حديث مجلس
زارني صديق ففعلت ما يفعل المرء مثله في العادة حين يجيئه ضيف — قدمت له السجاير ليأخذ منها واحدة أشعلت عود الكبريت. وكنت لا أشعر برغبة في التدخين في تلك اللحظات فكانت أصابع إحدى يدي ممدودة إليه بالكبريت وأصابع اليد الأخرى تثني الغطاء على السجاير فلما أشعل سيجارته ورددت يدي إلى فمي وزممت شفتي لأنفخ وأطفئ النار ألفيتني أتردد ثم أتناول سيجارة.
وقلت لصاحبي وأنا أنفخ الدخان مثله «أرأيت.. لم أكن أريد أن أدخن ولكن العادة غلبتني حين رأيت النار في طرف العود بين أصابعي. وأنا أغالط نفسي وأقول لها مازحاً أن الكبريت أغلى من السجاير وأن من سوء التدبير أن أضيع عود كبريت من أجل سيجارة واحدة. وتروقني هذه المغالطة لأنها تفتح لي باب القياس والتمثيل فأقول أن الإنسان كثيراً ما يضيع الكثير من جاء حرصه على القليل فما رأيك».
قال «رأيي أن هذا صحيح. وسأقص عليك قصة».
قلت «هاتها».
وسرني أني أطلقت له لسانه وأنه صار في وسعي أن أستريح من الكلام فإن من نقائصي أني طويل الصمت وإن كنت في العادة ثرثاراً عظيماً وأحسبني أهرب بالصمت من الناس وبالثرثرة من نفسي.
وسمعته يقول «كنت منذ سنوات أتعلم العزف على الكمان وكان معلمي تركياً ضيق الصدر من أولئك «المولوية» الذين يعيشون في التكايا ويزجون فراغ الحياة بالموسيقى وما تغري به. وكنت قد اشتريت «فرساً» جديدة للكمان — والفرس كما تعرف هي قطعة الخشب المنجور ترفع عليه الأوتار فلما رآها أستاذي غضب ورماها وقال أنها غليظة وذهب يعنفني ويؤنبني كأنما كنت أنا صانعها أو كأنما كنت أدري قبل ذلك شيئاً عن الكمان والأوتار والفرس فكرهت سوء خلقه وثقل على نفسي سلوكه وزهدت في التعلم — على هذا الرجل على الأقل — وزارني بعد خروجه صديق رآني منقبضاً متجهماً فسألني عن السبب فحدثته به فأحب أن يرى هذه «الفرس» التي أثارت كل هذا الخلاف وكانت لا تزال على الأرض فأشرت إليها فتناولها وقال «هذه» وجعل يقلب في يديه مستغرباً ثم طلب أن أدعها له فقط «خذها يا سيدي» فما لها قيمة في الحقيقة فإن ثمنها لا يزيد على قرشين ولكن معلمي كان ممن يخلقون من الزبيبة خمارة عظيمة.
ومضى بها صاحبي ونسيت الأمر كله جملة وتفصيلاً وإذا به بعد سنة أو نحو ذلك يقول لي أنه يتعلم العزف على الكمان وأن الدافع له على ذلك والمغري به كان هذه الفرس التي ظل بضعة شهور يخرجها من مكانها كلما خلا إلى نفسه ويتأملها.
قلت: «وأنت».
قال: «أنا. انقطعت عن الدرس.. لم أجد أستاذاً أقدر منه أو مثله قدرة وإن كنت وجدت كثيرين أرحب صدراً … على أني كنت أدور على المعلمين كارهاً وبي فتور شديد فكففت».
قلت «هل تعلم أني أنا أيضاً تعلمت العزف على الكمان. ظللت أتعلم أكثر من سنة. فلو أني واظبت لكنت الآن من أمهر العازفين على هذه الآلة.. خمس وعشرون سنة.. من يدري.. لعلي كنت خليقاً أن أتحول عن الأدب إلى الموسيقى.. ولكن قلة الصبر.. والخجل من أن يسمع الجيران الأصوات النابية التي أخرجها.. والاستحياء من أن يعرف عني أني مبتدئ.. كل هذا صرفني.. كما صرفتني عوامل أخرى عن الشعر..».
فابتسم وقال: «والآن».
قلت: «الآن.. أنا الذي كنت خليقاً أن أكون شيئاً.. ولكن لا بأس.. أرانا بعدنا جداً عن الموضوع».
فابتسم مرة أخرى وقال: «لا بأس..».
قلت: «صدقت.. كل شيء ككل شيء في هذه الحياة.. هبني كنت الشيء الضخم الذي كان يغريني الصبى والخيال الجامح بالطمع فيه والتطلع إليه فماذا إذن..».
