الجزيرة والتاريخ الإسلامي
منذ بضع سنوات — ست أو سبع — زرت الحجاز وقضيت فيه أياماً أنظر وأسمع وأفكر. فرأيت أني أصبحت أحسن فهماً للتاريخ الإسلامي والأدب العربي وأقدر على تمثيل الصور والحقائق فيهما وإدراكها على نحو لم يكن يتيسر لي من قبل ذلك ولهذا اقترحت على صديقي الأستاذ الدكتور هيكل بك — لما شرع يكتب «حياة محمد» وينشرها فصولاً في «السياسة الأسبوعية» أن يزور الحجاز فليس أعون على كتابة التاريخ الإسلامي من ذلك.
والحجاز بلاد متحضرة ولكني مع ذلك اهتديت إلى كثير.. وسأحاول أن أتخير طائفة من الأمثلة تجلو ما أعني وتبين ما أقصد إليه. فمن ذلك أني دعيت في جملة من دعوا إلى الغداء في «وادي فاطمة» وهو واحة جميلة في صحراء جرداء وهناك نصبت لنا الخيام وصفت الموائد وقد وصفت ذلك كله في «رحلة الحجاز» فلا أعيده هنا. ولكنه اتفق أني ذهبت أتمشى بعد الأكل مع بعض الإخوان فلقينا جماعة من البدو فقال لهم أحدنا أن في السرادق آكالاً طيبة كثيرة ودعاهم إلى الذهاب فذهب أكثرهم وبقي واحداً تخلف معنا معتذراً بأنه «أكل البارحة» فاستغربت قوله هذا ولكني كنت مثقل الرأس من كثرة ما أكلت فلم أستطع أن أجعل بالي إلى كلامه أو أن أعيره التفاتاً.
ومضت السنون وجاء إلى مصر صديق من أبناء سورية جاب بلاد العرب وطوف فيها كثيراً ولا يزال يؤثر المقام في الجزيرة فهو أكثر الوقت مع الملك العظيم ابن السعود. فجلسنا إليه نستمع إلى حديثه الممتع ووصفه البارع لتجاربه ومشاهداته العديدة الدقيقة. وأعني به «خالد بك الحكيم» فتذكرت قول ذلك البدوي في وادي فاطمة «أكلت البارحة» وقلت لنفسي أني قد وقعت على الخبير لأسأله فلن أجد أدرى منه وأعرف فقال لي أن هذا معقول ولو أن البدوي قال «أكلت أول من أمس فأنا لا أستطيع أن آكل اليوم» لما كان ذلك إلا طبيعياً. وذكر لي أن البدوي يذهب في الصحراء ماشياً على قدميه أو راكباً ناقته وعلى رأسه العقال وتحتها اللفافة — ويسمون العقال عقالاً لأنه في الحقيقة حبل يعقل به البعير — ويلتف بالعباءة ويتلثم ولا يكاد ينبس بحرف فأما السكون وقلة الكلام فليدخر كل ذرة من قوته للجهد الذي تتطلبه الصحراء — والكلام جهد فهو إنفاق — وأما التلفف فيحتفظ برطوبة جسمه فيكون أقدر على احتمال الحر والصبر عليه. ويظل ماضياً حتى يبلغ مضارب عشيرة أو قبيلة فيسقى ما يشاء من اللبن ويمضي عنها إلى سواها وكلما نزل على قوم بروه وسروه وسقوه اللبن لأن مثله ليس ممن ينحر لهم القوم، ثم يتفق أن يأتي قوماً نحروا لضيف كريم فإذا قام الضيف وإخوانه عن الطعام أقبل على اللحم والأرز من هم دونهم مقاماً فيقعد الرجل ويهبر من اللحم ما شاء ومن الأرز ما أحب. قال صديقي «وصدقني حين أقول لك أن هذا البدوي يأكل بضع أقات من اللحم وملء كيلة من الأرز. وهو يأكل كل هذا بعد أن لبث أياماً — عشراً أو عشرين أو أكثر أو أقل — لا يجد من الطعام إلا اللبن وقليلاً من التمر أحياناً. فإذا أكل هذا اللحم والأرز وأثقل به معدته بعد ما يشبه الصيام أو فطام النفس كظها واحتاج إلى يوم كامل أو أيام للهضم».
