إن معظم هذه المياه التي ستُستغل في المشاريع المذكورة ستُسحب من الأنهار والقنوات الموجودة في الهند، والتي كانت ستجري إلى الباكستان لو لم تجد من يحول دون ذلك.
ويقول الباكستانيون إن معنى ذلك هو حرمانهم من المياه التي لهم حقٌّ شرعيٌّ وإنسانيٌّ في الحصول عليها. أما الهند فتقول إن هذه المياه هي مياهها وإنها صاحبة الحق الأول فيها وإن شعبها يجب أن يأكل كذلك. وقد نتج عن ذلك صراع خطير يتوقف عليه مصير ٤٢ مليون إنسان.
وليس هنالك أي أمل في أن يخيِّم السلام على ربوع شبه القارة الهندية الباكستانية ما دامت بوادر الانفجار ماثلة للعيان، ولن يتحقق هذا السلام إلا إذا عُجِّل بإيجاد حلٍّ حاسم لمشكلة المياه، حتى ولو أُجري الاستفتاء في كشمير، إذ إن حل مشكلة المياه حلًّا إيجابيًّا لابد أن يخلق جوًّا جديدًا يمهِّد السبيل لحل مشكلة كشمير على أساس جديد لا يخطر على الأذهان في الوقت الحاضر، لعقم الطريقة التي تُعالج بها هذه المشكلة والجو الذي يحيط بها.
•••
ويبدو أن البنك الدولي قد بدأ في المدة الأخيرة يهتم بهذا المشروع، وأنه لا يمانع في تمويله، ولهذا دارت في واشنطون محادثات بين المختصين في هذا البنك ومندوبي الهند وباكستان، وإذا انتهت المحادثات إلى نتيجة مرضية فلا شك أنها ستؤدي إلى حلٍّ عمليٍّ لهذه المشكلة تفيد منه الدولتان، إذ سيمكن الانتفاع بمياه الفيضان التي تضيع هباء، وسيمكن استصلاح الأراضي، وإيواء اللاجئين، وبذلك تحل مشكلة من مشاكل الدولة الجديدة، ويُسوَّى نزاع خطير بينها وبين جارتها الهند.
ولننتقل الآن للكلام عن كشمير ومشكلتها الكبرى.