في الاتجاهات الحديثة
الاتجاهات الحديث في النثر العربي بمصر موضوع واسع لا أستطيع أن ألم بأطرافه في حديث أو اثنين ولست أقول هذا على سبيل الاعتذار أو من قبيل التواضع أو لستر العجز بل أقوله بياناً للواقع ولأني أنوي — لضيق الوقت — أن أقتصر على الذي هو أوضح وأبرز وأود أن أنبه في فاتحة الكلام إلى أن قولنا «الاتجاهات الحديثة» ليس معناه أنها بنت اليوم أو الأمس ولعل هذه الاتجاهات إنما وضحت وبانت في السنوات الأخيرة وكانت بداياتها قبل نصف قرن وزيادة. وعسى أن تكون هناك بدايات أخرى لاتجاهات جديدة لا نتبينها الآن ولابد من مرور زمن طويل قبل أن نكون من أمرها على يقين كالطفل تراه فلا تستطيع أن تعرف ماذا سيكون بعد أن يبلغ مبالغ الرجال وهل يكون طبيباً مثلاً أو مهندساً أو من رجال الدين أو القانون أو صانعاً أو غير ذلك.
ويجب أن يكون مفهوماً ومقرراً في الأذهان أن الأدب كائن حي خاضع لنواميس الطبيعة وسنن الحياة وقوانينها ككل مخلوق من حيوان ونبات وأن له على ذلك تاريخ حياة وله طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة وإذا نحن لم ننظر إليه هذه النظرة فلسنا نستطيع أن نفهمه فهماً صحيحاً ولا أن ندرسه درساً مفيداً. وكلنا يعرف مثلاً أن الشجرة لا تنبت في يوم ولا تظهر بأغصانها وأوراقها وثمارها بين يوم وليلة ولكن منا من يتوهم أن الأدب يمكن أني تحدث فيه هذه المعجزة التي تحدث في خلق آخر. وكلنا يعرف أن البذرة التي تضعها في التربة أو العود الذي تغرسه في الأرض يحتاج إلى ما يتغذى به ويقوى ويحتاج إلى العناية والتعهد وإلى التقليم والتشذيب وأحياناً إلى التطعيم والتلقيح وكذلك الأدب وليس يخفى على أحد منا أن الشجرة المهملة غير الشجرة التي وجدت من يسقيها ويسمدها ويرعاها ويوفر لها أسبابا الحياة ويساعدها على الازدهار والإثمار. وكذلك الحال في الأدب بل في كل شيء. وأنا أحب أن أؤكد هذا المعنى وأقرره فإن كل فهم للأدب يكون خطأ محضاً وضلالاً صرفاً إذا لم نعتبره كائناً حياً تجري عليه سنن الخلق جميعاً بلا استثناء.
ونعود إلى موضوعنا الذي استطردت عنه فأقول أن الأدب كهذه الشجرة التي ضربنا بها المثل — له أرومة أي أصل في جوف الأرض ثم تنبت له ساق تسمو بنفسها صعداً وتستغني بنفسها عن غيرها أو لا تستغني وتحتاج أو لا تحتاج إلى ما تتعلق به وترقى فيه ثم تتشعب من هذا الساق أغصان دقاق وغلاظ ثم يخرج من هذه الورق ثم ينور إذا كان مما ينور وثمر إذا كان مما يثمر.
والشجر يخرج من الأرض فهي تربته أما الأدب فتربته هي الحياة نفسها — الحياة الإنسانية في جملتها وتفصيلها. وكما أن التربة لها أثر في تكوين الشجرة وقوتها ومبلغ صلاحها. كذلك حياة الجماعة وعاداتها وتقاليدها وألوان تفكيرها ودرجة تهذيبها ومبلغ تثقف عقولها ونفوسها أثر في الأدب الذي يخرج منها وينبت فيها. وكما أن الأرض القوية تخرج نباتاً قوياً حتى بغير عناية كبيرة من الإنسان كذلك الجماعة الإنسانية القوية وإن كانت ساذجة يمكن أن يظهر فيها أدب قوي فطري لا تقلل قيمته نقص الثقافة الخاصة وكما أن الشجرة في الأرض الضعيفة يمكن أن تجد مما يهدي إليها العلم عوضاً عما ينقصها من الأرض كذلك الأدب يستفيد من الثقافة ما يعوض نقص عوامل القوة في التربة التي نشأ فيها.