فلم يسعني إلا أن أفكر في أمر هذا البدوي الذي يصبر على الصحراء وحياتها المرهقة ومطالبها المجهدة وعنائها الشديد ولا طعام له سوى اللبن والتمر أحياناً. إن هذا جلد لا أكاد أعرف له مثيلاً ومن كان يحتمل هذه الخصاصة ولا يعجز مع ذلك عن مطالب الحياة التي لا رفق فيها من حرب وسعي وأسفار في الفيافي المهلكة فإن مثله يعدل ولا شك ألف جندي من جنود الدولة الرومانية المتخنثة.
ولا عجب إذن إذا كان بضعة آلاف من هؤلاء البدو الأشداء الخشنين المعروقين قد عصفوا بمئات من الآلاف من جنود الدولة الرومانية التي كان تقيد جنودها وتصفدهم لتمنعهم أن يهربوا ويفروا.
وأحببت أن أعرف قيمة الحياة فيما يحس العربي — أعني البدوي — فلم أجد لها قيمة. وما عسى أن تكون قيمتها عندما لا يكاد يجد طعاماً أو ماء. ومن لا يكاد يأمن غدر الصحراء وعصف رياحها. أو لم نقرأ عن واقعة الخندق أن الرياح عصفت بجيش المشركين وقلبت قدورهم وهدمت خيامهم حتى يئس أبو سفيان ودعا قومه إلى الانكفاء إلى مكة. وحدثني غير واحد ممن لقيت في الحجاز أن المرء — بعد المعركة — يجيء إلى الواحد من هؤلاء البدو فيسأله عن صاحب له أو قريب أو ابن ماذا فعل الله به ويتفق أن يكون قد قتل في المعركة فلا يزيد على أن يقول لك «بح» يعني «ذبح» ولكنه يأكل الذال في النطق فلا تسمح منه إلا (بح) ثم لا دمع ولا أسف ولا حسرة ولا لهفة ولا جزع ولا غير ذلك مما ألفنا أن نقرن به الموت. فكأن حياة البدوي الشاقة تفقدها قيمتها وتسلب الموت لذعه وتفتر وقعه وما قيمة القتل في حرب أو نحوها والحياة معرضة للبوار والتلف فى كل ساعة.
وتصور كيف يكون إقبال مثل هؤلاء البدو على الحرب وقس إليه ما عسى أن يكون من إقبال غيرهم من أبناء المدنية والترف والبذخ على القتال.. إن الذي يقبل عليه البدوي ليس خيراً فيما تحس نفسه من الحياة التي كان يحياها.
وإذا أضفت إلى هذا فعل العقيدة والإيمان الراسخ بحياة أخرى أطيب وأعز وأكرم فهل يستغرب أحد أن هؤلاء البدو العراة الحفاة الذي لا يملكون إلا السيف والرمح والإيمان المستغرق اكتسحوا دولاً كبيرة وممالك عظيمة وهدموا بناء كان يبدوا شامخاً.
ولست ترى في الصحراء قبراً أو صوى منصوبة تدل على أن فلاناً أو علاناً دفن هنا. والناس يعيشون في هذه الصحراء ويموتون فيها ويفنون تحت رمالها ثم لا شيء بعد ذلك. لأنهم لا يعرفون المغالاة بقيمة الحياة إذ كانت لا قيمة لهم عندها ولو أنهم اتخذوا المقابر وأعلوها ورفعوا وعنوا بها وكانت عندهم مقبرة مثل مقبرة «جنوي» التي يزورها الناس ليعجبوا ببراعة الفن فيها لما أمكن أن تخرج من جزيرة العرب تلك الأمة التي انحدرت على العالم المتحضر في زمانها كما ينحدر السيل الجارف فأغرقته ولم تغرقه فقط ولم تفتح البلدان أو تحكمها فحسب بل قلبتها عربية صرفاً.
وقد استطاع الفرس أن يحتفظوا ببعض صفاتهم وخصائصهم وبروحهم القومية — كما لم يستطع البيزنطيون أن يفعلوا فيما استولى العرب عليه من بلادهم — لأن الفرس كانوا أقل تخنثاً من البيزنطيين.
ولست مؤرخاً ولكني أظن أن هذا هو السبب يضاف إليه أن البلاد التي فتحها العرب من دولة الأكاسرة كانت فارسية وأهلها من الفرس على خلاف ما فتح العرب من بلاد الدولة الرومانية فإنها كانت أجنبية لا رومانية ولا بيزنطية فبقاء الشعور القومي في بلاد فارس طبيعي ومعقول والفتح لا يمكن أن يقتله وانعدام مثل هذا الشعور فيما فتحه العرب من أملاك الدولة الرومانية معقول أيضاً لأنه لم يكن هناك في الأصل. ولهذا بقيت فارس شوكة في جنب الدولة العربية.
