في اللغة
اللغة أداة ليس إلا، ووسيلة للعبارة عما في النفس لا أكثر ولا أقل فإن للأخرس أداة غيرها هي جملة من الإشارات والإيماءات والحركات مع أصوات ساذجة يخرجها للتنبيه أو التوكيد، والتقرير أو التوضيح. ولكن أداة الأخرس قاصرة جداً لا تعدو حد الدلالة على المراد، ولا يبلغ من وفائها بالحاجة أن تجلو رأياً حضر، أو حكمة نبعت أو عاطفة جاش بها الصدر. نعم تدل على ذلك وتشير إليه، ولكن كما يشير الفهرس إلى جملة مشتمل الكتاب.
وقد كانت هذه الإيماءات وما يجري مجراها — ومازالت — بعض ما يتوسل به الإنسان من قديم الزمان إلى التعبير، فلم يبلغ بها إلا أيسر الحاجات وأدناها منالاً. وعلى قدر الحاجات تكون الخواطر والخوالج وعلى قدر كثرتها ومبلغ إلحاحها يكون طلب الإبانة والرغبة في الإفصاح. وقد ألفى الإنسان نفسه تكثر حاجاته وتقوى غريزة عقله ويترامى أفقه ولكن أداة الإيماء لا تسعفه لأنها تعجز الرقي، والتعبير الوافي بها يفوت الذرع، والاكتفاء بها خليق أن يورث نفسه التثاقل وطبيعته التقاعس، والخاطر يبطئ بها. والعجز يظهر ووجد أن الأصوات ألين وأسرع مؤاتاة، فمضى على الأيسر والأصلح.
وما زالت سنة الطبيعة أن كل موجود يؤثر الذي هو أسهل، ولن تجد ماء يجري إلى فوق، وله متسرب إلى تحت وهكذا كانت اللغة.
•••
وقد شبهوها بالوعاء، والظرف، والجسد، والثوب — يعنون أنها تضمن بالمعاني وتحويها، وأن المعاني تحل فيها، وتكتسبها، فتظهر بها.
ويقول الجاحظ في رسالته في «الجد والهزل»: «إن الله تعالى علم آدم جميع الأسماء بجميع المعاني، ولا يجوز أن يعلمه الاسم ويدع المعنى، ويعلمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه، والاسم بلا معنى لغو، كالظرف الخالي، والاسم في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح. واللفظ للمعنى بدن، والمعنى للفظ روح، ولو أعطاه الأسماء بلا معان لكان كمن وهبه شيئاً جامداً لا حركة له. وشيئاً لا منفعة عنده. ولا يكون اللفظ اسماً إلا وهو مضمن بمعنى».
وهذا صحيح. ثم يقول «وقد يكون المعنى لا اسم له، ولا يكون اسم إلا وله معنى».
والشق الأول من هذه العبارة خلط. فأما أن اللفظ وحده وبمجرده ومن غير أن يكون في كلام مؤلف منظوم، «شيء جامد لا حركة له، ولا حس فيه» فصحيح إذ كان المعنى لا يستفاد إلا من تأليف الكلام. وأما أن المعنى يكون، ولا عبارة عنه، ولا لفظ يؤديه، فهذا هو الذي لا يكون.
وقد يستطيع الإنسان بعد بضعة آلاف من السنين أن يستغنى عن اللغة جملة، وأن يبلغ من اقتداره على التعبير أن يرسل خوالجه — من معان وإحساسات — موجات في الهواء يتلقاها ويتلقفها غيره كما تتلقى أجهزة الراديو الموجات التي تطلقها في الجو محطات الإذاعة. وأنا أعتقد أن هذا سيكون بعد أن يبلغ الإنسان من العلم المبلغ الذي يجعل ذلك ميسوراً.
وإن أحدنا ليفهم عن صاحبه مراده بنظرة ولا يحتاج في هذا إلى كلام أو إشارة، فلست أرى ما يمنع التوسع في هذا إلى آخر المدى. ولكن هذه منزلة لاتزال بعيدة.
