الزواج
لا أدري ماذا دها الناس فإني يندر أن أسمع في هذه الأيام بزواج موفق فهل صار نظام الزواج غير صالح لهذا الزمن أم العيب في الناس لا في النظام ولا في الزمن. ولا شبهة في أن للزواج عيوبه فما يخلو شيء في دنيانا هذه من عيب. وأن له لمتاعب وأن مسئولياته لعديدة وثقيلة ولكن النجاة من المتاعب عسيرة في الحياة وأنه ليظن حمقاً من يتوهم أنه يستطيع أن يحيا ويخلو مع ذلك من المتعبات سواء تزوج أم آثر الوحدة والاستفراد وأحسب أن كثيرين من الرجال والنساء أيضاً يقدمون على الزواج وهم يعتقدون أنه صفو لا كدرة فيه ومتعة لا تنقضي ولا ينغصه أو يفسدها شيء وحلاوة لا تشوبها مرارة فتخيب آمالهم كما لابد أن يحدث ويضجرون ويتأففون ويشكون وتتلف أعصابهم فلا تعود تقوى على احتمال ما كان ظنهم ألا يكون. وهذا شأن كل من يتناول الحياة بخفة وواجهها بغير ما ينبغي من التهيؤ للاحتمال ومن الاستعداد للتشدد والجلد والمقاومة.
وقد كنت أتكلم في هذا وما إليه مع صديق فقال «الحقيقة أن الزواج نظام ثبت إخفاقه وقلة صلاحه في هذا الزمن» فعذرته لأنه ممن جر عليهم الزواج نكبات كثيرة يشق احتمالها ولكني لم أر رأيه فقلت له: لا تغلط يا صاحبي فإن كل زمن ككل زمن. وهذه الاختراعات الكثيرة لم تغير شيئاً من حياة الناس وفطرهم ولم تقلب الحقائق الاجتماعية وما خلا زمن قط ممن يسعدهم الزواج وممن يشقون به ولا من الراضين والساخطين على هذا وغيره من أحوال الحياة ومازال الرجل كما كان والمرأة كما عهدها آباؤنا وأجدادنا عفا الله عنهم ورحمهم.. ومع ذلك قل لي ماذا تطلب من الزواج وأنا أقول لك ماذا ينبغي أن تبلغ به أو ما لابد أن يصيبك من خيره أو شره».
قال: «اطلب الراحة والاستقرار. ماذا أطلب غير ذلك».
قلت: «إن الراحة مطلب لا سبيل إليه في الحياة وهي لا تكون إلا بالموت على أن هذه لا تعد راحة ما دام المرء لا يحسها ولا يدرك أنه مرتاح ولا يعرف حتى صار إليه. والاستقرار كذلك عسير لأن حياتك كلها قوامها التحول والتغير. وجسمك ونفسك وخواطرك وآمالك وشهواتك وكل ما فيك أو لك يتغير بالله يكون هذا الاستقرار وأين السبيل إليه».
قال: «إنما أعني الراحة النسبية والاستقرار بالقياس إلى حياة العزوبية والوحدة».
قلت: «ولا هذه أيضاً. إن الزواج ليس أداة لراحة ولا وسيلة لاستقرار أو غير ذلك مما تتوهم وإنما هو نظام. فإذا كان يوافقك أن تحيا في ظل هذا النظام فتفضل وأهلاً بك وسهلاً ولكن يجب حينئذ أن تعرف أن له مقتضيات وأن توطن نفسك على الإذعان لها واحتمالها كما يخضع الجند للنظام العسكري ولم يقل أحد أن الجندية سبيل لراحة أو استقرار أو لذة أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى وإنما هي نظام تقتضيه حياة الجماعة وكل جندي يقول لك أنه نظام شاق عسير وثقيل الوطأة ولكنه لازم ولابد منه. والفرق بين الزواج والجندية أن الجندي يعلم أنه داخل في نظام لا لذة فيه ولا متعة له منه وأنه سيلقي عناء ويكابد متاعب وأنه معرض للجلد والسجن بل للموت حتى من غير حرب. ولكن طالب الزواج يمني نفسه الأماني المستحيلة فيلقى خلاف ما كان يقدر. ولو أنه وطن نفسه — كما يفعل الجندي — على التعب ولانصب ووجع القلب ومعاناة المنغصات إلى آخر ذلك لسعدنا بالزواج ولفاز منه بلذات كثيرة ونعم جزيلة ومتع يضن بها على النسيان وقد ذكرت الجندية على سبيل التمثيل ولكن للجندية علاقة وثيقة بالزواج لأن الزواج غايته تنظيم أمور النسل اللازم للجماعة أي مد الجماعة بالعدد الكافي من الأفراد للقيام بأعباء حياتها فهو نظام تمهيدي للجندية. وأنا أستعمل الجندية هنا بالمعنى الأعم الأشمل وأعني كل فرد لا الذين يحملون السلاح ويسيرون إلى القتال حين يدعون إلى ذلك — لا أعني هؤلاء وحدهم فإن كل فرد جندي للجماعة وإن لم يحمل سيفاً ولم يتقلد رمحاً إذا كان قد بقي في عصرنا هذا من يتقلد رماحاً.
