الفصل الخامس
١
حلَّ الخريف أخيرًا، كنتُ مُتلهِّفةً لقدومه، فأجواؤه الحالمة تأخذني كل مرة إلى عوالمه الجميلة، غيومٌ حانية تحجُب قسوة الشمس، ونسائمُ باردة تُلطِّف ليالينا الصيفية الحارة بلا كهرباء، وأمطارٌ خفيفة، وبرودةٌ لطيفة، كم أحبُّ الخريف! لطالما حمَّلْتُه الكثير من آمالي، بتحسُّن حالتي، وانتشالي من الاكتئاب الذي بدأ ينخر في زوايا الروح. وها قد جاء تشرين، لكنه لم يقدر إلا على جرِّ أذيال الصيف الحزين، جاء تشرين متعريًا من سحره، متخليًا عن بهائه، نازلًا من عليائه؛ فلا غيومه ساحرة، ولا أنسامه عاطرة، ولا أمطاره إلا كأيادٍ وقحة تطرق أبواب قلوبنا فتجرحُها وتنكأ الذكريات.
دخل الشتاء دفعةً واحدة، وغَشِي بيوتنا، وتَسلَّل إلى عظامنا، كان قاسيًا أكثر من المعتاد، أم أننا شعرنا بذلك نتيجةَ شُحِّ موادِّ التدفئة وغَلائها؟ أم بسببِ تواطُؤ برده مع زمهرير آلامنا وفجائعنا؟ أم مما نشهده كل يوم من تكاثر ذلك السرطان المخيف الذي يتجلى في وجوه تجار الحرب وما يمارسونه علينا من ظلمٍ لا نملك له دفعًا؟ لا فرق؛ فعلى كل حال، وحيثما تقلَّبَت بنا الدنيا كنا نلاقي القسوة.
وتحت وطأة هذه الظروف أحَسَّ بي أبي أخيرًا، نظر إليَّ ذات صباحٍ وألحَّ النظر وقال: «ما لكِ مُصفرَّة هكذا؟» وكأنه لا يعلم! ثم جذبَني من يدي وأحاط كتفيَّ بذراعه وقبَّلَني على جبيني، وقال: «الله يرضى عليكِ، انتبهي على نفسك.» ومثل بركان خمَد طويلًا، راحت الدموع تنفجر من عينيَّ وأخذ قلبي يرتعد، حتى عجب لي والدي وراح يتفحَّصني ويسألُني: «ما بكِ يا بنت؟ مريضة؟» كنتُ عاجزة عن الكلام، والعبَرات تخنقُني، وقد سمحتُ لنفسي بالبكاء لأول مرة على صدره بعد وفاة نادر بهذا القَدْر من الحدة. ساقني أبي من يدي وأجلَسَني بجواره وظل صامتًا، وأنا أتنهَّد مغالبةً موجة جديدة من البكاء، ثم أمسك هاتفه المحمول وطلب رقمًا، وراح يتحدث مع جارنا «جدو نور». ابتسمتُ في سِري فكم كنتُ مشتاقةً للجلوس إليه في مكتبته الحانية! أنهى أبي المكالمة وقال: «أخذتُ لكِ موعدًا غدًا لتذهبي إليه، واستعيري منه ما شئتِ من الكتب. هيَّا هيَّا، قومي واغسلي وجهكِ، وأعدِّي لي القهوة.» قفزتُ فرحًا وصفَّقتُ بيدي، وعانقتُه مبتهجة، فقد سمح لي بالعودة إليه بعد آخر مرة اضطُرِرتُ لقضاء الليل بطوله عنده. من يومها منعَني أبي من الذهاب إليه خوفًا علينا أنا وفاطمة من مواقفَ مشابهة؛ ففي آخر الأمر، أن يصيبنا شيء ونحن في بيتنا مع والدَينا وتحت نظرهما، خيرٌ من أن نكون بعيدتَين عنهما.
الإنسان هشُّ كقَشَّة، قد تُميته الأحداث، لكنَّ فعلًا واحدًا من الحب الخالص كفيلٌ ببثِّ روح الحياة فيه.
لا تَستهِن بالكلمة الطيبة، قد تُحيي بها روحًا.
وعلى الفور أتاني إعجابان لكل منشور؛ أحدهما من صديقتي مريم، والآخر من الملك «سليمان». إنه متصلٌ الآن! يجلس إلى جهازه ويقرأ منشوراتي! ابتسمتُ، وفتحتُ طلبات الصداقة، أغلبها من أقاربي، وبعض صديقاتي في الثانوية، وكان منها حساباتٌ لا أعرف أصحابها فقمتُ بحذفهم، ثم عدتُ إلى صفحتي. لكن لحظة! كأنني قرأتُ اسم «شادي أشتر» من بين الحسابات التي حذفتُها؟ فتحتُ صفحة طلبات الصداقة مجددًا، لكن يا للأسف لقد ذهب الاسم، لا بأس، كتبتُ في مُحرِّك البحث اسمه، وظهَرَت لي ثلاثة حسابات تحمل الاسم ذاته، فتحتُها كلها وعرفتُه على الفور، كان هذا سهلًا جدًّا؛ فصفحتُه مليئة بصور الخط العربي مما كان يرسمه ويزخرفه، كما ظَهرَت صورته على «البروفايل» إنه هو بلا شك، تذكَّرتُ شكل وجهه أخيرًا. كانت الصورة في مطعم «نيو مول» تحديدًا، عرفتُ ذلك من مقاعده الجلدية الحمراء، وأمامه طبقٌ من المثلَّجات المزيَّنة بالبسكويت والشوكلاتة بطريقةٍ فنية جميلة، وشمسيةٌ خضراءُ صغيرة تُكمل جمالية الطبق. ضغطتُ على زر قبول الصداقة، ورحتُ أفتح صوره، فلم أجد أي صورة له سوى واحدة، ملامحه تتسم بالبساطة والطيبة، بعينَين بنِّيتَين واسعتَين وشعرٍ أسود ولحيةٍ خفيفة، كان يرتدي قميصًا أبيضَ وسُترةً سوداء من الشامواه. وبينما كنتُ أتأمل صورته، ظهر لي إشعارٌ جديد بتعليق على منشوري، إنه من الملك! كتب: «الحياة تتدفَّق فينا بلا انقطاع، يكفي أن نفتح عيون قلبنا عليها لنشعُر بالحب.» ضغطتُ على زر الإعجاب بتعليقه، فوصل تعليقه الثاني على منشوري الثاني: «الكلمة الطيبة صدقة.» وأيضًا وهبتُ تعليقَه إعجابي!
