واجبات الشباب العربي
سألني بعض الإخوان هنا أن أوجه إلى شباب العراق نصيحة، فقلت حباً وكرامة، وعلى الرأس والعين، وإن كنت لا أعرف أن لي ما يخولني أن أقف موقف الواعظ أو المرشد، سوى السن والتجربة». أي نعم السن وإن كانت لم ترتفع بي إلى الشيخوخة المتهدمة التي تدركنا جميعاً على الأيام.
ولكني امرؤ عاش في كل يوم — مثل عمر نوح. وليست العبرة بعدة السنين بل بما تحفل به الحياة وتملأ، ورب هرم يقوم على الراحتين ويتوكأ على العصى وهو إذا اعتبرت ما أحس وأدرك لا يحسب إلا في الصغار الأغرار ورب شاب غض الاهاب اكتظت حياته بما يملأ عمراً كاملاً حتى ليحس أنه يحمل عبء من السنين وقديماً قلت أيام كنت أقول الشعر.
وهو بيت سخيف مهلهل النسج، ولكنه يكفي الإبانة عما أريد.
ولست أنوي في هذا الحديث أن أنصح لأحد ولكني سأجترئ بأن أسوق بعض ما تعلمته في حياتي، وأول ما علمتنه الأيام أن أنصح نصح عبث ومحال، وباطل، وليس بجدي، فقلما ينتفع المرء بغير تجربته هو إذا أمكن أن ينتفع أو يرى أن ما وقع أو أتفق لسواه يصلح أن يقاس عليه.
وليس هذا بغريب ولا هو من حقه أن يكون باعثاً على السخط والتذمر فإن استجابة النفوس لوقع الحياة تختلف لا محالة باختلاف النفوس ونوع استعدادها ومبلغ الإدراك والعلم وأثر الوراثة والبيئة.
وقد جريت في تربية أولادي ومع تلاميذي أيام كنت معلماً، على اجتناب النصح والأمر والنهي فإذا عرض ما يحتاج إلى التوجيه اكتفيت بأن أصف لهم تجربتي أو أقص عليهم بعض ما اتفق لي مما يسببه ما أعالج من أمرهم، ثم أدعهم بعد ذلك إلى رأيهم لأعودهم التفكير المستقل وأدربهم على حرية الارتياء والتصرف وأشعرهم أنهم مسؤولون عما يفعلون وأنهم أهل للثقة بهم وسيكونون رجالاً في يوم ما بلا رقيب منا عليهم فمن الخير أن نروضهم على الاستقلال والشعور به بتتبعات ما يفعلون أو في سن مبكرة.
ومن أول ما تعلمته في حياتي أن الدنيا لي ولغير فلم أعطها وحدي ولم يعطها سواي ملكاً خالصاً له، ونحن جميعاً شركاء متعادلون في الحقوق وعلينا من أجل ذلك واجبات متكافئة.
وما دمنا شركاء إلى حين وما دام أن المقام في الدنيا على كل حال قليل فإن من الحماقة أن ننغص على أنفسنا هذه الحياة القصيرة.
أو نؤثر في سيرتنا التي هي أخشن على التي هي أحسن. وقد كنت أحمق الحمقى في صدر حياتي وما زالت بي بقية غير قليلة من الحماقة، فما زالت الدنيا تنفضني كما ينفض الأسد فريسته وتشيلني وتحطني وترجني وترميني من هنا وههنا، حتى فاءت بي إلى الرفق والهوادة فأراحت وارتحت.
أي نعم تتسع الدنيا لي ولغيري وتستغني عنا جميعاً، وليس أخطل رأياً ممن يتوهم أن الحياة لا تطيب له إلا إذا خلا طريقه فيها من الناس.
وما أحكم قول الإنجليز في أمثالهم (عش ودع غيرك يعش).
وما على المرء إلا أن يفكر فيما عسى أن تخسر الدنيا إذا هي خلت من الناس وعادت خراباً يباباً لا شيء. لم يكف الفلك المسير عن الدوران ولن تعدم الحياة على الأرض مظهر آخر تبتدىء فيه كما ابتدأت فينا نحن بني آدم وله نحن إلا صورة من صور الحياة وهي أشد غروراً أو أقل عقلاً فمن يكبر في وهمه أن الحياة تنعدم إذا انقرض الإنسان وتقلص ظله على الأرض؟
ولا تحسبوا أن هذا الكلام زاهد أو متزهد، فما أنا بهذا ولا ذاك، وإني لمن أشد الناس رغبة في الحياة الرضية ونشداناً للعيش الرغيد وطالباً لأطايب الدنيا وعكوفاً على متعها المشتهاة، وكل ما في الأمر أني لا أرى أن فوزي بما أبغي يستوجب أن يحرم الناس غير ما يطلبون. أو أن يخيبوا ويخفقوا ولست أحسن أنهم ينافسونني أو يزحمونني أو يضيقون علي المجال، فإن الدنيا رحيبة، ومجالاتها لا آخر لها، وما أراني عجزت قط عن اختراع طريق بكر أو خلق ميدان جديد إذا شعرت بالحاجة إلى ذلك.