والواجب على كل حال أن يدرك المرء أنه بالزواج يكون كالذي يعمل في شركة وللعمل نظامه. والعمل لا تطلب منه اللذة بل الثمرة. والعمل لا يفيد الراحة بل التعب ولا أجر للتعب ما دامت الشركة قائمة وتؤدي ما هو منتظر منها. نعم يستطيع المرء أن يفوز بأجازة ولكن هذا ميسور في نظام الزواج خذ أجازة كلما شعرت أنك تعبت. وامنح لزوجتك مثل ذلك كلما بدا لك أن أعصابها كلت.»
فعجب وسألني: «كيف ذلك.. إن هذا مزاح».
فأكدت له أني جاد وقلت: (إني أعيش مع زوجتي كأننا صديقان وليس يسعني أن أفعل غير ذلك لأنها إنسان مثلي ولها حياتها المستقلة عن حياتي وإن كنا متعايشين تحت سقف واحد. وأنا أحرص في حياتي معها على الاعتراف بهذا الوجود المستقل فلا أحاول أن أفني وجودها هذا وأجعله يغيب في وجودي ولو تيسر لي هذا لما كان لي فيه أي لذة لأني خليق أن أشعر حينئذ أني أعايش آلة لا إنساناً محساً مدركاً يبادلني ما يسرني أن أراه، يبادلني إياه من العواطف والإحساسات والخوالج.
ولو أفنيت شخصيتها في شخصيتي لانحطت في نظري إلى منزلة الخدم الذي تطعمهم وتنقدهم أجرهم على أن يفعلوا ما تريد ولا يجاوزوا مشيئتك. وليست زوجتي خادماً ولا آلة وإنما هي رفيق حياة أي صديق معين ولست أقول هذا تملقاً أو نفاقاً بل أقوله لأني لا أفهم معنى للزواج غير ذلك. كلا. لست أحاول أن أغلب إرادتي على إرادتها لأني لا أحس بحاجة إلى ذلك وسيلي التفاهم لا الإكراه.
وأراني أبلغ بهذا مالا أبلغ بالقوة والضغط. ومطلبي ما هو أوفق لكلينا لا ما هو أوفق لي وحدي فإن الشركة لا تصلح بهذا الاستئثار.
والزواج شركة على التحقيق ولا يحسب أحد أن الرجل يضع في هذه الشركة أكثر مما تضع المرأة وأنه لهذا مغبون فيها فإن هذا خطأ. فليس السعي للرزق كل ما تقتضيه هذه الشركة وأن المرأة لتبذل حياتها كلها لا جهدها لإنجاح الشركة. حسبها الحمل والوضع.
ولو أمكن أن يحمل الرجل لأمكن أن يدرك هول ما تتحمل المرأة في سبيل هذه الشركة. ولكنه لا يحمل مع الأسف فهو في الغالب لا يستطيع أن يقدر نصيب المرأة وما يكلفها الزواج وما يعرضها له. ولا كيف تضحي بها الحياة لتملأ الدنيا بمثلي ومثلهم ممن لا يستحقون هذه التضحية.»
فترك هذا وقال «ولكن ألا يجب أن يكون للبيت سيد.. إن المركب يغرق إذا كان له رئيسان».