وهنا ندع مثل الشجرة لأنها غير مدركة — ولا الأرض — لما هو حاصل. أما الأدب فصادر عن إدراك وإن لم يكن في بعض الحالات صادراً عن «وعي» تام. ونأخذ في تشبيه آخر. ولكل تشبيه عيبه ولكنه يعين على الفهم والتبسيط. فنقول إن الإنسان في طفولته يكون في الأغلب والأعم مغرى باللعب والعبث وبالزينة والمنظر والرونق وما إلى ذلك أكثر مما هو مغري بالجد والفائدة. والطفل لا يعرف نفسه معرفة صحيحة. وهو يعرف أن له أبوين وقد يعرف أن له جدين أو جدوداً ولكنه ربما كان لا يعرف كيف انحدر من هؤلاء جميعاً. ثم يشب ويكبر فيزداد معرف بنفسه وقد لا يسلم من العبث ولكنه يكون في شبابه أكثر نظراً وأصح فطنة وأطلب للجد من الأمور. ويزداد نضجاً مع ارتفاع السن واتساع التجربة والمعرفة ويزداد نظره بعداً وعمقاً وتصبح صلته بالحياة حوله أوثق والميزان على العموم أكثر اعتدالاً وليس من الضروري أن يكون الكهل أصدق نظراً في الحياة من الشاب فقد يؤتى الشاب ما لا يؤتاه الكبير العارف المجرب من استقامة النظرة وقوة الفطنة وحسن الإدراك بالفطرة والاستعداد. ومن الناس من ينضج قبل الأوان وهذا لا حكم له لأنه من الشاذ ولا قاعدة تجري عليه وتضبطه.
ولا نظن أننا نخطئ كثيراً إذا شبهنا تطور الأدب في الأمة — على العموم والجملة — بحياة الإنسان وتطورها من الطفولة إلى الكهولة الناضجة ثم الشيخوخة الضعيفة الفاترة ففي الطفولة يكون الأدب أقرب إلى الزينة والعبث ثم يشب ويترعرع ويقوى وتتدفق فيه الحياة القوية ولا يخلو في هذه الفترة من اندفاع واجتراء ولف وشطط ولكن هذه هي طبيعة الشباب. وفي هذا الطور يشرع الأدب في معرفة نفسه ودرس أصوله ولا يمنعه هذا التلفت إلى الأصول من الجري في مضماره الذي يغريه به شبابه وشعوره بقوته. ثم يجيء طور الكهولة الناضجة المجربة الحكيمة العارفة المدركة.
وحديثنا عن النثر دون الشعر فلندع الشعر ولندع أيضاً عهد الطفولة في النثر العربي الحديث فقد كان النثر في ذلك العهد أشبه بعبث الأطفال ولهوهم وكان الناس يتظرفون ويتزينون كما تتزين المرأة بالعقد أو الرجل بمظاهر الغنى. ثم جاء شباب فرأينا الأدباء في هذا العهد يتلفتون باحثون عن الأصول البعيدة والقريبة ومعنيين بدرسها وفحصها من جديد مع إرسال العين فيما حولها وإجالة النظر في الحياة. والماضي للأمة أشبه بالذاكرة للفرد وليس يستطيع المرء أن يعرف نفسه وماذا هو إذا فقد ذاكرته لهذا عني الأدب في هذا العهد من الشباب بتقصي الماضي وتدبره ودرسه وكان الذين فعلوا ذلك ممن جمعوا بين ثقافتين — الثقافة العربية التي أفادوها من تحصيلهم الخاص في الأغلب لا مما تلقوه في المدارس فما كان لهذا غناء أو فضل يستحق الذكر نقول هذا من غير غمط لفضل طائفة قليلة كان الذين انتفعوا بآثارهم من غير أن يتلقوا عليهم شيئاً أكثر من انتفاع تلاميذهم بدروسهم.
