التنكر
قلت مرة لنفسي: «لماذا لا أخرج للناس متنكراً كما كان يفعل الولاة والسلاطين والخلفاء وفيما تحدثنا الروايات أو الخرافات؟»
وليست لي رعية أتفقدها، ولا لي شعب أتعهد مرافقه ومراشده، ولكن هذا الخاطر استبد بي مع ذلك فلم يسعني إلا أن أجري معه إلى حيث يومئ؛ والتنكر فن، وإتقانه لا يتسنى إلا بالتدرب، ولكن قلت إن الله ركب لي في وجهي عينين أنظر بهما، وعندي مرآة تستطيع أن تريني هل وفقت أو أخفقت، وفي وسعي أن أعيد التجربة مرة وأخرى فلا أبرز للناس إلا وأنا مطمئن القلب.
وقد كان. اشتريت لحية كثة طويلة — شبراً وبعض شبر إذا أردت الدقة — وشاربين وحاجبين، ومسحوقاً أبيض أنفضه على شعر رأسي، وشرعت أجرب — أعني ألصق هذه الأشياء بوجهي وعيني على المرآة وكنت أوصد الباب علي، وأنا أفعل ذلك، لأضمن الوحدة، ولأني اعتزمت أن أجعل التجربة الأولى في بيتي. فلما وثقت أني قد أحكمت التنكر، وأني أستطيع أن أقوم وأقعد وأمشي، وأحرك رأسي، وألمس لحيتي، وافتح فمي، وأرفع حاجبي على هيئة المستغرب، وأضحك وآكل وأشرب من غير أن تسقط اللحية أو ينحرب أحد الحاجبين عن قوسه أو يتدلى شارب،على حين يبقى الآخر مفتولا — خرجت على أهلي، وعلى وجهي هذه الأشياء. وفي يدي عصا غليظة أتوكأ عليها وقد تقوست قناتي من الهرم، فلم تكد تقع علي العيون في مدخل الباب حتى صرخت أمي وجدتي وأسرعتا فسترتا وجهيهما عن هذا الشيخ الغريب؛ وكان أخي الصغير معهما فوثب إلى قدميه وصاح بي يسألني أنا من؟ ويأمرني أن أخرج. وينعتني بقلة الحياء وسوء الأدب ويهددني بالشرطة، وأنا أقول له بصوت يرعش من الكبر وما يجره من الضعف «حلمك، حلمك يا بني!» فيأبى أن يكون حليماً، ولا يعبأ بشيخوختي، ولا يترفق بوهني البادي، ويدفعني عن الباب فأكاد أسقط على الأرض فإنه صبي قوي، وأنا شيخ هرم أقوم على العصا، فلم تبق لي حيلة إلا الخروج من البيت كما أمر …
خرجت مطمئناً واثقاً؛وإذا كان أخي ابن أمي وأبي — لم يعرفني فكيف يعرفني الإخوان والخلان؟ ومن ذا الذي يمكن أن يفطن إلى أن هذه الغابة التي زرعتها حول وجهي وسترت بها شبابي جليبة؟ وكان انخداع أخي — لا أمي ولا جدتى — هو الذي أراح بالي، ونفى عني الخوف لأن فزعهما واستحياءهما منعاهما أن ينظرا ويحدقا؛ أما أخي فامره مختلف جداً، وقد كان يمسك بكتفي ويهزني ويدفعني ويحقد في وجهي متعجباً لجرأتي منكراً لتطفلي. ومع ذلك لم يعرفني!
ومضيت إلى شارع الدواوين، وكنا — أخواني وأنا — نختلف إلى «قهوة» فيه، ونقضي هناك بعض الوقت، نشرب «الخشاف» ونتبارى في لعب «الطاولة» ونصغي إلى الفوتغراف وننظر إلى الرائحين والغادين فلقيت في بعض الطريق أحد هؤلاء الإخوان، فوضعت يدي على كتفه وابتسمت له وقلت: «هل تستطيع يا بني أن تدلني على لاظ أو غلي».
فقال: «يظهر أنك لست من أهل الحي؟! هذا هو أمامك مسافة مائة متر لا أكثر».
قلت: آه! لعن الله الشيخوخة! وقاتل الله الضعف! مائتا متر! يا سلام! أقول لك.. ربنا المعين … نعم ربنا المعين».
وهممت بأن أنصرف عنه، فقال: تسمح بأن أتناول ذراعك وأساعدك على السير قليلاً؟»
فدعوت له بخير، وبشرته، وأكدت له أن الله سيجزيه أحسن الجزاء، وتركت له ذراعي، وسرنا معاً بعض الطريق، وأنا أدب بالعصا وأقول من الضعف «إه! إه» كما يفعل الشيوخ الذين انقطعت أنفاسهم، فقد كانت اللحية التي لففت فيها وجهي عظيمة جداً وبيضاء كالقطن. وبلغنا «القهوة» المألوفة فهمست في أذنه بصوت خافت: «أقول لك يا بني؟ سأستريح هنا قليلاً.. نعم فإن العجلة من الشيطان، ولا خير في أن يحمل المرء على نفسه ويكلفها فوق وسعها».
