كلمة عن الشعر
يقول الشاعر:
فأما أنه صعب فصحيح، ووجه الصعوبة فيما يبدو لي، أن الملكة وحدها لا تكفي، وأنه لا معدى عن الأداة التي يتسنى بها للملكة أن تظهر وتتبدى، ولكل فن أداته، فأداة الموسيقى مثلاً الأصوات المؤتلفة أو المتسقة أو المتجاوبة التي تلائم المعاني المقصودة وتصورها في نفس السامع على قر ما يدخل في طاقة الصوت الصرف أن يفعل ذلك، وأداة التصدير الألوان من بسيطة ومركبة أو متزاوجة، وأداة الشعر تأليف الكلام على نحو يفيد القارئ أو السامع معاني الجمال أو الجلال التي يراد العبارة عنها.
وأما أن السلم طويل فأحسب أن المراد به — أو على الأقل ما نفهم نحن في زماننا أنه المراد به — هو اكتساب المرانة والمرونة في الأداء، فإن كل فن — ككل صناعة — تكتسب المرونة فيه على الأيام، ولا يخلو أمره في البداية من بعض العسر، وأذكر أن المرحوم حافظ إبراهيم كان في مجلس شهدته، فأوحي إليه الحديث الدائر معنى ارتجله في بيتين، فقال له بعضهم «ارتجلتها أم كنت نظمتها من قبل؟» فقال حافظ: لي أربعون من السنين وأنا أنظم الشعر فكيف لا أقدر على ارتجال بيتين اثنين؟
وقد كان حافظ شاعراً ليس إلا، ولم يكن ممن يعنون أنفسهم بالبحث، ولكنه أصاب في جوابه، الذي نطق به على البديهة، فإن سهولة النظم أو سهولة الإعراب عما يدور في الذهن أو النفس، من ثمرات المزاولة الطويلة، ولا احتاج إلى أن أقول أن السرعة في النظم لا علاقة لها بجودة المعنى أو سموه، فإن هذا شيء آخر مختلف جداً، وإنما أردت أن أقول أن القدرة على الأداء — سواء أكان المعنى جيداً أم سفسافاً — تزداد بطول المرانة حتى ليمكن أن يقال أن الأمر من هذه الناحية يصبح صناعة.
وليست العبرة في حسن الأداء ووفائه بكثرة المحفوظ، وإنما هي بالقدرة على تخير الرموز الدالة على المراد أو في دلالة، وكما أن الغني الواسع الثراء لا يحتاج إلى كلما ماله في مطالب العيش، كذلك لا يحتاج الكثير المحفوظ إلى كل ما حفظ أو عرف، وكل ما تفيده الكثرة هنا هو الخبرة بأساليب التعبير وألوانه، والثقة بالنفس، والاطمئنان إلى توفر المادة، على أنها — أي الكثرة — قد تكون مبعث حيرة؛ أو تغزي بالإسراف والتظاهر والانحراف، فيجني ذلك على الدقة والإحكام، ويشوه جمال المعاني، أو يفقدها جلالها وروعتها، ويصبح الشاعر أو الكاتب أشبه بالمرأة التي تظهر في حفل من الزينة، وتحمل كل ما ملكت يداها من حلي ولو اقتصدت أو آثرت العطل لما كان ذلك ضائرها، ولا كان من شأنه أن يغض من حسنها الطبيعي.
في قصائده ورواياته الشعرية قليلة، ولكنه استطاع بهذا القليل أن يؤدي معانيه جميعاً أحسن أداء، وأجمله، وكان جوتيه معاصره وزميله يمتاز بالثراء اللغوي، ومع ذلك لا يخلو كثير من شعره من الغموض المتعب، لا لأنه كان أعمق، فإن العمق ليس عذراً للعجز عن الإبانة.
وما من معنى يدور في النفس بوضوح إلا وفي وسع اللغة أن تكشف عنه، وذلك لأننا لا نستطيع إلى الآن أن نفكر إلا بمعونة اللفظ، فإذا دار في النفس معنى فإنه لا يمكن أن يتضح إلا إذا اتخذ صورته اللفظية، إذ كان لا يمكن أن يتبدى بغير ذلك، أي مجرداً من الفظ الذي يكشف عنه، فإذا جاءت العبارة عن المعنى غامضة، فإنما يكون ذلك لأن صاحبه لم يستطع أن يجلوه لنفسه، ولذلك تجيء عبارته عنه مضطربة أو غير دقيقة، أو غير كافية الإبراز المعنى.
