السيد جمال الدين الأفغاني
لم أدرك السيد جمال الدين الأفغاني في حياته، ولكن الله أكرمني بأن يسر لي الوجود في بغداد يوم ممر رفاته بها إلى مسقط رأسه في بلاد الأفغان. وما له في الحقيقة موطن خاص فإنه رجل الشرق كله، وابن الإسلام والعروبة أجمع، فلكل بلد عربي وإسلامي حق فيه لا ينازع ولا ينكر.
وليس من عادتي الأسف على ما يفوتني بالغاً ما بلغ، ولكن ما عرض ذكر السيد جمال الدين إلا أدركني الأسف وشاع في نفسي لن الزمن لم يتقدم بي بضع عشرات من السنين فأصل أسبابي بأسباب هذا الرجل النادر، وأقتبس من روحه الساحرة التي كانت كأنها مولد كهربائي ضخم يبعث الحرارة والقوة والحيوية في حيثما حل.
فما كان السيد جمال الدين أوحد أهل زمان في العلم أو الفلسفة أو الذكاء وحدة الفؤاد، ولكنه كان على التحقيق، وبلا أدنى مراء، أوحد رجال عصره في قوة الشخصية وسحرها، وفي إيمانه بنفسه وبقدرته على إدراك ما يسعى له وتحقيق ما يدعو إليه، وتنزه عن كل غاية شخصية أو مأرب ذاتي.
فما كان يسعى لمجد يفيده، أو مال يصيبه، أو حكم يتولاه، وما جنى هو من مساعيه إلا الأخطار والتشريد، وإنما كان همه ومنى نفسه جميعاً أن يوقظ هذا الشرق من رقاده الطويل، وأن يبتعث همته الدانية، ويصدع عنه أغلال الظلم والاستبداد والاستعباد التي كان يرسف فيها، وينشله من وهدة الجهالة التي أخمدت روحه، ويجمع كلمته، ويدفعه إلى التماس القوة والعزة؛ ولا سبيل إليهما بغير الحرية والعلم.
ولم تكن دعوته مقصورة على العرب وإن كان منهم فقد كان أبعد من ذلك مطارح همة؛وكانت دعوته إسلامية عامة شاملة تنتظم البلدان والأمم الإسلامية من حدود الصين إلى شاطئ المحيط الأطلسي.
ولم يكن هذا منه طموحاً نظرياً؛ أو مجرد أمل يحلم به؛ فقد كان يجوب الأرض ويركب البحر، ويزور بلاد العرب والإسلام واحداً واحداً.
وما دخل بد إلا ترك فيه حركة قوية، وكان له فيه أثر عظيم باق إلى يومنا هذا. فإذا قلنا أنه عظيم «يعي الزمان مكان نده» كما يقول البحتري، لم نكن مبالغين.
وقد جاء إلى مصر قبل الثورة العرابية بزمن غير وجيز، وكان هو الذي هيأ النفوس وأعد الأذهان لها ولما تلاهما إلى يومنا الحاضر.
ولم يكن وهو بمصر يقصر همه عليها بل كان معنياً كذلك بتركيا وإيران والأفغان والهند وغيرها.
وإذا قلت تركيا فإني أعني الدولة العثمانية كلها بما كان يدخل فيها من بلاد العرب قاطبة، وقد اتصل في مصر برجال الدين والسياسة، وبعث فيهم روحه، وكانت له حلقة يلقي فيها دروسه الدينية، ومبادئه السياسية الحرة التي سبق بها كتاب الغرب الأحرار، وقد تولى عن المصريين مطالب الخديو إسماعيل بإعلان نظام الحكم الدستوري، ونصح للخديو توفيق بإقامة حكم البلاد على قواعد الدستور، لا كمنحة بل كحق. ولم يعلن الدستور، في أيامه، بمصر ولكنه هو أقصي عن مصر.
ولما استقل السفينة من مصر، جمع له لفيف من تلاميذه والمعجبين به مبلغاً من المال يستعين به، وقدموه إليه. فأبى أن يتقبله، وشكرهم وقال لهم كلمته المشهورة «إني كالأسد لا أعدم قوتاً أينماً كنت».
