الأدب والجمهور
كان الأمير أو الوزير أو الثري الغني الوجيه في قومه هو الذي عليه معول الأديب في الزمن الغابر، ينظم فيه شعره ويقصد به إليه، أو يؤلف له أو بأمره الكتب، وكان مقياس النجاح مبلغ ما يظفر به الشاعر أو الكاتب من حظوة ونعمة وقبول عند صاحب السلطان أو المال.
كان هذا هو الأغلب والأعم، وقد بقي منه شيء إلى أيامنا هذه، فكان شوقي شاعر الأمير وكان حافظ يلوذ بطائفة من أهل السماحة والوجاهة والندى، وكان مصطفى صادق الرافعي يطمح أن يكون شاعر القصر في عهد الملك فؤاد، كما كان عبد الحليم الحصري يسعى ليخلف شوقي في إبان الحرب الماضية، وكان خليل مطران — وهو من شيوخ التجديد في الأدب وأستاذ شوقي — ينظم القصائد يحيي بها والدة الخديو عباس لا استجداء بل بدافع من الوفاء وباعث من مروءة النفس.
ومازال لنا ولوع بتلقيب الشعراء. فشوقي كان أمير الشعراء، وكان حافظ يسمى شاعر النيل، وما انفك مطران يدعى شاعر القطرين وقد سمعنا بشاعر الأهرام، وبدأنا نسمع بشاعر العروبة. ويرجع حب التلقيب إلى أمرين فيما أرى: ما ورثناه من عادة الاتصال باسم له شأن، والمعهود في شرقنا من حب الألقاب وما يجري مجراها، وكل ما في الأمر أن الانتساب صار إلى غير الأشخاص. وقد كان هذا بداية التطور الذي انتهى بحلول الجمهور محل الأمراء والأغنياء. فما لقولهم شاعر النيل مثلاً من معنى إلا أن أبناء وادي النيل يعدونه شاعرهم الذي ينطق بلسانهم ويعبر عما في نفوسهم، أو لقولهم أن مطران شاعر القطرين من مدلول سوى أن أبناء القطرين — مصر ولبنان — مجمعون على توقيره وتعظيمه وتقديمه. وهكذا …
وقد كان من الطبيعي أن يحدث هذا التطور الذي أحل الجمهور محل ذوي السلطان أو المال، وأسبابه كثيرة أذكر منها على سبيل المثال ظهور الطباعة، فصار في وسع الشاعر أو الكاتب أن ينشر شعره أو تواليفه على الملأ ولا يخص بها واحداً، ومتى أذعت على الناس كلاماً فأنت مضطر أن تخرج به من الخصوص إلى العموم، أي أن تجعله مما يعنيهم جميعاً وما يعقل أن تكون لهم مشاركة فيه. وإلا فما حاجتهم إليه.
ثم إن التعليم ينتشر، وهو والطباعة يسيران معاً، والمتعلم أقدر على النقد والتمييز والموازنة وأطلب للاستفادة من الجاهل، والطباعة والتعليم يخلقان التنافس بين الأدباء، والتنافس يدعو إلى التجويد وإخراج كل ما عند المرء من قدرة، وإلى الافتنان والتنويع، فيصبح المرء كالجواد الأصيل كلما ذهب منه إحضار جاء إحضار.
ومن العسير مع ذيوع التعليم والإقبال على الاطلاع أن يقنع الجمهور باقتصار الشعر مثلاً على المدح والرثاء والهجاء والعتاب وما إلى ذلك من الأغراض القديمة، بل من العسير أن يحتفظ الشعر بمنزلته القديمة، وتظل له مكانته الأولى يستأثر بها وينفرد على نحو ما كان يفعل في العصور الماضية، ولهذا طغى النثر على الشعر في هذا الزمان، لأن مجال الكاتب أوسع، وهو أكثر حرية وأقدر على البيان وعلى الدخول فيما لا يدخل فيه الشعر، أو يستطيع تناوله من الأغراض، يضاف إلى هذا كله أن الأمة صار لها شأن ومعنى لم يكونا لها من قبل، وصارت هي صاحبة السلطان، والتي إليها مرد الأمور، ولم يعد الأمير أو الوزير أو الغني هو الذي يسعه أن يشد أزر الشاعر أو الكاتب أو يرزقه القبول بين الناس، ففي وسع الأديب أن يتخلى لفنه الذي يؤثره، وأن ينصرف إلى تجويده. ثم يطرحه على الجمهور، وينتظر حكمه ورأيه، وهو واثق أنه لن يعدم منصفاً، وأنه سينال حقه من التقدير من فريق منه إذا لم ينله من كل فريق.
وليس ثم في الحقيقة غمط أو غبن. لأن الجمهور ليس كله من طبقة واحدة، وليس من المعقول أن يوافق الكتاب أو الديوان كل فرد أو طبقة، فإن الناس ليسوا سواء في العلم والفهم والذوق والمزاج، وما من كتاب أو ديوان إلا وهو يجد قبولاً من طائفة ونفوراً من طائفة أو طوائف أخرى، لأنه قد يدق عن أفهامها، أو يغمض عليها أو ينافي ذوقها أو مزاجها، أو يصدم آراءها وما شبت ونبتت عليه من عادات أو معتقدات أو غير ذلك.