ولا ذنب للغة، ولا قصور فيها، لأنك حين تريد العبارة عن شيء، فإما أن يكون هذا الشيء قد تجلى لك ووضح وضوحاً تاماً، وحينئذ يكون قد اكتسى لفظه، لأنه لا سبيل إلى معنى بغير لفظ يكتسبه، وإما أن يكون هذا الشيء لا يزال غامضاً في نفسك، ومعنى ذلك أنك لم تستطع أن تحيط بجوانب هذا الشيء وأن تتبينه على وجه جلي، وأنك لهذا لم تستطع أن تكسوه الثوب الذي يتبدى فيه لك وللناس.
وليس الشعر «علماً» كما يمكن أن يتوهم الذي يقرأ قول الشاعر «إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه».
وعسى أن تكون القافية قد جنت عليه في هذا التعبير، ولو كان الشعر علماً لكان أولى بالنبوغ فيه المتأخر دون المتقدم، ولكن الأمر «يكاد» يكون على النقيض، على أنه ليست هناك قاعدة مطردة، فالشعراء ينبغون في عصور البداوة وفي عصور الحضارة على السواء تقريباً، ولا ضابط هناك ولا قاعدة ولا مقياس يعول عليه لأن الأمر في الشعر ليس مرجعه إلى العلم أو الثقافة أو الحضارة، بل إلى المواهب الشخصية وإلى الأحوال الاجتماعية التي تساعد على ظهور هذه المواهب.
والحقيقة الوحيدة التي يمكنني، فيما أرى استخلاصها من تاريخ الأدب في الأمم المختلفة، هي أن نهضة الأدب في بلد ما، تكون إيذاناً بنهضة عامة في هذا البلد، في كل باب.
وقد رأينا مصداق هذا في تاريخ اليونان، والرومان، والعرب، والفرس، وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا، فما من نهضة قومية في بلد من هذه البلاد إلا وقد سبقتها نهضة أدبية.
ولهذا يخيل إلى، وإن كنت لا أستطيع أن أجزم بصحة هذا الرأي أن حالة البداوة لعلها أعون على ظهور المواهب الشعرية، على أني أوثر أن أضيق نطاق هذا الرأي فأقول إن حالة البداوة أعون على رواج سوق الشعر، وأبعث على الإقبال عليه والاستمتاع به، وتعليل ذلك يسير، ولكن شرحه يطول، والمجال ضيق.
ويكفي أن أقول الآن — وإن كان هذا في الحقيقة لا يكفي — أن الشعر في هذه الحالة يكون أشبه بعمل من أعمال الجماعة وأوثق صلة بحياتها العامة، وهو يقترن في هذه المرحلة التي تعد إلى حد ما، بدائية، بالرقص والموسيقى، كما يقترن أيضاً بمساعي الجماعة وآمالها ومخاوفها، وقد كانت هذه الفنون الثلاثة في كل جماعة بشرية في هذا الطور، مجتمعة غير مفترقة، أي قبل أن تتحضر، ويحدث فيها التخصص، وكان الموهوب من أفراد الجماعة يرفع صوته بالكلام الموقع على حركة الرقص والذين يتولون الطبل والزمر وغير ذلك، يتبعون الحركة والصوت، ويجعلون نقرهم أو نفخهم على مقتضى ما يسمعون، ويرون، ويحسون أيضاً.
والشعر في هذه المرحلة من حياة الأمة يعد كما قلت — أشبه بعمل من أعمال الجماعة، أو تعبيراً عن آمالها ونزعاتها، والغامض المستبهم من غاياتها التي في نفوسها دون اتضاح.
ولست أظن أني أبعد حين أقول إن الشعر في هذا الطور يكون مستوحى من حياة الجماعة، ومردوداً إليها في الوقت نفسه، ومن هنا قال العرب ما معناه إن الشاعر كان لسان القبيلة والمنافح عنها والزائد عن حياضها، ومن هنا أيضاً كانت أسواق العرب التي كانوا ينشدون فيها الشعر ويتنافسون في ذلك، إلى جانب التجارة.