والثقافة الأخرى ثقافة غربية — فرنسية وإنجليزية — وبفضل الجمع بين الثقافتين العربية والغربية استطاع الأدباء في هذا العهد من الشباب أن يدرسوا الأدب درساً جديداً وأن ينظروا فيه نظرات أعمق ومن هنا نشأ ما يسمى النقد الأدبي على قواعد أصح ووفق أصول أعم وأثبت. والنقد الأدبي ليس معناه إظهار العيوب والكشف عن مواطن الضعف والنقص وإنما معناه الوزن الصحيح الدقيق للأثر الذي فيه البحث. والاهتداء إلى الأصول والقواعد التي ينبغي أن تراعى. ولم يحل الاشتغال بالنقد الأدبي دون الإنتاج الخاص ونعني به الإنتاج الذي يجيء ثمرة النظر المستقل والتدبر الخاص وأكبر مزية استفادها الأدب في هذا العهد هي التحرر من التقليد في الموضوع وفي الأسلوب فذهب وكان مشغوفاً به من قبلهم من احتذاء مثال العرب والافتياس بهم والضرب على قوالبهم وصار الموضوع هو الذي يفكر فيه الأديب نفسه والأسلوب هو الذي يفي بالعبارة عما يريد فكان هذا تجديداً لا شك فيه ولا في قيمته وستتاح لي فرصة أخرى فأورد لكم نماذج من الأساليب الحديثة تبين الفرق بينها وبين الأساليب القديمة التي كان تقليدها شائعاً فيما سميته عهد الطفولة وإن كان التقليد في تلك الطفولة للمتأخرين لا للقدماء من العرب.
ولا يزال النقد الأدبي مستمراً إلى الآن وسيستمر بلا شك ولابد من ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يحيا حياة تامة بغير ذاكرة والماضي هو مصدر الحاضر والقاعدة التي يقوم عليها ولا سبيل إلى بت هذه الصلة ومن درس الأدب في أوسع نطاق وعلى أدق وجه وأصحه يمكن أن يستخلص الأصول الصحيحة والقواعد السليمة. ثم إن هذا الدرس بعض الوسيلة إلى معرفة النفس. فغير مستنكر أو مستغرب — بل واجب — أن يظل النقد الأدبي ماضياً في طريقه.
غير أن النقد الأدبي — كما قلنا — لا يمنع — وهو لم يمنع الإنتاج الذاتي أو ما يسمى الأدب الصرف وأوضح اتجاه جديد هو الاتجاه إلى القصة وهو اتجاه طبيعي وليس من قبيل التقليد للأدب الغربي ونعني بالقصة أنواعها من قصة طويلة وأقصوصة قصيرة تكون كاللمحة أو المنظر والقصة التمثيلية. والإنسان مفطور على القصص. وأكثر ما تدور عليه أحاديث الناس في حيث يجتمع بعضهم ببعض هو رواية ما جرى أو ما رأوا أو ما سمعوا به أو ما يتخيلونه أو يتمنونه. وحديث الناس حوار ووصف وتصوير وتعليق وتحليل وتعليل. وليست القصة أكثر من انتزاع جانب أو بعض جوانب من الحياة وعرضها ورفعها قبل العيون وهي أشبه بذلك الضرب من التصوير الذي يسمونه «الامبرشنزم» وأصله كما هو معروف أن تنظر إلى الشيء وتتأمل تفاصيله وتدير عينك فيه على مهل لتأخذه في جملته وتفصيله — أو تنظر إليه نظرة عامة لا تتوخى فيها تأمل التفاصيل — أو تنظر إلى جزء معين منه تعلق فيه عينك وتترك ما حوله يبدو لك في غير وضوح لأنك لا تقصده بنظرك ولا تجعل بالك إلا إلى الجزء الذي عليه عينك.
