رحلة في كشمير
تقع ولاية كشمير في قلب آسيا فوق سلاسل جبال الهملايا، وتحدها من الشمال أفغانستان وروسيا وولاية سنكيانج الصينية، ومن الشرق التبت، ومن الجنوب الهند، ومن الغرب باكستان.
- (١) محافظة جمو Jammu.
- (٢)
محافظة وادي كشمير.
- (٣) محافظة لداخ Laddakh وبالتستان Baltistan وجلجيت Gilgit.
واختلاف الارتفاعات في ولاية كشمير هو الذي ميزها باختلاف المناخ، فمن حرارة شديدة في المناطق المنخفضة إلى برودة شديدة وجليد في المناطق المرتفعة.
وقد حدث عندما وصلنا إلى لاهور عاصمة مقاطعة البنجاب أن رأيت في محطتها شابًّا نشيطًا يقبل علينا باسمًا مرحِّبًا … وأقبل علينا يقول: أنا مصري!
فكانت مفاجأة سارة أن نقابل شابًّا مصريًّا في هذا المكان دون أن نتوقع ذلك، وعلمت بعد ذلك أن الشاب هو المهندس اللاسلكي محمد حسين جمعة الذي يعمل في لجنة الهدنة الدولية التابعة للأمم المتحدة في كشمير.
ومما يدعو إلى الفخر أن محمد حسين جمعة هو المصري الوحيد في تلك اللجنة، وهو يعمل في تلك الجهات النائية بعيدًا عن أهله ووطنه دون أن يشكو مرارة البعد عن الأهل والوطن، بل هو يقبل على عمله في نشاط وحماسة، ويعتبر نفسه سفيرًا لبلاده في تلك الجهات.
وقصة محمد حسين جمعة واختياره في لجنة الهدنة الدولية جديرة بالتسجيل لتكون مثلًا حسنًا للشباب، ففي شهر ديسمبر من عام ١٩٥٠ مر بالشرق الأوسط موظفان من كبار موظفي الأمم المتحدة، وكانا يبحثان عن أربعة ضباط للعمل بقسم اللاسلكي وقد رشحت لهما مصلحة التليفونات والتلغرافات المصرية ٢٠ موظفًا من أكفأ موظفيها، ولما عقد الامتحان لاختيار المرشحين نجح محمد حسين جمعة فيه.
وفي شهر أبريل من عام ١٩٥٢ رُشِّح للوظيفة وصدرت إليه الأوامر بالسفر في الحال إلى دلهي عاصمة الهند لمقابلة مندوب الأمم المتحدة هناك، حتى يقوم بتسهيل سفره إلى سرينجار عاصمة كشمير، لكي يعمل مع بعثة المراقبين الحربيين التابعين للأمم المتحدة في كشمير.
وأثناء زيارتنا لباكستان كانت بعثة الأمم المتحدة تتكون من ١٥٠ مراقبًا، منهم العسكريون وضباط اللاسلكي وبعض الإداريين والسكرتيرين، وقد تم اختيارهم بعناية من جميع الدول فكان منهم البلجيكي والأسترالي والدنماركي والمصري، وكان كبير المراقبين الحربيين — عامئذٍ — هو الجنرال نيمو الأسترالي وكبير الإداريين هو المستر أندرسون الكندي.
أما المحطة اللاسلكية التي يعمل بها المهندس جمعة فمقرها مدينة «روالبندي» في باكستان، وهي تقوم بالاتصال بجميع بعثات الأمم المتحدة في كافة أنحاء الأرض وبالمقر الرئيسي للأمم المتحدة في نيويورك، وقد أُعدت شبكة داخلية من المحطات اللاسلكية على طول خط الهدنة في كشمير وذلك لتسهيل الاتصال رأسًا بمقر كبير المراقبين في حالات الضرورة كوقوع حوادث فيها نقض لشروط الهدنة بين الفريقين، وإذا جاء الصيف تنتقل بعثة الأمم إلى مدينة سرينجار عاصمة كشمير لاعتدال مناخها، وللبعثة طائرة خاصة تستعمل في تنقلات موظفيها وهي ذات لون أبيض وعليها شعار الأمم المتحدة.
