في النسيان
أعوذ بالله من قولة «أنا» ولكني مصاب بنفسي وهذا عذري. وشر ما أصبت به منها النسيان وحسبك به بلاءً عظيماً. وقد صرت بفضله أو من جرائه — امرءاً له الساعة التي هو فيها فأعفيت من الهموم كما أعفيت من اللذاذات أو المسرات ومن ذكرياتها الحلوة.
ولا أسف على ذلك فقد تكافأ الربح والخسارة. ولو أراحني الناس كما أراحتني نفسي لتمت لي السعادة في هذه الدنيا الدنية.
ويبلغ من نسياني أني أكون ذاهباً إلى فراشي في الليل فأراني أقف أمام السرير متردداً حائراً لا أدري ماذا جاء بي إلى هنا.. أهي علبة السجائر أم أريد المعطف أو العباءة هذا في الشتاء — أم ماذا يا ترى.. ثم أستخير الله وأقول لنفسي «نم يا شيخ وأرح نفسك من عناء المحاولة فما فيها فائدة».
وأرقد على فراشي فتدور في نفسي معان وتمثل لذهني صوراً أتعلق منها بما يروقني فأغمض عينين — وقد قررت وأقول إن شاء الله في الصباح أكتب الفصل أو أرسم الصورة أو أقص القصة.. وأقرأ الفاتحة للموتى وآية الكرسي ليحفظني من العين وأنام.
ويطلع الصبح فأستيقظ مع الدجاج فإذا بي قد نسيت كل شيء وإذا بالصور والمعانى قد مسحت بقدرة ربك من اللوح ولم يبق منها ولا أثر ضئيل يدل عليها ويهدي إليها ويساعد على رجع ما ولى منها فاتعزى بأن الذي لا أجده لا يزال هناك وأنه غاب ولكنه لم يمح وقد تنتعش الذاكرة فجأة فيطفو ما رسب.
ويتفق أن أقف أمام المرآة لأسرح شعري أو أسوي ربطة الرقبة أو أفعل غير ذلك من الشئون التي تحوج في العادة إلى المرايا — وإن كنت أنا أستطيع ذلك كله بغير معونتها — حتى إذا صرت أمامها ووقفت متعجباً متسائلاً «لماذا يا ترى أنظر في المرآة، وأرفع يدي إلى جبيني وأفركه وأحاول أن أتذكر ولكن الأمر يعييني فأهز رأسي وأمضي لشأني.
وأقول وأنا ماض إلى عملي اليومي أني سأكتب كيت وكيت ويشغلني ذلك طول الطريق وأصعد إلى مكتبي وألتقي إخواني وزملائي ويجر اللقاء إلى التحدث في أمور شتى من عامة وخاصة حتى إذا خلا المكان وتناولت القلم وأقمت سنه على الورقة رأيتني أتساءل في أي شيء كنت أنوي أن أكتب يا ترى.. وكيف أمكن أن أنسى بهذه السرعة العجيبة وقد كنت مشغولاً به طول الطريق.. وأحتاج أن أبحث عن موضوع آخر.. ومن يدري.. فقد يكون الموضوع الذي أهتدي إليه بعد العناء هو بعينه الذي نسيته وأنا أحسبه غيره.
ومن كثرة نسياني تحتاج الخادمة أن تحاسبني كلما هممت بالدخول أو الخروج فإني أفقد مناديلي لأني أنسى أين أتركها أو ألقيها ولا أذكر ماذا صنعت بها. وزوجتي تعدها مسئولة عن هذه المناديل التي لا ينتهي الخلاف عليها ولا ينقطع الجدال من جرائها. فأنا أزعم أني تركتها حيث ينبغي أن تترك هذه الأشياء والخادمة تنفي ذلك وتؤكد أني لم أفعل — بأدب طبعاً — وتقسم أنها عدتها فألفتها ناقصة. وزوجتي تحدق في وجهي وتسألني هل أكون مستريح الضمير إذا صدقوني. ومن وصل الأمر إلى الضمير والذمة فإنه لا يسعني إلا أن أتردد وأقول بالأرجح والمعقول كأنها قضية منطقية.
فتشير زوجتي إلى الخادمة وتقول «يكفي.. إذهبي يا بنت» فتذهب البنت ولكنها تواجهني حين أهم بالخروج وتسألني كم منديلاً معي فأصيح بها «أوووه.. وهل أنا أعرف.. سبحان الله العظيم ألا يمكن أن يستريح المرء في هذا البيت.. ما معنى هذا التعطيل.. تنحي من فضلك».
فتقول: «أرجو أن تعدها».
فأقول: «وما الفائدة ما دامت تضيع.. هه» وأخرجها من الجيوب وأعدها وأقول «ثلاثة» مثلاً فترجوا ألا أن أنسى أنها ثلاثة فأقول «طيب.. طيب».
وتفتح لي الباب وأنا عائد وتسألني عن المناديل فأخرج ما أحمل منها وأرمي به إليها وأمضي عنها فتدركني وهي تصيح وتقول «هذه أربعة.. من أين الرابع؟»
فأتعجب وأقول: «من أين جاء.. ماذا تعنين.. ربما كنت اشتريته».
فتقول: «ألا يمكن أن تكون أخذت منديل صديق وأنت.. أنت..».