ثم تتحضر الأمة فيتحدث التخصص، ويذهب كل فن مذهبه، ولكن الصلة القديمة مازالت باقية، فالرقص لا يستغنى عن الموسيقى، وإن استغنى عن الشعر، والشعر وثيق الصلة بالموسيقى، وإن كان لا يفتقر إلى جماعة ترقص وتصفق، وطبلة تقرع، ومزمار ينفخ فيه، ومع الحضارة واتساعها، صارت الفنون، وفي جملتها الشعر، (ذاتية) وأصبح الشاعر يستمد وحيه من روحه وتجربته، ونوع استجابته للحياة.
فالشعر كان عملاً من أعمال الجماعة، أو لعل الأصح أن نقول إنه كان عملاً توحي به روح الجماعة وتشجع عليه، وتشارك فيه حتى لقد ضاعت حقوق التأليف في بداية هذا الطور، كما تضيع حقوق التأليف إلى الآن بين جماعات العمال وهم يزالون ما يكلفون، ويستعينون على الجهد المطلوب بالغناء، والإنشاد والترجيع، ثم أصبح — أي الشعر — عملاً فردياً ذاتياً، ومازال يستمد بواعثه من روح الجماعة، ولكن نطاقه اتسع وأفقه رحب، وتزاوجت فيه العاطفة والعقل، وتعددت أغراضه ومناحيه، وصارت له أصول وفروع وظلال.
وفي كل أمة، وكل عنصر يظهر الشعراء، ولكن أكثرهم ينسون كأنهم ما كانوا، لأن النبوغ لا يؤتاه إلا الأقلون، ولأن دنيا الشعر — كدنيا الفنون قاطبة — لا يخلد فيها إلا الأعلون، أو الذين يقول فيكتور هيجو إن حرارة نفوسهم تبلغ درجة الغليان التي ما فوقها درجة. وما أكثر من قالوا الشعر في كل أمة، وكل جيل من أجيالها، وما أقل من بقيت حتى أسماؤهم مذكورة. لأن الأواسط لا يحصون وذاكرة الدنيا أضعف وأضيق من أن تعي غير الأفذاذ. والوسط، كالرديء في ميزانها وحسابها، كلاهما يسقط من الحساب أو يشيل في الميزان.
ولقد أقام مجمعنا مسابقة للشعر فتقدم إليه أكثر من ثلاثين ديوانا، كلها من الوسط، ولا غرابة فى هذا فإن الوسط فى كل باب وكل ميدان هو الجمهور الأكبر، فكان بين أمرين: أن يتشبث بالمثل الأعلى، وذلك عزيز، أو أن يؤثر التشجيع وهو أهدى سبيلاً فآثره، ونظر في الشعر الذي عرض عليه متسامحاً، وراعى أمرين: الشاعرية والصورة، ذلك أن الشاعرية هبة واستعداد وليست بالذي يكتسب، وإن كانت القدرة على النظم تستفاد، أما الصورة التي تتبدى فيها المعاني — أي الأداء — فملكة واكتساب في آن معا.
وعلى هذا غربل ونخل، واستخلص أربعة دواوين ستسمعون بعد قليل أسماء أصحابها وما فازوا به من جوائز رؤي توزيعها عليهم وقسمتها بينهم لتعذر المفاضلة الصريحة مع التقارب الشديد.
من هذه الدواوين الأربعة ما يجري على النهج القديم أو التقليدي، وما يؤثر نهجاً جديداً، وما يتبع القديم حيناً وينحرف عنه حيناً، ولكن فيها كلها اجتهاداً واضحاً، وإخلاصاً بيناً، وكثير مما تركت أجازته ليس دون هذه كثيراً ولكنه كان لابد من مقياس للمفاضلة. وقد قلت أن المقياس هو وضوح الشاعرية وحسن الأداء ووفاؤه، أو على الأقل سلامته من الشوائب.
وإن المجتمع ليرجو أن يكون فيما آثره من التشجيع استحثاث للهمم فإن نهضة الأدب بشير لا يكذب بنهضة الأمة عامة، وما من أمة ينبغ فيها ولو شاعر واحد إلا وذلك إيذاناً بأنها قاب قوسين أو أدنى من العزة والمجد.»