وليس بنا عن اللغة إلى الآن، وإلى زمان آخر طويل، غني وما دمنا عاجزين عن التعبير بغير هذه الأداة فلا سبيل إلى معنى إلا بلفظ، ومن كان يتوهم أن من الميسور أو من الممكن أن يحصل المعنى بغير لفظ فليجرب وليحاول أن يتصور معنى يدور في رأسه، أو إحساساً يضطرب به صدره من غير أن يكون له لفظ يتبدى فيه، أو فليحدث نفسه بأمر ما، فإنه خليق أن يجد أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا اهتدى إلى اللفظ الذي يفرغه فيه ويصبه منه في مثل القالب، وإنه بغير ذلك لا يشعر بأكثر من جيشان أو اضطراب فكأنه ينظر إلى سحاب غليظ متراكب لا تنفذ العين فيه، أو شيء ملفف. ولا سبيل إلى الرؤية الواضحة إلا بعد أن يتفتق السحاب أو ينقشع، ولا يتبين المرء ما يدور في نفسه إلا إذا صار لما يخالجه لفظ يكتسبه ويبدو فيه، وهذا هو السبب في غموض الكلام ووضوحه فالغموض هو قصور اللفظ، والوضوح هو حلول المعنى في لفظه، أو قل أن الغموض مرجعه إلى أن المرء لم يمهل معانيه أو خوالجه أو إحساساته حتى تصفو مما يخالطها ويعتورها، أو تطرحه عنها، وتخرج منه، ويتسنى لها أن تتخذ ما يبررها ويميزها. أما لماذا يدع المرء الإمهال، فمسالة أخرى، فقد يكون عجولاً بطبعه، أو يكون به كسل عقلي، أو تكون المعاني أو الخوالج أدق أو أعوص عليه من أن تحيط بها عبارة، أو يكون قد ركبه الوهم فظن أنه فهم وأدرك، وما أدرك شيئاً على وجهه، وما وسعه لهذا أن يعرب، إذ لا إعراب إلا بعد إدراك. أو يكون فاهماً ولكنه مغتر أو ذو بطر، كحديث العهد بالنعمة، فيسرف في البيان أو يقصر.
ونعود بعد هذا الاستطراد فنقول إن المعنى لا يمكن أن يحصل أو يتيسر تصوره إلا بلفظه، ومن هنا كان الخطأ في تشبيه اللفظ بالوعاء أو الظرف أو الثوب أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وذلك أن اللفظ ليس شيئاً مستقلاً عن المعنى، وقائماً بذاته، وإنما هو والمعنى كل لا يتجزأ، وليس للمعنى وجود بغير لفظ ولا للفظ بمجرده حقيقة تدرك، وكل ما يقال في الإيجاز والإطناب هراء ما لم يفهما على وجهيهما الصحيحين.
فليس الإيجاز إلا صب المعنى في لفظه المعبر عنه والاكتفاء به دون الاستطراد إلى غيره، أما الإطناب فليس إلا استطراداً إلى معاني «أخرى» غير الذي إليه القصد وعليه القول. فإن المعنى لا يؤدي إلا بلفظه، فإذا تغير اللفظ تغير المعنى لا محالة.
ومن هنا كان الترادف في اللغة الواحدة خرافة، إلا إذا كان المراد أن قوماً اتخذوا لفظاً لمعنى، وقوماً آخرين اتخذوا غيره، ومؤدى هذا أن هناك لغتين لا لغة مفردة، وإن كانتا من أصل واحد.
وقد قيل ما قيل في الشبه بين الإنسان والحيوان، وفي النشوء والتحول وما إلى ذلك أو ما ليس إليه، وذهب بعضهم إلى أن الخط الفاصل بين الإنسان والحيوان يبدو أنه رهن بطية واحدة في حشو الدماغ، ولكن بينهما فاصلاً واحداً لم يستطع أن يزيله أو يستهين به حتى أولئك الذين يردون الفكر إلى الإحساس، ويقولون أن الحيواني يشارك الإنسان في الملكات التي هي الأسباب المنتجة للتفكير. وهذا الفاصل هو اللغة فما استطاع الحيوان — إلى الآن — أن يتخذ لغة مثل لغة الإنسان.
«وأنا على يقين جازم من أن القدرة على التفكير لم يعطها الحيوان، وأن استنباط الآراء العامة وتصفحها يميز الإنسان تميزاً تاماً من الحيوان.
ومن الجلي أننا لا نسير على آثار غيرنا في استخدام رموز عامة لآراء عامة. ولنا أن نقول إن الحيوان تعوزه ملكة التفكير والارتياء لأنه لا يستعمل «ألفاظاً» أو رموزاً أخرى عامة».
ومؤدى هذا أن اللغة أكثر من وعاء، أو ظرف، أو ثوب، أو جسد، وأن هذه ليست إلا ألفاظاً يراد بها تقريب وظيفة اللغة من الإفهام، وأن اللغة آلة يعمل بها العقل ولا يستطيع بغيرها أن يعمل، وينظر، ويتدبر، ويستنبط، ويستبين، ويستشف إلى آخر ذلك. فليست وظيفتها بمقصورة على العبارة عما يدور برأس الإنسان أو يضطرب به صدره، أي أنها ليست أداة للبيان فحسب، وإنما هي أيضاً أداة للتفكير نفسه وآلة كما أسلفنا، لحركة العقل.
ولست تجد لغة حيث لا تجد إنسان، ولا نعرف إنساناً ليست له لغة ما، فهي من عمله، بمعنى أنها نشأت معه، ونمت واتسعت، تبعاً لاتساع حياته.
ومع قدم اللغة — كل لغة — لم يستطع الإنسان على كر الدهر أن يضيف جديداً على أصولها أو يغير مناهج تأليفها وتركيبها، أو يبدل أوضاعها ومقاييسها، أو يعدل بها عن طرائقها في المجاز والاستعارة إلى آخر ذلك، وكل ما استحدثته الأجيال المتعاقبة لا يعدو الكل إلى الجوهر، ولا يمتد من الفرع إلى الأصل، حتى ليمكن أن نقول إننا مازلنا نستعمل الألفاظ نفسها التي دار بها لسان الإنسان حتى سمى الأشياء أسماءها.
