فائدة هندسية
كيف تقيس المسافة بين نقطتين.. أما أنا وأنت — أو أنت وأنا كما يقضي الأدب الحديث أن أقول — فإن الواحد منا يقف ثم يروح يخطو بين النقطتين كالجندي الحديث العهد بالتدريب العسكري ويقول وهو يفعل ذلك «واحد.. اثنين.. ثلاثة.. إلخ» ثم يضرب عدد الخطوات في طول كل خطوة فيكون الناتج هو المسافة التي يراد قياسها — أو يفعل شيئاً آخر.. يجيء بحبل ويمده بين النقطتين ثم يعقده عقدة في كل ناحية ثم يجيء بمقياس كالمتر ويقيس به ما بين العقدتين فإذا لم يكن ثم متر فإن المسافة بين أنامل يمناك — حين تمد ذراعك — والكتف اليسرى طولها متر.
ولكن لي صاحباً يعرف طريقة أخرى في قياس المسافات المستقيمة أبرع مما نعرف وقد حدثني بها ووصفها لي ونحن نتغذى معاً منذ أيام قال: «لا علم كالهندسة.. أعني أنها علم مضبوط لا موضع للخطأ فيه».
وأنا — كما يعرف القارئ — لا علم لي بالهندسة ولا بسواها مما هو بسبيل ولست أدري إلى هذه الساعة كيف أمكن أن أجتاز الامتحانات المدرسية التي كانت تعقد لنا في المدارس أو في السرادقات وقد كان مما نمتحن فيه الهندسة — بأنواعها فإنها كثيرة — والجبر والحساب وحساب المثلثات إلى آخر هذا الذي نسيت حتى أسماءه.
وأحسب أن الذين كانوا يراجعون أوراق الإجابات كانوا يقولون أن هذا المازني سيكون أديباً كبيراً والأدب لا يتطلب العلم بالرياضة ومن الخير للأدب أن ندعه يخرج بشهادته وأن لا نعطله بالرسوب. فإن لم يكن هذا هكذا فليقل لي من يدري كيف أمكن أن أجتاز هذه الامتحانات في علوم الرياضة والكيمياء أيضاً والطبيعة كذلك. فإني أذكر — الآن — أني كنت أملأ أوراق الإجابة عن أسئلة الرياضة وما إليها من المعارف المستحيلة بالرسوم والتصاوير — رسوم فتيات وطيور وبقر وجمال وكنت أفرد الصفحة الأخيرة من ورقة الإجابة لأساتذتي في علوم الرياضة فأرسم بضعة خطوط هنا وأكتب تحتها «المستر فلان» معلم الحساب وخطوطاً أخرى تحتها وأكتب إلى جانبها «المستر علان» مدرس الجبر وهكذا. ومن يدري.. لعل رسمي لأساتذتي كان يرضيهم ويعجبهم فيدعون جواب المسائل ويمنحونني الدرجات على الرسم الجيد من الذاكرة.
وقلت لصاحبي «يا سلام.. صحيح».
فقال: «بالطبع. اسمع كيف تقيس المسافة بين شاطئي النيل».
قلت: «أوه. المسألة لا تحتاج إلى هندسة أو غيرها، أمشي على كوبري قصر النيل وأعد خطاي ثم أضرب العدد في طول الخطوة.. مسألة بسيطة جداً».
فقال «لا لا لا لا. افرض أنك تريد أن تقيس المسافة بين شاطئين حيث لا كوبري ولا شبهه».
قلت: «آه.. هذه مسألة أخرى.. أقول لك. أركب زورقاً ومعي حبل أثبته على شاطئ وأدليه الماء ونحن نمرق حتى نبلغ الشاطئ الآخر ثم نقيس الحبل».
قال: «يا أخي ألا تعرف أن الزورق لا يستطيع أن يمضي من شاطئ إلى شاطئ في خط مستقيم».
قلت: «صحيح.. والله فاتتني.. طيب.. وما العمل.. أما أنا فلا أرى طريقة أخرى فيحسن بالنيل أن يقنع بأن يبقى بغير قياس لعرضه.. يكفي طوله».
قال: «لا تمزح».
قلت مقاطعاً: «والله أني أتكلم جاداً.. ثم أني لا أدري لماذا أتعب نفسي وأكلفها أن تقيس النيل».
قال: «اسمع.. أنا أعرفك طريقة. ألم نتعلم في المدرسة أن ضلعي المثلث المتساوي الضلعين أكبر من الضلع الثالث أي القاعدة.»
قلت: «جايز».
قال: «جائز.. ماذا تعني.. هذه حقائق».
قالت: «جائز.. الحقيقة أني تعلمت أشياء كثيرة في المدارس ولكني لا أذكر الآن شيئاً منها فأنا مضطر أن أصدقك. ولكني أخشى أن يكون غرضك أن تضحك مني ولهذا أوثر الحذر وأقول لك جائز..على كل حال تفضل».
قال: «حسن.. اسمع.. هذه حقيقة لا شك فيها.. ضلعا المثلث المتساوي الضلعين أكبر من القاعدة.. فكيف ينفعنا هذا في قياس عرض النيل.. أنا أقول لك. تأخذ ثلاثة أوتاد وثلاثة حبال وتذهب إلى أحد الشاطئين وتثبت فيه — على الأرض — وتدين. تدقهما دقاً قوياً ليثبتا ولا يتزعزعا.. ونذهب إلى الشاطئ الآخر وتدق هناك الوتد الثالث.. هذا الوتد الثالث هو رأس المثلث.. وما بين الوتدين الآخرين على الشاطئ الآخر القاعدة.. فاهم.. ثم تصل الأوتاد بالحبال.. مسالة سهلة جداً.. ثم تقيس وتحسب فتجيء النتيجة مطابقة للحقيقة».