فكل أديب يفوز بحظه المعقول من القبول، ولما كان الجمهور يتغير من جيل إلى جيل، وتختلف نظرته تبعاً لذلك، ويزداد علمه وفهمه، ويتفاوت ذوقه، فإن الذي يرضى عنه الناس في زمن قد يسخطون عليه في زمن آخر، والذي يعرضون عنه في جيل قد يقبلون عليه في جيل آخر، وشواهد ذلك كثيرة في كل عصر ومصر.
وإنه لمن دواعي الأسف أن يحرم الأديب حقه في حياته، وأن لا ينصفه الناس إلا بعد فوات الأوان، ولكنه لا حيلة في هذا إلا أن ينال كل فرد من أفراد الجماعة حظاً كافياً من التعليم فيتسنى أن ينال كل أديب ما هو جدير به.
وإذا كان في وسع الأديب في زماننا أن يتفرغ لفنه ويتوجه به إلى الجمهور، ويستغني عن ذوي السلطان أو المال، ولا يمني نفسه بالطمع في مؤازرتهم، ولا يبالي أأنصفوه أم غبنوه. وكان هذا التطور أعون على التجويد والإخلاص فإن هذه المزية يقابلها شر ليس من الهين اتقاؤه في كل حال. وأعني به مصانعة الجمهور وتحري ما يوافقه ويرضى عنه ويتقبله بقبول حسن.
وكما أن الشاعر القديم كان يقصد إلى ذي الجاه أو المال أو السلطان فيمدحه ويسرف ويبالغ تملقاً ونفاقاً، واستدراراً لنواله، كذلك الأديب في هذا العصر قد يغريه طلب الرواج والإقبال بتملق الجمهور، فقد صار هو الذي يعطي ويمنع، ويفيد الأديب الغنى والجاه والمجد أو يضن بذلك عليه، وكل أديب طالب شهرة، ما في هذا في شك، والشهرة غاية ووسيلة في آن معاً، هي غاية لأنها حال تنعم بها النفس وفيها عزاء كاف للمرء حتى إذا حرم طيبات الحياة. والشهرة هي الذكر، والذكر باب الخلود المرجو لاسم الإنسان المقضي عليه بالفناء والإنسان يتعزى بهذا الذكر لما يعلم علم اليقين أنه لا مفر من الموت. ولكنها أيضاً وسيلة إلى ما يتطلع إليه كل إنسان من نعيم الحياة وطيب العيش ورغده.
وقد يستطيع الأديب أن يزهد في الشهرة وما تتيحه وتيسره إذا لم تجيء إلا بمجافاة الإخلاص، وصدق السريرة، وخيانة أمانة الفن، ومصانعة الجمهور وتملق آرائه ونزعاته وغرائزه الساذجة ومزاجه، وما إلى ذلك، وقد يكون من قوة الإرادة وسمو الروح وصلابة العود بحيث يستطيع أن يقهر نفسه ويصدها ويزجرها عن طلب الشهرة والحياة الرخية من هذا الطريق الهين، ولكنه قد يكون اشتهاؤه أقوى من إرادته، أو يكون في حال تقصره على التسهل والترخص أو تدفعه المنافسة إلى طلب التفوق بأية وسيلة، أو يغالط نفسه فيزعم أنه يداور الجمهور ويحتال عليه كما يحتال الطبيب على المريض بحلاوة طعم الدواء ويسايره قليلاً أو كثيراً ليطمئنه ويدفعه إلى الإقبال ثم يعود فيدور به إلى حيث يريد.
ومهما يكن الباعث على الترخص فإنه مفسدة للأدب. فإن شرط الأدب الأول هو الإخلاص وصدق السريرة، ولا إخلاص مع المصانعة والمداهنة والملق، وإذا فقد الأدب الإخلاص فقد أهم عنصر، والإنسان يحترم القوة التي يكون مبعثها الإخلاص، وقد تروعه في البداية وتصدمه وتنفره. ولكنه لا يلبث متى تبين الإخلاص أن يقبل بعد النفور وأن يتشيع في نفسه الإكبار والتبجيل.
وقد يطول الأمر. وتبطئ الجمهور على الأديب. ولكن كل شيء يحتاج إلى زمن يؤتي ثمرته.
وأنت تغرس البذرة في الأرض فلا تصبح شجرة بين صباح ومساء، وتربة النفوس أيضاً تحتاج إلى زمن حتى تنشق فيها البذرة ويمتد منها ما يكون جذوراً معرقة، ثم تخرج لها ساق يذهب في الجو ويتفرع عليه الأغصان وتورق وتنور وتثمر. ومازال صحيحاً أن في العجلة الندامة والذي يستعجل الشهرة خليق أن يفوته ما هو أولى منها بالحرص عليه وأعنى به المجد الأدبي الصحيح.