عُدتُ إلى شادي، جمعتُ بعض المعلومات عنه من خلال صفحته؛ فهو متحفظٌ كثيرًا، عرفتُ ذلك من قلة أصدقائه، وعدم وجود صورٍ له سوى اثنتَين، ومن خلال منشوراته؛ فمنشوراته تنحصر في شيئَين اثنَين؛ لوحاته الخاصة بالخط العربي، ولوحاتٍ مختلفة لفنانين عالميين. كما أن تعليقاته وردوده لأصدقائه مختصرة وقصيرة ورسميةٌ جدًّا؛ فغالبًا ما يُجيب على إطراء أصدقائه وأقاربه ﺑ: «شكرًا لك، أشكر مرورك وكلماتك، هذا من لطفك وذوقك.» عرفتُ أيضًا أنه درس الآثار وهو يعمل في المتحف الوطني في حلب، كم هذا ممل! لا بد أنه مُحبَطٌ جدًّا ليعمل في مُتحف. ومَن يدرس الآثار أصلًا سوى من لم تُؤهِّلْه علاماته في الثانوية لدراسة اختصاصٍ أفضل؟ ما علينا، يبدو أنه لم يكن «شاطرًا» في المدرسة.
ثم تذكرتُ «رندة»، ياه! كم من الأحداث مرَّت! لقد نسيتُها تقريبًا، ونسيتُ شغفي بها وبقصتها مع «جدو»، كنتُ قد راسلتُها يومًا. عُدتُ إلى الرسائل القديمة المُرسَلَة، فتحتُ رسالتي لها، لكنها لم تصلها، يبدو أنها لا تستقبل رسائل أبدًا من الفيسبوك، مشكلة! كيف سأتواصل معها الآن؟ لم أرغب أن أكتب علنًا على صفحتها، سيكون هذا مزعجًا. فتحتُ صفحة معلوماتها مجددًا، أبحثُ عن أي عُنوانٍ يُوصلني إليها. وجدتُ عنوانًا بريديًّا، نسختُه ورجوتُ أن يصلني بها. والآن، ماذا سأكتب لها؟
سيدة رندة، تحية طيبة
من خلال المصادفة الجميلة تعرَّفتُ على صفحتكِ، وأعجبَتْني منشوراتك، أحسستُ أنني أُشبهك، وأريد فعلًا أن أستفيد منك أكثر. لقد قبلتِ صداقتي على صفحتك في الفيسبوك، وأرجو من لطفك قبولي للحديث معك على الماسنجر أو أي وسيلةٍ أخرى.
ممتنةٌ لكِ أنا كثيرًا.
وأرسلتُها.
٢
«كيف حالك؟» ظهَرَت لي نافذةُ محادثةٍ صغيرة من أسفل شاشة صفحتي في «الفيسبوك». إنها من شادي «الحمد لله» أجبتُه، ماذا أكتب بعدُ؟ هل أسأله عن حاله؟ هل أُبدي إعجابي بصور لوحات الخط التي يُرسلها لي كل يوم على بريدي؟ ماذا أكتب؟ إنه لا يعرف شيئًا عني، بأي صفة يسألني؟ وأنا كذلك! لا أعرف عنه شيئًا. شعرتُ باضطرابٍ خفيف، فخرجتُ من «الفيسبوك» وأطفأتُ جهازي، واستلقيتُ على سريري أُفكِّر.
ماذا يريد مني؟ وماذا أريد منه؟ إنه مثل شباب هذه الأيام يرغب باللهو مع الفتيات والتسلية؛ فهو لا يعرفني ولم يرني إلا مرةً واحدة، ما هذا العبث؟ لماذا لا يتوقف عن مفاجأتي كل يوم بلوحة خط على بريدي؟ لكنني أنا من طلبتُ منه ذلك حين أرسلت له: «هل من مزيد؟» ماذا أفعل؟ كيف أوقعتُ نفسي في هذه اللعبة الخطرة؟ لكن عن أي خطر أتحدث؟ وهل سيخرج من الشاشة ليؤذيني أو يخطفني مثلًا؟ كم هذا سخيف! أنا أحببتُ أعماله وجذَبَتْني لوحاته، وكانت فرصةً لي لأتعرف على هذا الفن الجميل، ما المشكلة في ذلك؟
العزيزة سما
سَرَّني اهتمامُكِ بمنشوراتي، أهلًا بكِ، يُسعِدني التواصُل معكِ، ستجدين مرفقًا برقمي على «الواتساب» للتواصل.
رائع! الآن أستطيع أن أتعرف عليها عن قربٍ أكثر، حفظتُ رقمها في جهازي، وأرسلتُ إليها على الفور، ومن يومها وأنا أُراسلها بشكلٍ شبه منتظم، أسألها عن بعض منشوراتها ونتطرق لأحاديثَ كثيرةٍ متشعبة، كانت كريمة معي بحسَب ما يسمحُ وقتُها بذلك. راحت فرحتي بها تزداد، وشعرتُ أنني أقتربُ أكثر في تحقيق حلمي بجمعها مع جدو نور.
٣
– كيف حالكِ؟
– الحمد لله بخير، وأنتم؟
– لا أدري لماذا تُصرِّين على مخاطبتي بصيغة الجمع؟
– هكذا أفضل، صدِّقني.
– كما تشائين، لم تُخبريني عن رأيكِ في لوحتي الأخيرة.
– نعم إنها جيدة، لكن الخط الفارسي لا يُعجبني كثيرًا، إنه ليس بفخامة الثلث، ولا بجمالية الديواني ولا بهندسة الكوفي، أشعر أنه خطٌّ كسول وخامل.
– هههههه، تحليلٌ دقيق، وتسميةٌ رائعة للخط الفارسي، إنه من الآن الخط الخامل.
– لا تهزأ بي.
– أنا لا أهزأ، على العكس يهمني رأي المتلقين في لوحاتي، وخاصة الأذكياء منهم!
– هل تُجاملني؟
– وهل يجب عليَّ ذلك؟
– أنت مراوغ، تجيب عن سؤالٍ بسؤال.
– والألوان كذلك أجدها غريبةً عنك ولا تناسب أبدًا ما كتبتَه.
– تقصدين الأحمر أم الأصفر؟
– الاثنين معًا. صحيح، كنتُ قد سألتُك مرة عن اللونَين الذهبي والسماوي اللذَين يطغيان على أغلب لوحاتك؟ كنا في مديرية الثقافة في معرضك، أتذكُر؟
– وكيف أنسى؟ كان يومًا مفصليًّا في حياتي.
– بالتأكيد، أُخمِّن شعور من ينجح في إنشاء أول معرض له.
– نعم، ولسببٍ آخر أكثر أهمية بالنسبة لي، لن يخفى على ذكيةٍ مثلك.
– لم تجبني عن الذهبي والسماوي!