قال: «كنت تكون أشد رضى عن نفسك».
قلت: «كنت أشعر.. كلا.. كان رأيي في نفسي يبقي كما هو.. ربما غرني رأي الناس أحياناً، ولكن بلائي أني حين أغتر أدرك أني مغتر فيسلبني إدراكي هذا متعة الغرور.. لست أقول أني غير قابل أو مستعد للغرور أو عرضة له فإني كغيري في هذا. والغرور لازم لإطاقة الحياة وبغيره لا أدري كيف يطيق الناس عيشهم. ولكني لا أزال أدير عيني في نفسي وأتأملها وأفحصها وأنكت تربتها كما ينكت المرء الأرض بطرف العصى وأخلق بهذا أن يكشف للإنسان عن حقائق غير التي يزيفها أو يموهها الغرور.. وأول ما يعرفه المرء — بفضل الفحص المتواصل والتدبر المستمر — هو حدودها ومتى عرف المرء حدود نفسه فأيقن أنها لن تغيب عن عينه قط.. وقد يعالج توسيعها وإفساح ما بينها.. ولكنها تظل ماثلة أبداً.. والشعور بهذه الحدود كرب وبلاء.. والجهد الذي يبذله الإنسان لعلاج النقص الذي يشعر به في نفسه كرب آخر. آلة محدودة القوة تريد أن تبلغ بها ما تستطيعه آلة أخرى أقوى منها.. هذا الجهد ماذا تظنه يكلف الآلة المسكينة المحدودة القوة والعزم.. وفوق ما كان ظنك أنها قادرة عليه فلا تقنع بهذا. لأن هناك مرتبة أعلى ومنازل أخرى أسمى فأنت لا تزال تستحث نفسك وتدفعها وتخزها..ولا نهاية لهذه الدائرة. وهذه هى حياتنا جميعاً. فى الحقيقة والخيال. محاولات مستمرة لعلاج ما نحسه من نقصنا. ولا يخلو هذا من جانبه المضحك. فقد يعيينا أن نصلح الفاسد ونعالج الضعف أو نعوضه من ناحية أخرى قابلة للزيادة والنمو فنروح نستر العيب أو الضعف أو النقص ستراً نظنه وافياً كافياً أو نحتال لنبدو كأن قوتنا هى فى هذه الناحية التى نعرف ضعفنا فيها.. والإنسان ليس بشيء إذا لم يكن منافقاً مرائياً دجالاً كبيراً..».
فقال صاحبي: «أو لا يدرك المرء حدود نفسه إلا إذا دأب على إدارة عينه فيها».
قلت: «لا.. ليست هذه سوى طريقة واحدة لمعرفة النفس.. ومثلنا العامي يقول: (أن سكة أبي زيد كلها مسالك).. ولا أعرف من هو أبو زيد هذا. ولكني أعلم أن المعرفة سكتها كثيرة المسالك.. ومن المسالك التجربة والمعاناة. والتجربة تتيح للإنسان أن يقيس ما عنده إلى ما عند سواه فيعرف في أية ناحية قوته وفي أي النواحي نقصه وضعفه وتقصيره.. وأعترف لك بحقيقة.. لقد كنت في سني وفي ميعتى يهولني أن أرى نفسي عاجزاً عن الحب الذي أرى غيري قادراً عليه.. نعم كنت أشعر بالإعجاب وبسحر الجمال وفتنة الحسن، ولكن شعوري هذا كان لا يطول ولا يلبث أن يفتر.. ولم يكن الحب عندي أكثر من مظهر رغبة وفتية تزول إذا زال الداعي إليها كما يجوع المرء فيشتهي الطعام حتى إذا أصاب شبعه صد عنه ولم يعد يذكره إلى أن يجوع مرة أخرى. فلا أرق ولا شوق ولا أحلام ولا بكاء.. وإذا حرمت حظاً في باب الحب فكما يحرم المرء نصيباً من لون من ألوان الآكال كان يشتهي أن يفوز به.. وما أكثر ملايين الناس الذي يعيشون محرومين ويعلمون أنهم محرومون ومع ذلك يحيون ويسعدون بالحياة.. كذلك كنت ولم يكن إخواني كذلك. ولا كان الذين أقرأ أخبارهم في كتب الأدب مثلي. فكنت أستغرب وأنكر من نفسي هذا الجمود أو إن شئت هذه الحصانة أو المناعة من الحب بالمعنى المعروف المألوف.. الحب الطاغي العنيف الذي لا يفتر ولا يخبو له ضرام والذي يذكرك بمجنون ليلى وأشباهه.. فأغراني هذا الذي بلوته من نفسي بالتكلف، ولججت في التكلف حتى لكان يخيل إلى أحياناً أن الأمر صار جداً لا هزل فيه. وكنت أشجع نفسي على الأرق، وأحثها على التذكر والشوق وألح عليها بأجمل شعر الغزل في الأدب العربي والآداب الغربية لأوحي إليها الروح الذي ينقصها. وكنت أتثمل هذه الحالات التي يصفها الشعراء وأسمع بها من الإخوان وأروض نفسي على مثلها وأجعلها تستغرقني حتى قلت شعراً كثيراً في ذلك لا شك قارئه في أنه صادر عن عاطفة صادقة عميقة قوية. ولم أكن أنا أشك في أن الأمر كذلك أيام كنت أقول هذا الشعر لأني لم أزل أعالج نفسي بالإيحاء إليها حتى صار الأمر أشبه ما يكون بالحقيقة. ولكني كنت في أعماق نفسي أدرك الحقيقة وكنت أمتحن نفسي أحياناً بالبعد فلا أراني أشتاق أو أتلهف أو أتحسر أو أصبو إلى آخر ذلك. وأخيراً مللت هذا التكلف. وهذا من أسباب تركي للشعر. وثم أسباب أخرى ولكن هذا من أكبرها إذا لم يكن أكبرها..».