وجلست إلى أقرب مائدة ووضعت العصا عليها واضطجعت مغمض العينين حتى انتظمت أنفاسي وسكن اضطراب صدري، وهدأت دقات قلبي، ثم التفت إلى صديقي وقلت «الله يرحم أيام الشباب!! هل تعرف يا بني؟ لقد كنت أصعد درجات السلم — مائدة درجة — خمس مرات أو ستاً في اليوم، جرياً بلا تمهل أو ترفق؛وكنت أستحم في الشتاء القارس البرد من بئر في البيت، مرتين. مرة في الفجر ومرة في العصر؛وكنت أستطيع أن التهم نصف الخروف وحدي فضلاً عن غيره من الألوان.. أين هذه الأيام؟ إيه؟
وتنهدت: فقال: «يظهر أنك كنت قوياً متين الأسر في شبابك!»
قلت: «قوي؟ ولو لم أكن قوياً في شبابي لما عشت إلى هذه السن. أنا أقول لك. كنت أتناول عيدان القصب. سبعة وأربطها ثم أتناولها من الطرفين وأضرب بها ساقي، فتنكسر.. أعني العيدان هي التي كانت تنكسر لا ساقي بالطبع.. هأ هأ.. تنكسر ولا تبقى قشرة واحدة تصل قطعتي عود.. فهل تستطيع الآن — وأنت شاب — أن تصنع هذا؟»
فهز رأسه وابتسم، فقلت: «وعلى الرغم من ضعفي الظاهر وشيخوختي العالية، لا أزال محتفظاً ببعض القوة، ولولا أن الدخان قطع نياط قلبي لما رأيتني أنهج.. احذر يا بني أن تعتاد التدخين! إنها نصيحة شيخ مجرب. نصيحة لوجه الله. نعم لا تزال في القوة باقية.. هذه يدي.. أقبض عليها. احتفظ بكل قوتك وانظر».
وفتحت له كفي، ومددت غليه ذراعي فتناول يدي كماي فعل المرء عند المصافحة، ثم قبض عليها وقبضت على يده، وضغط وضغطت. ثم بدت عليه الدهشة، وقد نسيت أن أقول إني كنت وما زلت قوي الذراعين جداً إذا اعتبرنا ضآلة جسمي، وكل قوتي في يدي، فلا عجب إذا كان قد دهش، فقلت له: أرأيت؟ ألم أقل لك؟ وتصور كيف كنت خليقاً أن أكون لولا الدخان الملعون؟ لقد خرب صدري من سوء تأثيره».
وسحبت يدي وفركتها فقد كانت ضغطته قوية لا رفق فيها قبحه الله؛وجاء في هذه اللحظة واحد آخر من إخواني وكان كثير العبث، فوقف ينظر إلينا ويعجب، ثم سأل صاحبه بصوت عال كأنما كان قد وثق أني أصم.
من هذا الرجل الفظيع؟
قال: «هذا شيخ يستريح. اسمع. (لي) أعطه يدك ليمتحن قوتها.»
فقلت: «لا يا بني. تعبت.»
وقال اللعين الواقف: «ماذا تصنع بكل هذه اللحية؟ أليس في بيتك مقص؟ أو مخرطة؟ أو منشار؟»
فخطر لي أن أمازحه — وليتني ما فعلت — فقلت: «لا فائدة. وما غناء المقص؟؟ إنه يتقصف إذا لامسها.. والمنشار ما حيلته في هذه الخيوط الحديدية؟؟ لا.. لا تطمع في محوها، فقد أعياني أمرها مذ جئت إلى هذه الدنيا. وقد كنت حين بدأت أتعلم المشي بعد الحبو أتعثر بها.»
فقهقه اللعين ثم مد يده إليها وتناول شعرات منها وفتلها كما يفتل الحبل وأنا صابر جامد لا أتحرك مخافة أن أرتد برأسي فتتزحزح عن موضعها أو تسقط في يده، وكنت أبتسم أيضاً لأتألفه وأخجله عسى أن يكف عن لحيتي فأطمعه حلمي، فكف عن فتل الشعرات، وتناول منها قبضة، فاضطربت وجذب هو، أو ارتددت أنا — لا أدري — فإذا هي في يده؟
وقلت بعد أن سكتت العاصفة: «ما قولكما الآن؟ ألم أخدعكما؟» وبدأت أقلد نفسي وأقول: «هل تستطيع يا بني أن تدلني على لاظ أوغلي؟ لقد قطع الدخان أنفاسي، فيحسن أن أستريح هنا برهة. احذر يا بني الدخان فإنك ترى ما صنع بي. والآن أعترف أني كنت بارعاً.»
فقال اللعين: «بارع؟ أنت كنت بارعاً؟ لقد عرفتك على بعد عشرة أمتار. يقول إنه كان بارعاً؟ وأين المغفل الذي يمكن أن تخدعه هذه اللحية السخيفة؟. وعلى فكرة. ألا تنوي أن تخلف الشاربين والحاجبين؟ فانا أخاف أن يجتمع علينا الأطفال ويتدخل الشرطة وتسوء العاقبة بهما».
فنزعتهما، فما بقيت إليهما حاجة بعد زوال اللحية، ولكني لم أستطع أن أصدق أن يكون قد عرفني كما زعم بعد أن نكرني أهلي — وأخي على الخصوص. وقد أعياني أن أعرف الحقيقة، فسكت. وآليت بعد ذلك ألا أبرز للناس إلا في جلدي الذي خلقه الله لي …