قلت: «غريب.. ولكن اسمع.. ما العمل في المراكب والزوارق التي تمخر.. هل نؤخرها حتى نفرغ من الحساب.. أليست هذه مشكلة عسيرة الحل.. أم لها يا ترى حل هندسي أيضاً».
قال: «يا أخي لا تمزح.. لقد فعلت هذا مرات كثيرة».
قلت: «صادق.. صادق.. والله أن هذا لذكاء.. لو كان الذي اهتدى إلى الحقائق الهندسية يعرف أن ستستغلها على هذا النحو العملي المفيد …».
قال: «لقد ورثت هذه الدقة عن أبي.. ولكني لم أبلغ مبلغه مع الأسف.. مع التدرب آمل أن أكون مثله.. إن حسابي الآن — طبقاً لهذه الحقيقة الهندسية لا يجيء مخالفاً للواقع إلا بمقدار خمسين أو على الأكثر سبعين متراً فقط.. شيء تافه كما ترى».
قلت: «ولكن هل من الضروري أن يكون المثلث متساوي الضلعين أو لا أدري ماذا تسميه».
قال: «لا.. أبداً.. ليس هذا ضروري..».
ثم شردت نظرته وعلا وجهه السهوم فتركته لخواطره. ولم يلبث أن رد عينه إلي وقال: «أبي لا يكاد يخطئ.. صياد ماهر جداً. وأغرب ما في الأمر أن يقول لك أنه أخطأ الهدف بمقدار متر أو نصف متر أو سنتي.. خرجنا مرة إلى الصيد فأدهشني بدقته وإحكامه.. أطلق البندقية على بطة ثم نظر إلي وقال يا فريد الطلق مر من تحتها على مسافة ثلاث سنتيات.. ثم رمى أخرى وقال يا فريد الطلق مر من فوقها على مسافة ملليمترين.. ورمى ثالثة وقال آه يا فريد هذه طلقة لا مثيل لها.. شعرة فقط بينها وبين البطة.. وهكذا يا أخي.. فهل سمعت بمثل هذه البراعة العجيبة.. مقدار شعرة فقط.. لا أكثر ولا أقل.. تصور الشعرة ماذا يبلغ من سمكها.. ومع ذلك عرف.. استطاع أن يقدر المسافة بين الطلق والبطة على هذا البعد العظيم.. ما قولك. أليس آية..».
قلت: «والله شيء مدهش حقيقة.. ومن أين جاءته هذه البراعة».
قال: «العلم نور يا أخي.. وما فائدة العلم إذا كان الإنسان لا يطبقه ولا ينتفع به في حياته».
قلت: «صدقت.. ولكن هل أبوك يعرف المسافات بين الطلقات وبين الطيور التي لا يصيدها بالهندسة — أعني بواسطة المثلث المتساوي الضلعين أو غير المتساوي الضلعين».
قال: «وهل هذا كل ما في الهندسة.. يظهر أنك نسيت دروسك».
قلت: «كل النسيان.. نسيتها قبل أن أحفظها».
قال: «صحيح. هذا يحدث كثيراً».
قلت: «إنه يحدث دائماً».
قال: «لا. أنا لم أنس دروسي قبل حفظها. ولا بعد الحفظ».
قلت: «أنت أعجوبة.. وهل في الناس اثنان مثلك».
فصار وجهه كالجمرة من شدة الحياء والخجل من سماع المدح وكأنما أراد أن يصرفني عن نفسه فقال: «ولكن أبي ليست له مثل هذه الدقة حين تكون الحيوانات أليفة والطيور داجنة».
قلت: «وكيف كان ذلك».
قال: «إن نظره بعيداً جداً. يبصر كل شيء — أي شيء — على مسافة ميل ولكن إذا كان الشيء قريباً منه صعبت عليه الرؤية الدقيقة وأذكر أنه قام بيني وبينه خلاف على مسافة رجلي الدجاجة».
فصحت به «إيه».
فقال: «لا تصح هكذا.. إننا في مطعم.. فهل تريد أن يلتف حولنا الناس».
قلت: «معذرة.. لقد نسيت أن ههنا ناساً.. الحق أن كلامك استبد بعقلي»..
قال: «أشكرك.. نعم اختلفنا على المسافة بين رجلي الدجاجة.. هو يقول إنها خمسة سنتيات وأنا أقول أنها أقل بكثير.. وأخيراً اتفقنا على قياسها بالضبط والدقة فقال أبي هات الدجاجة فجئته بها.. تناولها من رجليها فقال كيف تريد أن تقيس وقد ضممت رجليها فتناولته من عنقها فصارت تلعب، وتحاول أن تفلت وتضرب برجليها فاستحال قياس ما بينهما ثم سكتت ولكن رجليها بقيتا مضمومتين فاتفقنا على تركها على الأرض وحاولنا أن نغريها بالسكون بقليل من الحب رميناه لها لتلتقطه ولكنها يا أخي كانت لا تسكن أبداً.. حركة دائمة..».
قلت: «لماذا لم تنتظرا حتى تنام وحينئذ يتيسر القياس كما تشاءان».
قال: «والله فكرة».
قلت: «هل تعني أن تقول أنك لم تفكر إلى الآن أيكما المصيب وأيكما المخطئ».
قال: «بالطبع أبي هو المخطئ.. ألم أقل لك أن نظره بعيد».
قلت: «آه صحيح..».
قال: «طبعاً».
قلت: «طبعاً».
وكانت هذه نهاية الحديث في يومنا ذاك فعدت إلى البيت وقيدته لئلا أنساه.