هبطت بنا الطائرة في مطار دلهي وكان ذلك في شهر يوليه، وكانت أرض المطار مغطاة بالحشائش الخضراء حتى ليصعب عليك أن تميز مدرجات المطار. وما إن فُتح باب الطائرة حتى لفح وجوهنا لهيب كأنه ريح السَّمُوم، وكان أغلب المستقبلين عند باب المطار من الهنود ببشرتهم السمراء اللامعة وشعرهم الأسود، وكان الرجال منهم يلبسون نوعًا من القماش الخفيف الأبيض وقد لُفَّ حول أجسامهم بطريقة خاصة وفي أرجلهم صنادل عادية. أما النساء فقد لبسن «الساري» الجميل، وهو عبارة عن قطعة واحدة من القماش الخفيف الملوَّن تُلَفُّ حول الجسم والكتف اليسرى، وهن لا يلبسن جوارب إطلاقًا بل يكتفين بصنادل خفيفة مزركشة.
وتمت إجراءات الجوازات والجمرك بسرعة عجيبة، وقد أُعجبت بموظفي المطار لبشاشتهم وحسن معاملتهم للضيوف الذين يقصدون بلادهم. كان العرق يتصبب مني، ورغم أن المكاتب جميعها مجهزة بالمراوح الكهربائية فإن الحرارة كانت شديدة إلى درجة غير مألوفة.
ثم توجهت فورًا إلى وزارة الحربية الهندية للحصول على تصريح بدخول كشمير، فمرت بنا السيارة في منطقة الوزارات بعاصمة الهند وقد بُنيت وفقًا لطراز هندسيٍّ حديث، إذ يقع قصر رئيس الجمهورية في الوسط وبجواره قصر رئيس الوزراء، ومن حولهما دور جميع وزارات ومصالح الحكومة. وفي مكتب وزارة الحربية تملأ عدة استمارات خاصة وتوقع على عدد آخر حتى تحصل أخيرًا على التصريح الحربي بدخول منطقة كشمير.
وللذهاب إلى كشمير طريقان: أحدهما بالقطار إلى مشارف كشمير الجنوبية أي منطقة جمو، ومنها بالسيارة إلى قلب كشمير حيث توجد مدينة سرينجار العاصمة. أما الطريق الأسهل فهو بالطائرة طبعًا، وهذا ما فعلته هربًا من حرارة الطريق البري في الصيف.
ومن نافذة الطائرة شاهدت أجمل منظر في هذه الرحلة، فما إن عبرت الطائرة ممر بني هال وأصبحت في وادي كشمير الساحر حتى شاهدت الجبال العالية وقد غطتها الأشجار العديدة والحشائش الخضراء الجميلة والوديان العميقة وقد فُرشت ببساط سندسيٍّ أخضر زاهي الألوان، وفي قاع الوادي لاحظت أشرطة من الفضة تلمع تحت أشعة الشمس؛ تلك هي منابع الأنهار ومصارف مياه الأمطار التي تغذي شبه القارة الهندية كلها: الهند وباكستان، إنه منظر فريد يأخذ بالألباب. وأجمل منه تلك القصور الجميلة المستقرة فوق قمم الجبال أو في قاع الوديان، وتلك القرى المنتشرة أو المبعثرة هنا وهناك وقد أحاطت بها خضرة جميلة هي الطبيعة على أصلها لم تمسها يد بالتغيير أو التبديل.
وبعد قليل هبطت بنا الطائرة في مدينة سرينجار، فأدهشني اعتدال المناخ وتلك الرياح الرطبة التي تهب علينا. تقدمت بأوراقي إلى رجال البوليس والجمرك وهم كشميريون، وأول ما يُلاحظ عليهم بياض بشرتهم واستدارة وجوههم، وهم أقرب بكثير إلى شعوب منطقة الشرق الأوسط ويختلفون كثيرًا في أشكالهم عن الهنود والباكستانيين، ومعظمهم يتكلم الإنجليزية بطلاقة بسبب اختلاطهم بالسائحين الذين يفدون إلى بلادهم.