ويمنعها الأدب والحياء أن تنطق باللفظ فأنوب أنا عنها وأقول «ذاهل. أليس كذلك. كلا لم يبلغ الأمر هذا الحد».
فتلح وتقول: «ولكن من أين جاء إذن».
فأقول متململاً: «أووووه. إن شكواك لا تنقطع من أن المناديل تنقص وأنت الآن تزعمين أنها زادت واحداً فاحمدي الله إذن وأريحيني».
ولكني لا أرتاح لا منها ولا من ستها ولا من الأطفال ولا أزال أرى من يجري ورائي منهم ويخبرني أني نسيت الجورب أو لبست اثنين مختلفين أو تركت الطربوش ويوشك أن أخرج برأسي عارياً إلى آخر هذه التوافه التي لا أعرف لها آخراً.
وأحسب أن نسياني إنما يشتد لأن رأسي لا يخلو من شيء يدور عليه تفكير ويستغرقني ذلك حتى لأذهب عما عداه وقد كانت أمي — عليها رحمة الله — تتعجب لأمر وتقول لي «يا بني ما الذي يطير عقلك».
فلا يعجبني هذا وأقول معترضاً «إن عقلي لم يطر. ثم إن هذا غير معقول. أم تظنينه حمامة».
فتقول غير عابئة بملاحظتي «لم يكن أبوك هكذا. ولا أنا مثلك. إنك لا تتذكر شيئاً أبداً».
فأقول: «أني من صنعكما — أنت وأبي المحترم — فأين ذنبي بالله».
فتقول مستاءة: «لماذا لا تتكلم خيراً».
فأقبلها وألثم يدها وأسترضيها وأقول معتذراً «ماذا أصنع إذا كان ربي قد خلقني هكذا. واسع خروق الرأس. كالغربال القديم».
فتبتسم وتدعو لي الله أن يرد علي ما غرب من عقلي فأتقبل دعاءها بالشكر وأمري إلى الله.
والأم تحتمل ابنها وتصبر على ما يكون من ذهوله ولا تسيء به الظن وليست هكذا الزوجة فإنها تحمل ذلك على غير محمله وتؤوله بأنه قلة اكتراث وعدم مبالاة وأن الرجل لا يفكر فيه ولا يفرض لها وجوداً ولا يقيم لها وزناً إلى آخر هذا الهراء. وهي سليمة لا تخونها الذاكرة فليس في وسعها أن تدرك بلاء النسيان وأن تعذر المنكوب به. ومن العبث أن يقول لها المرء أن كثرة المشاغل هي التي تطير من الرأس كل ما عسى أن يكون فيه إذن لماذا لا يشغل الرجل بها هي ولا ينسى ما عداها هي.. هذا هو المشكل.
وما دخلت البيت مرة إلا شعرت أني لابد أن أكون قد نسيت شيئاً أوصتني به زوجتي فأقول لنفسي سترك الله.. وعونك أيضاً «وقد أكون مخطئاً ولكن الخطأ لا يمنع الشعور الثقيل وكثيراً ما يتفق أن يكون ظني في محل فلا تكاد ترى وجهي الناطق بتوقع اللوم حتى تبتدرني بقولها «بالطبع نسيت».
فأقول وأنا أتكلف الضحك: «أي والله.. صدقت.. الحق أن فراستك قوية».
فتقول: «وما العمل».
فأسأل متحرزاً: «في أي شيء».
فتقول: «في أن تذكر. كيف نحملك على التذكر».
فأقول: «اربطي لعبة في رجلي فاضطر أن أتذكر كلما سمعت كركرتها».
فتقول: «إني جادة».
فأقول: «نكتب الشيء في ورقة وأضعها في جيبي أو مع الساعة».
فتقول: «وتنساها في جيبك. وتخرج الساعة فترى الورقة فترميها وأنت ذاهل».
فأقول «فأقول» ألبسيني الجاكتة مقلوبة.. أزرارها إلى الخلف».
فتهز رأسها وتقول آسفة «كلا.. لا فائدة.. الأمر لله.. لو كان شيئاً يعالج.. ولكنه مستعص.. لا علاج له».
فأقول متشهداً: «صدقت يا امرأة.. أما والله إنك لمنصفة.. جزاك الله خيراً وقواك على احتمالي».
وأعترف أني كثيراً ما أنتفع بالمعروف المشهور من نسياني فإذا سألتني عما لا أريد أن أبوح لها به أو أذكر الحقيقة فيه تظاهرت بالبلاهة وقلت: «وهل أنا أعرف.. وأين العقل الذي يتذكر..».
وما قرأت كتاباً إلا نسيت ما فيه — نسيته جملة وتفصيلاً. حتى اسمه واسم كاتبه وقد أعود إليه فكأني ما قرأته ولا سمعت به فهو في كل مرة أعود فيها إليه جديد ولو كنت قرأته عشر مرات وهذا نافع لأن فيه اقتصاد. وكم من كتاب اشتريته ثم نسيت أين وضعته ثم يتفق أن أعثر عليه فأقف مستغرباً متسائلاً أتراني قرأت هذا الكتاب من قبل.. أم لم أفتحه.. على كل حال.. الأمران سيان.. توكلنا على الله».
وأحسب هذا يجعل العلم والجهل سيين ولولا أني أعرف أن ما أقرأ لا يضيع وإنما يختفي لأغراني ذلك بالانقطاع عن القراءة لقلة ما يبدو لي من فائدتها المحسوسة.