وقد زرت العراق وسورية — كما زرت الحجاز فلم أستغرب أن ينتقل مركز الثقل في الدولة العربية من الحجاز إلى غيرها. فإن طبيعة الأراضي الحجازية تجعل من المستحيل عليها أن تكون مقر دولة مترامية الأطراف عظيمة الرقعة نعم تستطيع بسهولة أن تحتفظ باستقلالها وعزتها ولكنها لا تقوى على حكم أقطار أخرى بعيدة.
وقد بقى الحجاز مقر الدولة العربية في صدر الإسلام وعلى عهد الخلفاء الراشدين.
ولكن هذا كان زمن التوسع والامتداد لا زمن الاستقرار والنظام الدائم فلما انتهت الفتوحات أو معظمها وأهمها وصارت الفتوح بعد ذلك عبارة عن توسع طبيعي لدولة مستقرة تغريها ما أنست من نفسها من القوة والبأس والشوكة بالتوسع والزحف وتدفعها مقتضيات المحافظة على ما في اليد إلى هذا الزحف صارت جزيرة العرب لا تصلح أن تكون هي مركز الدولة.
أما في زمن أبي بكر فقد كانت الحاجة تدعو إلى توطيد الأمر في قلب الجزيرة أولاً قبل إمكان التفكير في غيرها.
وأما في زمن عمر فقد كانت الجيوش تزحف فلا يعقل أن تنقل العاصمة قبل أن يستتب الأمر. نعم فتحت البلاد في عهده ولكن الفتح يستدعي التمكين والتوطيد أولاً. ثم إن عمر كان يشق عليه أن يخرج من الجزيرة وكانت صلته بالنبي ﷺ أوثق من أن تسمح له بترك الجزيرة حتى لو كان كل شيء قد استقر وانتظم. ولم يكن قد عاش في الشام أو مصر أو العراق حتى تبدو له مزية التحول بقاعدة الدولة إلى جهة أخرى.
وأما زمن علي وعثمان فقد كان زمن اضطراب ونزاع وانقسام وكان هذا حسبهما شاغلاً عن إقامة مركز الدولة إقامة ثابتة نهائية في مكان آخر غير الحجاز.
ولما انتهى النزاع بفوز معاوية كان قد أدرك مزية البلاد وعرف فضلها كمركز للملك ومقر للدولة التي شادها بفضل ما تولى منها في الفترة السابقة.
وبلاء جزيرة العرب أنها مجدبة قاحلة فإذا امتدت لها رقعة الملك أسرع أهلها إلى التحول عنها إلى غيرها لأن الحياة في غيرها تكون أرغد والعيش أطيب. والمرء يحن إلى الراحة والدعة مهما بلغ من اعتياده الخشونة والمشقة والشظف.
وفرق بين هجرة تدعو إليها كثرة السكان وهجرة تدعو إليها الفاقة والمحل. ولابد لبلاد تريد أن تكون مقر دولة كبيرة أن تكون هي ذات موارد كافية إلى حد ما.
ولهذا لم يكد العرب يفتحون الأمصار المجاورة حتى كثرت هجرتهم إليها طلباً لرغد العيش والراحة ومن ألف التنقل وكثرة الرحيل من ناحية إلى أخرى انتجاعاً للرزق لم تشق عليه الهجرة إلى بلاد بعيدة لأنه لا يزال أبداً مهاجراً في قلب بلاده.
وما دامت الدولة واحدة في الحجاز ومصر والشام والعراق فأخلق بهذا أن يكون مشجعاً على الهجرة ومستحثاً على النزوح. وبذلك صارت الجزيرة أخلى من الناس وأقل صلاحاً لأن تكون مركز الدائرة ومقر الدولة. وقد تغير حال الجزيرة في المستقبل وقد ظهر فيها موارد طبيعية تغنيها ولكنها محل أرضها عقبة في سبيل الحياة ومهما يبلغ من غناها في المستقبل فإنها ستظل أحوج إلى غيرها من غيرها إليها — إلى حد بعيد — على أن كلامنا على الماضي الذي لم يكن يعرف البترول والمعادن وما إلى ذلك مما جد في الدنيا لا على المستقبل الذي هو غيب.