أعياد الأمة
لما قال لي إخواني في محطة الإذاعة أنهم يريدون مني أن ألقي كلمة في أعياد الأمة لم أتردد في القبول. مضت أيام وأنا لا أعد الكلام الذي يلقى ولا أفكر في الموضوع الذي رضيت أن أدير عليه حديثي.. وكلما تذكرت وعدي قلت لنفسي على سبيل الاعتذار لها أو عنها إنه لا تزال هناك أيام باقية فلا بأس من هذا الكسل الذي يقضي به الحر، وظللت أجري على عادتي حتى لم يبق إلا أقل ما يكفي. وعادتي هي أني كالمسافر الذي لا يذهب إلى المحطة إلا والقطار يوشك أن يتحرك. ومن الغريب أني إذا سافرت بالقطار أكاد أبيت في المحطة من فرط الحرص على التبكير وعلى ألا يفوتني القطار. ولكني إذا أردت الكتابة لا أتناول القلم إلا في اللحظة الأخيرة. وأحسب أن عملي في الصحافة وضجري منها عوداني ذلك. على أني أؤمن بأن الكسل طبيعي وأنه هو الأصل في الإنسان لأنه راحة ومن ذا الذي يؤثر التعب على الراحة إذا كان له الخيار.. وقاعدتي في حياتي هي أن أخالف ما علمني أساتذتي في المدرسة وكانوا يحثونني عليه من عدم إرجاء الأمر إلى الغد فأنا أرجئ إلى الغد كل ما يسعني إرجاؤه ولا أصنع في يومي إلا ما لا أرى لي حيلة فيه أو وسيلة للهرب منه.
وضاق الوقت بكر الأيام وألح الإخوان أن هات الحديث الموعود فلم يبق لي مفر وقعدت أكتب فإذا رأسي ليس فيها شيء أو أنا لا أحس أنه فيه شيئاً فما العمل؟
وتمنيت في تلك اللحظة لو أن في وسع الإنسان أن يتناول رأسه بكفيه وينزعه عن كتفيه ويرفع عنه غطاء العظام وينظر ليعرف ماذا فيه.. ولكن هذا لا سبيل إليه فلابد من وسيلة أخرى للجس والاختبار.. فجردت من نفسي شخصاً آخر وجلست أحادثه وأسأله واستخيره فقلت له ما هذه الأعياد التي تتخذها الشعوب. ما داعيها أو فائدتها. قال: أولاً راحة لأنها أيام بطالة وخلو من العمل وارتفاع لتكاليفه عن الناس وإعفاء لهم من واجباته.
وفتح لي هذا الجواب البسيط أبواباً كنت أحسها موصدة فقلت لنفسي إن هذا صحيح فإن هذا أول ما يفهمه الإنسان من العيد؟
أنه يوم راحة، والمرء يحتاج إلى فترات يكف فيها عن العمل المألوف ليمتنع الضجر الطبيعي من مزاولة العمل الواحد أو المتشابه يوماً بعد يوم بلا انقطاع أو اختلاف، وليستعيد الجسم بعض ما فقده من العمل المتواصل ويستجم فيسترد نشاطه.
وللراحة مزية أخرى غير تعويض الخسارة البدنية هي الرضى فإن المرهق المكدود لا يكون إلا متسخطاً أو في خير الحالات متبرماً فمن المصلحة وحسن السياسة وحزم التدبير إعطاء الناس جرعة من الرضى الذي تفيده الراحة بعد فترات معقولة من الكد لا يشقى بها الصبر ومن هنا كانت الراحة من حين إلى حين مكسباً لا تشوبه شبهة خسارة لأصحاب الأعمال وللحكومات أيضاً في سياسة الشعوب لأن المرء يعود بعدها أقدر على العمل والنشاط فيه وأحسن إقبالاً عليه وأكثر انشراحاً ورضى وماذا يطلب أصحاب الأعمال أو حكام الشعوب أحسن من أن يكون الناس راضين مستبشرين.