– أحسنتِ، تُجيدين دائمًا التهرب من الموضوع، «يا ستِّي» الذهبي يرمز لكل مقدَّس وثمين، والسماوي رمزٌ للتسامي والصفاء، وهذه سماتٌ أصيلة في حضارتنا العربية وخاصة الدينية منها.
– حضارتنا العربية لا يمكن فصلُها عن الدينية.
– نعم ممكن، ثم إن اللون السماوي صار أثيرًا لديَّ أكثر منذ ذلك اليوم يا سماوي، أقصد يا سما!
– هههههه.
٤
من يدري ماذا يُخبِّئ لنا القدر؟ من منا قبل أشهرٍ قليلة يمكن أن يتوقع ما حدث في سورية؟ لو قال لي أحدهم إن هذا ما ستئول إليه الأمور في حلب لرميتُه بحجر ودللتُه إلى مشفى ابن خلدون للأمراض العقلية. واليوم كل المستحيل صار ممكنًا، وما كنا نعيشه كل يوم من أيام حياتنا العادية صار نعيمًا، صار ذكرى جميلةً نتحسر عليها؛ الغاز الذي نغلي به قهوة كل صباح، الخبز الطازج الذي تمتلئ به المخابز، الخضار الرخيصة اللذيذة، الماء عصب الحياة الذي كان يخرج من صنابيرنا صالحًا للشرب، نزهاتنا المتأخرة حتى الثالثة فجرًا بلا خوف، عطلاتنا الصيفية الجميلة في اللاذقية أو صلنفة أو رأس البسيط، وغير هذا الكثير، أليس من الحكمة لو أحسسنا بجمالها لحظتها؟ بروعة امتلاكنا لها قبل فقدها؟ ألا ينطبق هذا على كل شيء من حولنا الآن وفي هذه اللحظة؟ لقد سافر سعيد، ومات نادر، وقبلهما رحل رائد، الشاب الذي كنتُ قد أُعجبتُ به. توقَّفتُ عن القراءة واستعارة الكتب، وغرقَت مدينتنا في أوحال الحرب القذرة، ما الذي يمكن أن يعيد إلينا الفرح؟ سألتُ نفسي كثيرًا هذا السؤال، لكن أبعد شيء في الممكن أو في المستحيل يمكن أن يطرق بابك صباحًا.
ركضتُ لفتح الباب وجدتُ فاطمة قد سبقَتْني، وكما علَّمْناها فهي لم تفتح الباب، بل راحت تسأل: «من؟ من بالباب؟» وصلتُ ونحَّيتُها جانبًا لأنظر من «العين الساحرة» وكان أن وقع قلبي في رهبة المفاجأة، نظرتُ إلى فاطمة التي راحت تهمس: «من؟ من؟ ما بك؟» وأنا لا تكاد الرجفة في ساقيَّ تسكُن من الصدمة. عُدتُ لأنظر مجددًا من «العين الساحرة»، لأتأكَّد أني لا أحلُم، أن عقلي لا يتوهم، آه يا قلبي، إنه هو! وبدلَ أن أفتح الباب، صِحتُ بأعلى صوتي: «ماما ماما، سعيد!» وفتحَت فاطمة الباب، إنه سعيد، نعم بلحمه وشحمه.
عاد سعيد ليُعيد السعادة المسروقة إلى بيتنا، ليُحول أيامنا إلى عيد، رأيتُ ضحكةَ أمي تعود إلى وجهها بعد غيابٍ طويل. ومع أن أبي وبَّخه كثيرًا على عودته في مثل هذه الظروف، ومن غير أن يخبر أحدًا، فإني لمحتُ دموع الفرح تلتمع في عينَيه حين عانقَه. لقد تغيَّر قليلًا، صار أنحف وبدأَت شعراتٌ من الشيب تلتمع في شَعْره الفاحم، مع أنه في الثلاثين من عمره فقط.
قالت أمي وهي تُحضِّر لنا «المحشي ببرغل» احتفالًا بسعيد والذي لم نتناوَلْه منذ وفاة نادر: «قدومك خير وبركة يا سعيد، إن شاء الله نفرح فيك ونخطب لك، تكفيك عامان من الغربة وحيدًا.» صفَّقتْ فاطمة وابتسم سعيد.
بعد يومَين من قدوم سعيد خرجنا معًا لتناوُل العَشاء، كان ذلك من أسعد أيام حياتي، تأبَّطتُ ذراعه تمامًا كما تفعل السيدات في الأفلام. وصحيحٌ أن العَشاء كان في السادسة مساءً؛ إذ لا يمكن لنا البقاء خارج البيت لوقتٍ متأخر، إلا أنه يبقى عشاءً على كل حال. توجَّهنا إلى مطعم القيصر في حي المهندسين، وأعطاني سعيدٌ الحرية في اختيار طَبقِه وطَبقي. طلبتُ السلطة اليونانية التي يُفضِّلها، وطبق «كوردن بلو» لي، وطبقًا من المشاوي له، وبطاطا مقلية بالطبع، كان الجو رائقًا، والموسيقى شرقيةً هادئة. تناولنا طعامنا وأنا أُفرغ كل ما في جعبتي له، كل الحكايات والأحداث التي لم أتمكن من أن أحكِيَها، حكيتُ له عن جدو نور، وعن تطوُّر علاقتي برندة. وحين هممتُ لأُخبره عن شادي، توقَّفتُ ولم أفعل، كان هناك خشيةٌ في قلبي وقلقٌ طفيف. أخبرتُه عن صديقتي الجديدة التي صارت أنيستي في ليالي الحزن الطويلة، أخبرتُه كم ساندَتْني في وفاة نادر، لكنني تجنبتُ تمامًا الكلام على نادر، تلونا لروحه الفاتحة، وتابعتُ حديثي؛ فلا أريد أن أُفسِد أُمسيتنا باجترار الماضي وإعادة الأحزان، خاصةً أنه لم يكن موجودًا لحظة وفاته. حدَّثتُه عن الكتب التي قرأتُها والتي أوَدُّ قراءتها، كنتُ أتكلَّم بلا انقطاع وكان الوقتُ معه مليئًا وممتعًا وجميلًا.
بعد العَشاء طلب سعيدٌ الشاي الأخضر بالنعناع، أحضروه لنا بإبريقٍ زجاجي رائع وفناجين جميلة، مع شمعتَين ووردة. أخذتُ أضحك، وهمس لي سعيد: «يظنَّان أننا عاشقان!» عندها فتح لي سعيدٌ للمرة الأولى كوامنَ قلبه، سمَح لي بإلقاء نظرة على عالمه الداخلي وحكى لي عن سبب مجيئه المفاجئ إلى حلب.