والمصورون على طريقة الامبرشنزم يتوخون الحالتين الأخيرتين دون الأولى أي أنهم لا يعنون بالجملة والتفاصيل. وإنما يؤثرون النظرة العامة التي لا تفصيل فيها أو العناية بجزء دون بقية.
والحياة أوسع من أن يستطيع إنسان أن يحيط بجوانبها جميعاً بنظرة واحدة وفهمها كلها في جملتها وتفصيلها وعلاقة ظاهرها بباطنها واستجلاء كل نواميسها وأثرها ونتيجة تفاعلها في كل آية من آياتها فوق طاقة البشر. ولكن الخلق واحد والسنن لا تختلف ولا يشذ فعلها فإذا استطاع إنسان أن يقتطع جانباً من الحياة ويصور وجهاً من وجوهها فهو يكون كأنما استطاع أن يصور الحياة كلها وهذه مبالغة ولا شك.
ولكن فهمنا للحياة وللطبيعة الإنسانية يزيد ويعمق ويتسع كلما زاد اطلاعنا على أكثر ما يمكن من جوانبها.
وليس المعول في القصة على الحادثة أو الحوادث التي تروى وكل إنسان يستطيع ذلك بغير عناء لأن كل إنسان وقعت له حوادث أو شهد حوادث أو سمع بحوادث والحادثة ليست أكثر من مشجب يعلق عليه الكاتب آراءه وخواطره ونظراته وغير ذلك من الخوالج والإحساسات والتحليل والتعليل.
والمعول في القصة على رسم الشخصيات والتفطن إلى البواعث والقدرة على تصوير نتيجة التفاعل بين الوراثة والبيئة وبين الإنسان والجماعة ونوع استجابة الإنسان لوقع الحياة في نفسه وكثيرون يستسهلونها لأنها أقرب إلى الفطرة ولكنها من أعسر ألوان الأدب لأنها تتطلب فهماً للحياة ونظراً فاحصاً وملاحظة دقيقة وإخلاصاً وصدق سريرة ولا غنى في أي لون من الأدب عن الإخلاص وصدق السريرة ثم تتطلب أداء محكماً وقدرة عليه وافية لأن الكاتب يحتاج أن يتناول فيها كل باب من أبواب الأدب — من الفلسفة فنازلاً إلى الكلام الفارغ في ذاته وأن سوقه في القصة يراد به الاستعانة على تصوير النفوس واتجاهات خواطرها ونزعاتها وعاداتها في التفكير وغير ذلك.
والقصة توجد في كل أدب قديم. والغزل نفسه قصة لأنه عرض جانب من النفس في حالة خاصة. ولكنها باعتبارها عملاً فنياً قائماّ بذاته تعد حديثة نسبية وقد نشأت في الأدب العربي كما نشأت في غيره ولكنها وقفت عند حد ولم يمض فيها الذين جاءوا بعد الذين فتحوا بابها.
أما الآن فإنها لون مقرر من ألوان الأدب الحديث بأنواعها جميعاً وقد عالجها كل الأدباء تقريباً دون أن ينصرفوا عن الأبواب الأخرى مثل البحوث والدراسات التي يعنون بها. وقصر عليها بعضهم أدبه تقريباً وبذلك بدأ الاتجاه إلى التخصص في أبواب الأدب وسيزداد هذا ظهوراً وبروزاً على الأيام.
ولا يتسع الوقت لأكثر مما تناولنا في حديثنا وما كنت أرجو أو أطمع أن يتسع وإنما أردت أن أجعل طريقتي في البحث من شأنها أن تساعد السامع على لمضي وحده في تعيين الاتجاهات الحديثة.
والبحث لا يتم إلا إذا تناولنا أساليب الكتابة بعد أن تناولنا أغراضها على هذا النحو العام المجمل. وموعدنا الحديث الآتي إن شاء الله.