إن الحياة في هذه العوامات جميلة حقًّا، إذ تشعر أنك تعيش بين أفراد أسرتك لما امتاز به الكشميريون من بشاشة وكرم ضيافة، وهم يقدمون ألوانًا من الأطعمة إنجليزية أو فرنسية أو إيرانية أو مصرية، وذلك بفضل ما تعلموه من السائحين من مختلف الأجناس.
وينبت في كشمير عدد مختلف من أجمل أنواع الأزهار وألذِّ الفواكه كالتفاح والكمثرى والبرتقال والكريز والتين والمشمش وغيرها، وهي رخيصة الثمن جدًّا بسبب عدم تصديرها لصعوبة المواصلات، كما يوجد بها عدد لا بأس به من الدببة والنمور والثعالب خصوصًا في المناطق الشمالية، وتوجد مواسم خاصة للصيد فتقوم الحكومة بمنح تصاريح للهواة في صيد الحيوانات أو الطيور.
ووسائل المواصلات في كشمير هي الطائرة والسيارة فقط، والأخيرة لا تصلح في فصل الشتاء بسبب وعورة المسالك وسقوط الجليد، فإذا انتقلت من مكان لآخر مرت بك السيارة في طرق حلزونية ملتوية تصعد تارة حتى تصل إلى مستوى السحاب أو فوقه وتهبط تارة أخرى حتى تخترق مجاري الأنهار ومصارف المياه.
ومما يسترعي النظر أن الطبيعة قد أضفت جمالها بسخاء على كشمير فالجبال والحيوانات والطيور قد انطبع عليها جمال خاصٌّ، وكذلك الأهالي أيضًا فالنساء والبنات والأطفال آيات رائعة من الجمال، فهذه البشرة المستديرة البيضاء والعيون الزرقاء والقوام المعتدل هي الصفات التي تميز أهالي كشمير عن بقية أهالي القارة الهندية.
والكشميريون شعب مسالم يحب الهدوء والقناعة إلا أن الفقر ما زال يخيم على المنطقة بأكملها، فتجد الفلاح يكد ويكدح ليحصل على دراهم معدودة وكذلك التاجر والصانع وغيرهم، ولعل ذلك من آثار عهود الإقطاع السابقة.
ومن الطريف أن الأهالي ينتهزون موسم الأمطار فيزرعون كل شبرٍ من الأرض سواء في أعلى الجبال أو في أسفل الوديان، حتى البحيرات العديدة يزرعونها! فتراهم يجلبون التراب ويلقون به على سطح البحيرة فيترطب ويتماسك وتتكون منه طبقة يبلغ سمكها نحو نصف متر فيزرعونها بالأزهار والفواكه المختلفة، ولكل شخص قطعة كبيرة قد تبلغ الفدان أو يزيد، وكلها متماسكة حتى إنه يستطيع أن يقف فوقها ويتفقد نباتاته. وقد ظهر بين الفلاحين نوع طريف من اللصوص الذين يسرقون الأراضي، وذلك بأن يربطوا قطعة الأرض المتماسكة في قارب ثم تنقل إلى مكان آخر على سطح البحيرة بما عليها من فواكه وأشجار، فيصبح الصباح ويتفقد الفلاح أرضه فلا يجدها! وهذه هي الحدائق العائمة في كشمير.
أما الشتاء في كشمير فهو موسم الهدوء والكساد، وللشتاء جماله هناك كما للصيف جماله، إذ تغطي الثلوج قمم الجبال وبالتالي الطرق الجبلية فتنقطع سبل المواصلات بين وادي كشمير والمناطق الأخرى، فتُهرع الحكومة والهيئات الرسمية والأعيان إلى منطقة جمو حيث الشمس الساطعة والدفء الجميل.
والكشميريون عادة يتزوجون صغارًا، ولا يزال معظمهم أو كلهم محافظين لأن أغلبهم مسلمون، ويندر جدًّا أن ترى امرأة أو فتاة سافرة الوجه، وإذا حاول السائحون التقاط أي صور لهن فإنهن يهربن ويخفين وجوههن بكافة الطرق.
ولقد تغنى الشعراء بجمال كشمير من أقدم العصور، حتى لقد وصل إلينا هذا الشعر الذي يرجع تاريخه إلى عام ١٦٢٠ منسوبًا إلى الإمبراطور سليم جاهنجير يصف فيه جمال كشمير: