الفصل الثالث
١
رائحة تحميص الملوخية مع الثوم والكزبرة تملأ الدرَج حتى مدخل العمارة، وَقْعُ خطواتٍ سريعة تقترب نحو الباب، كان ممسكًا بيدها محاولًا طمأنتها وهما ينتظران الباب ليُفتَح، شَعَرتْ به يرتجف وقد بلَّل العرق يدها بالكامل، ابتسمَتْ له، «إنه متوتر أكثر مني!» يتحرك مقبض الباب وينفتح إلى الداخل مُصدِرًا أزيزًا عاليًا، يُطل وجه سيدةٍ خمسينية بثياب البيت الصوفية وقد جمعَت شعرها المصبوغ بالأشقر بربطةٍ حمراء تتناسب مع ثيابها المزهَّرة، منتعلةً خُفَّين أسودَين وجوربَين سميكَين. ما إن وقعَت عيناها على ابنها الذي لم ترَهُ منذ سنتَين تقريبًا حتى صرخت: «نووووور.» وضربَت على فخذَيها من هول المفاجأة، ضمَّته إلى صدرها بكثير من العناق والقبلات والدموع، وسرعان ما أقبلَت نورة وعانقَت أخاها.
وبعد موجة الاستقبال الحار الذي دام طويلًا عند العتبة ولا يزال الباب مفتوحًا انتبهَت نورة إلى وجود سيدة في الخارج بجانب الحقائب، نظَرَت إلى أخيها مستفهمة، يبدو أنه نسيها لبرهة، أمسك بيدها وأدخلها إلى البيت قائلًا: «ماما، نورة، هذه رندة …» وسكَت. قطَّبَت الأم جبينها ونظرةُ فزعٍ واستفهامٍ قفزَت إلى عينَيها، وهي تَستحِثُّه على إكمال حديثه. ابتسم مُرتبكًا وأكمل: «رندة زوجتي!» وساد الصمتُ لحظاتٍ واختفَت ملامحُ السعادة التي كانت تُرفرِف على الوجوه، لتحُلَّ محلَّها نظراتُ الصدمة والتأنيب.
كانت نورة أوَّل من تحدَّث فقالت: «تفضَّلا بالدخول، لا بد أنكما متعبان من السفر، سأُدخل الحقائب إلى غرفتك نور، إنها على حالها منذ تركتَها، هيَّا، هيَّا.» دخل الجميع وأُغلق الباب أخيرًا، جلسَت رندة على إحدى الكراسي في الصالة، وحين همَّ نور بالجلوس جذَبَتْه والدتُه من يده إلى المطبخ وأغلقَت الباب وقالت: «كنتُ أتوقَّع منكَ كل شيء، كل شيء إلا هذا، كيف طاوعَكَ قلبُك لتفعل بي ذلك؟ ما عُدتَ تهتمُّ لرأي أمك، كل هذه السنين وأنا أنتظر أن أفرح فيك، وأنتَ تحرمني من فرحة عمري؟ بهذه البساطة تفرضها علينا، حرامٌ عليك …» قاطعَها نور ممسكًا بيدها: «ماما، ماما.» انتزعَتْها منه وقالت والدموع تطفَر من عينيها: «دعني أُكمل، لا تقاطعني، أبوك ليس هنا، لكن جِدْ حلًّا قبل عودته، لا تتوقَّع منه أن يُرحِّب بشخصٍ غريب معنا.» وأشاحت بوجهها ناحيةَ الفرن وهي تُدافع دموعها.
خرج نور والهم يركبه والغصَّة تخنقه، وجدها واقفة تنظُر إليه بعينٍ كسيرة، «لقد سمعتُ كل شيء.» أمسك بيدَيها معتذرًا متوسلًا، لم يقل شيئًا؛ فلا شيء يمكن أن يُقال، سحبَت يدَيها بهدوء، تناولَت حقيبتها وهمَّت بالرحيل، عندها جاءت نورة حاملة كوبًا من الماء، صاحتْ: «رندة بالله عليك إلى أين تذهبين، تعالي، كُلي شيئًا على الأقل، لا يمكن أن أسمح لك بالرحيل. نور، قل شيئًا، الآن يأتي بابا ونحُل كل شيء.» نور بقي جامدًا، الأم في المطبخ، رندة تنتظر نور، نور لا يقول شيئًا، ونورة تتوسَّل. ابتسمت رندة وقالت: «بل سيتعقد كل شيء»، استدارت واتجهَت ناحية الباب، «لا تذهبي.» قال نور أخيرًا، لكن رندة فتحت الباب وإذ بها أمام عمها مباشرة.
قفزَت نورة باتجاه رندة ومن غير أن تتفوه بكلمة سحبَتْها من يدَيها إلى غُرفتها. دخل الأب في دوامة المفاجأة والصدمة، وجد نور أمامه منكبًّا على يدَيه يعانقه ويبكي، قال: «متى وصلتَ؟ لِمَ لَم تخبرنا؟ كنا أحضرناكَ من المطار، هكذا تُفاجئنا؟» ابتسم نور مجاملةً، «ما لكَ يا ولد، أنت مريض؟ تعالي أم نور أين أنت؟ نورة تعالي هذا أخوك رجع دكتورًا قد الدنيا.» وضرب على صدر ولده بفرح. أقبلَت أم نور، وحين رآها قال: «ما لك أنت أيضًا؟ حصل شيء؟ أخبروني.» وأخذ ينقل نظره بينها وبينه، قالت: «قل له أنت يا نور.» أمسك نور بكتفَي أمه وقال: «أمي أرجوك تمالكي أعصابك، لم يحدث شيء، لا تُخيفي أبي.» صرخ الوالد على الفور: «ماذا؟ تكلَّم يا ولد الآن، ماذا حصل؟» التفت نور ليتحدث، فقالت أمه: «ابنك تزوَّج، تزوَّج يا أبو نور، تزوَّج.» وشدَّدت على حرف الواو. ضرب نور على جبهته، حملَق والده فيه، قال نور: «بابا، بابا، دعني أشرح لك كل شيء، أنتَ تريد أن تفرح بي، وأنا أنهيتُ دراستي وسأعمل، وهي طيبة جدًّا ولطيفة. إنها …» ولم يعرف ما يقول فقد أخرَسَتْه ملامح وجه أبيه الذي تهاوى على أحد المقاعد وأشار إليه بيده أن اذهب، وجلس الجميع صامتين.
بعد عشر دقائق أو يزيد من الصمت قام والد نور إلى غرفته ثم خرج منها وهو يحمل مبلغًا من المال، اتجه ناحية نور فوقف من فوره، قال: «يا ولد، ما درَّسناك وصرفنا عليك حتى آخر شيء تعمل فينا الذي عملته، تُحب أن ترجع لبيتك أهلًا وسهلًا، لكن وحدك، وإذا ما رفضتَ فتفضل هذا المبلغ لتدبرا أموركما، لكن لا تُرني وجهك مرةً أخرى.» حملَق نور في أبيه وانفجر قائلًا: هل تطردني من البيت؟
– تحمَّل نتيجة أفعالك، أما بيتك فهو مفتوحٌ لك في أي وقت.
– يعني أترك زوجتي؟ هل هذا ما تريد؟
– …
– تعرَّفْ عليها على الأقل، قابِلْها.
– …
– ليتني لم أعُد ولم أرَكُم أبدًا، ونقودُك هذه لا أحتاجها.
ثم صرخ بأعلى صوته: «رندة، رندة.» خرجَتْ مسرعة، سحبَها من يدها بقوة وأخرج الحقائب، وصفَق الباب وغادَر.
على قارعة الطريق وقفا مع حقائبهما في برد شباط الشديد، وقد سيطَر الغضب على نور ومنع عنه التفكير، كان يلتفت يمينًا وشمالًا وهو يضرب بيدَيه مرة على رأسه ومرة على فخذَيه في حالة ذهول، ثم تهاوى جالسًا على الرصيف وقد غابت عنه تمامًا أية قدرة على التفكير. تقدَّمَت رندة ووقفَت عند مقدمة الشارع، وبحركاتٍ واثقة أوقفَت سيارة أجرة، تحدَّثَت مع السائق، فتح لها الباب الخلفي وقاما بإدخال الحقائب. كان نور يراقبها بذهول: ماذا تفعل؟ وهل تعرف أين تذهب؟ اقتربَت منه بابتسامةٍ حانية، مدَّت يدها له، ومثل طفلٍ تاه عن أمه طويلًا سلَّمها يده ونفسه فقادَته إلى السيارة وانطلَقوا.
انطلقَت السيارة من حي السبيل باتجاه أحياء حلب القديمة وصولًا إلى الجامع الكبير حيث توقفَت. حاسبته رندة، وأنزلا الحقائب واتجها إلى ساحات الجامع.
جلس نور بجانب الحقائب، وظلت رندة واقفةً شابكة يدَيها إلى صدرها، ودمعةُ إجلالٍ التمعت في عينَيها وهي ترى الجامع الأموي للمرة الأولى. كانت مثل عاشقٍ يرى معشوقه بعد طول غياب، يُمتِّع نظره بكل جزء منه، يتفحَّصه بحب وإجلال وشوق، ساق الحب خطواتها نحو معشوقها للتوغل فيه وسبر أركان جماله ركنًا ركنًا، كانت مأخوذة تمامًا بأرضيته المرصوفة بالبلاط الرخامي ذي اللونَين الأصفر والأسود والذي يتوزَّع بأشكالٍ هندسية جميلة. مشت حتى قُبتَي الوضوء اللتَين التفَّ حولهما بعض الرجال، والكثير من الأطفال يدورون ويلعبون، وطيور الحمام تشرب ما تطاير من مائها المتلألئ تحت أشعة الشمس الخجولة. اقتربَت أكثر، جثت على ركبتَيها، خلعَت معطفها الجلدي، ورفعَت كُمَّي بلوزتها الصوفية حتى مرفقَيها وشرعَت بالوضوء، نزلَت المياه شديدة البرودة على يدَيها، ارتعش جسدها لحظة، فملأَت كفَّيها وارتشفَت رشفاتٍ منه، غسلَت وجهها ومرفقَيها ومسحَت على شعرها بعناية، كانت تؤمن أن كل قطرة منه مباركة طاهرة ومطهِّرة. أنهت وضوءها وشربَت مجددًا من هذا الماء المبارك، هذا العنصر العجيب الذي تجود به الطبيعة، ليهب لنا الحياة. وفي هذه الساحات الطاهرة رأت الحياة في أسمى مظاهرها، امتزجَ الماء الطاهر بلحمها ودمها، فالتذَّت روحها، واطمأنَّ قلبها، وسكنَت نفسها، وشعرت بالقوة التي ستُعينها على ما سيأتي من أحداث، ثم استوت واقفة واستدارت وإذا ببعض الأعين ترمُقها وكأنما ارتكبَت جُرمًا، مَن هذه المرأة الحاسرة الرأس التي تجرأَت على الوضوء في مكانٍ مخصص للرجال؟! ابتسمَت لهم، ارتدَت مِعطفَها وسارت باتجاه الأروقة. كانت الفوانيس النحاسية المدلَّاة من السقف قد أضِيئَت؛ فقد شارفَت الشمس على المغيب. كم شخصًا عمل على إنشاء هذه الأقواس والزخارف والفوانيس؟ وكم مرَّ ناسٌ من هنا من غابر الأزمان؟ يموت الإنسان ويبقى الحجر، ويظل شاهدًا على كل مَن حملَه ونقلَه ورفعَه، وعلى كل من مرَّ بقربه. كانت تؤمن أن للأماكن ذاكرتها الخاصة، ولا يزيدها القِدَم إلا عراقة وحكمة؛ فهي تختزل كل الناس والأحداث وكلَّ ما كان يُقال من صلوات وأدعية ومناجاة، ولو استطاع الإنسان الوصول إلى ذاكرة الحجر لرأى عجبًا! دارت الأفكار هذه في رأسها وهي تُمرِّر يدها على الجدران، توقَّفَت عند لوحة خطٍّ كُتب عليها: «إذ نادى ربه نداءً خفيًّا.» مكتوبة بخط الثلُث الذي تعرفه جيدًا، لماذا يكون النداء خفيًّا؟ ولماذا إذن يرفع كثيرٌ من الأئمة أصواتهم بالدعاء حتى كأن بعضهم يصرخ صراخًا؟
أحسَّت بيدٍ تُربِّت على كتفها، استدارت فوجدت سيدةً قد غزت التجاعيد وجهها المغطَّى نصفه وهي تحمل بيدها رداءً ترابيَّ اللون، قالت: «ألا تريدين أن تدخُلي الجامع وتزوري مقام سيدنا زكريا؟» ابتسمَت رندة وقالت: «بالطبع أريد.» قالت السيدة: «استديري يا بنتي أساعدك على لبسه.» انصاعت رندة للطيبة في وجه العجوز واستدارت لها، فوضعَت السيدة الرداء على كتفَيها، وقامت رندة بإدخال يدَيها في الأكمام، فوصل الرداء إلى ما قبل كاحلها بقليل، وقامت السيدة برفع القلنسُوة المثبَّتة بالرداء على رأس رندة التي أدخلَت شعرها فيه جيدًا ثم قالت للسيدة بفرح: «ها! كيف أبدو؟» أجابت: «مثل حوريات الجنة!» التمعَت عينا رندة، فلم تتوقَّع جوابها. شكرتها، واتجهَت نحو الجامع.
كان نور ما يزال تحت تأثير الصدمة جالسًا في ساحة الجامع بجوار حقائبه يستعيد ما مَرَّ معه في بيت والده، كيف يمكن أن يكونوا بهذه القسوة؟ أين نذهب الآن؟ أنعود إلى ألمانيا؟ وهل بقي معنا نقود أصلًا للسفر؟ ماذا ستُفكِّر رندة بي الآن؟ لكن لحظة، أين رندة؟ بالله عليها ماذا تفعل؟ وقف باحثًا عنها في ساحات الجامع فلم يجدها، زاد غضبُه وأخذ يذرع المكان جيئة وذهابًا، عليها أن تكون أكثر شعورًا بالمسئولية، كيف تتركني وتمضي وحدها؟ بعد دقائقَ أحسَّها نور دهرًا عادت رندة، كانت ترتدي رداءً عجيبًا يُغطِّي رأسها فلم يعرفها، ولما اقتربَت كانت مبتسمة، وكان نور غاضبًا، كيف يمكن لها أن تتركني وتنسى مصيبتنا لتمارس هواياتها السياحية؟ وما إن اقتربَت أكثر ومن غير أن يسمح لها بكلمة انفجر في وجهها تعنيفًا وصراخًا. وفي محاولة منها لتهدئته قالت: «أنت تُبالغ.» لكن ما زادته هذه الكلمة إلا غضبًا وحنقًا فما كان منه إلا أن انفجر بغضبه وإحباطه وخيباته كلها عليها وصفعَها على وجهها صَفعةً أوقعتْها أرضًا!
•••
شهقتُ فزعًا وأغلقتُ وجهي بيديَّ، هل يُعقل هذا؟ جدو نور باتزانه وطيبته فعل ذلك؟ حين سمع شهقتي قال: «نعم أعلم كم كنتُ قاسيًا، كانت المرة الأولى والأخيرة التي أضرب فيها إنسانًا، فضلًا عن الإنسانة الأجمل التي أحببتُها واخترتُها. عندها أخذُت رندة تبكي، رندة الجميلة كانت تبكي على الأرض، وقد آلمتُها بنفسي، بيدي هذه، كان إحساسي بالندم لا يُوصف، عندها توجَّه إلينا بعض المصلين ممن شاهد ما فعلتُ وأخذوا يدفعونني بعيدًا عنها، ولم يتركوني إلا بعد توسُّلاتها لهم. من يومها انكسر شيءٌ ما في قلب رندة، ولم تُجْدِ جميع محاولاتي نفعًا في إصلاحه.»
وسكَت قليلًا والحزن بادٍ على وجهه المجهَد، أحسستُ أنه كَبِر فجأةً عشرةَ أعوام. كان مُستغرقًا في التفكير وهو يعبث بفنجان القهوة الفارغ، فلم أشأ أن أُلِحَّ عليه بإكمالِ ما حدث، فالتزمتُ الصمت، ومرَّت دقائق قبل أن يتنهَّد أخيرًا ثم يقول: «لقد مَرَّ على ذلك وقتٌ طويل يا سماء، وقتٌ طويل.» قلتُ: «أعتذر منك جدو، فإن كان تذكُّر الماضي يؤلمكَ فلستَ مضطرًّا للإكمال وسأنصرف في الحال.» ابتسم وقال: «كلَّا كلَّا؛ فالزمن يُعالج أصعب الجروح، تذكَّري ذلك جيدًا. كنتُ فقط أُفكِّر كيف أن قناعات الإنسان وقيمه ومشاعره تتبدَّل مع تقدُّم الإنسان في العُمر، هذا مذهل حقًّا! إن على الإنسان ألا يتشبَّث بأفكاره كثيرًا، عليه ألا يخسَرَ ما هو أهمُّ من أجلها، ألا يرتكب حماقاتٍ لإثباتها؛ لأنه سيُدرِك آجلًا تفاهة طريقته في التعلُّق بها. إنها الحكمة يا عزيزتي ولكنها للأسف تأتي متأخرة.» قطَّبتُ جبيني فلم أجد رابطًا بين كلامه وبين ما حدَّثني عنه، هل يقصد أنه وجد أن حُبه لرندة كان سخيفًا؟ يبدو هذا قاسيًا جدًّا! سألتُه على الفور: «هل تعني أنكَ لم تعُد تؤمن بقيمة الحب؟» فضحك جدو نور وقال: «تُعجبُني فيكِ ثورةُ الحماسة في قلبك، أنا لم أقصد على الإطلاق ما قلتِه، إنما أعني غضبي في ذلك الوقت ونقمتي على أهلي وشعوري الكبير بالمصيبة التي أوقعوني فيها حين تركونا بلا مأوى أنا وزوجتي، هذا الغضب الذي أعماني وجعلني أخسر كثيرًا، لكنني الآن لا ألومهم، بل ألوم نفسي، كان عليَّ أن أتوقَّع الأسوأ. أما الحب يا سماء فلم ولن أندم عليه يومًا.»
ثم حدَّثَني كيف تدَبَّر أمره مع زوجته في مسألة السكن فقد اضطُرَّا للبقاء في بيت ابن خالته أسبوعًا، ثم انتقلا إلى السكن مع أصدقائه الشباب، وأخبرني عن مدى صعوبة ذلك خاصة مع وجود رندة، ثم تمكَّن بصعوبة من تدبير غرفةٍ لها في السكن الجامعي مع طالبتَين، فيما بقي هو مع رفاقه. وهكذا افترقا، وطال ذلك أشهرًا حتى وجد عملًا في تدريس دروسٍ خصوصية لبعض الطلاب، فتمكَّن من استئجار غرفة في بيتٍ عربي قديم مع سيدة تعيش مع حفيدتها، وقد مكثا عندها سنتَين ونصفًا تقريبًا، ثم قال: «في الحقيقة لم أكن مستعدًّا للحياة الحقيقية في ذلك الوقت، كنتُ شابًّا مُدلَّلًا مُرفهًا من قِبَل أهلي، كنت آخذُ لقمتي من مال والدي، ثم وجدتُ نفسي فجأةً أتحمل مسئوليةً كاملة لتأمين أبسط متطلَّبات الحياة لي ولزوجتي، المسألة كلها تقع عليَّ وحدي فلم أكن مستعدًّا بعدُ. بدأتُ أُصارع الحياة متأخرًا جدًّا، لم أكن أحمل هم نفسي حتى أحمل هم غيري، الأشياء التي تعلَّمتُها في تلك السنوات الأُولى بعد عودتي تفوق كل ما تعلَّمتُه في حياتي. إن على المرء أن يخوض غمار الحياة مبكرًا، لا أن ينتظر حتى تغمُره أمواجها وتُغرقه، عليه أن يكون مستعدًّا وسباحًا ماهرًا ليُواجه الحياة بشجاعة، لكنني للأسف لم أفعل. كنتُ دائم التذمُّر والشكوى، وكانت رندة هادئةً وادعة لم تصرخ في وجهي مطلقًا. لقد تحمَّلَت تقلُّبات مزاجي كثيرًا، لكنني لم أدرك ذلك إلا متأخرًا جدًّا.» وسكت قليلًا وقال: «أعتقد أن عليك العودة إلى بيتك، كما أنه لديَّ موعد بعد قليل.»
قلتُ وقد عجبتُ من مُضيِّ الوقت سريعًا: «حسنًا جدو، لكن عليكَ أن تُكمِل لي القصة غدًا.» أجاب: «بالتأكيد، سأُكمِلُها لكِ لكن دعي الغد للغد، لا أحد يعلم ماذا يحمل الغد لنا.»
ما الذي قصده جدو نور من أنه لم يُدرك ذلك إلا متأخرًا؟ ماذا حدَث لها؟ هل يُعقل أن تكون قد ماتت؟ ارتعبتُ للفكرة وأبعدتُها فورًا من خيالي، ثم تذكَّرتُ العِقد السماويَّ اللون، ما علاقته بما حدث؟ عليَّ أن أعرف المزيد!
الحياة مليئة بالمفاجآت، عليَّ أن أكون مستعدةً لها كلها.
٢
عُدتُ إلى البيت وأذان المغرب يصدح في المآذن فلم أجد أحدًا فيه، وجدتُ رسالةً على الطاولة بخط أمي كتبَت: «نحن في بيت خالك محمد فقد تُوفِّيَت زوجته، تعالي فورًا.» يا إلهي! زوجة خالي هند العزيزة، كيف؟ قبل أيام كنا معًا! كانت صدمةً كبيرة. بدَّلنا ثيابنا وانطلقنا إلى بيت خالي، كان باب البيت مفتوحًا والأنوار مضاءة، وجدتُ الكثير من النسوة اللاتي لا أعرف معظمهن، كان السواد سيد كل شيء؛ الثياب والدموع والوجوه. مشيتُ أتفحَّص الوجوه أبحث عن وجه أمي، وأنا أشدُّ بإحكام على يد فاطمة. لم أشعر يومًا بالوحشة في بيت خالي كما اليوم، وإذا بيدٍ تشدُّني من كتفي، التفتُّ فإذا هي أمي لكنها كانت في حالةٍ أخرى جعلَتْني أرتمي بين يدَيها وأعانقها. في تلك اللحظة أخذتُ أبكي فجذبَتْني أمي إلى الداخل، وكذلك بكت فاطمة وارتفع صوتها عاليًا مما ردَّ إليَّ قليلًا من وعيي بنفسي، تمالكتُ دموعي وأخذتُ أُهدِّئ من بكاء أختي الصغيرة، وحين هدأنا قليلًا سألتُ أمي: «ماذا حدث؟ كيف ماتت؟» قالت: «لا أحد يعلم، كانوا عند بيت جيرانهم قبل ذلك بيوم، وسهروا جميعًا ثم عادوا إلى بيتهم، وحين طلع الصباح استيقظ الجميع إلا هي.» حملقتُ في أمي وقلتُ: «غير معقول، ماذا حدث في الحقيقة؟ هل تسمَّمت؟ هل مَرِضَت؟ كيف؟ هكذا فجأة؟ لا يمكن أن أُصدِّق.»
ثم اندفعتُ خارجة من الغرفة فاصطدمتُ بابنة خالي الكبيرة، عانقتُها وعدتُ إلى البكاء مجددًا وكذلك فعلَت هي، ثم سألتها: «أخبريني ماذا حدث بالضبط؟ هل كانت مريضة؟» قالت: «كلا، لم تكن تشكو من شيء سوى من أعراض كِبَر العمر الاعتيادية، لكنها البارحة كانت تعرف.» سألتها: «ماذا تقصدين؟ ماذا تعرف؟» قالت: «كانت تعرف أنها … أنها …» وأخذَت تبكي مجددًا وأنا أُحدِّق فيها، ثم قالت: «يوم أمسِ طلبَت مني أن آتي إلى زيارتها، فاعتذرتُ بانشغالي بتدريس أولادي، فألحَّت عليَّ، فأتيت، وجلسنا هنا، على هذه الأريكة بالذات. وضعتْ ولديَّ في حضنها وأخذت تلاعبهما وتُقبِّلهما وتدعو لهما، وقالت: «من يعلم ما الذي يخبئه الغد لنا؟»» وسكتَت قليلًا، وراحت عبارتها الأخيرة تترددَّ في عقلي فقبل أقل من ساعة سمعتُها بالذات من جدو نور! انتشلَتْني مجددًا من ذهولي حين قالت: «وأخذَت أمي تُطلعني على المكان الذي خبَّأَت فيه بعض الذهب والمال، وتُوصيني أن أُنفق شيئًا منه على الفقراء والأيتام، كنتُ أضحك يا سماء، هل تُصدِّقين ذلك؟ لقد كانت تعرف، حتى إنها أوصتني بأبي.» وأخذَت تبكي مجددًا، كان الذهول مسيطرًا عليَّ، لم أعد أبكي بل استغرقتُ في التفكير، هل يمكن للمرء أن يملك حدْسًا بما سيحدث؟ وخاصة بقرب وفاته؟ يبدو هذا غريبًا حقًّا!
كانت أمي منشغلة بفاطمة، فتسلَّلتُ إلى حيث كانت جثة زوجة خالي، كانت موضوعة على طاولة الطعام مُغطَّاة بقماشٍ أبيض، ورائحةٌ طيبة تملأ المكان، اقتربتُ خطوةً إلى الأمام، فمنعَتْني سيدة، فأومأَت لها أخرى بالسماح لي، اقتربتُ أكثر ورفعَت القماش عن وجهها، يا إلهي! أمسكتُ بيدها فإذا بها باردة كالثلج، هذا هو الموت! من أنت؟ ما هذا الشيء الذي يرقد أمامي؟ شعرتُ بغربة ووحشة، إنها هي وليست هي، لكن في الحقيقة أين هي؟ لا أرى أمامي إلا الموت مجسدًا بهيئة زوجة خالي، لكن أين هي الآن؟ أتُراها ترقُبنا في هذه اللحظة من مكانٍ ما؟ سرت رعشة في جسدي وأخذتُ أنظر إلى الأعلى، أين أنت يا هند؟ هل أنت في الأعلى؟ أم هنا؟ وجعلتُ أُقلِّب نظري إلى الأعلى وإلى الأسفل حيث جسدها يرقد أمامي، فشعرتُ بغربة عنه وكأنني لا أعرف هذه السيدة، أو بالأحرى هذه الجثَّة!
أومأَت لي المرأة التي معنا بشيء من التوبيخ بأن أتلو لها الفاتحة، رفعتُ يدي … اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ … آمين، الصراط المستقيم، ما هو؟ أتراها عرفَتْه الآن؟ يقولون إن الروح حالما تخرج من البدن تعرف كل شيء، عندها ربَّتَت المرأة على كتفي وأومأَت لي برأسها لأخرج.
بعد دقائقَ سمعنا ضربًا عنيفًا على الباب، وحين فُتح الباب ارتطم بالحائط محدثًا صوتًا عاليًا. دخلَت سيدةٌ كبيرة ممتلئة وخلفها سيدتان وأخذَت تلطم وتصرخ وتبكي، واتجهَت فورًا إلى ابنة خالي وأخذت تسبُّها وتدفعها وتدعو عليها، وارتفعَت الأصوات، وتجمهَرَت النسوة ولم أكن أدري حقًّا ماذا يحدث. اتجهتُ إلى أمي أستفسر عن هذه السيدة، فأخبرَتْني أنها أخت المتوفاة وأنها غاضبة لأنها أرادت أن تُغسِّل أختها ويُقام العزاء في بيت العائلة، ولمَّا لم يحدُث ذلك غَضِبَت. كما أنها تتهم ابنة خالي بأنها سرقَت أموالها وألَّبَت أمها المتوفاة عليها فقاطعَتْها. كانت تُحدِّثني أمي وبالكاد أسمع صوتها من كثرة الضجيج الذي حدث؛ فقد ارتفعَت أصوات النساء وتدخَّل الجميع لحل النزاع الذي بدأ بالكلام وتطوَّر إلى الصفع واللكم، ولم ينته الموقف حتى سمعنا صوت تحطُّم زجاج إحدى النوافذ على إثر رمي مزهريةٍ زجاجية عليه، هنا صمت الجميع فجأة لثوانٍ ثم صَرخَت السيدة الممتلئة وهي ترفع سبَّابتها «يا ويلكم من الله.» وغادرت أخيرًا.
جذَبَتْني أمي من يدي ووبَّخَتْني لمراقبتي لكل ما يحدث، وطلبَت مني أن أعود بفاطمة إلى البيت فهي لم تتوقف عن البكاء.
خرجتُ ممسكةً بيدها نحُثُّ الخُطى نحو البيت، كنتُ أشعر بضيقٍ شديد وكانت فاطمة لا تتوقف عن طرح الأسئلة، فنَهرتُها فعادت إلى البكاء فما كان مني إلا أن حملتُها وعُدتُ بها إلى البيت فسرعان ما نامت، وكان الوقت متأخرًا فعلًا، وضعتُها في سريرها واستلقيتُ في سريري مُجهَدةً متعبة، لكنني لم أحظَ بالنوم، كنتُ في حالةٍ من الذهول، كيف رحلَت زوجة خالي في غفلةٍ عن الجميع؟ كل مَن حولها كان يجهل تمامًا ما سيحدث، لكنها وحدَها مَنْ كانت تعلم، أتُراها عَلِمَت يقينًا أم حدْسًا؟ لِمَ لَم تخبر عائلتها بذلك صراحة؟ لا، إنها فعلَت ذلك، لكن الناس دائمًا يميلون إلى عدم التصديق، وكأن الموت لا يمكن أن يزورهم؛ فنحن نبكي على أموات غيرنا، ونزور قبورهم، ونُعزِّي ذويهم، لكننا دائمًا ما نستبعد فكرة أن يحدث ذلك معنا أو مع شخصٍ مقرب جدًّا منا، ثم تذكَّرتُ حادثة السيدة الممتلئة، عجبتُ لها ولما فعلَتْه اليوم، ألم تشعر أن روح أختها لا تزال تحوم حولنا؟ لِمَ لا تؤجِّل ذلك لوقتٍ لاحق حتى تنعم المتوفاة بالسلام؟ كيف يقودها الحقد لتحرم روح أختها منه؟ ثم عادت إليَّ صورةُ الميتة بجسدها البارد المغطَّى بالبياض، لِمَ اللون الأبيض؟ أهي إشارة إلى رغبة الإنسان إلى أن يعود إلى خالقه صافيًا خالصًا من كل شائبة؟ أم هو رمز للسلام الذي تحظى به الروح بعد مغادرة البدن؟ وما هذه المفارقة العجيبة؟ الأبيض للميت والأسود لذويه الأحياء، وكأن الميت عاد إلى النور والسلام، والأحياء لا يزالون في سواد الدنيا وتعكيرها ودنَسها.
أصبحتُ في اليوم التالي مريضة، كان جسدي يرتعش بشدة، والعرق البارد يتصبَّب مني على الرغم من حرارتي المرتفعة، مما اضطَر والدتي للبقاء بجانبي وترك واجب العزاء. لا أذكُر الكثير في تلك الساعات التي قضيتُها وأنا تحت وطأة الحمى سوى بعض الومضات التي اختلَطَت فيها الحقيقة بالأحلام أو بالكوابيس، تارةً كنتُ أشاهد أمي وهي تلطم، وأرى نفسي أحوم حول الغرفة ثم أُحلِّق إلى البعيد، وتارةً كنتُ أرى نفسي أبكي على قبرٍ ما، ومرةً كنتُ أسمع صياح أبي وإخوتي، لم أعد أذكر أني وعيتُ إلا على المخدة وقد بلَّلها العرق، كان الظلام يسود الغرفة، نظرتُ حولي فوجدتُ أمي نائمة على سرير أختي بجواري. تحسَّستُ الطاولة أبحث عن هاتفي لأعرف الوقت لكني لم أجده، حينها جفلَت أمي مستيقظةً على صوت قدح الماء الذي أسقطتُه لتوي، هُرعَت إليَّ تتلمَّس حرارتي، وسألَتْني عن حالي. كنتُ أشعر بتحسُّن، وقد بدأتُ أستعيد قُوَّتي ووعيي لما جرى معي اليوم الماضي، كنتُ شاردة الذهن، فقلتُ على نحوٍ مباغت: «أمي، إن كان الموت مُحتَّمًا علينا فما جدوى هذه الحياة؟ هل نعيش لنموت؟ لماذا نعيش إذن؟ لمَ خُلقنا في الأصل؟» وبقيتُ أنتظر الجواب أُحدِّق في وجه أمي التي أخذَت بدورها تُحملق فيَّ واقتربَت منِّي ووضعَت يدها مجددًا على جبيني وقالت: «نامي يا عزيزتي، ستتعافَين حين تستيقظين، أعِدُك بذلك.» قلتُ وقد استفزَّني كلامها: «لا أمي، أنا لا أهذي، أريد حقًّا أن أعرف، هل تعرفين؟ أرجوكِ.» جلَسَت بجانبي وقالت: «لو افترضنا أن الموت نهاية كل شيء، ألا تشعرين بالامتنان أنكِ وُهبتِ الفرصة للتمتُّع بالحياة؟ لو سألْتِني عن رأيي فأنا لا أمانع مطلقًا أن تنتهي حياتي إلى الأبد، فقد عشتُ تجاربَ جميلة وجرَّبتُ مشاعرَ عديدة. هذا إذا افترضنا أن الموت النهاية الأبدية للإنسان، وأنت تعلمين جيدًا أن الموت ما هو إلا بداية لحياةٍ جديدة لا نهاية لها في الجنة. الموتُ ليس سيئًا بالنسبة إلى الميت، لكنه كذلك لذويه ولأهله ولكل من أحبَّه.» كان جوابها مقنعًا ومريحًا في الوقت ذاته. أسندتُ رأسي إلى الوسادة مجدَّدًا، وعُدتُ إلى النوم.
بقيتُ يومَين أو ثلاثة ملازمة البيت بطلبٍ من أمي لأتحسَّن تمامًا، حتى إنني لم أذهب إلى ثالث أيام العزاء الذي هو أهمُّها. أخذتُ أبكي أسبوعًا كاملًا كل ليلة، لكنني لاحظتُ أنني كل ليلةٍ صرتُ أبكي أقَلَّ وأنام أسرع من الليلة التي سبقتها، حتى إنني في نهاية الأمر لم أعُد أبكي؛ الأمر الذي أثار دهشتي، عندها أيقنتُ أن الألم مهما كبر فإنه سيصغُر ويتحول إلى ذكرى.
في لحظة المصيبة نكون مغمورين بالألم بحيث يُعمينا عن رؤية الفرص الجديدة المفتوحة أمامنا.
كل شيءٍ مهما بلغَت قُوَّته يضعُف أمام سطوة الزمن.
٣
بعد أسبوعٍ تقريبًا ذهبتُ إلى جدو نور لأُعيد له الكتاب. دخلنا إلى مكتبته وبقيتُ أتأمل انعكاس ضوء النهار على الأرض الخشبية اللامعة، عندها قال جدو: «اجلسي فلا يجب أن تظلي واقفة.» ثم سألتُه: «والآن، هل نكمل؟ أتحرَّق شوقًا لمعرفة ما حدث؛ فأنا لا أتوقف عن التفكير.» ابتسم بحزن وقال: «وإلى أين وصلنا يا سماء؟» أجبتُه: «بعد انتقالكما إلى هنا والمشاكل التي حدثَت لكما.» قال: «نعم، لم يحدث الكثير بعدها، بقينا على حالنا من همٍّ إلى همٍّ؛ فقد كنتُ إذا انتهيتُ من تأمين إيجار الغرفة، انتقلتُ إلى هَمِّ تأمين لقمة العيش، ثم إلى هَمِّ الدواء والعلاج الذي أخذَته رندة فقد كانت تمرض كثيرًا خاصة في الشتاء مع التدفئة الشحيحة التي بالكاد كنا نحظى بها. لا أجد وصفًا لتلك الفترة إلا بالمعاناة الكاملة، ولا أتذكَّر من نفسي إلا حِدَّة مزاجي واستعدادي للمشاكل على أبسط سبب، وخاصة فيما يتعلق برغبة رندة في الإنجاب؛ فقد تشاجرنا بسبب ذلك مراتٍ عديدة، كانت متمسكةً برغبتها، وأنا لم أكن أريد ذلك إطلاقًا، كنتُ بالكاد أُعيل نفسي وزوجي، فمن البلاهة أن أزيد عبئًا آخر عليَّ.
أما رندة فكانت تُلقي بكل شيء وراء ظهرها وتتجه إلى الجامع الكبير كل يوم تقريبًا، لا أدري كيف تذهب ومتى، لكنني كنتُ أعلم أنها كانت تذهب هناك؛ الأمر الذي أثار غضبي مرارًا، لكنني لم أعُد أسألها. كنتُ أشعر بالغَيْرة الكبيرة، كيف لها أن تُنحِّي جميع مشاكلنا جانبًا وتنصرف إلى حياتها، لِمَ لا تشاركني همومي وتتحمل معي أعباء الحياة؟ هذا ما كنتُ أشعر به، لكنني ما كنت مهتمًّا حقًّا ماذا تفعل؟ وكيف تقضي نهارها.»
وسكَت وأخذ رشفةً من فنجان قهوته، ثم قال: «بقينا هكذا قرابة الأربع سنوات، تمكنَّا بعدها من الانتقال إلى شقةٍ صغيرة في حي بستان القصر. تحسَّنَت أحوالنا قليلًا، لكن روحي لم تتحسَّن، بقيتُ كما أنا، خاصة أن أهلي استمرُّوا في مقاطعتي، على الرغم من محاولاتي الكثيرة لإرضائهم، ثم حدَث ما كنتُ أخشاه، تُوفِّي والدي فجأة!»
كتمتُ شهقتي وبقيتُ ساكتة، يا للمصيبة! أردف قائلًا وهو يضرب على صدره بقبضة يده: «هل لكِ أن تتخيلي شعوري تلك الأيام؟ حرمَني أبي من نفسه وقرَّر أن يعاقبني مدى الحياة. لقد كان الخبر بمثابة الصاعقة على رأسي؛ فقد حمَّلني الجميع مسئولية موته، وخاصة أعمامي الذين انقلبوا عليَّ، حتى إن أحدهم قام ليضربني حين أتيتُ إلى العزاء.» تأثَّرتُ كثيرًا بكلامه وكأنني أراه وأشعر بحزنه وغضبه حتى إنني جاهدتُ نفسي كي لا أبكي أمامه.
ثم قال: «كان موت والدي محورًا فاصلًا في حياتي، أصبحتُ أكثر عدوانية، صرتُ أمضي الليل بطوله في إحدى الحانات، أدمنتُ الشرب، وقطعتُ عهدًا على نفسي أن أقطع صلتي تمامًا بكل أفراد عائلتي. في تلك الأيام التي أسمِّيها أيام الحضيض، لم أكن أجد من أصُبُّ جام غضبي عليه سوى رندة، وكانت تتحمَّلني كثيرًا وتغضب أحيانًا. كنتُ في سرِّي أُحمِّلها مسئولية كل ما حدث معي، لكن ما ذنبها تلك المسكينة لتُهان في بلدٍ غريب عنها؟ واستمر الحال حتى مضت سبع سنواتٍ أخرى، تجاوزتُ ألمي وغضبي من والدي، لكنني تحوَّلتُ إلى شخصٍ آخر، لم أعُد أبالي بشيء، وفقَد كلُّ شيء قيمته بالنسبة إليَّ، كرهتُ الناس وانعدمَت ثقتي فيهم. أما رندة فبعد أن تحمَّلَت تقلُّبات مزاجي كثيرًا انصرفَت تمامًا إلى حياتها، التحقَت بالجامعة، شاركَت في ندواتٍ ثقافية، تطوَّعَت في بعض الجمعيات الخيرية، ويومًا بعد يوم ازدادت علاقتنا سوءًا، فقلما كنتُ أراها أو أتحدثُ إليها.
أكتبُ إليكَ كتابي هذا، والدمع يمنع عني الرؤية، فأجد صعوبة في تمييز الأحرف والكلمات. أعرف تمامًا ما أود قوله لك، في جعبتي الكثير، وفي قلبي ألمٌ كبير، سأختصر لأقول: اشتقتُ إليك، وشوقي يقلتني. لو كنتَ بعيدًا عني لهان ذلك، لكنك بجانبي، تنظر إليَّ، تسمعني، تلمسني، وأظل أشتاقك وأنا أقرب ما أكون إليك، ليس شوقًا عاديًّا، إنه شوقٌ ممزوج بيأس، وحبٌّ ممزوجٌ بكُره، لست أدري كيف اتفق هذا؟
الألم ينخر كل زاوية فيَّ، في جسدي وروحي وعقلي، أشعر أن الكون ينهار على رأسي وأنني في عتمةٍ تامة، إنه ألمُ محض يكويني، لكنه للأسف لا يُزهق روحي. أكرهُكَ لأنني أُحبكَ، أكره حبي لك، وددتُ لو أن لي القدرة على إلغاء ذاكرتي، لو حصل هذا لكان من أكبر النعم عليَّ في هذه اللحظة!
أوَّاه أوَّاه! كيف يُبلَى القلب ممن يهواه؟!
أيتها السماء اسمعيني، أيتها الأشجار والجبال والعصافير ارفقي بحالي وواسيني، يا قلعة حلب، يا جامعها الكبير، يا شوارعها المرصوفة، وأسواقها المسقوفة، ارفقوا بحالي، احملوا جزءًا من آلامي، خذوني إليكم، ضمُّوني بحنانكم، عانقوني فأنا متعَبة. ما لي أجد الكلمات تنثال على الورقة بلا توقُّف؟ وكأنما يتوالد الشعر حين يُحتضَر الحب وتكثر خيباته؟ وداعًا، أقولها لكَ لأن الشوق يأكلُني؛ وداعًا حفاظًا على روحي، علَّني ألقاك يومًا، لستُ أدري، سأترك الأقدار تفعل ما تشاء.
أعدتُ قراءة الكلمات بروحٍ جديدة بعد أن فهمتُ تفاصيل القصة، بعد أن تعرَّفتُ ولو قليلًا إلى ذلك القلب الذي عانى وتألَّم وبكى كثيرًا. بقيتُ صامتةً أتأمل الكلمات حتى نبَّهَني جدو وقال: «وهكذا فعلتُ أنا، مثلكِ تمامًا، بقيتُ أتأمل الرسالة غير مُصدِّق، أُحاول أن أفهم ماذا جرى ولماذا. بدأَت تنثال عليَّ الذكريات وتغمُرني، وأخذَت كلُّ التفاصيل التي عشناها معًا في ألمانيا وبعد زواجنا تتقافَز إلى ذهني سريعًا، ماذا حدث لنا؟ أين ذلك الحب النقيُّ والمشاعر الجميلة؟ كيف تبدَّلَت السعادة إلى نزق وبؤس؟ بقيتُ تحت وطأة الذكريات حتى اختلطَت بالأحلام ولم أعد إلى رشدي إلا صباح اليوم التالي. استيقظتُ وكأنني وُلدتُ من جديد، كانت رسالتها بمثابة الصفعة القوية التي أعادت تشكيل حياتي. قمتُ وأخذت حمامًا دافئًا، وشعرتُ لأول مرة كيف أن الماء يُطهِّر الروح كما الجسد، تركتُ الماء يغسل بنقائه عكر الأيام، وما خلَّفه الحقد في روحي وقلبي من أسقام. لست أدري كم بقيتُ تحت الماء، لكنني بعدها خرجتُ بأملٍ جديد، سأستعيد رندة. أول شيء فعلتُه أنني ابتعتُ عِقدًا فضيًّا بحجرٍ سماوي اللون، وهو الحجر الذي تُفضِّله رندة وطالما أخبَرتْني عنه القصص والأساطير.»
وسكَتَ قليلًا وقد قفزَت صورة العقد إلى ذهني «آه نعم، إنه هو ذلك الذي في دُرج مكتبه الثاني هناك.» لم أنطق بحرف، شعرتُ بكثير من الإثارة فأنا أعرفه جيدًا، خفضتُ نظري خشيةَ أن يكتشف ذلك في عيني. ثم قال: «قررتُ أن أُهديَه لها حينما تعود لأنها ذكَرَت في رسالتها أنها ستعود يومًا، وأخذتُ أنتظرها كل صباح عند مفترق الطرق المؤدية إلى بيتنا. كلَّ صباح كنتُ أتأنق وأجلب معي العقد السماويَّ لأزين به رقبتها الجميلة وتعود هي لتُزيِّن حياتي من جديد، لكنها لم تأتِ. بقيتُ شهرًا كاملًا أنتظرها كل صباح، بعدها بدأ الخوف من اليأس يتسلَّل إليَّ، فأخذتُ أنتظرها في الثالث عشر من كل شهر، حتى مضت سنةٌ كاملة، لكنها لم تظهر. كان الخوف من فقدها مجددًا يُفقِدني صوابي، إنها تركَتْني مرة وعادت، فهل يُعقل ألا تعود هذه المرة؟ لقد عانينا كثيرًا، وآلمتُها أكثر، لعلها قرَّرَت تَرْكي إلى الأبد!
بعد سنةٍ أخرى أخذتُ أنتظرها في الثالث عشر من آب كل عام أمام بيتنا القديم. كانت مشاعر الندم والألم والخوف تُسيطر عليَّ، ومع ذلك بقيتُ مُتشبِّثًا بأمل عودتها، وهذا الأمل منحَني قوةً كبيرة لأكون أفضل في كل أمور حياتي، فقدَّمتُ على مسابقة للهيئة التدريسية في جامعة حلب وتم قبولي، تحسنَت أموري كثيرًا بعدها.» وسكتَ وطيفٌ من خيالٍ يسرح به بعيدًا، وماذا بعد؟ ماذا حلَّ بها؟ لا أعتقد أنها عادت؛ فلا يزال الحزن جاثمًا عليه. طال سكوته واستحيتُ أن أستحثَّه على متابعة الحديث، فالتزمتُ الصبر دقائق حتى تنهَّد عميقًا وعدَّل من جلسته وقال: «وحده الأمل برؤيتها مجددًا هو ما كان يمنحني القوة لمتابعة الحياة. نصحَني الكثير برفع دعوى طلاق، وبالزواج مجددًا، ولا أُخفيكِ يا سماء سرًّا فقد كنتُ أُفكِّر في ذلك مرارًا، وحين كنتُ أهمُّ بفعله يُراودني السؤال ذاته: ماذا إن فعلتُ ذلك ثم عادت؟ حينها سأفقدها إلى الأبد.» ثم نظر مباشرة في عينيَّ وقال: «ألا تعتقدين ذلك؟ ما رأيك؟» تفاجأتُ لحظة من سؤاله، ثم قلتُ: «معك حق، لكن هذا يعتمد على الشخص نفسه.» قال: «ماذا تقصدين؟» أجبتُه: «لو فكَّر أحدٌ ما في ذلك لأشار عليكَ بالانتظار عامًا على أبعد تقدير؛ فلو أرادت رندة العودة لعادت خلال هذا العام، لكن … لكن يا جدو هذا يعتمد عليك وعلى ما تؤمن به، أقصد أي الطريقَين ستختار؟ انتظار عودتها، أم نسيانها وإكمال حياتك من غيرها حتى لو عادت، لكن هذا الكلام لم يعُد مُجديًا الآن، فقد قمتَ باختيارك وانتهى الأمر.» أطرق قليلًا وتمتم: «صحيح، صحيح.»
ثم سألتُه: «وماذا بعد؟ هل انتهى كل شيء؟ ماذا حدث لها؟» التفتَ إليَّ وضحك بسخرية وقال: «ماذا بعد؟ لا شيء، لم تعُد، وها قد انقضى على رحيلها ثمانية أعوام وأنا لا أتوقَّف عن الذهاب مرةً كل عام في ذكرى رحيلها، الثالث عشر من آب، لأنتظرها في المكان نفسه عند مفترق الطرق المؤدية إلى بيتنا القديم.» قفزَت إلى ذهني ذكريات ذلك اليوم فجأة، إنه ذلك اليوم الذي خرج فيه مسرعًا وتركَنا أنا وأختي وحدنا، اليوم الذي اكتشفتُ فيه القلادة ذات الحجر السماوي، الآن فهمتُ كل شيء، يا إلهي! إنه لم يفقد الأمل أبدًا حتى بعد مرور كل هذا الوقت! كنتُ في حالةٍ من الذهول فلم أنطق بكلمة، ثمانية أعوام! إنها فترةٌ طويلة جدًّا. وبشكلٍ غريب انتقلَت شرارة الأمل منه إليَّ، أحسستُ بدفقٍ كبير من الحماسة، بأنني سأسعى إلى استعادتها، وسأنجح في ذلك. عدنا إلى البيت وشيءٌ واحد بدأ يشغل تفكيري، كيف سأفعل ذلك؟
في صباح اليوم التالي وجدتُ رسالةً على بريدي الإلكتروني من شادي يعلن فيه عن معرضٍ لفن الخط العربي في صالة مديرية الثقافة، معرض للخط العربي! لم يسبق لي حضور شيءٍ مماثل، لكنه يبدو جميلًا، إنه بعد يومَين وعليَّ أن أحضره؛ فهو تجربةٌ جديدة بالنسبة إليَّ.
في المساء كنا مع عائلتي نتناول طعام العشاء أمام التلفاز، أخذ نادر يُقلِّب قنواته حتى توقَّف عند إحدى المحطات، وصدح صوت الغناء. رفعتُ رأسي لأرى، وكان أن غصَّت اللقمة في حلقي، أخذتُ أسعل محاولة أخذ نَفَسي، وهُرع الجميع لجلب الماء أو لضربي على ظهري ضرباتٍ آلمتني أكثر من أن تساعدني. ولأن الله شاء لي أن أستمر في الحياة فقد تمكَّنتُ أخيرًا من ابتلاع اللقمة وأخذ نفسٍ عميق. كانت الدموع تطفر من عيني والجميع يُحملِق فيَّ، الحمد لله، قال والدي: «كلي على مهل، لقد أفزعتينا.»
عُدتُ لأنظر مجددًا إلى التلفاز، لأتأكَّد أن ما رأيتُه حقيقي. إنه هو بلا شك، الشاب الوسيم ذو الجبهة العريضة «رائد»!
٤
كان يومًا ربيعيًّا بامتياز، الجو نيسانيٌّ صحوٌ بعد أمسيةٍ ماطرة، وقد قاربَت أيام المعهد على الانتهاء. كان عليه أن يبادر بشيءٍ ما، أن يضع نهاية أو بداية للعذابات الحلوة التي عالجها قلبُه طوال العام الماضي، واليوم عقَد عزمه على الحديث إليها. كانت جالسة كعادتها كل يوم أربعاء بين المحاضرتَين في حديقة الجامعة تحت شجرة الكينا الكبيرة. نسماتُ الربيع شهية، وعبَق الأرض الندية بسخاء السماء منعش وعليل، ساعة واحدة تجلسها كل يوم أربعاء وحيدة مع كتابٍ أو عصيرٍ أو مع أحلامٍ فتية تلاحقها مع الغادي والرائح منتظرةً شيئًا أو قدَرًا أو أملًا.
اقترب سعيد حتى صار على بُعد خطواتٍ منها، تظاهرت بالنظر إلى الطرف الآخر، كان على يقين أنها تعلم بوجوده، كانت تعبث بقطعة شوكولا بين يدَيها. التقط زهرةً بيضاء وعاد إلى الوراء واختبأ خلف الشجرة محتميًا بها ومستعيدًا للمرة الأخيرة كلماته التي أعادها مرارًا وتكرارًا. استنشق الجرأة من عبير الزهرة وانطلق بخطواتٍ واسعة وسريعة وثابتة وجلس بجوارها، التفتَت وابتسمَت، وعلى الفور احتواه عبير زهر البرتقال، فملأ منه ما استطاعت رئتاه إلى ذلك سبيلًا، وسرى تيارٌ نورانيٌ لطيف، كان يعرف طريقه تمامًا في جداول قلبَيْهما، وكأنما كان هناك منذ ملايين السنين. تحدَّثا طويلًا والساعة صارت ساعات، ثم افترقا على وعدٍ قلبي بمستقبلٍ جميل.
بعد أسابيع بدأَت الامتحانات النهائية، واستمر سعيد ينتظرها يوم الأربعاء من كل أسبوع، ولكنها لم تظهر، وظل مقعد الأربعاء خاليًا، وشجرة الكينا تُظلِّل خيباته المكتومة، كيف اختفت؟ أي ظلم؟ وأي قهر؟ طوال عام ونصف ظل بعيدًا عنها، يكتفي بمتعة المراقبة، وحين وضعا قدمَيهما على أول عتبات السعادة دار الدهر دوراته المعهودة واختطفها! كان حياؤه يمنعه من السؤال عنها؛ فهو لا يحب كثرة الأقاويل، ولا يريد أن يجلب لها أي أذًى.
لا أحد يعلم سواه كيف أمضَى أيامه ولياليَه، كيف أنهى امتحاناته، كيف حمل الليلُ إليه ذكرى لقائهما الوحيد ورائحةُ زهر البرتقال تطرُق باب ذاكرته فتملؤه بالوجع والحنين وغصَّة السؤال.
أجلَسَها على الدرجات الحجرية، وسألها: «لماذا اختفيتِ؟ إذا شئتِ الآن أُحدِّث أخاك لأخطبك.» تطلَّعَت إليه بذعر وقالت: «لا، لا، أنت لا تعرف شيئًا.» «أخبريني إذن.» صاح بعصبية، قالت: «لقد رأَونا ذلك اليوم في الجامعة نتحدَّث، وعَلِمَت أمي وإخوتي، كلُّهم عادَوْني، حاربوني وا وا …» هزَّها من كتفها: «وماذا؟» دفعَته بعيدًا عنها وهمَّت بالوقوف وقالت بانفعالٍ كبير: «أنت لا تعرف شيئًا، لقد ضربوني، هل تسمع؟ ضربوني كل يوم وحبسوني، انظر.» وأخذَت تُفكِّك أزرار قميصها وهي تبكي فبانت رقبتها وشيء من كتفها. ضاقت عينا سعيد وهو يرى آثار الكدمات المزرقة على جلدها، تمتم: «من؟ قُولي لي من؟» ومدَّ يده ليُلامس آلامها، فأبعدَتْه عنها وقالت: «عليَّ أن أذهب.» واستدارت وهي تُزرِّرُ قميصها، فأمسك بيدها وأخرج جهازه الخلوي وقال: «انتظري، خذي هذا، سأكلمك.» ودسَّه في جيب معطفها، وأسرعَت الخُطى ساحبةً يدها من يده. صرخ سعيد وهي تبتعد عنه: «تعالي نهرب معًا ونتزوَّج.» توقفَت برهة، لم تلتفت، ثم اختفت وسط الزحام.
٥
«رائد» لقد كان هو بلا شك، لكن باختلافٍ كبير، لستُ أدري ما هو بالتحديد، لكنه فعلًا تغيَّر كثيرًا. كان يُغنِّي بطلاقةٍ أمام اللجنة والجمهور، يبدو أنه وصل إلى مراحلَ متقدمة في البرنامج، يا للمفاجأة، لا أكاد أُصدِّق! بقيتُ أُحدِّق في الشاشة أُراقبُ حركاته وتعبيرات وجهه وتفاعُل الجمهور معه. كانت تعليقاتُ الحكَّام عليه مُحفِّزة وإيجابية.
عُدتُ إلى غرفتي بمشاعرَ مختلطة، شعرتُ بالفرح؛ فأنا أعرف ذلك الشاب والتقينا كثيرًا وتكلَّمنا قليلًا ذات سعادة! وكأن ظهوره في شاشة التلفاز أعطاه سحرًا خاصًّا، جعله يتفوق بخطوة علينا، نحن الذين نشاهده من منازلنا ونتوق لنكون مكانه. شعرتُ بشيء من القهر والغصة، بحسدٍ بغيض، كيف له أن يترك عالمه ويعيش عالمًا جديدًا حرًّا بعيدًا عن كل شيء؟ هل تُراه يعود إلى الوطن؟ هل يذكُرني؟ لِمَ لا أتمكَّن أنا من تحقيق ما أحلُم به؟ لكن عن أي حلمٍ أتحدث؟ أخذتُ أتابع البرنامج أسبوعيًّا، حتى إنني قمتُ بالتصويت له. كان الأمل يحدوني لأن أراه يكسب المركز الأول وينال اللقب، وكنتُ إذا بدأ بالغناء اختفيتُ تمامًا عن عالمي واخترقتُ قلبه.
كنتُ أشعر أنه يُغنِّي لي وحدي، غريبة كل تلك الأحاسيس التي أراها تطفح على مُحيَّاه وحركات يده وتغضُّنات جبهته، وكأنه يقاسي حبًّا حقيقيًّا ما، أتُراه يقصدني؟ كان قلبي يخفق بسرعة كلما خطَرَت ببالي هذه الفكرة، فأهزُّ رأسي، وأسخَر من نفسي؛ فهذا ضربٌ من الخيال!
وأسبوعًا بعد أسبوع تألَّق نجم رائد أكثر، وتعلُّقي به صار أكبر. أكسبَتْه الشهرة سحرًا خاصًّا، كانت تليق به فعلًا، بثيابه الأنيقة وتسريحة شعره الجديدة وساعة يده الباهظة الثمن. يده هذه أعرفها جيدًا، كل الناس تراها الآن من خلف الشاشات، لكن وحدي أنا التي أعرف الندبة في راحة يده، وأعرف الكلمات التي كان يُردِّدها، أعرف قمصانه الصيفية التي كان يرتديها، وسروالَيه الوحيدَين، الجينز الفاتح والقماش الأسود، كنتُ أشعر بالتميُّز عن جميع معجبيه.
وها قد حلَّت اللحظة الحاسمة والأسبوع الأخير من البرنامج، كان مع مشتركتَين اثنتَين قد وصلَتا إلى التصفيات النهائية، كم كنتُ أحسدهما! يبدو أنهما لا تفارقانه في التدريبات والرحلات وصالونات التجميل وأفخر محلات الثياب ذات الماركات العالمية الشهيرة، هل مال قلبُه إلى إحداهما؟ أم أنه يُفضِّل العودة إلى حبٍّ قديم لا يزال في الوطن؟
كل شيءٍ يُعرَض على الشاشة يبدو ساحرًا ومبهرًا، والمشتركون سعداءُ وظريفون دائمًا والضحكة لا تفارق وجوههم. كانوا يعيشون أسعد أيام حياتهم، وكل من يُشاهِدهم يحسدهم ويتمنى أن يكون مكانهم.
غنَّى رائد تلك الليلة أغنية «هل عندك شك»، خرجَت الكلمات من فمه كالعسل حلوةً ولاذعة. كان بارعًا حقًّا، يُحرِّك يدَيه بعفْويةٍ محبَّبة، وملامحُ وجهه تذوب حنانًا وإحساسًا. كان يرتدي بزةً رسمية سوداء، بقميصٍ أبيض وربطةِ عنقٍ خمرية اللون، ويضع في جيب السترة العلوي منديلًا من الساتان باللون ذاته، كان مُفْرط الأناقة والجاذبية، وكذلك علَّق أحد أعضاء اللجنة، قال: «أخاف عليكَ من المعجبات أكثر من خوفي عليكَ أن تربح في البرنامج، ما هذا الإحساس العالي؟ اعترِفْ فورًا، هل تُوجد حبيبة؟» صفَّق الجمهور وتعالت هتافاتهم. أخذ قلبي يضرب بشدة، ضحك رائد وقال: «يمكن!» كلمةٌ واحدة تركَت قلبي معلقًا في أرجوحةٍ من التساؤلات؛ فلا أنا أهبط إلى أرض اليقين، ولا أنا أعلو فأطُول النجوم.
وخلافًا لكل توقُّعات الناس واستجابةً لصلواتي ربما فقد ربح رائد، ربح اللقب والسيارة الفارهة والمبلغ الماليَّ الكبير. كانت فرحتي يومها «لا أُعطيها لأحد» كما يقولون. حتمًا سيعود رائد إلى الوطن، فهل سأراه مجددًا؟
بعد يومَين حان موعدُ حضورِ معرض الخط، كنتُ متحمسة جدًّا؛ إذ لم يسبق لي حضور معرضٍ مماثل، وكالعادة، لم يسمح لي أبي بالذهاب إلا بصحبة أخي نادر. كانت القاعة مُضاءة بشكلٍ مُفْرط، ولوحاتُ الخط تزين الجدران، والقليل من الناس يقفون هنا وهناك يتأمَّلون ويتحدَّثون. وبينما راح أخي يتناول بعض الأطعمة المعروضة، فقد أخذت أتنقَّل بين اللوحات مبهورةً بما أرى. لم تكن اللوحات كلها اقتباساتٍ للآيات القرآنية؛ فقد حوت كثيرًا من الحِكَم والأمثال والأشعار العربية، ومع ذلك فقد شعرتُ بشيءٍ من القداسة في أشكال الحروف وطريقة تكرارها وكتابتها وانحناءاتها وألوانها، كان الجمال يتبدَّى في صورةٍ نورانية روحية سعيدة.
شعرتُ أنني أُصبتُ بعَدْوى الجمال فاتجهتُ صَوْب أحد الخطَّاطين لأُحاوره، لستُ أدري عن أي شيء، كنتُ أريد الحديث معه وحسبُ. رأيتُ رجلَين يقفان عند لوحةٍ مكتوب عليها «لا غالب إلا الله» أحدهما شابٌّ والآخر رجل في الخمسين من عمره، فخمَّنتُ أن هذا الأخير هو الخطاط. بدأتُ حديثي معه قائلة: «السلام عليكم، بصراحةٍ وجدتُ صعوبةً كبيرة في منعِ نفسي من التحدُّث إليك عن أعمالك الرائعة؛ فهذه هي تجربتي الأُولى في حضور معرضٍ للخط العربي. لقد كان شرفًا لي بحق أن أقف أمام كل هذا الجمال و…» وأخذ الرجل يبتسم مما جعلَني أتوقَّف عن الكلام، هل قلتُ شيئًا أساء إليه؟ أم أنه يسخر مني؟ توقَّفتُ عن الكلام دفعةً واحدة، قال بعدها بصوتٍ هادئ وهو يُومئ إلى الشاب الذي بجواره: «ربما عليكِ التوجُّه بالكلام للفنان صاحب اللوحات، السيد شادي!»
٦
كان الهاتف يُضيء في يدها بصمت، لقد استمر بالرنين منذ ابتعادها عنه حتى هذه اللحظة في غرفتها، وكذلك كانت كلماته تُومض في مُخيَّلتها بصوته الحنون: «نهرب ونتزوج.» استدارت نحو المرآة، أسدلَت شعرها الأسود على كتفَيها، أخذَت تُسرِّحه ببطء، مرَّرَت يدها على وجنتَيها وذقنها ثم على رقبتها وكتفها العارية، تأملَت الكدمات التي صارت زرقاءَ وبنفسجية، ضغطَت برفق عليها فشعَرَت بالألم. عادت لتتأمَّل وجهها، وجنتان غائرتان، وذقَنٌ رفيع، وعينان عسليتان ذابلتان، ما الذي جعله يُحبني؟ هل يُحبني؟ أيراني جميلة؟ ابتسمَت، وعادت لتُسرِّح شعرها. توقفَت بُرهة وأخذَت نفسًا عميقًا تحاول أن تجمع بقايا رائحته التي علقَت على وجهها الذي حرَصَت على ألا تغسله. وضعَت يدها على فمها تمامًا كما فعل، أغمضَت عينَيها، وراحت تتذكَّر تفاصيل تلك اللمسة. كانت كفُّه قوية وحانية في الوقت نفسه، ورائحةٌ مميزة تسلَّلَت إلى أنفاسها، رائحة لم تعرفها من قبلُ، هي مزيجٌ من عطر وبهارات وورد، نعم كانت رائحة الورد، وخاصةً حين اقترب منها وحرارةُ أنفاسه تلفح روحها العارية.
أزاحت يدها عن فمها، لا تزال كتفها تؤلمها، لكن ألمًا آخر كان ينخر في قلبها، كانت ذكرى ذلك اليوم لا تغيب عن بالها، لكماتُ أخيها، لُعابه المتطاير من سبابه ولعناته: «يا فلتانة، يا فاجرة، وضعتِ راسنا في التراب، حتى لو كان أبوك ميتًا فأنا موجود أربِّيك.» أمها التي وقفَت تبكي وتُولوِل، ثم انقلابها عليها، نظرات الاتهام من الجميع … الهاتف يُومِض مجددًا، حملَتْه بعصبية ورمَتْه بعيدًا.
جلسَت على الأرض تنتحِب، من أنا؟ أنا نكرة، أنا لا شيء، لا أستحق شيئًا، أنا جبانة، عاصية، مسكينة، كل هذا بسببي، كل اللوم يقع عليَّ، وهل لمثلي أن تُحَبَّ وأن تُحِب؟ أستغفر الله العظيم، يا رب سامحني. هدَّها الألم والبكاء حتى نامت مكانها.
كانت لا تزال على الأرض حين استيقظَت فجأة، التيار الكهربائي مقطوع، تلمَّسَت طريقها وفتحَت دُرج مكتبها حيث تضع ضوء الشاحن، أشعلَته ونظَرَت إلى الساعة، الثالثة إلا ربعًا، جلسَت على السرير ورأسُها بين يدَيها، تشعُر بالصداع. أطفأَت الشاحن، وتمدَّدَت على السرير، بقِيَت وقتًا حتى كادت تستسلم للنوم مجددًا حين رأت ضوءًا خافتًا يومض وينطفئ، هل استيقظ أحد؟ عادت وأغلقَت عينَيها، ثم قعدَت فجأة وقد تذكَّرَت شيئًا، نظرَت تحت السرير، كان الهاتف يرن، إنه هو! أمسكَتْه بيدها المرتعشة، اتجهَت إلى خزانتها واختبأَت فيها، شَعرَت بانقباضٍ في معدتها، وبأن قلبها ينبض في حنجرتها، سمعَت نبض عروقها، لُهاثها المتسارع، أحسَّت بحباتٍ من العرق البارد تنسلُّ من رقبتها وتسيل على ظهرها، كان الخوف يأكُلها، وكذلك شعورٌ لذيذ بالإثارة.
وبعد تردُّد ضغطَت على زر الإجابة، قرَّبَت الهاتف من أُذنها: «سلمى، سلمى، هل هذه أنت؟» لم تُجب، كان الخوف يشل صوتها، شعَرتْ أن أي همسةٍ تُصدِرُها ستصل إلى جميع أهل البيت، «سلمى، أرجوكِ، أتوسل إليكِ، لم أنَم كل الليل، أنا قلقٌ عليك، سلمى، لا أريد أن أوذيكِ، قولي أي شيء لأعلم أنكِ بخير.» ارتجفَت شفتاها وقالت همسًا: «نعم، أنا معك.» ومن مكانها سمعَتْه جيدًا وهو يضحك ويبكي معًا ثم قال: «الحمد لله، الحمد لله، لو تعلمين كم هلَعتُ عليك، لمَ لمْ تُجيبي؟ لا بأس، لا عليك، الآن لا تجيبي على أي رقم سوى هذا الرقم، كيف حالك؟ هل علموا بأي شيء؟ هل آذاكِ أحد؟»
– لا سعيد لا، لكن … هل نقوم بالصواب؟ أقصد أليس ذنبًا ما نفعله؟ هذا حرام، هل تفهمني؟
– سلمى سلمى لا تفكري بهذه الطريقة أرجوكِ.
– كيف عليَّ أن أفكر إذن؟ بأي صفة تُحدِّثني؟
– سلمى افهميني، أنا أريدكِ زوجة لي، امنحيني فرصةً فقط، الله وحده يعلم كيف كانت أيامي من دونكِ. سلمى يا سلمى، لا أعرف كثيرًا أن أصوغ الكلمات، لكني تعلَّقتُ بكِ، أنتِ لا تُفارقين تفكيري، أنتِ معي في كل نفَسٍ من أنفاس حياتي.
– …
– ما بكِ لا تُجيبين؟
– خائفة.
– كلنا خائفون، لكن الهرب ليس حلًّا، وأنا معكِ وسأقف إلى جانبكِ دائمًا.
– عليَّ أن أُغلق الآن، إلى اللقاء.
٧
«شادي؟» وهبط قلبي في الدهشة، تقافزَت إلى ذهني رسائل الإنترنت ولوحات الخط، ولم أقل شيئًا. وبعد دهر، أو هكذا شعرتُ، سمعتُ صوت نادر يناديني: «سما، سما.» ثم ألقى التحية على الرجلَين وقال: «أتمنى ألا تكون أختي قد أشغلَتْكما عن أمرٍ مهم؛ فهي متحمسة دائمًا.» عندها نطق شادي: «لا، على الإطلاق، كانت الآنسة تتحدَّث عن الخط بكثيرٍ من الشغف، وكنتُ سعيدًا لأسئلتها ورؤيتها الناقدة.» قلتُ مبتسمة لسرعة بديهته: «بالفعل سيد شادي، أودُّ أن أعرف سِرَّ اختيارك للَّونَين السماوي والذهبي في أغلب لوحاتك؟» قال: «هذا أمرٌ يطول شرحه، لم لا ترافقانني إلى الجلسة الصحفية التي ستُعقد غدًا حول المعرض في التوقيت نفسه؟» قال أخي: «يسرُّنا ذلك.» وسحَبَني من يدي وودَّع السيد شادي وخرجنا.
كان في جعبتي الكثير ذلك المساء، سارعتُ إلى تفقُّد بريدي الإلكتروني لكنني ما وجدتُ شيئًا. كانت الدهشة لا تزال تُسيطر على كياني؛ فلم ألحظ تسمُّر العائلة كلها أمام شاشة التلفاز إلا حينما سمعتُ صراخ أمي. أسرعتُ نحو الغرفة مستفسرة، فأومأ لي أبي بالتزام الصمت، كانت الأخبار تبُثُّ مشاهد من تجمُّعات للناس، ثم صوت إطلاق النار، وبعض الجرحى المطروحين على الأرض، مشاهد أخرى لحيٍّ وقد تحوَّل إلى دمار. وقفتُ غاضبة وقلتُ: «ماما أتُصدِّقين أن هذه المشاهد في سورية؟ مستحيل، ماما، هذه مصوَّرة في دولٍ أخرى ويقولون إنها في سورية، لا لا مستحيل.» نظرتُ إلى أبي منتظرةً تأييده لكنه ظل ساكتًا وقد أطفأ التلفاز، سكوتُه أفزعني، وأوقع في قلبي الشك. كان نادر هو من تكلَّم فقال: «طيب طيب، ابقَي أنت نائمة في كتبك وأوهامك أحسن لك.» وغادر الغرفة.
سكوتُ أبي ودموعُ أمي وكلماتُ نادر رافقَتْني طَوالَ تلك الليلة فلم أنعم بنومٍ جيد، بالإضافة إلى الأحلام المزعجة. ويومًا بعد يومٍ أخذَت الأخبار تكثُر، ونارُ الحرب تحرقُ مدنًا أكثر، أصابتني حَيرةٌ شديدة، لم أكن مُتثبِّتة من أي شيء. ما كان مؤكَّدًا حقًّا هو أحاديثُ الناس التي يتهامسون بها، ونظراتُ الذهول التي تطفو على الوجوه، وحالةُ الترقُّب الحذِر الذي سكن الجميع.
كنتُ كلما حاولتُ أن أسأل أبي تجاهل أسئلتي ولاذ بالصمت، وماما لم تعُد تشاهد الأخبار معنا أبدًا. أما نادر فكان يُخيفني؛ فهو يُحدِّثني بأمور تُدخِل الرعب في قلبي لكنه بالتأكيد كان يبالغ كثيرًا. هكذا نادر دائمًا، لم أعُد أوَدُّ أن أسأله عن شيء، كما أنه أصبح سريع الغضب ولا يجلس معنا إلا قليلًا، أين أنت يا سعيد؟ كم أشعر بحاجتي إليك، إلى أن تكون هنا بجانبي أحدثك وجهًا لوجه، من غير أن تُغيِّر الموضوع كلما حاولتُ التحدث معك على الهاتف أو في «الفيسبوك».
مرةً سألت جدو نور عن الموضوع قال: أخبريني برأيك أنت يا سماء؟
– لو لم أكن واقعة في حَيرةٍ شديدة لما أتيتُ إليك لأسألك عن رأيك.
– طيب، ما شعورك تجاه ما تسمعين؟
– أشعر بخوف وحرقة في قلبي لكنني لا أُصدِّق.
– لا تُصدِّقين؟ أم أنك لا تريدين أن تُصدِّقي؟
– ماذا تقصد؟
– أحيانًا يقف الخوف حاجزًا بيننا وبين الحقيقة.
– هل تعني أن ما يُقال صحيح وواقع؟
– لم أقل هذا.
– إذن كذب وافتراء؟
– لم أقل هذا أيضًا.
– طيب أخبرني!
– إياكِ أن تُصدِّقي يومًا أي شيءٍ تسمعينه أو ترينه ما لم تتثبتي به بنفسك؛ فليس كل ما يُعرض هو الحقيقة، وما قنواتُ التلفزة إلا أدواتٌ مُوجَّهة بسياسات مالكيها.
– ألا وجود للحقيقة إذن؟
– بلى، هناك حقيقةٌ ثابتة وراسخة فيما يتعلَّق بما يجري اليوم، ويمكنك أن تثقي بها، وهي أن الشر الذي يكمن في النفس الإنسانية لا حدود له.
أخذتُ أُفكِّر في كلماته مليًّا، وانتابني الخوف مجددًا، ثم قلتُ: وكذلك الخير، ألا يمكننا أن نثق به؟
– بلى بالتأكيد، لكن الفوضى هي ما تُخيفني؛ لأنها ملعبٌ خصب للشر، ومتى ما حدث ذلك انتفت كل معالم الإنسانية من البشر، وتحوَّل الناس إلى كائناتٍ أسوأ من الوحوش والسباع يأكل بعضهم بعضًا، والله يستر مما سيحدث مستقبلًا.
– أنتَ تُخيفني جدو! ماذا عليَّ أن أفعل؟
– أمران اثنان؛ الحذر والمراقبة، ولنرَ ما ستئول إليه الأمور.
لكن ممن عليَّ أن أحذَر؟ ومن أي شيء؟ لم أشأ أن أسأله فقد أصابني الحديث بغمٍّ في قلبي. صمَتنا قليلًا ثم تذكَّرتُ رندة فقلتُ وأنا أبتسم: «حدِّثني عن رندة.» نظر إليَّ متفاجئًا واكتفى بالابتسام، ثم قلتُ: «صحيح جدو لِمَ لم تبحث عنها على الإنترنت؟» أجاب: «هذه أمورٌ لا أفقه فيها مطلقًا، ثم إنني أُحب أن تعود هي طواعية من تلقاء نفسها، لا أن …» وهنا رنَّ هاتف جدو فأجاب وتحدَّث مع صديق له يُدعى سليمان، وختم المحادثة بقوله: «نعم في البيت، أهلا وسهلًا، بانتظارك.» قلتُ: «جدو، أتسمح لي بالبحث عنها؟» ابتسم وقال: «وهل يمكن ذلك؟» ضربتُ على صدري بيدي وأجبتُ بحماس: «اترك هذا عليَّ.»
بعد دقائق دُقَّ الباب، فذهب جدو ليفتح وسمعتُه يُسلِّم على صديقٍ له بحرارة وحفاوة كبيرتَين، لا بدَّ أنه صديقٌ عزيز جدًّا، بعد لحظات السلام دخل جدو مع صديقه إلى المكتبة. كان أطولَ من جدو بشبرٍ على الأقل، بشعرٍ رمادي كثيف، وعينَين رماديتَين أيضًا، وبشرة أقرب إلى السُّمرة منها إلى البياض، «دريُّ اللون» كما يقول أهل حلب. كانت عظامُ وجنتَيه الواضحة تُضفي على ملامحه نكهةً رجولية طاغية، مع غمازتَين غائرتَين، وذقنٍ مُربَّعة تُغطِّيها لحيةٌ خفيفة. كان يرتدي بزةً رسمية سوداء مع قميص من الساتان الأبيض، وحذاءً أَسْودَ لامعًا، وكان يحمل حقيبةً سوداء جلدية.
ابتسم وسلَّم عليَّ حين رآنا، قال جدو: «هذه سماء جارتنا في الحي، وهي قارئةٌ ممتازة، وتلك هي أختها فاطمة.» ابتسمتُ وقد شعرتُ بحرارة في وجنتيَّ، ثم قال مشيرًا إلى صديقه: «وهذا سليمان، جاري أيضًا لكن في حارتنا القديمة في «الجبيلة»، وصديقي الذي استعدتُه مؤخرًا، وشاعر سورية العظيم.» ضحكا معًا وشعرتُ أنه يجب عليَّ الرحيل، فاستأذنتُ ولم يَستبقِني جدو فرحلنا. رحتُ أمشي إلى البيت وصورة سليمان بغمازتَيه الغائرتَين وقامته المنتصبة ظلَّت ترافقني، إنه ملِك! مثل الملك سليمان.
بعد يومَين ذهبتُ مع أمي إلى الدرس الديني الذي كان قد توقَّف عدة أسابيع لأسبابٍ نجهلها. كنتُ متحمسة له فقد افتقدتُه كل تلك المدة، كان كل شيء كعادته، الآنسة التي تعرف كل شيء بإشاربها الأبيض المطرَّز، والنسوة الباكيات، والسجادة المزركشة الجميلة، لكن ثَمَّةَ شيءٌ ناقص، شيءٌ ما سبَّب لي غيابه غُصَّة واختناقًا غريبًا، ولولا إثارة الأقاويل لاستأذنتُ خارجة، لكن بكثيرٍ من الجهد ألصقتُ نفسي بجانب أمي. كانت الآنسة تتحدث عن موضوع الزهد في الدنيا، وتَرْوي القصص عن صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف كانت بيوتهم تخلو من متع الدنيا وزينتها، وكيف كانت بيوتُ النبي ليس فيها إلا ما يسد الحاجة، وكانت الآنسة تتحدث بأسلوب يفطر القلوب، وتُلوِّن صوتها ببراعة تذرف لها العيون وتأخذ بالألباب. نظرتُ حولي فوجدتُ أننا نجلس على طقمٍ من الأرائك من أفخم أنواع الخشب المحفور يدويًّا، وكذلك الستائر وطاولات المرمر، والمزهريات الكريستال، والثريَّات المذهبة، والسجاد وفناجين القهوة والصواني كلها من أرقى وأجمل ما يمكن أن تقع عليه العين، فضلًا عن أن البيت نفسه في حي تجميل الفرقان وهو أحد أغلى الأحياء في حلب. هممتُ أن أقول لها: وماذا عن زهدكِ أنتِ؟ لكنني آثرتُ الصمت.
وبعد انقضاء بعض الوقت أقبلَت إحدى السيدات متأخرة، وفور وقوع نظري عليها وعَيتُ تمامًا ما كان ناقصًا، إنها ابنتها الفتاة العشرينية النحيلة، لم تأتِ معها اليوم. وفور انتهاء الدرس انتهزتُ الفرصة لأقترب من السيدة وأسألها عن ابنتها، وكأنما استفزَّها سؤالي أو أحرجها أو أرعبها، لكنها بالتأكيد لم تكن مسرورة برؤيتي ولا بسؤالي فتجاهلَتْني تمامًا وكأنني ذبابة طنَّت بقرب وجهها، فأزاحتني بظاهر يدها وأكملَت حديثها. عُدتُ لأمي وسألتُها عنها، فرفعَت حاجبَيها وكتفَيها وقالت: «ماذا تريدين منها؟ إنها لم تعُد تحضُر من زمان، تعرفين، صار وجودها محرجًا لأمها التي هي النائبة المنتظرة لاستلام الدرس بعد انتقال الآنسة؛ فهي تحفظ القرآن كاملًا، وتُتابع دروس الشيخ عبد الحي.» شعرتُ بغضبٍ شديد، طبعًا فالفتاة المغضوب عليها صارت عارًا على مركز أمها الديني. كتمتُ غيظي وسألتُ أمي عن مكان سَكَنها، وعرفتُ أنها لا تبعد كثيرًا عن بيت الآنسة.
لم أنتظر كثيرًا؛ فقد ذهبتُ وحدي في اليوم التالي ظهرًا إلى بيت السيدة والدة الفتاة النحيلة. طرقتُ الباب وانتظرتُ، «مين؟» سمعتُ صوتًا أنثويًّا من خلف الباب، قلتُ: «أنا سما بنت أم سعيد.» فُتح الباب وأطل وجهها، إنها هي بالتأكيد وبالكاد تمكَّنتُ من تمييزها. قلتُ: «أنا سما، كيف حالكِ؟ افتقدناكِ في الدرس يوم أمس.» فابتسمَت بفرح وفتحَت الباب على مِصراعَيه، وضَحِكَت بفرحٍ طفولي وهي تلفظ اسمي وتجرُّني إلى الداخل، وأخذَتْني في حضنها، وكأنها كادت تبكي لكنها تمالكَت نفسها حين سمعنا صوتًا من بعيد ينادي: «من يا بنت؟» وسرعان ما أقبلَت والدتها ترتدي ثياب الصلاة. خطوتُ إليها مادَّةً يدي وقلت: «تقبل الله يا خالة، أنا سما، البارحة كنا معًا.» وبوجهٍ أشبه بحساءٍ محترق قالت لي: «أهلًا أهلًا، أمك ليست معك؟» قلتُ: «كلا يا خالة، إنها في البيت، وتُسلِّم عليك، وتسألكِ أن تُشرفينا بزيارتكم يومًا ما.» أخذَت تتفحَّصني وتتفرَّس في وجهي الذي رسمتُ عليه ابتسامةً مصطنعة، وقفنا صامتاتٍ هكذا ثواني. شعرتُ بحرجٍ كبير، ثم أمسكَت الفتاة بيدي قائلة: «تفضلي سما لا يمكنك الرحيل هكذا بلا قهوة.» ولم أنتظر، بل تبِعتُ الفتاة إلى الداخل وجلسنا في الصالة. تَبِعَتنا الأم وقالت لنا: «أكمل صلاتي وأعود.» وحدجَتْني بطرف عينها وذهبَت، وفور اختفائها أمسكَت الفتاة بيدي وقالت: لا تعرفين كم أنا سعيدة برؤيتك، كيف عرفتِ أين أسكن؟
– لا يهم، المهم أنتِ، لقد أقلقَني اختفاؤك.
– آه لو تعرفين!
– ماذا؟
التفتَت واقتربَت مني وقالت همسًا: أهلي منعوني من الخروج من البيت، حتى إلى المعهد والدرس والسوق إلا برفقة أمي أو أخي.
– ولكن لماذا؟
– تعرفين، القصة نفسها، يوم فضَحَتني الآنسة، وا… وأمورٌ أخرى ما أُحب الحديث عنها، تعالي عندي كل يوم.
– ليتني أستطيع لكن لا أظن أن والدتكِ أحبَّتني.
علَت موجةٌ من الحزن على وجهها، وصارت أكثر شحوبًا ثم قالت: اتَّصِلي بي، لا، أنا سأتصل بك، حين أجد الوقت مناسبًا.
واستلَّت قلمًا من المنضدة ورفعت كُمَّ ثوبها لأكتب رقم بيتنا، وقالت: عجِّلي عجِّلي. وما كدتُ أنتهي من كتابة الرقم حتى أقبلَت والدتها مع القهوة، فشربتُها على عجَل وخرجتُ.
في مساء ذلك اليوم اتصلَت بي وتحدَّثنا قُرابة الساعة، عرفتُ منها أنها ممنوعة من أي شيء يمكن لفتاة في مثل عمرها أن تحظى به، كم أنا محظوظة إذن! أحسستُ بالأسى تجاهها. تحدَّثنا بعد ذلك مرارًا، كانت تُحدِّثني خفيةً بعد نوم أهل بيتها، أو في غيابهم. لستُ أفهم لم هذه السرية، وكأنها تُغوي شبابًا لا قدَّر الله. عرفتُ عنها أشياءَ جميلة، وعرفَتْ عني أنني أستعير الكتب وأقرأ، ورجَتْني أن أحكي لها عن كل الكتب والروايات التي أقرؤها، وبالفعل كنتُ كلما أنهيتُ جزءًا أُحدِّثها عنه، وكنتُ أقرأ لها بعض المقاطع، وكانت تستمع بانتباهٍ شديد ونظل نتحدَّث عن الأحداث أو الأفكار، كانت أوقاتًا جميلة جدًّا.
٨
تواقيعُ كثيرة وطوابعُ أكثر، معاملات وأذونات وبراءات ذمة، ويومًا تلو الآخر كان على نادر أن يستيقظ باكرًا، باكرًا جدًّا قبل «الشحاذة وبنتها»، ويصطف في الدور على أبواب الموظَّفين حتى يبدأ الدوام ويبدأ رحلته في الركض من مكانٍ إلى آخر من أجل استكمال معاملة استخراجِ مُصدَّقته الجامعية. كان غير مُبالٍ لمتاعبه، لكل تذمُّرات الموظَّفين وتقلُّبات مزاجهم، فحلاوة تخرُّجه كانت طاغية. وأخيرًا سيحصُد ثمرة جهوده، ثمرة سهره ودراسته طوال خمسِ سنواتٍ خلَت. كانت الأبواب مفتوحةً أمامه اليوم مرةً أخرى، وكان عليه أن يختار.
– كيف يا أستاذ؟ أوراقي كلها كاملة.
– أعرف أعرف، لكن يا ابني ما وصلَتْني مُصدَّقتُك.
– طيب وما الحل الآن؟
– راجع الامتحانات، ربما لم تنجح في إحدى المواد.
– نعم! لم أنجح!
– يا ابني لا ترفع صوتك الله يرضى عليك، أنا ما لي علاقة، قد يكون هناك خطأٌ ما، الأخطاء تحدث دائمًا.
ومنذ هذه اللحظة دخل نادر في دوامةٍ من المراجعات والواسطات والالتماسات لمعرفة سبب عدم حصوله على مُصدَّقته. كان عليه أن يحصل عليها قبل أن تنقضي مدة التسجيل على الماجستير، لكن لم يكن الوقت لصالحه. انقضَت أشهر الصيف وانتهى وقتُ التقديم على الماجستير وعلى غيره من الفرص ونادر لا يزال يتنقَّل من مكتب إلى مكتب لمعرفة السبب، وظل السبب مُعلقًا في المجهول وكذلك حُلمُه بالتخرج.
٩
لماذا نحتفظ بصُورنا القديمة وذكرياتنا؟ إننا ننظر إلى بقايا ذكرياتنا وكأنها أدلة على حياة كنا نعيشها، نبرهن لأنفسنا أننا مررنا بفرحٍ ما، أو نثبت مدى قُوَّتنا لأننا تجاوزنا حزنًا ما، نحب الذكريات لأنها جزء مكون لشخصيتنا كما هي الآن، ولأن الذكرى مثل قطعةٍ أثرية ثمينة، لا تحمل قيمتها في ذاتها وحسبُ بل من تقادُم الزمن عليها، وهكذا هي ذكرياتنا كلما تقادَمَت زاد سِحرُها وتعلُّقنا بها. والصور جزء من الذكريات، من الماضي الخاص بنا أو بأحدٍ عزيز علينا. الصورة كانت لحظةً خاطفة انتقلَت إلى العدم لكن عدسة الكاميرا قامت بتخليدها إلى الأبد.