ومزية أخرى لهذه الأعياد متفرعة على مزية الراحة هي أنها حث على السرور وحض على التماس أسبابه. لأن مجرد القول بأن اليوم يوم راحة معناه انتفاء التعب وهذا وحده مدعاة سرور وبعث اغتباط وأخلق بالمرء وقد علم أنه خلا من المتعبات المألوفة المملولة أن يغريه ذلك بالاستزادة من دواعي الغبطة وحشد كل ما يدخل في وسعه من أسباب السرور في يومه هذا وليس أنفع من السرور للأمم ولا ألزم لها منه لأنه ينعشها ويجددها ويجعلها حسنة الاستعداد للنهوض بما يطلب منها من الأعباء الجسام ويفرض عليها من التكاليف الشاقة.
والأمم التي لا تعرف السرور لا تكاد تقوى على شيء وأي الرجلين يكون أقوى وأجلد وأنفذ في المهمات وأنشط في العمل — الرجل المهموم المكروب المحزون الذي تحنيه وتبريه وتثقله الأشجان، أم الفرح الجذلان الراضي عن الحياة المستبشر بها.
أعتقد أن الثاني هو الأكفأ والأصلح حتى ولو كانت مواهبه أقل وأضعف من مواهب صاحبه المكروب الساخط.
وكذلك الأمم — أكفؤها وأقدرها وأكثرها نجاحاً وتوفيقاً تلك التي تنشد السرور وتحسن التماس أسبابه وتستمتع بدواعيه وتترك نفسها له في مناسباته. فإن من يعرف سرور الحياة يعرف قيمتها، ويحرص على مطالبها، ولا يقصر في فرائضها، ولا يستكثر ما تتقاضاه من نفسه وجهده، ولكن الذي لا يعرف هذا السرور ماذا تكون قيمة الحياة عنده؟ ولماذا يكلف نفسه شيئاً في سبيلها؟ وماذا يبذل لها أكثر من الحد الأدنى من جهده؟ وأين العدل في مطالبته بجهد استثنائي أو بذل فوق حدود الطاقة العادية في سبيل حياة لا يعرف له سرور فيها؟
ومن هنا كانت أقدر الأمم على الجهود الضخمة أو الجبارة كما يقولون في تعابيرهم الحديثة تلك التي تنعم بالحياة وتفوز فيها بحظ واف من السرور. والذي لا يحسن أن يلهو لا يحسن أن يجد. والسرور بعد ذلك هو صمام الأمان.
وقد كان شكسبير حكيماً حين جعل قيصر يقول وهو ينظر إلى بعض من حوله من الذين يكبتون عواطفهم ولا يسمحون لشعورهم أن يظهر على وجوههم أنه لا يحب هؤلاء النحاف الصفر الوجوه، وإنه يؤثر عليهم أهل البدانة والطلاقة والبشر وليست هذه عبارته بحروفها ولكنه معناها وقد كان يعني أن هؤلاء الصفر الضاوين هم الذين تخشى مكائدهم وتدابيرهم ومؤامراتهم، أما الراضون عن الحياة المقبلون عليها الناعمون بالعيش، فهؤلاء يمكن أن يأمن المرء جانبهم، لأن الكبت يشيع النقمة والنقمة تغري بالانتقام وتجري الخواطر في مجار غير مأمونة. وقد كان هؤلاء الذين خافهم قيصر وتوجس منهم ولم يرتح إلى وجوههم هم الذين ائتمروا به فصح رأيه فيهم. والسرور صراحة، والصراحة تؤمن ولا يخشى شر منها وإن كانت تزعج أحياناً وتربك. أما الوجوم فستار يخفي وراءه ما لا علم به لأحد ويدور تحته في النفس ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه والحذر منه.
وأحسب أن قد آن أن تكون لمصر أعياد تسر فيها وتفرح وترسل نفسها على السجية بلا تكلف أو اتقاء لذم الخروج عن مألوف الاحتشام المتكلف والوقار المستعار، الذي لا يعد من الوقار في شيء إذا أردت الحق وإنما هو ثوب من البلادة.
وقد كانت أكثر أعيادنا إلى ما قبل هذا العهد مقرونة في الذهن بالموت وما إليه من المعاني.
وأذكر أني في حداثتي ما قضيت عيداً إلا في المقابر ومن التناقض العجيب أني كنت ألبس الجديد من الثياب في أيام العيد التي لا ملعب لي فيها غير ما بين القبور من مسافات وأبعاد. ولم يكن يسعني إلا أن أشعر أن هذه المقابر وأن اللعب بينها والفرح غير لائقين فكنت أشعر بفتور طبيعي فأكف غير راض. ولا داعي للخوض في الأسباب التي قرنت الأعياد عندنا على هذا النحو بالقبور وساكنيها فإن الحديث في هذا يطول. وقد جاء العهد الحديث بأعياد لم يكن لها فيما مضى وجود أو داع.