وأشهر تلاميذه المصريين وأعظمهم وأرفعهم قدراً الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ومما يستحق الذكر لعظم دلالته على قوة شخصية السيد جمال الدين أن الشيخ محمد عبده كان يرى في الفترة التي سبقت الثورة العرابية التدرج في الإصلاح حتى تنضج البلاد سياسياً لحكم نفسها بنفسها، وقد ادخل إصلاحات كثيرة في مصر في عهد وزارة رياض باشا الذي كان يثق به ويكله إلى رأيه، ثم قامت الحركة العربية، وسارت بأسرع مما كان ينتظر، وكان غرضها تحرير المصريين والتخلص من عناصر الترك والشراكسة المتحكمين المستولين على المناصب في الإدارة والجيش، ومضت إلى غايتها في جو من الدسائس الأجنبية والأطماع الدولية، فخشي الشيخ محمد عبده العاقبة، وكان بعيد النظر سديد الرأي، فتوقع إذا لج العرابيون فيما هم فيه، ولم يتحرزوا أو يتوخوا الاعتدال أن ينتهي الأمر باحتلال الإنكليز لمصر، فكان لهذا يقاوم العرابيين مقاومة شديدة وينعي عليهم قصر نظره وقلة تبصرهم، ويبسط فيهم لسانه حتى ضجوا وهددوه بالقتل إذا ظل يتعرض طريقهم ويناوئهم، وأراد بعض العرابيين من أصدقاء الإمام أن يصلح ما بينه وبينهم، وأنا أعرف هذه القصة لأن الذي حاول إصلاح ذات البين من أقربائي، ولن بيت جدي كان هو مكان الاجتماع.
وتكلم العرابيون، وتكلم دعاة التوفيق ثم تكلم الأستاذ الشيخ محمد عبده، فأصر على رأيه أن العرابيين باندفاعهم سيجرون على البلاد الاحتلال الأجنبي فأخفقت المساعي للصلح والتوفيق.
وكان أبي من رجال الأزهر، وزملاء الشيخ محمد عبده في الدراسة وتلاميذ السيد جمال الدين، وإن كان لم ينبغ كما نبغوا، فسأل الشيخ محمد عبده «أكنت تلج هذه اللجاجة في عنادك مع العرابيين لو كان السيد جمال الدين في مصر؟» فكان جواب الشيخ محمد عبده هذه الكلمة المترعة «يا محمد (فقد كان أبي اسمه محمد) لو كان السيد جمال الدين هنا لما قامت الحركة العرابية ولا احتاج أحد إليها، لأن السيد كان يغني بشخصه عن كل ذلك».
وتمثل ببيت من رثاء المتنبي.
ولما استفحلت الحركة العرابية وضرب الأسطول الإنجليزي الإسكندرية، انضم الشيخ محمد عبده إلى العرابيين، ووضع يده في أيديهم لأن الواقعة قد وقعت، وكان ما خاف أن يكون، فلم يسعه إلا أن يكون مع قومه — ولو كانوا مخطئين — على الغريب، وكان يتمثل ببيتي الحماسة:
والواقع أن السيد جمال الدين كان كما وصفه تلميذه الأكبر الشيخ محمد عبده، من نفسه الكبيرة في جيش. وهو الذي يرجع إليه الفضل الأول في قيام الحركة الدستورية في تركيا ومصر وإيران، وهو الذي أثار نفوس الهنود المسلمين على الاستعمال الإنكليزي، وقد خشيه سلطان تركيا وشاه إيران وخديو مصر والإمبراطورية البريطانية. ومما يذكر في هذا الباب أن شاه إيران شقي بما كان يقول فيه السيد جمال الدين، فوسط سلطان تركيا، فدعاه السلطان إليه وشفع عنده للشاه، فقال السيد كلمته المشهورة «عفوت عن الشاه» أو قيل أنه قال عفوت الشاه!
ولم يكن السيد ذا مال، أو دولة أو جيش، أو عصابة، وإنما كان ذا روح عظيمة، وشخصية قوية، وسحر لا قبل لأحد بمقاومته، ولسان عال، وبيان خلاب؛ وبهذه الشخصية الفذة استطاع أن يبث روح الثورة ويضرم نارها في كل بلد حل به؛ وأقام فيه، ولو شهوراً ولم تكن دعوته في الفوضى؛بل إلى الحرية والإصلاح والدستور ولم شمل العالم الإسلامي وتبويئه مكانة بين أمم الأرض؛ وكان ما قام في البلاد الإسلامية إلى اليوم من حركات في سبيل الحرية والاستقلال والدستور؛ راجع في مرد أمره إليه.
وعهدنا بالدنيا أنها لا تجود بأمثاله كل يوم؛ ومن المصادفات الميمونة أن رفاته يمر بالعراق في الوقت الذي قويت فيه حركة الجامعة العربية؛ وزخر تيارها؛ وآذنت بالثمرة المشتهاة. ولو كان السيد دارياً لطاب نفساً بهذا؛ فقد كان همه إيقاظ هذه الأمم عربية كانت أو غير عربية وابتعاثها من نومها؛ وإنهاضها؛ وتوجيهها وجهة الخير والصلاح؛ وإيتائها حقها في الحرية؛ وتزويدها بالعلم وتسليحها بالمعرفة.
رحمه الله، ونفعنا بذكراه؛ فإنه من القليلين الذين يؤثرون بعد أن ضحى ظلهم ومضوا في سبيل من غير مثل تأثيرهم لما كان على قيد الحياة.