فاستغرب صاحبي وجعل ينشدني بعض ما يحفظ — وما نسيت أنا — من شعري ويسألني أكان هذا تكلفاً فقلت له: «لم يكن الشعور الموصوف في هذه الأبيات كاذباً فإن كان صادقاً في ساعته.. كان حباً قصير العمر جداً.. حب ساعة.. إعجاب إذا شئت.. نشوة عارضة كنشوة الخمر.. وكونها عارضة.. من فعل الخمر أو بتأثير الحسن لا يمنع أن الشعور الذى تحدثه صادق فى حينه.. وقد يلح المرء على نفسه بالإيحاء إليها حتى يشعر بما يشعر به العاشق الحقيقى.. فيكون شعوره أيضاً فى حينه صادقاً. ولكن بعد ذلك. بعد أن يثوب الرشد الذى أضاعه الخمر ويرجع الاتزان الذى أفسده منظر الحسن أو تعود الحالة الطبيعية التى اضطربت من جراء الإيحاء. بعد ذلك يذهب ما جاءت به النشوة الوقتية وقد أفادني علاج نفسي ورياضتها على أن تستغرقها الحالة التي أتمثلها. نعم بقيت عاجزاً عن العشق وفي أمان من جنون الحب فإن هذه الطباع لا حيلة لي فيها ولكنى أصبحت بفضل هذه الرياضة أستطيع حين أفكر في شيء أو أكتب شيئاً أو أشغل بأمر أن أذهل عن الدنيا فلا أسمع ولا أرى ولا يستطيع شيء أن يصرفني عما أنا فيه. خرجت بفائدة على كل حال. وكثيراً ما ترى الإنسان يطلب شيئاً فيخطئه ويفوز بغيره..».
فقال: «ولكنك محروم وهذا فظيع».
فقلت: «كلا. أنا على نقيض ذلك سعيد. مستريح من وساوس الحب وبلابله وهواجسه، وتخريفه، وفي وسعي دائماً أن أمتع نفسي بالحسن وأنا هادئ الأعصاب مدرك لما أنا فائز به بلا إسراف أو غمط في التقدير ومن غير أن أنغص على نفسي هذه المتع بعد ذلك بالوساوس والخيالات وما إلى ذلك مما يكابده المحبون. وأقول لك أني أصبحت لا أصدق من يزعم أن حبه على نحو ما يصف الشعراء ومن إليهم ولا أعتقد إلا أن ذلك نشوة يطيلون عمرها بالإيحاء. والإيحاء يا صاحبي — إلى النفس وإلى الغير — عامل خطير الأثر في حياتنا. صدقني».
قال: «ولكني جربت».
قلت: «ما أظن بك إلا أنك تخدع نفسك.. وهذا سنة الإنسانة أبداً عد إلى نفسك وحلل خوالجك بلا خوف من مواجهة الحقيقة ولا جزع ولا إشفاق.. اجعل من نفسك شخصاً مستقلاً.. طبيباً يفحص حالة ولا يعنيه إلا ما يهتدي إليه.. وانظر ما يكون.. ثم تعال وأخبرني.. وأنا واثق أن النتيجة ستكون مطابقة لما حدثتك به عن نفسي».
فوعد أن يفعل.. ولكنه لم يعد إلي.