ولا بأس بكثرة هذه الأعياد بل إن كثرتها هي التي تجعل لها معنى وتكسبها الدلالة المنشودة. ولا أحتاج أن أقول أن هذه الأعياد ليست للحكومة التي تقررها وإنما هي للشعب.
نعم إن الحكومة تكف عن العمل في هذه الأيام فتغلق دواوينها ويرتاح موظفوها ولكن هذا ليس هو المقصود بالتعييد وإن كان لا مفر منه، وإنما المقصود بالتعييد هو الشعب. هو الذي يراد الخير له بهذه الراحة وبما هو خليق أن يفوز به فيها من السرور، وهو الذي يراد منه أن يفهم معنى العيد وأن يتأثر بهذا المعنى ويجعل له شأناً في حياته.
لقد عاشت الأمة زمناً طويلاً وهي لا تعرف أن لها شأناً في الحياة أكثر من السعي وراء الرزق والتماس وجوه العيش الفردي، ولم تكن للجماعة المصرية وجود ولا للحكومة صلة بهذه الجماعة. وكانت الحكومة لا تحس أنها من الأمة والأمة لا تحس أن الحكومة لها.
هذه الأعياد صفحات في تاريخ الأمة ومراحل في طريقها الذي سلكته إلى غايتها أو على الأصح معالم في مراحل الطريق والأمم عبارة عن أجيال متعاقبة.
فإذا قلنا أن هذه الأعياد تذكير بأيام السعي وأيام القطاف فلسنا نخطئ. وإذا قلنا إنها دروس شعبية تتلقاها الأمة بين مظاهر السرور في تاريخها فلسنا نخطئ أيضاً. وشبيه بذلك مع الفارق بطبيعة الحال أن تكون مدرساً فتجمع أطفالك وتقول لهم سنذهب غداً نتنزه في القناطر الخيرية مثلاً. ثم يجيء الغد فتصحبهم إلى هذه القناطر التي لم يسمعوا بها والتي لا يحدث اسمها في أذهانهم الصغيرة أي معنى أو صورة وتركبهم القطار أو الباخرة فيعرفون بالتجربة ما القطار أو ما الباخرة ثم تمر بهم على القناطر فيرون ماء النيل تحتها والبوابات المجعولة لحجز الماء أو إطلاقه وتستطيع وأنت تريهم هذا وتدعهم يستمتعون به أن تعرفهم ما القناطر وما داعيها والحاجة إلهيا ومن أنشأها بعبارة قريبة المتناول سهلة الورود على النفس ثم تخرج إلى البساتين الواسعة والرياض الجميلة فيلعبون وينطون ويضحكون ولا تعدم مع ذلك فرصاً كثيرة تعرفهم فيها بعض ما ترى أن يعرفوه عن الزروع وعن الحاجة إلى البساتين العامة لرياضة الشعب وتجميل حياته. وتكون هذه نزهة حقيقية نعم بها الأطفال وعادوا منها فرحين جذلين ولكنها تكون كذلك دروساً شتى نافعة تلقوها وهم لا يشعرون ولهذا تكون خير الدروس وأجداها عليهم وأبقاها أثراً في نفوسهم. وقد ينسون كل ما نعلمهم من الحساب والجغرافيا واللغتين العربية والإنجليزية وغير ذلك من العلوم والمعارف ولكنهم لا يمكن أن ينسوا القناطر والنيل والبساتين التي نعموا برؤيتها واللعب السعيد فيها وما اغتنمت الفرصة لتلقينهم إياه وهم ساهون يحسبون أنك تكلمهم كلاماً عادياً ليس المقصود به أن يحفظوه ويعوه وإنما المقصود به أن يتسلوا به ويقضوا الوقت.
وكذلك أرى هذه الأعياد دروساً شعبية عامة تلقي على أجيال الأمة وهي فرحة مسرورة بالراحة وبما حرصت عليه من أسباب المتعة والسرور في أيامها.