٥
«أُحبكِ، أنت أحيَيْتِني وقتَلْتِني ثم أحيَيْتِني من جديد» ابتسمَت وهي تتذكَّر كلماته، أخفت وجهها بين يدَيْها، راح الفرح يتراقص في قلبها، عاد إليها بعد ليالي الحزن السوداء، من يومها تحاشَت النظر إلى أمها وإخوتها وكل الناس، كانت تخشى أن يكتشفوا شيئًا من سعادتها المفاجئة، من فرحها الذي كان يَسَّاقط من كلماتها، من عينَيْها وحركاتها، ويتناثر عطرًا أثيريًّا من روحها المغمورة بالحب. جلَسَت إلى مرآتها تنظُر إلى وجهها الذي أشرق بأملٍ جديد يرافقه خوفٌ كبير، لماذا كُتب على الحُب ألا ينضَج إلا على نار الخوف؟ لكن المرة هذه مختلفة، لقد عاد إلى حلب من أجلي! ترك أمان الغربة وعاد إلى الحرب لأنه يُحبني، وأنا أُحبُّه. قالت هذا وانتصبَت واقفةً تذرع الغرفة جيئة وذهابًا، عليها أن تراه، أن تجد طريقةً لتقابله. صحيحٌ أن أهلها فكُّوا عنها حظر ملازمة البيت، لكنها لم تعُد تخرج وحيدة، كان عليها أن ترافق أحد إخوتها.
اهتزَّ الهاتف في يدها، إنه هو! أقفلَت باب الغرفة واتجهَت إلى خزانتها كعادتها إذا حدَّثَته، وقالت همسًا: آلو.
– اشتقتُ إليكِ.
– …
– كيف حالكِ؟
– الحمد لله، وأنتَ؟
– لن أكون بخير حتى أراكِ.
– لا أعرف، لن أستطيع أن أكون وحدي.
– أحضريه معك، إنه صغيرٌ ويمكننا أن نتدبَّر أمره.
– كيف؟
– سنجد حلًّا ما.
– ماذا سنفعل إذا التقينا؟
– سأخطَفكِ.
– أنت مجنون.
– بحبك!
٦
إنها سيدة بالفعل، امرأةٌ مليئة وغنية بعالمها الداخلي، لقد تحدَّثنا كثيرًا، لا عجب أن أُغرِم بها جدو نور. سألتُها مرة: أحيانًا لا أفهمني، لا أعرف كيف تختلط الأمور في قلبي. ورأسي، يا له من ملعبٍ خصب للأفكار! أجزم أنني أرى الأفكار تتقافَز في رأسي، والذكريات والصور حتى الروائح، كل تفصيلٍ يحمل معه طاقةً شعورية مختلفة، لم لا أفهمُني؟
– أنت لا تفهمين ذاتك؟
– صحيح.
– ابدئي بذلك إذن!
قطَّبتُ جبيني، لم أشأ أن أسألها كيف؟ فهي لا تزيد الأمر إلا تعقيدًا، ولما لم أرسل شيئًا، أرسلَت: ما عليكِ سوى أن تُنصتي إلى ذاتكِ وانظري في أعماقكِ جيدًا، واقرئي مشاعركِ في كل لحظة. الآن مثلًا بماذا تشعرين؟
– لا شيء.
– هذا غير ممكن، حاولي مجددًا، نحن بشرٌ يا عزيزتي، ونمتلك قلوبًا حية، ما يعني أننا نتقلَّب بين المشاعر في كل لحظة.
أعدتُ السكوت والتفكير بمَ أشعر حقًّا، لكن وجدتُ أنني فارغة شعوريًّا؛ فلستُ حزينة أو سعيدة أو غاضبة أو متفائلة، لم أكُن أشعُر بشيء. أرسلتُ إليها: أنا حقًّا لا أشعُر بشيءٍ في هذه اللحظة.
– حالما تُحدِّدين شعوركِ أهلًا بكِ مرةً أخرى، أما الآن فإلى اللقاء.
من يومها بدأتُ أتعلم كيف أُحدِّد شعوري في كل لحظة، حتى وأنا أركب الحافلة في طريقي إلى المنزل، أو حين أتناول طعامي. تعلمتُ أن هناك مشاعرَ أخرى غير التي نعرفها من الفرح والحزن، أو الرضا والغضب؛ هناك الاضطراب، والقرف، والأمل، والقلق، والترقب، والملل، والضجر، والأمان، والسخرية. حتى عندما لا أشعر بشيء، كما كنتُ أظن، فهذا يعني الارتياح أو الاطمئنان، وهي مشاعرُ مختلطة تتعاقَب على نفوسنا بين لحظة وأخرى.
أخذتُ أُفكِّر في كل شعورٍ ما مصدره، وكيف وصل إليَّ، وهذا ما سهَّل عليَّ قراءة نفسي وفهمها أكثر، وعلَّمَني أيضًا قوةً رائعة هي قوة التركيز؛ فعندما أقوم بشيءٍ أنصرف له بكُلِّيتي وأُعطيه كل اهتمامي، وأُحاول ألا تنصرف أفكاري عنه أو مشاعري إلى أمورٍ أخرى.
لقد ساعدَني ذلك في حياتي عامة، وفي الصلاة تحديدًا. لاحظُت أن سبب بُعد الصلاة عني، هو بُعدي أنا عنها؛ فأنا أفتقد التركيز فيها. تعلَّمتُ أن أقف لحظاتٍ قبل الصلاة، قد تطول أو تقصر، لكنها لحظاتٌ جوهرية بالنسبة إليَّ. إنها تُساعدني في الدخول في «جو الصلاة»، فأُراقب مشاعري وأفكاري، أُبعِد جانبًا الأفكار والأحداث والمشاعر التي خالطَت روحي خلال اليوم، لأتمكَّن من الوقوف صافيةً خالصة بين يدَي الله، لأصبح أكثر استعدادًا للصلاة. لا أجزم أنني تمكَّنتُ من فعل ذلك دائمًا، كما أنني لم أصِل في صلاتي إلى المستوى الذي أنشُده في استشعار الحضور الإلهي وسماع الخطاب الرباني في كل كلمة؛ لذلك فإنني كثيرًا ما أتركُ الصلاة لأسابيع، لأعود إليها بشوق، وتجلِدُني ذاتي بسياط التأنيب، وﺑ «ثعبان الشجاع الأقرع» الذي قالوا لنا إنه ينتظرني بعد الموت، وبالخوف من عقاب الله. وبدلًا من أن يحُثَّني ذلك على الالتزام بالصلاة في وقتها، فإنه يُبعدني مرةً أخرى عنها أكثر، فأتشاغَل عن خوفي ولوم الذات بأمور حياتي المختلفة.