وصحيح أن الحياة جهاد، جهاد مع الطبيعة ومع الإنسان، ولكنا لسنا من الحيوان، فنضالنا ليس بالأنياب والمخالب بل بالعقول. ونضال العقول متعة، لا يعي به أو يستثقله إلا من لا يصلح لغير حمل الأثقال كالدواب. وليس أمر الدنيا إلى هؤلاء المساكين الذين يساقون بل على أصحاب العقول. ولست تستطيع أن تعطل عقول الناس وخير وأرشد أن لا تفعل حتى إذا استطعت. وفي هذا النضال يتصفح المرء عقول منافسيه ويضيفها إلى عقله فهو يكسب أبداً ولا يخسر ويضيف كل يوم ثروة ذهنية إلى ما أوتي من ذلك ويمنع عقله أن يصدأ ويجلوه ويشخذه ويرهفه.
ولكن المرء لا يستطيع أن يناضل بعقله الفطري، وأعني بالفطري الذي لا زاد له من العلم ولا مدد من المعرفة، وشبيه بذلك أن تقاوم مقذوفات المدافع بالحجارة. فلا معدى لنا عن تعهد ملكاتنا وتزويدها بالأداة التي تجعلها أمضى وأكثر غناء. وأنا رجل أديب فلا علم لي إلا بفني ومن أجل هذا أقصر كلامي عليه.
وأحسب أن من تحصيل الحاصل أن أقول أنه لا مطمح لأحد في بلوغ مرتبة ملحوظة من مراتب الأدب إلا بالاطلاع الوافي.
ولما كانت لغتنا العربية أداتنا التي لا أداة لنا سواها، ولا سبيل لنا إلى البيان إلا بها فلا مهرب لنا إذن من تحصيل هذه اللغة والتوفر على درسها.
وهنا أذكر أن شاباً مصرياً جاءني ذات يوم يشكو إليّ المرحوم شوقي الشاعر ويقول أنه ذهب إليه يستشيره فيما يحسن به أن يقرأ من الكتب العربية، فأشار شوقي عليه بدرس كتابين وجدهما الشاب من كتب النحو وفقه اللغة فاعتقد أنه أضاع ماله وأن شوقي أخطأه التوفيق.
فقلت له إن شوقي لم يخطئ فإن النحو والصرف وما يجري هذا المجرى لابد منه ولا غنى عنه، ولكل لغة قواعدها وأصولها وأحكامها وفقهها ولا معدى عن الإحاطة بذلك إذا كنت تريد أن تتخذ هذه اللغة أداة للكتابة وإلا فكيف تكتبها وأنت لا تعرف أحكامها وقواعدها؟
وصحيح أن الكتب القديمة تحتاج إلى تيسير مطلبها، ولكن التيسير ليس معناه الإلغاء، فأعرف لغتك أولاً، وأدرس أدبها ثم عالج ما شئت بعد ذلك من فنون الكتابة.
وقد حدثت شوقي رحمه الله بهذا فقد كنا نلتقي ونتذاكر على الرغم من راي المعروف في شعره فقال لي: يا أخي لقد كنت في بداية عهدي بالشعر بعد أن عدت من أوربا ألحن وأخطي فيسلقني النقادون بألسنة حداد، فالآن أنصح للشباب المبتدئين أن يعرفوا لغتهم فيشكونني ويعيبونني بذلك.
على أنني لا أرى الاقتصار على درس اللغة العربية وآدابها بل لابد عندي من التوفر على درس الآداب الأخرى ولاسيما الغربية منها، وحب طالب الأدب لغة واحدة كالإنجليزية مثلاً فإن براعات الآداب الغربية قديمها والحديث مترجمة إليها، وقد كان العرب حصيفين حين عنوا بنقل الفلسفة الإغريقية إلى العربية فاتسعت آفاقهم.
ولسنا نستطيع أن ننقل في عصرنا هذا خارجيات الغرب في الأدب والفلسفة فإنها شيء لا آخر له، ولكن في وسعنا أن نطلع عليها ونلم بها إلماماً كافياً بإحدى اللغات الغربية.
ونحن نلقح الشجر ليثمر، ونطعمه ليؤتينا ما هو أطيب ويجنينا ما هو أشهى، فنلقح عقولنا بما عند الغرب، لتعود أوفر إنتاجاً وأحلى جنى. ونحن آدميون والشجر نبات، ولكن سنة الحياة واحدة وقانونها لا تختلف ونافد في كل مظاهر الخلق على السواء وما يصير به النبات أقوى وأزكى يصير بمثله الحيوان، ونحن منه أقدر على معاناة الحياة وأصلح لها وأنجب.
وليس مما يصح في الأفهام أن نكون في القرن العشرين ونقنع بأن نعيش بعقول القرون الخالية، وأخلق بهذا الكسل أن يحيلنا خلقاً مخلفاً من الأزمنة البائدة، وأن يجعلنا غير صالحين للزمان الذي خرجنا فيه.