ولا شك أن اللغة تتطور ولكن أصولها ومناهجها وطرائقها لا يلحقها تغيير، والقانون الذي يجري حكمه على اللغة هو قانون الطبيعة نفسها، ولا دخل فيه لإرادة الإنسان الحرة، أو اختياره، فهو لا يستطيع أن يستحدث فيها ويغير، ويزيد وينقص، على هواه، كما لا يستطيع أن يغير قانون الدورة الدموية في بدنه، أو أن يضيف إصبعاً بله شبراً إلى قامته.
وكما أن الإنسان لا يتسنى له أن يقبض على زمام الطبيعة إلا إذا عرف قانونها وتوخاه، كذلك لا يستطيع الكاتب أو الشاعر أن يقبض على ناصية اللغة ويتصرف فيها ويبلغ بها حيث يريد إلا بعد أن يحيط بقانونها وينزل على حكمها.
وقد حكوا عن الإمبراطور تيبريس أنه أخطأ مرة في كلمة فرده بعضهم إلى الصواب، فقال منافق إن الإمبراطور نطق بها صحيحة وجاء بها على وجهها، فإذا لم يكن هذا كذلك. فأحر بأنه يصبح ما قاله هو الصواب.
فعاد الأول يقول: «هذا كذب ونفاق أيها القيصر، فإنك تستطيع أن تمنح الناس الجنسية الرومانية، ولكن الألفاظ فوق سلطانك».
وهنا موضع التحرز، فإن اللغة لغتان، واحدة تستقر وتثبت على صورة فلا يلحقها التغيير إلا في النادر وإلا فيما لا يمس الأصول، وهذه هي التي تكتب ولها آداب، وأخرى هي اللهجات، أي لغات الكلام وهذه دائمة التغيير، ولا ثبات لها على حال، لأنها لم ترزق ما يفيدها الضبط ويصدها عن التبدل والتحول المستمرين. واللهجات أسبق من اللغات الثابتة، أو لغات الكتابة والأدب.
وليست لغة الكتابة والأدب إلا إحدى اللهجات، وما كانت لغتنا العربية إلا واحدة من لهجات العرب في الجاهلية، وقد كتب لها السيادة وقسم لها الاستعلاء، قبل الإسلام بقليل، ثم ثبت لها ذلك بنزول القرآن الكريم بها، فاندمجت فيها اللهجات الأخرى، ولولا القرآن لما عجزت اللهجات الأخرى عن الحياة، ولكان من الممكن — إذا ساعفت إحداها الأحوال — أن تفيد قوة، تسترد بها مكانتها.
واللهجات ليست محلية أو إقليمية فحسب، فإن هناك لهجات طائفية أيضاً لا عداد لها، مثل لهجات الرعاة والفرسان، والجنود، والزراع، والبحارة، وأصحاب الحرف.
ومن هنا — على سبيل المثال — كثرة أسماء السيف وغيره من ضروب السلاح، وما يطلق على الخيل وحملها ونتاجها وأسنانها وخلقها وصفاتها ونعوتها وألوانها وشياتها وأصواتها وعيوبها وأدوائها وعدوها، وربطها وعلفها وسرجها. ونعوت الإبل في إخلافها وحلبها وكثرة ألبانها أو قلتها وضعفها أو هزالها وأسنمتها وألوانها وأوبارها إلى آخر هذا وأمثاله ومن هنا أيضاً هذا التدقيق الشديد في أسماء الجماعات من الناس وغيرهم. ومرجع هذا إلى نوع الحياة التي تحياها الجماعة أو القبيلة وانحصارها في نطاق ضيق. فتصبح العناية بالتفاصيل ميسورة، كما لا يمكن أن تكون في جماعة كبيرة متحضرة جوانب حياتها عديدة.
وبعد، فإن ابن لغة الكتابة والأدب لا يسعه إلا أن يلم بها وبأصولها وأدبها — أي بقانونها الذي اكتسب صفة الثبات، وروحها الذي يكن أن نسميه «الغريزي» إذا هو أراد أن يمضي على النهج القويم، فما يمكن أن يتصرف فيها تصرف الأقدار أو أن يقضي فيها بأمره كما كان يقضي. سلاطين الأتراك، أو أصحاب الحكم بأمرهم في زماننا. حتى العامية أو اللهجات، لا يتسنى فيها مثل هذا التعسف.
وصحيح أن الفرد هو الذي يستحدث الألفاظ أو الصور الجديدة، ولكنه إنما يستطيع أن يفعل ذلك بعد أن يتسرب بروحه في الجماعة، ثم هو لا يفعل هذا عن عمد وبعد إعمال فكر، وطول تأمل وتدبر، وإنما يصدر عنه ما يصدر وهو غير مدرك أو دار، لأنه إنما يتصرف وفق قوانين طبيعية لا سلطان له عليها ولا سيطرة، وبعد تهيؤ روح الجماعة أو الطائف التي هو منها.