مساء أحد الأيام اتصلَت بي صديقتي، أخبرَتْني أنها تحتاجني في موضوعٍ مهم جدًّا، وأن عليَّ أن أُقدِّم لها خدمة. وافقتُ على الفور؛ فهي أختي وصديقتي ولا أنسى وقوفها إلى جانبي، ومحبتها الصادقة لي. التقيتها في اليوم التالي، كانت مختلفة، ربما مضطربة أو مريضة، لا أعرف تحديدًا، في عينَيها شيءٌ من حماسة وخوف.
ذهبنا إلى «مقصف العمارة» التابع لكلية الهندسة المعمارية، أنا وهي وأخوها الصغير سائر. لم ندخل المقصف بل بقينا في الخارج، وطلبَتْ من أخيها ذي الثلاثة عشر عامًا أن يجلب لنا العصير من الداخل، وفور ابتعاده قالت لي: اليوم سألتقيه.
– مستحيل! كيف؟ ولماذا تركَكِ؟ ماذا قال لكِ؟ لكن … لكن أنت مجنونة! سيعرف أهلك وستُوقعين نفسكِ في المشاكل مرةً أخرى.
– سأحكي لك كل شيء فيما بعدُ، لكن الآن قد يأتي في أية لحظة، وسائر قد يرانا ماذا علينا أن نفعل؟
– الآن تقولين ذلك؟
– لا أعرف، أرجوكِ سما ساعديني.
– طيب ابقَيْ هنا، سأتصرف.
ودخلتُ إلى المقصف مباشرة باتجاه سائر، كان مهذبًا جدًّا وخجولًا، قلت له: «ما رأيك أن نتناولُ فطورنا حتى تعود أختُكَ؟ علينا أن ننتظرها هنا، فقد اضطُرت للذهاب إلى دورة المياه، ولا تُوجد واحدةٌ قريبة، عليها الذهاب بعيدًا، ربما ستبحث في إحدى الكليَّات، وقد تتأخر. بالله عليكم ماذا أكلتم البارحة؟» اضطرب الولد وراح يتذكَّر ثم قال: «لا بد أنها العجَّة، لقد كانت سيئة، أنا لا أحبها أيضًا.»
طلبتُ فطورًا، وحرَصْتُ على المماطلة في الحديث معه والتأخر في الطلب، جلسنا نأكل ونتحدث وأنا لا أكُفُّ عن طرح الأسئلة، كنتُ سعيدة بما عملتُه، الآن أخيرًا بعد كل هذا الوقت يلتقيان؟ إنهما يُشبهان جدو نور ورندة، كيف سيكون لقاؤهما يا تُرى؟ لا أعتقد أنهما سيتعانقان! كلا فهذا لا يليق بها، إنها لن تفعل ذلك، ثم إن هذا لا يجوز، كما أن عليها أن تُعاتبه، لا أن ترتمي فورًا بين يدَيه. إنهما الآن معًا، كم هذا رائع! تُرى كيف يبدو؟ هل هو وسيم؟ طويل أم لا؟ استبدَّ بي الفضول لأُلقي نظرة، لكن كيف؟
قلتُ لسائر: «أعتقد أني أوقعتُ أوراقًا لي في الخارج، سأعود بعد لحظات، إياك أن تتحرك، لا أريد أن أضيع عنك.» لم أنتظره ليجيب، قمتُ على الفور وخرجتُ، ذهبتُ حيث كنا واقفتَين، لم أجدها، أين ذهبت؟ استدرتُ حول المقصف، وعلى بُعد مسافة وجدتُهما جالسَيْن على مقعد تحت شجرة، كانت تحجُبه عني بظهرها، فلم أرَ سوى رجَليه، إنه أنيقٌ يرتدي سروالًا فاتحًا وحذاءً بُنيًّا. آه لو تتحركين قليلًا لأرى وجهه! وكأنها سمعَت ما يجول في خاطري، فانحنَت إلى الأمام، ورأيته.
يا إلهي! شَهِقتُ وكتَمتُ شهقتي، لا، مستحيل! هذا غير معقول! يا لهذه المفاجأة العجيبة! أنا لا أُصدِّق، طوال هذه المدة كان هو؟ خطوتُ لأفاجئهما بحضوري أنا أيضًا، لكنني لم أفعل. تركتُهما تحت الشجرة ينعمان بالسكينة والحب وعدتُ بدهشتي إلى أخيها سائر.
٧
أقبل رمضان هذا العام بكثيرٍ من الحزن والكآبة، وكأنما سُرقَت منه البهجة، في بيتنا على أقل تقدير، ومع ذلك فقد اكتسَت حلب حلةً بهية من روح رمضان الكريمة. ومع أن المساجد خفَّت كثيرًا من المصلين، خاصةً وقت صلاة التروايح الذي يأتي متأخرًا، فإن الأمر ليلة السابع والعشرين كان مختلفًا تمامًا؛ فقد جَهَّزَت أمي لي ولها سجَّاداتِ الصلاة والشراشف قُبيل العِشاء، ثم ذهبنا إلى جامع «أُسيد بن حُضير» البعيد عن بيتنا قليلًا. ولمَّا سألتُ أمي لمَ لا نُصلي في جامع «عمار بن ياسر»، فقد اعتدنا عليه، ويمكننا الذهاب إليه مشيًا؟ أجابَتْني: «إحياء ليلة القدر أجمل مع شيخ هذا المسجد.» وافقتُها وذهبنا كلُّنا أنا وفاطمة وأمي وأبي، هذا هو الرمضان الأول الذي نقضيه بلا نادر! يا للتعاسة! بدا لي أننا وصلنا متأخرين مع أننا انطلَقْنا مع أذان العشاء؛ فقد امتلأَت صفوف المسجد بالمصلين، وكذلك الساحات الخارجية حتى الشوارع، وبصعوبةٍ تدبَّرنا مكانًا لنا أنا وفاطمة وأمي.
وبدأنا الصلاة، كان صوتُ الإمام عذبًا وتلاوتُه جميلة لولا أنه يُسرع بطريقةٍ غريبة، ولا يتلو سوى آية أو آيتَين في كل ركعة، حتى إنه ضيَّع عليَّ قدرتي على التركيز، وأنا أُخمِّن متى سيركع. مرةً قرأ: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ وركع، وفي الركعة التالية قرأ: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وركع! بالله عليك! هل تُسمِّي هذه صلاة؟ وكذلك الركوع والسجود، صرتُ أقرأ التسبيحات والأدعية بشكلٍ سريع حتى ألاحِقَ الإمام، ولا تفوتَني ركعة أو سجدة، شعرتُ أنني في رياضة «آيروبيك» وليس صلاة! أقسمتُ ألا أعود إلى هذا المسجد ثانية.