فقلت: «آه.. حكاية التركي الذي جرد سيفه ليلة الزفاف وأطار به عنق القطة ليرهب الزوجة المسكينة.. لا يا سيدي.. ليس الأمر أمر سيد أو سيدة. فما ثم محل لذلك. وأين محل هذا ولكل من الرجل والمرأة عمل وأصدقك فأقول أني لا أدري كيف يمكن أن تجور المرأة على الرجل أو يجور الرجل على المرأة.
أخل ذهنك من كل فكرة عن السيادة وأخل لها ذهنها أيضاً.. تفاهما معاً.. هي لها عملها وواجباتها التي لا تستطيع — حتى إذا أردت — أن تشاركها فيها.. وأنت لك عملك وواجباتك التي يعييها أن تشاركك فيها. وكل منكما يمضي بعد ذلك في طريقه لينهض بأعبائه الموكولة إليه فأين يكون الاختلاط والاحتكاك والخلاف. وإذا حدث فلماذا لا يكون بالحسنى..».
قال: «والغيرة.. أليست بلاء».
قلت: «طبعاً.. والرجل أيضاً يغار.. أليس هذا بلاء.. فلماذا لا تضع نفسك في موضع المرأة وتنظر إلى الأمور من ناحيتها هي أيضاً. صحيح أن المرأة أسرع إلى الغيرة من الرجل وأن غيرتها أحمى فبلاؤها لهذا أعظم.
ولكن هذه طبيعتها ولا حيلة لها في ذلك لأن الغريزة الجنسية في المرة أقوى منها في الرجل إذ كانت هي مدار حياتها.
ثم إن الواحد منا يتقبل أصدقاءه على علاتهم ويحتمل أمزجتهم التي تخالف مزاجه ويوفق بين رغباته ورغباتهم — وما أكثر ما تتباين ويظل مع ذلك صديقهم ويظلون هم أصدقاءه فلماذا لا يكون هذا حال الزوجين.. لماذا لا يحتمل كل منهما الآخر على العلات.. وهما بذلك أولى من الصديقين..
المسألة يا أخى أن الرجل يريد أن يسود وأن المرأة تريد أن تتحكم لن هذا هو (المودة) الجديدة. ولو تركا هذا وأهملاه فنزل الرجل عن الرأي الموروث فيما ينبغي أن تكون عليه علاقة الرجل بالمرأة وتركت هي ما تشير به (المودة) الحديثة من أن الست هي السيدة المطاعة والرجل هو التابع والخادم الذليل — لو تركا هذا وسارا في الحياة سيرة شريكين متعاونين على إنجاح الشركة واحتمال متاعبها والصبر على بلاياها في سبيل مزاياها وفائدتها لارتاحا جداً ونعما بالحياة الزوجية.
فسألني: «هل أنت سعيد؟»
قلت: «إني سعيد لأني لا أطلب ن الزواج سعادة ولو كنت أطلبها لشقيت على التحقيق. وقد تزوجت وأني موطن نفسي على أن هذا واجب أؤديه كما أؤدي واجبي بالعمل في الصحافة وبالاشتغال بالأدب.. واجب والسلام. فإذا فزت بمتعة فهذا فضل من الله، وإذا فاتني ذلك فما كنت أطمع فيه أو أرجوه. وقد أدخلت هذا في رأس زوجتي فهي تفهمه حق الفهم. وقد كان علي أن أفهمها هذا في أول الأمر لأني أردت من البداية أن أجنب سبيل الإخفاق. وقد أفلحت ولله الحمد والشكر، فإذا حدثتك نفسك بالزواج مرة أخرى فاصنع هذا.
فصاح: «أنا.. أعوذ بالله يا شيخ».
فقلت: «أراني لم أوفق إلى إقناعك.. لا بأس.. المسألة في الحقيقة مرجعها إلى الاستعداد ولو شئت لقلت إلى العقل والحكمة وسعة الصدر ورحابة أفق النفس».
فقال: «متشكر يا سيدي».
فعلمت أنه غضب ومع ذلك ماذا قلت. إني لم أزد على إبداء رأي فإذا كان لا يحتمل هذا بل يعده تعريضاً شخصياً به فلا غرابة إذا كان قد أخفق في زواجه.