أنظر إلى هذه الصورة بين يديَّ؛ فقد كنتُ أقسمتُ على سعيد أن يرسل لي مع كل رسالةٍ صورةً فوتوغرافية له، ومع ذلك فإنه غالبًا ما كان يركن إلى الوسائل الأحدث والأيسر في تراسُلنا. واليوم وصلَتْني منه رسالةٌ مكتوبة، فرحتُ لها ككنز ثمين؛ فأنا أُفضِّل حميمية الرسائل المكتوبة بخط اليد، والصور المطبوعة على تلك الرسائل الفجة الباهتة والصور الباردة المنبثقة على الشاشات عَبْر البريد الإلكتروني. أتذكَّر كيف كنا نتحلَّق حول أمي وهي تقرأ علينا رسائل خالي محجوب المقيم في أمريكا من سنوات، كنتُ في الثامنة أو التاسعة من عمري، كان يُرسل لنا طردًا مملوءًا بألعابٍ وهدايا لي ولسعيد ونادر؛ فلم تكن فاطمةُ قد وُلدَت بعدُ. كانت هداياه هي الأثيرة على قلبي؛ فقد عبَرت القارات والبحار والمحيطات لتصل إليَّ من مكانٍ بعيد، ومن أمريكا تحديدًا.
أتلمَّس الورقة المكتوبة بخطه فأجد روحه مُنبثَّة في ثنايا الأحرف، أشتَمُّ حنيني إليه في عبير الكلمات والنقاط والسطور. أنظر إلى صورته فأجدُ رجلًا مبتسمًا سعيدًا، الشفاه تكذب، لكن العينَين لا تعرفان الكذب، أرى فيهما حزنًا أصيلًا يأبى الإخفاء والتورية، أسأله ما بك؟ فلا يجيبني إلا ﺑ «الحمد لله، أموري تمام.» وأنا أعلم أنه يُخفي شيئًا، تذكَّرتُ تلك الليلةَ التي سمعتُه فيها يبكي بكاءً مخنوقًا قُبيل سفره بأيام، هل لذلك علاقةٌ بحزنه اليوم؟ رنَّ هاتفي، أجبتُ فإذا هي مريم صديقتي، قالت لي: ماذا لديكِ مساء الغد؟
– لا شيء، لماذا؟
– ألا تعرفين؟
– ماذا عليَّ أن أعرف؟
– بالله عليك أين تعيشين؟ ما عرفتِ أن رائد «السوبر ستار» عائد غدًا إلى حلب، والعالم كله ذاهبٌ إلى استقباله في المطار؟
– حقًّا؟
– نذهب معًا إذا أردتِ، لكن علينا أن ننطلق قبل ساعتَين على الأقل، تعرفين الزحام.
– لا أعرف، ربما لن أرافقك.
– لماذا؟
– لا أعتقد أن أبي سيسمح لي.
– كما تشائين، اتصلي بي إذا غيرتِ رأيكِ.
أغلقتُ الهاتف وأنا أبتسم عجبًا، تخيَّلتُ رائدًا في المطار وسط المُعجبين والمعجبات والكاميرات والصحفيين، يا لهذه البلاهة! لن أكون من بينهم بالتأكيد. فتحتُ كمبيوتري المحمول، لكن لحظة! لِمَ لا؟ أمشي بين الزحام ويراني فجأة، فيُنادي عليَّ «سما، سما.» يسحبني من يدي، يُطوِّقني بذراعه ونهرب من الصحفيين والناس كلهم. صدح صوتُ الكمبيوتر عاليًا بموسيقى إقلاعه، ففزِعتُ وابتسمتُ لسخافة خيالاتي!
كنتُ أنوي البحث عن رندة، لكنني آثرتُ تفقُّد بريدي الإلكتروني، فوجدتُ رسالةً جديدة من شادي. كنتُ قد نسيت أمره تمامًا، نظرتُ إلى تاريخ اليوم، إنه الثاني عشر من أيار، لقد مَرَّ أسبوعان على زيارتي لمعرض الخطر. كنتُ قد نويتُ الذهاب في اليوم التالي إلى الجلسة الصحفية، لكنني لم أذهب. فتحتُ الرسالة، كان فيها صورةٌ واحدة للوحة كُتب فيها «فإنكَ بأعيُننا.» كانت مزخرفة بعناية وباللونَين السماوي والذهبي وتدرُّجاتهما، كانت الأحرف متداخلة بشكلٍ جميل ومبهر، التقاطع والتشابك في الانحناءات والخطوط، والتباين بين الزوايا والمنحنيات لكن بانسجامٍ تامٍّ بهرني حقًّا. نظرت إلى عنوان المرسَل إليهم، لم يرسلها لأحدٍ غيري! أعرف رسائله الممرَّرة السابقة جيدًا، إنه لا يستخدم أبدًا خاصية إخفاء عناوين المرسَل إليهم، وكنتُ دائمًا أجد اسمي محشورًا بين أسماء العشرات من عناوين البريد الإلكتروني. أما هذه الرسالة فهي مُرسَلة لي وحدي، هل يحاول أن يقول لي شيئًا؟ حاولتُ أن أتذكَّر وجهه، لم أفلح كثيرًا، بل أعتقد أنه كان عاديًّا جدًّا. في الحقيقة أنا لا أذكر منه سوى ربطة عنقه الصفراء. عُدتُ لأنظر في اللوحة ووضعتُها خلفيةً لشاشة كمبيوتري.
ثم دخلتُ على صفحتي في الفيسبوك، قرأتُ أول منشور كان يتحدث عن إنجازات الخليفة سليمان بن عبد الملك. تذكَّرتُ سليمان الملك صديق جدو، ومن باب العبَث المحض كتبتُ في شريط البحث اسمه كاملًا، وظهَرَت لي صفحته الوحيدة، فتحتُها، وأخذتُ أقرأ منشوراته وأتصفَّح صُورَه. لقد كان كنزًا بحق، ملكًا كما أحسستُ بذلك أول مرة، ملِكًا لنواصي اللغة التي يكتُب بها، وملكًا للكاميرا التي يلتقط بها صُورَه الفنية الرائعة باللونَين الأبيض والأسود دائمًا لوجوهٍ وأشجارٍ وحشراتٍ أيضًا. لقد كان مُصوِّرًا محترفًا، وأديبًا مفكرًا، وشاعرًا مرهفًا، زاد إعجابي به وشعرتُ أنني أريد أن أعرف عنه أكثر.
وبعد وقتٍ سمعتُ أذان العشاء، فانتبهتُ أنني سلختُ الوقت ما بين المغرب والعشاء في قراءة منشوراته. تذكَّرتُ أنني أريد البحث عن رندة، فكتبتُ على شريط البحث، رندة عبد الحفيظ، بالعربية مرة وبالأحرف اللاتينية أخرى، ورحتُ أبحث في الأسماء الكثيرة التي ظهَرَت، لكنني لم أجد من بينها «رندة جدو»، «رندة جدو»؟ سألتُ نفسي، فكرة! كتبتُ: «رندة نور»، ظهرت لي أربع حساباتٍ بهذا الاسم، تسارعَت نبضات قلبي، شعرتُ أنني اقتربتُ منها. كان الحساب الأول متروكًا، والثاني لواحدة ذات مزاجٍ عالٍ على ما يبدو فجميع صورها بلا ثيابٍ تقريبًا، أما الحساب الثالث فهو لفتاة في العشرين من عمرها، والرابع لسيدة عجوز! ليست رندة واحدة منهن بالتأكيد، أخذ اليأس يتسلل إليَّ، ربما ليس لديها حساب على الفيسبوك أصلًا، نحَّيتُ الجهاز جانبًا، أغمضُت عيني بحثًا عن حل، لكن مهلًا لحظة، «جدو نور» بالنسبة إلى رندة هو «نوار» وليس «نور»! فتحتُ عيني وقد اشتعلَت حماستي من جديد، وعلى الفور كتبتُ في شريط البحث بالعربية: «رندة نوار»، وظهَرَت لي صفحةٌ وحيدة لا ثاني لها! تفاجأتُ لحظة، وحبستُ أنفاسي، هل سألتقي بها حقًّا هنا في الفضاء الأزرق في الفيسبوك؟!
١٠
«الحياة مثل قطعة شوكولاتة بالحليب، أوَّل قضمةٍ منها تملؤك لذة، فتُغريك بالمزيد، وبينما أنت في لذةٍ منتهية واشتهاءٍ مستمر تنفَد الحلوى، ولا ينوبك في الآخر إلا ذكرى لحلاوةٍ ماضية، وتكدُّس السكر في دمك! والحكيم من يلتذُّ بالحلوى على مهل.» كان هذا أَوَّل منشور للسيدة رندة، رندة نوار، لقد وجدتُها! يا لروعة اللقاء! لكنه لقاء من طرفٍ واحد؛ فأنا أعرفها، أما هي فلا. تُرى كم يبلغ عمرها الآن؟ ربما هي في أوائل الخمسين. وجدتُ أنها تقيم في مدينة «قونية» التركية، كانت هناك عدة صُورٍ لها، وكمن وجد كنزًا بعد طول بحثٍ رحتُ أفتح الصور باللهفة التي زاد من وقودها بطءُ الإنترنت وتأخرُ تحميلِ الصور. كانت جميلة القوام، ليس كما تخيلتها تمامًا؛ فهي تميل إلى القصر قليلًا، شعرها الكستنائي المجعد كما في خيالي، لكن تنورتها لم تكن مزركشة. كانت في معظم الصور ترتدي إما سراويل عريضة داكنة، أو فساتين من الكتان المزهر، ورغم سنوات عمرها فإنها كانت امرأةً جميلة، سيدة بحق، تعرف تمامًا ما يناسبها ويُبرز مواطن جمالها لكن بكبرياء وتعفُّف، وبالتأكيد لم يكن الشال السماوي ليغيب عن معظم صورها. كم كانت فرحتي شديدة! أمسكتُ الهاتف لأزفَّ البُشرى لجدو نور، لكنني تراجعتُ أخيرًا، أريد أن أصنع له مفاجأة، وعليَّ أن أعرف رندة أكثر، أن أقترب منها، وأحاورها، ربما أتمكن من استمالتها للمجيء إلى هنا؟ من يدري؟ يا للحماسة التي تسري في كل خلية فيَّ! أخذتُ أضع سيناريوهاتٍ مختلفة لكيفية لقائهما، كم سيكون رائعًا!
وبينما أنا مسترسلة في خيالاتي سمعتُ صفقًا عنيفًا لباب بيتنا، إنه نادر عاد من صلاة الجمعة وهو يصرخ وكذلك أبي وأمي. خرجت لأستطلع الأمر، فوجدت الجميع في حالة هياجٍ كبير، نادر يصيح بغضب، وأبي بوجهٍ عابس، وأمي بعينَين دامعتَين خوفًا. لقد كان نادر في «مظاهرة» بعد الصلاة، يا للمصيبة! لماذا يفعل شيئًا غبيًّا كهذا؟ هل قصد الخروج؟ أم وجد نفسه متورطًا؟ لم أكن أدري، لكن أبي وبَّخه كثيرًا.
وأسبوعًا بعد أسبوع زادت الأمور سوءًا في حلب، صار التيار الكهربائي ينقطع باستمرار أكثر، ولساعاتٍ أطول، وكذلك الماء، وأخذَت الأسعار ترتفع بصورةٍ جنونية. لم أعُد أتمكن من الذهاب كثيرًا لجدو نور، وخيَّمَت على حياتنا سحبٌ كثيفة من النزق والكآبة.
كنتُ أتسمَّر أغلب اليوم أمام شاشة التلفاز لمعرفة الأخبار أو أقرؤها على الإنترنت، بحسب وجود التيار الكهربائي أو انقطاعه. في البداية كنتُ أعُد الأيام السوداء ثم تطاولَت الحرب واستطالت أذرعُها لتنهش كل مدينة وقرية في سورية، وانبثقَت لها أذرعٌ وأرجلٌ متفرعة جديدة تُنشِب أظفارها في قلوب الأطفال والأبرياء، وتُلوِّن الخبز بالدم، وتصبغُ المدارس والبيوت والجوامع بشيطان الموت الرجيم. عندها فقد كل شيء معناه، واختلطَت الأرقام وتوقَّف العد سامحًا لليأس المعجون بالعجز ليتسلل إلى حياتنا كسرطانٍ خبيث يُذيب روح الحياة في قلوبنا.
مهما كانت الظروف فليس لك من ملجأ سوى الحب الخالص.