وأخيرًا وصلنا لصلاة الوتر، وفي الركعة الأخيرة بدأ الإمام بالدعاء بطريقةٍ هادئة، وشيئًا فشيئًا أخذَت موجة الدعاء وكذلك صوتُه بالارتفاع مثل رياحٍ عاتية سرعان ما تحوَّلَت إلى عاصفةٍ هوجاء، وتعالت أصواتُ المصلين بالتأمين على الدعاء. الإمام يقول «يا الله.» رافعًا بها صوتَه ومُكبِّر الصوت يُساعده في صمِّ آذاننا، والمصلون يردِّدون «يا الله.» والدموع تتقاطر، والوجوه تبتلُّ، والأيادي تمتد، والشهيق يعلو. الإمام يدعو بأعلى صوته والمصلون يقولون «آمين.» ثم شعرتُ بجلبةٍ بجانبي وإذا بسيدةٍ تسقط أرضًا وهي تبكي وتضرب وجهها وصدرها! يا إلهي! ماذا دهاهم جميعًا؟ جاهدتُ نفسي على الخشوع، على التركيز في الدعاء، على استشعار معاني أسماء الله القريب المجيب العفُو الرحمن، لكنني لم أستطع، وعيناي متحجرتان تمامًا، لمَ لا أبكي مثل الجميع؟ هل هي ذنوبي التي حرمَتْني لذة المناجاة، كما أخبَرتْنا بذلك الآنسة مرةً؟ أم ماذا؟ ثم لاحظتُ فاطمة جالسةً على الأرض وهي تُغلِق أذنيها بيدَيها، لقد قطعَت صلاتها، وأنهتِ الأمر.
انتهت الصلاة، فالتفتُّ إلى أمي ووجدتُ وجهها مخضبًا بالدموع، وكذلك جميع الحاضرات، وأنا في عالم غريبٍ تمامًا عنهنَّ. سحبَتْني أمي من يدي لتُعرِّفني على زوجة أحد الدعاة المعروفين هنا في حلب، كانت النسوة متجمعاتٍ حولها، وبصعوبةٍ تمكنَّا من الاقتراب منها. صافحتُها وكذلك أمي التي طلبَت منها أن تدعو لها بزيارة بيت الله الحرام، ثم تحدَّثَت النسوة عن بركة زوجها الشيخ الذي يذهب كل عامٍ إلى الحج. سألتُ السيدة زوجته: «وكم مرة ذهبتِ أنت؟» لا أدري لمَ تلوَّن وجهُها وابتسمَت بارتباكٍ وقالت: «لم يكتُب الله لي الحج بعدُ.» فسألتُها وقد عجبتُ لها: «ولماذا لا تذهبين مع زوجك؟ ألا يذهب كل عام؟» وإذا بأمي تدوس على قدَمي، وتسحبني من يدي، أما السيدة فلم تُجبني، بل استدارت من فورها وتركَتْنا!
في طريق خروجنا من المسجد، مررتُ بفتاةٍ تُحدِّثُ صديقاتها وهي تريهنَّ صورًا في جوالها: «… وهذا مفتوح من الظهر، وهذا مع ذيل، وهذا لونه رائع وقماشه فخمٌ لولا أن تصميمه رديء …» سيدةٌ أخرى كانت تقول لجارتها: «متى ذهبتم؟ لمَ لم تعزمني أم محمود؟» وترُدُّ عليها جارتها: «ما عليكِ منها إنها قليلةُ أصل، ولم ننبسط عندها أبدًا.» أما تلك العجوز فسمعتُها تتكلم عن «أولاد الكلب» الذين باعوها الزيتَ مغشوشًا و«دبس البندورة» بائتًا. أخذتُ أضحك في سري، منذ دقائقَ فقط، دقائق يا مؤمنات كنتن تذرفن الدموع وتُنادين: يا الله. ماذا حصل الآن؟ أين إيمانكن؟ ودموعكن؟ هل جفَّت مع التسليمة الأخيرة؟
عُدتُ إلى البيت وأنا نادمةٌ على الذهاب إلى المسجد، ليتني صلَّيتُ في البيت! قضيتُ ما بقي لي من هذه الليلة المباركة أصلي في غرفتي، كما أني أعدتُ صلاة الوتر والدعاء. بعدها جلستُ لقراءة القرآن، فمررتُ بالآية: قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (الإسراء، ١١٠)، توقَّفتُ أتأملها وقد اقشعرَّ جسدي، شعرتُ أنها نزلَت الآن إليَّ أنا وحدي، وكأنها أتت لتُطمئنني، لتُربِّت على كتفي، وتقول لي: لا بأس، أنتِ في الطريق الصحيح؛ فالآية صريحة: لا تَجهرْ بصلاتكَ ولا تُخافتْ بها، سبحان الله!
الآن فقط وقفتُ أقرأ القرآن بصوتٍ هادئ، وأُناجي الله بما أجده مريحًا لقلبي. شكرتُ الله الذي هداني ووهبَني هذه الآية؛ فالله قريب، ولستُ أدري لمَ نرفع أصواتَنا بدعائه وكأننا نُنادي أصَمَّ!
وهكذا انتهى رمضان، ثلاثون يومًا وليلة، أنهى الناس صيامه وقيامه، ختموا القرآن مرتَين أو خمس مرات أو أكثر، صلَّوا القيام، وأحيَوا ليلة القدر، دعَوا مع الإمام، بكَوا ورفعوا أيديهم عاليًا قائلين «آمين.» رافعين بها أصواتهم. هكذا أصبح رمضان، وقتٌ مُستقطَع من العام، نسير فيه مع الموجة السائدة من عبادة وقرآن. هكذا يفعل كل الناس، وكذلك نفعل نحن، نتحمَّس للصلاة، ربما نقف ساعاتٍ ونتعب ونجتهد، حتى إننا قد نفوِّت صلاة الظهر والعصر من اليوم التالي ونحن نائمون مُتعَبون، نُؤمِّن على دعاء الإمام، نبكي، نقرأ الختمات، ونخرج من رمضان بنشوة المنتصر، بخَدَرٍ لذيذ من العاطفة الإيمانية الواهمة، وتكبر الأنا وتتضخم إلى درجة القداسة فلا تكاد تسعنا الدروب؛ فقد أدَّينا ما علينا، ونُحمِّل الله المِنَّة، لمَ لا؟ فقد صُمنا وتعبنا في عزِّ الحر، وقمنا كل الليالي عشرين ركعة، فعلنا ما علينا، وعلى الله أن يقبلنا ويغفر لنا، ثم ننصرف مُتملِّصين من رمضاننا لنعود إلى دوَّامة عيشنا، إلى عاداتنا اليومية التي تهزأ بنا، إلى تفاصيل حياتنا التي تسحقُنا، من كذب، وتباهٍ، وتكاثُر، وسرقة، وتحاسُد، وبغض. نُولي ظهورنا رمضان الذي يدعو علينا، ونُغلق القرآن على آياته التي تلعنُنا، ثم نُهنِّئ بعضنا: طاعتكم مباركة!
انتهى رمضان، لكن ربَّ رمضان هنا لا يرحل. انتهى رمضان، والآن فقط ابتدأ العمل.
٨
– كيف حالك؟
– الحمد لله بخير، وأنتم؟
– «نحن» كلنا بخير.
– هههههه.
– أشعر أني أسمع ضحكتكِ وكأنكِ هنا أمامي، وأنا فخورٌ بنفسي لأني رسمتُ ابتسامةً على وجهكِ الذي لا أراه.
– شكرًا.
– على الرحب والسعة آنستي.
– كيف هم أهلُكِ؟
– الحمد لله، لقد فاجأَنا سعيدٌ منذ يومَين بقدومه من قطر.
– جميل، أُحب المفاجآت السعيدة.
– نعم، لقد كان هذا أروع شيءٍ حدث لنا منذ زمن.
– حمدًا لله على سلامته.
– الله يسلمك، وأنتم؟ كيف عملُكم؟
– جيد، نُغلق كثيرًا ونفتَح قليلًا.
– بسبب الحرب.
– تمامًا، تعرفين، كل ما في المتحف محط أنظار اللصوص الذين يتكاثرون هذه الأيام، وعلينا أن نكون حذرين.
– وهل يشكل هذا خطرًا عليكم أنتم أيضًا.
– طبعًا.
– طيب هل أنتم مستعدون لحماية أنفسكم؟ بأسلحة؟ بأي شيء؟
– تخافين عليَّ؟
– …
– لم تُجيبي.
– هل لي أن أسألكَ كيف تقضي على الملل في عملكَ؟
– تهربٌ آخر! لكن مع ذلك سأُجاريك، ومن قال لك إن عملي ممل؟
– هذا معروف؛ فماذا تفعلون طَوال النهار؟ غير الجلوس مع تاريخٍ منتهٍ، وركامٍ بائد، ومنحوتاتٍ خرساء؟
– يؤسفني سماعُ ذلك منكِ.
– هل زعلت؟
– نعم.
– حقًّا؟
– بالتأكيد.
– آسفة.
– …
– قلتُ آسفة، أعتذر منك، أسحب كلامي.
– …
– هيا، قل شيئًا، كيف ترضى؟
– أنا أعرف.
– كيف؟
– هل زُرتِ المتحف يومًا؟
– لا.
– إذن عليكِ أن تزوريه وتشاهدي ما فيه، ثم احكمي بنفسكِ، وبغير ذلك لن أرضى، وبإمكاني التطوع لأرافقك في زيارته!
– هذا اسمه ابتزاز.
– سمِّه كما تشائين، عليكِ أن تدفعي الثمن، أم أنَّ من طبعكِ أن تجرحي الناس وتمضي بلا اعتذار؟
– لقد اعتذرتُ بالفعل.
– لم أقبله.
– أنت مراوغ.
– أنا شادي.
– حسنًا، سأفعل، وغدًا صباحًا.
– سأكون بانتظارك في التاسعة، لا تتأخري.
– لكن انتظر، ربما نؤجلها قليلًا، بعد أسبوع ما رأيكَ؟ هل تعتقد أنه من الصائب فعل ذلك؟ أقصد أن نلتقي؟ دعنا نتحدث هنا فقط.
– …
– ماذا؟ أنا أفكر وحسبُ.
– سما، هل ستحضرين غدًا أم لا؟ أنا حازم.
– ظننتُ أنكَ شادي!
٩
«سلمى حبيبتك تكون صديقتي التي طالما حدثتُكَ عنها يا سعيد!» ضرب على جبهته مُصدِرًا صفيرًا طويلًا. أشرتُ له بيدي حتى لا يصل صوته إلى أمي خارج الغرفة، قام وأمسكَني من كتفيَّ وقال: كيف عرفتِ؟
– رأيتُكما يوم أمسِ معًا.
أمسك رأسه بيديه وقال: كيف حدث ذلك؟
– سعيد، سلمى صديقتي منذ زمن، تعرفتُ إليها في دروس الدين التي كنا نحضُرها، وتقاربنا كثيرًا، ويوم أمسِ طلبَت مني أن أذهب معها وذهبتُ. لم أكن أعلم أنها على موعدٍ معكَ أنت بالتحديد أخي الكبير سعيد. لقد كانت مفاجأة، لطالما حدثَتْني عنكَ.
– حقًّا؟ ماذا كانت تقول عني؟
– كانت متعلقةً بك كثيرًا فأنتَ في رأيها أول من أشعَرها أنها متميزةٌ وذاتُ قيمة.
– طيب، جميل أكملي.
– لكنكَ تركتَها وتخليتَ عنها بحسب رأيها في أصعب الأوقات.
غطَّى وجهه بيدَيه وهزَّ كتفيَّ بقوة وقال: لم أفعل ذلك بإرادتي، صدِّقيني.
– أعرف أعرف.
– لا، لا تعرفين شيئًا، ما الذي أتى بي إلى هنا في رأيك هكذا من غير تخطيط؟
أنزلتُ يده من كتفي وقلتُ: اسمع سعيد، لا أعرف ما تنوي فعله هذه المرة، لكن إياك أن تُحطِّم قلبها مجددًا، سلمى أختي وهي أرقُّ وأجملُ وأطهرُ إنسانة وجدتُها، لو تركتَها فستموتُ حرفيًّا، أو سيقتُلها أهلها، هل تسمع؟
– أنت مجنونة؟ الآن بإمكاني أن أتزوَّجها فقط لو يسمحون لنا.
وخرج من فَوره ونادى على أمي، تَبِعتُه إلى المطبخ، ماذا سيفعل الآن؟ أمسك الملعقة من يد أمي، وضعها جانبًا، وأجلَس أمي على الكرسي وقال: «أمي، أريد أن أتزوَّج سلمى بنت الحاج طه.» فتحت أمي عينَيها دهشة ثم قالت: «سلمى؟ كيف تعرفها؟ تريد تتزوج على عيني وراسي، لكن لمَ سلمى تحديدًا؟ ألم تسمع ما قيل عنها منذ مدة؟» أجاب سعيد في حدة: لا يهمُّني ما قيل، أريد أن أتزوَّجها.
– بلى يهمُّك، ويهمُّك كثيرًا. لقد كانت تُرافق شابًّا غريبًا عنها في إحدى زوايا الجامعة بعيدًا عن أنظار الجميع، وكانت تضحك بصوتٍ عالٍ وقلة أدب، حدَث ذلك منذ سنوات …
– كفى أمي كفى، هل تُصدِّقين حقًّا هذا الكلام؟ هل تعرفين أن هذا الشاب هو أنا؟ لكن …
شَهِقَت أمي وقامت واقفةً وهي تضرب على فخذَيها، أمسكها سعيدٌ من كتفَيها وأجلسها مرةً أخرى وقال: أمي، اهدئي أرجوكِ، سلمى كانت معي في المعهد وقد حدث ذلك منذ أكثر من عامَين. أحببتها ولم أكلمها مرة واحدة، اكتفيتُ بمراقبتها ويشهد الله أنها لم تُكلِّم أو تقف مع أي شابٍّ غيري.
أمَّنتُ على كلامه فقلتُ: إنها خجولةٌ جدًّا.
نظَرَت إليَّ أمي معاتبة، وكأنها تقول: وأنت أيضًا؟
ذلك المساء بعد حضور أبي فاتحه سعيد بالموضوع، لم يعارض أبي أبدًا فهو لا يهتم لكلام «النسوان». كما أنه يعرف أخاها الكبير عبد الحي من السوق، وسيطلبها منه بما أن سلمى بلا أبٍ. في اليوم التالي ذهب أبي وسعيد إلى الدكان الذي يعمل فيه عبد الحي، وضعا أمامه فور دخولهما طقمًا من الذهب قبل أن يتحدَّثا بكلمة. كان هذا تصرُّف أبي حسبما حكى لي سعيد، عندها طلب منه يد سلمى أخته هكذا من غير مقدمات. التمعَت عينا الأخِ على الفَور بالذهب، لكنه أظهر طبعًا تردُّده في مشاورة أهل البيت أولًا.
في اليوم الذي يليه تمَّت قراءة الفاتحة والخطبة، واتفقوا على يوم العُرس الخميس القادم بعد أسبوع؛ فعلى سعيد أن يسافر. وهكذا تم كل شيءٍ بسهولة وسلاسة وتيسير.
الآنَ أفهم معنى أن يكون الأب سندًا.
١٠
ما هذا الذي أفعله؟ هل أُدرك أي خطأٍ أقترف؟ أي خطر ينتظرني؟ أي عالَمٍ مُبهَم أقحمتُ نفسي فيه؟ أين قواعدي وقوانيني الصارمة؟ أين حذري ومخاوفي؟ أين عهودي ومواثيقي؟ كيف سأواجه والديَّ؟ ما هذا الذي أفعله؟ لقد مضت خمسة أشهرٍ منذ أول يومٍ بدأتُ فيه الحديث مع شادي على «الفيسبوك»، ما الذي أعرفه عنه؟ رأيتُه مرةً واحدة منذ عامٍ تقريبًا، شاهدتُ لوحاته، قرأتُ منشوراته، ثم ماذا؟ كلما عاهدتُ نفسي أن أحظُره، وجدتُني أؤجل ذلك إلى اليوم التالي، وكلما انقطع التيار الكهربائي، وفرغ شحنُ جهازي الكمبيوتر أدخل في حالةٍ من الشوق العجيب إلى تصفُّح «الفيسبوك»، وكلما فتحتُ «الفيسبوك» سارعتُ إلى النظر في قائمة الأسماء لأرى إن كان متصلًا أم لا، ويا لفرحة الروح إن وجدتُ اسمه مُضاءً بالأخضر! لماذا حكيتُ له قصة جدو نور ورندة؟ ماذا يُشكِّل لي؟ حتى أشاركه مسئوليةَ علَّقتُها على عاتقي، وعهدًا قطعتُه على نفسي؟ وفوق كل هذا ما الذي فعلتُه اليوم تحديدًا؟ كيف أُورِّط نفسي بموعد؟ يا للكارثة!
استلقيتُ على سريري ونظرتُ إلى الثريَّا المعلَّقة فوقي، وسألتُ ذاتي مجددًا: ما هذا الذي تفعلين؟ لكن ذاتي لا تجيب، تكتفي بالنظر والابتسام! بالله عليكِ، أنا في حَيرةٍ شديدة وفزعٍ كبير، أشعر برهبةٍ كرهبة امتحان «البكالوريا»، وأنت تبتسمين؟ هل تعرفين أي ورطةٍ تتورَّطين؟ لكنها لا تكُفُّ عن الابتسام! هل تَسخرين مني أو تؤازريني أو تَعبثين؟
تقلَّبتُ على جنبي فلا فائدة من الحديث مع ذاتي، قررتُ أن أنام، علَّ النوم يمنحني حُلمًا يُرشِدُني بما عليَّ أن أفعله غدًا، هل سألتقي به حقًّا غدًا؟ كلماتٌ على الشاشة شكَّلَت عالمي الوردي الحالم، أريده أن يبقى هكذا، عالمًا حالِمًا جميلًا. لكن لقائي به غدًا سينقلنا إلى عتبة الواقع الحقيقي، وهذا ما أخشاه؛ فأنا أحب الكلمات، لعل هذا سبب تعلُّقي بشادي، هل تعلَّقتُ به؟ ماذا تُراه يفعل الآن؟
حين تتخذ الحياة ألوانًا قاتمة، راهِن القدَر وابتدئ تلوينَ لوحتِك الخاصة.
إياك و«كسل الخطوط الخاملة»، ابحث دومًا عن منحنيات الجمال في خطوطك المفعمة بالحيوية.
ابتسمتُ، وداخ رأسي بالغرور، إنه يستعير كلماتي! ضغطتُ زر الإعجاب، وحين هممتُ أن أكتب له تعليقًا، انبثقَت من أسفل الشاشة نافذة الحوار: أنت مستيقظة؟
– تقريبًا.
– يعني نعم أو لا؟
– سأنام بعد قليل، أشعر بنُعاسٍ شديد.
– نامي الآن إذن!
– حسنًا، إلى اللقاء.
– تعالي، تعالي، أنا أُمازحُكِ فقط.
– …
– زعلتِ؟
– لا.
– كيف حالك؟ «نحن» بخير بالمناسبة.
– تعرفين يا سماء، أنتِ مثل القهوة، تُضيفين نكهةً رائعة إلى الحياة.
– لكني لا أُحب القهوة.
– القهوة لا تُدرِك قيمة ذاتها وما تفعله في القلوب.
– لا أعرف ماذا عليَّ أن أقول!
– لا شيء على الإطلاق، غدًا تقولين لي.
– إلى اللقاء.
– مع السلامة.